العنف الديني: الدلالات والخلفيات
فئة : مقالات
يتكوّن مصطلح "العنف الدّينيّ" من لفظين مكتنزَي الدلالات، يحيلان على حقول ثقافية مختلفة، فما المقصود بالعنف في هذا السّياق الاصطلاحيّ المخصوص؟ وكيف يمكن للدين أن يرتبط بالعنف وينتجه في الآن ذاته؟
يرتبط العنف لغةً بالشدّة والقساوة[1] فالرجل العانف من أخذ غيره بشدّة، والعنيف صفة مشبهة تدلّ على تواصل عنف العانف وتحوّله إلى سلوك اجتماعي مبرّر ومشروع، ويتناقض العنف مع الحلم والسماحة والمعروف والرفق، وهذه المصطلحات قرآنية في خلفياتها، ممّا يعني مبدئيًّا أنّ العنف يتناقض مع روح الوحي الذي دعا في أكثر من موضع إلى الرفق بكلّ أصنافه.
على هذا الأساس اعتبر جميل صليبا العنف فعلاً مضادًّا "للرفق ومرادفًا للشدّة والقسوة... فكلّ فعل يخالف طبيعة الشيء ويكون مفروضًا عليه، من خارج فهو بمعنى ما فعل عنيف"[2]، ومن غير الحكمة أن نحاول تغيير الأفراد والمجتمعات بالقوّة دون مراعاة السياق الثقافي والنفسي، فكلّ مجتمع يتميّز بنمط حياة مخصوص وحضارة ممتدّة في أعماق التاريخ، ومن التعسّف أن تفكّر جماعة في تغيير المجتمعات الأخرى، واستبدالها بمجتمعات افتراضية رسمت معالمها الإيديولوجيات الضيّقة، وهذا ما نلحظه بجلاء في عدّة دول عربية بعد اندلاع ما عرف بثورات الربيع العربيّ، انتهز المتشدّدون الدينيون بتونس إثر سقوط النظام البائد واندلاع ثورة 2011 وضع التسيّب والاضطراب وضعف الدولة ليغيّروا طبيعة المجتمع التونسي المتجذرة في أعماق الحضارة والتاريخ، واستعملوا من أجل ذلك كلّ أنواع العنف المعنوي والرمزي والماديّ، فاستولوا على المساجد ونصّبوا الأئمّة وانتصبوا قضاةً ورجال أمن ينظرون في مشاكل الناس ويعاقبون من يستحقّ العقاب، ثمّ أعلنوا تونس أرض جهاد يجوز فيها قتل من خالفهم من ساسة ورجال أمن وجيش ومواطنين، وارتكبوا عدّة جرائم شنيعة، راح ضحيتها عشرات من الشهداء الأمنيين والعسكريين والمدنيين، ندرك من خلال هذا التمشّي أنّ العنف كما قال جميل صليبا يخالف طبيعة الشيء أو لنقل طبيعة المجتمع ذاته، ولذلك رفض المجتمع التونسي بكلّ ألوانه الفكرية والسياسية هذا الفكر العنيف، وصنّفوه بكلّ أطيافهم فكرًا إرهابيًّا لأنّه أرهب النّاس وروّعهم، وتعاون المواطنون مع رجال الأمن والجيش للقضاء على هذا الورم العضال إيمانًا منهم بأنّ الشدّة والقسوة والغلوّ والتطرّف ليس من طبيعة المجتمع التونسي، فثقافة المجتمع أميل إلى الاعتدال والانفتاح والتسامح والتعايش السلمي، ولذلك فشلت في هذه الربوع كلّ الحركات الدينية المتشدّدة التي استعملت العنف من أجل تغيير المجتمع، ولنا في الدولة الفاطمية خير مثال على ذلك، إذ حاولت الحركة الشيعية الإسماعلية أن تغيّر من طبيعة المجتمع التونسي وتفرض رؤاها من خلال القوّة، ولكنّها فشلت في ذلك، إذ بمجرّد مغادرتها تونس وانتصابها بمصر تنكّر لها شركاؤها، ولم يبق في البلاد من يدين بدينها.
وترتبط دلالات العنف بمطلب العدالة باعتبارها مفهومًا تأسيسيًّا في الثقافة الإسلامية، فالعنف الجائر لا يستجيب إلى مقوّمات العدل ومقاصده كما أقرّها التقليد الإسلاميّ ذاته، فليس من العدل أن نكره النّاس على فكر أو معتقد، وليس من العدل أن نجبر الناس على تغيير تقاليدهم ومعتقداتهم، وعلى هذا الأساس، ارتبط استعمال العنف بالعدل وآليات تحقيقه، ولذلك رفضت الثقافات البشرية العنف الخارج عن مجال العدل ومستحقاته، وبناء على ما سبق عرّف العنف بأنّه "الاستخدام غير العادل للقوّة"[3] وربّما "الاستخدام غير الشرعي للقوّة"[4] ممّا ينتج عنه ضرر بحقوق الآخرين أفرادًا وجماعات، ونجد أنفسنا أمام ثلاثية العنف والعدل والشرعية، وتضطرب المعاني والدلالات بسبب ضبابية هذه المصطلحات واستعمالها في سياقات متباينة وربما متناقضة في بعض الأحيان، ومن المفارقات الغريبة أنّ الجماعات الدينية التي تمارس العنف، فتحرق وتخرّب وتدمّر وتقتل وتذبح، تدّعي في الآن ذاته أنّها تمثل العدالة وتجسّد الشرعية، فحرق الأسرى وهم أحياء، وذبحهم من الوريد إلى الوريد، يمثل عدالة الله في الأرض، وكلّ الحكومات والجماعات لا شرعية لها، ولا علاقة لها بالدّين الصحيح، بل هي الطاغوت في مختلف تجلياته، ولذلك يجوز إبادتها وتدميرها وقتل المنتمين إليها والمتعاطفين معها والساكتين عن ظلمها وفسادها، وتعكس هذه الذهنية حالة مرضية خطيرة، يتحوّل بموجبها أصحابها إلى كائنات عدوانية عنيفة تعلن الحرب ضد الجميع، وترى نفسها الفرقة الناجية دون غيرها من الجماعات الدينية والمذهبية والسياسية والفكرية، وعلى المخالف أن يقتدي بها ويعترف بشرعيتها، وإلاّ ستمارس ضدّه كلّ أنواع العنف والترهيب.
وحتى نرفع هذا الالتباس ونفهم هذا التناقض في فهم العدالة والمشروعية، لا بدّ أن نقف عند خلفيات الفكر الذي يتبنى العنف ويحرّض عليه ويجعله وجهًا من وجوه العدالة والمشروعية، إذ تعتقد هذه الجماعات المتشددة كما هو حال نسبة كبيرة من المؤمنين أنّ الدّين أحكام وفروع، وبقدر ما نلتزم بتطبيق الأحكام وفروع فروعها بقدر ما نحقّق العدالة ونحقق الشرعية، ويقوم هذا الطرح على مغالطات كبرى حفظتها الذاكرة الجمعية، وتناقلتها الأجيال دون تمحيصها ومراجعتها، ولقد تنبّه علماء المقاصد منذ عدّة قرون إلى مسألة في غاية الأهمية، تكمن في وعي أهمية مقاصد الدين وارتباطها بالمصالح المرسلة، فالعدالة ليست سوى تحقيق المصالح ودفع المفاسد والحفاظ على حرمة النفس والمال والعرض فالعدل من منظور مقاصدي يعني معاملة النّاس بحسب أفعالهم لا بحسب خلفياتهم وانتماءاتهم، ويتحقق العدل حينما يسمح لكلّ فرد أن يعتنق ما يشاء ويعبّر عن معتقداته كيفما شاء وأنّى شاء، ومن وجوه العدالة أن تبعد الضرر المادي والمعنوي على الناس، وتنفعهم وتحقّق لهم السعادة والأمان لا البؤس والخوف والاحتقان، ولا تنفصل الشرعية عن هذه الرؤية، فالحاكم الشرعي ليس من رفع شعار تطبيق الشريعة (الفروع) بل من جسّد مقاصد الشرع واعتمدها راية يقتدي بها وغاية يسعى إلى تحقيقها، فالشرعية تعني المحافظة على أرواح النّاس وكرامتهم، وتمكينهم من سبل الاستقرار والأمان والعيش المشترك، الشرعية في نهاية المطاف أن تحقّق العدالة في المجتمع، ومن السذاجة أن نتحدّث عن عدالة تفجّر المساجد وتدمّر العمران والآثار وتقتّل النّاس، فتتلذّذ بذبحهم وحرقهم أحياء، ومن السخف أن يتبنّى الشرعية من أدخل الرّعب في قلوب النّاس، وحرمهم متعة الأمن والسّلم.
وهكذا نلاحظ أنّ العنف سلوك هجين تستنكره كل الحضارات، ويتناقض مع طبيعة الإنسان ذاته المنسجمة مع قواعد العمران البشري كما عبّر عنه عبد الرحمان بن خلدون، وما العنف إلاّ استعمال مبالغ فيه لقوّة خارج إطار العدالة والشرعية، وقد يمارس من قبل أفراد أو جماعات أو مؤسسات أو حكومات...، ويأخذ العنف عدّة أشكال منها ما هو ماديّ من قبيل التعنيف والضرب والقتل والحرق، ومنها ما هو لفظي معنويّ من قبيل السبّ والشتم والتهكّم والاحتقار والإقصاء والإهانة والتشهير.
ولا بدّ أن ننبّه في هذا السياق البحثيّ المخصوص أنّ ضبط المفاهيم والدلالات ليس بالأمر الهيّن، ولعلّ ما زاد في التباس الأمر أنّ مصطلح العنف يستعمل في سياقات مختلفة وربما متناقضة أحيانًا، وممّا زاد المصطلح غموضًا ارتباطه دلاليًّا بمصطلحات أخرى من قبيل الإرهاب والجهاد والانقلاب والنضال والتغيير والثورة والنضال والردع والمقاومة، وما نراه عنفًا قد يراه غيرنا إرهابًا أو جهادًا أو مقاومةً.... ويتطلب منّا هذا الأمر دقة في تحديد المصطلح وضبط دلالاته.
ويمكن في هذا المستوى من العمل أن نتساءل عن العنف الديني وخلفياته، فما المقصود بالعنف الدّيني؟ ما هي مقوّماته؟ ومن المسؤول عنه؟ من المعنِّف فيه ومن المعنَّف؟ كيف يشتغل؟ وما هو مستقبله؟
ينتابنا سؤال خطير يتعلّق بموضوع هذا العمل نصّه: ما المقصود بالعنف الدّيني؟ ويثير هذا السؤال عدّة إشكاليات: هل هو العنف الذي يمارسه غلاة المتدينين باسم الدين أو دفاعًا عنه؟ من يمارس هذا العنف: أفراد أم جماعات أم ثقافات وذاكرات؟ أين يكمن العنف الدينيّ: هل يكمن في الدّين ذاته أم في كيفية فهم نصوصه وتأويلها أم تراه يتعدّى ذلك ليشمل ممارسات المؤمنين وأفعالهم؟ كيف يبرّر الفكر الديني ما يمارس من عنف قاتل باسم الدين، وكيف نفهم التناقض بين التجارب الدينية المختلفة من حيث الدعوة إلى السلم أو العنف في الآن ذاته؟ هل تستطيع الثقافة الإسلامية السائدة أن تقاوم موجة العنف الديني المنتشرة في أرجاء العالم الإسلاميّ اليوم أم تراها تنتج العنف من حيث لا يدرك أصحابها ومعتنقوها؟ ألم يحن زمن المراجعات حتى نحرّر الفكر الإسلامي من شوائب علقت بها منذ قرون واستحالت على الرغم منه وجهًا من وجوهه؟
سنحاول الإجابة في هذا القسم من البحث عن سؤال خطير مفاده: أين يكمن الخلل ومن أين تنبع ذهنية العنف الدينيّ؟ هل يعود ذلك إلى الدين في حدّ ذاته من حيث بنيته وخلفياته ووظائفه أم يتعلّق الأمر بالتديّن وسبله والفكر الدينيّ واجتهاداته؟
يرتبط الدّين بالنصوص التأسيسية التي ترسم معالمه وتحدّد تعاليمه، وعلى هذا الأساس يتميّز الدين بالمثالية وقابلية التدبّر والتأويل، ويعيش المؤمن تجربة دينية مخصوصة تتأثر بحالته النفسية وسياقه التاريخيّ ومستوى فهمه النصوص، ولذك تتميّز تجربة التديّن بالتعدّد والاختلاف، وتقوم على صفاء النية وصدق الإيمان، صمت النصّ قرونًا من الزمن فتكلّم به الرجال تأويلاً وشرحًا وتعليقًا، وظهرت المعارف الدينية واجتهدت في فهم النص وإفهامه بما يتماشى مع العصر وتحدياته، و"هذا يعني أنّ الدين إلهيّ، ولكنّ تفسير الدين بشريّ ودنيويّ تمامًا"[5]، وهذا الأمر يخصّ الديانات كلّها، إذ تظهر عبر العصور كتب حافّة بنصّ التأسيس تشرحه وتقف عند أسراره وأحكامه، ولكن المشكلة أنّ النصوص الحافة أصبحت قطعية الدلالة والثبوت لا تقبل الشك أو التشكيك، يتعصب لها المتعصبون فلا يقبلون بغيرها ويحاربون من خالفها ويمارسون من أجلها مختلف ضروب العنف، ولكن كيف حصل هذا الانزياح؟ وكيف تحولت الثقافة الإسلامية من ثقافة نص وعقل إلى ثقافة تقليد وشروح؟ وكيف تعصّب المؤمنون للفكر الدينيّ تعصّبهم للدين ذاته؟
لا بدّ أن نعرّج بطريقة تأليفية على تاريخ الثقافة الإسلامية وتحوّلاتها الكبرى، إذ كان لغلق باب الاجتهاد أثر كبير على بنية الثقافة وخلفياتها، انغلق المسلمون على ذواتهم بعد هجوم التتار على الخلافة الإسلامية وما تبعه من دمار وخراب، فمنعوا الاجتهاد واكتفوا بما كان سائدًا من اجتهادات معتمدة، وأصبح الاجتهاد ينحصر على المذهب ويتعلّق بمقالاته لا يتجاوزها، ظهرت كتب الشروح وشروح الشروح، وساد التقليد، وتعطّل العقل، فاتّبع النّاس أقوال الشرّاح وعلماء المذاهب، ثمّ تعصّبوا لآرائهم، ودافعوا عنها بحماسة لا مثيل لها، قاتلوا من أجلها، وحاربوا كلّ من خالفها أو انتقدها، اعتبروا آراء العلماء وشروحها نصوصًا قطعيةً لا ثلب فيها ولا تشكيك، ويجب اتباعها والأخذ بها ونشرها بين الناس، وتعصّب النّاس لأقوال الرجال تعصّبهم للدين أو أكثر، وانطوت كلّ نحلة على ذاتها، ترى نفسها الفرقة الناجية دون غيرها من الجماعات الدينية، تحتكر الحقيقة والخلاص، وعلى الآخرين اتّباعها طوعًا أو غصبًا، ومن هنا بدأ العنف الدينيّ، وتمّ احتواؤه من قبل الساسة فدعّموه وشجّعوا عليه تفريقًا للنّاس واستعبادًا لهم، وحفاظًا على الملك.
برز العنف الدينيّ حينما استحال الفكر الدينيّ دينًا وتحوّلت الآراء إلى عقائد واستبدلت الأصول بالفروع، فقامت مقامها وتحكّمت في وعي المؤمنين وسلوكهم، ساد العنف الدينيّ حينما اعتقد النّاس أنّ آراء الرّجال عقائد يقاتل المرء من أجلها ويستشهد في سبيل الدفاع عنها ونشرها، تقاتل المسلمون فيما بينهم لاختلافات في فروع الدين أو كيفية الصلاة أو طريقة فهم النصّ فأريقت الدماء وخرّب العمران، وعلى هذا الأساس سادت في القرون الوسطى حروب مذهبية حاقدة، ظهرت اليوم في أشكال جديد، فأبدعت في القتل والتقتيل والإبادة والتدمير، ونرى اليوم حركات دينية متشدّدة تقتل غيرها أبشع قتل بسبب اختلافهم معها في الدين أو المذهب أو الرأي، تتسلّح بأقوال رجال لا نعلم مكانتهم العلمية أو متانة تحصيلهم المعرفي، فيتناقلون آراءهم، ويعظّمونها ويتعصّبون لها، ولا ينظرون في غيرها، ولا يكلّفون أنفسهم العودة إلى الدين في أصوله ومقاصده النبيلة.
استحال الفكر الديني دينًا، واعتقد بسطاء النّاس أنّ المعارف الدينية التي توارثناها جيلاً بعد جيل تعكس بالضرورة الشريعة والحقيقة الربانية، قاتل الناس من أجل حقائق لم تكن قطّ حقائق، وحاربوا غيرهم من أجل تعاليم لا علاقة لها أصلاً بالدين، بل هي أقوال وآراء تراكمت عبر الزمن وخضعت لسنن التاريخ وتحوّلاته، توهّم المؤمنون لقرون من الزمن أنّهم يقاتلون من أجل دين الله، ولكنّهم كانوا يقتلون بعضهم من أجل آراء بشرية اقترحها هذا الطرف أو ذاك، كان عنفهم عنفًا واهمًا، ولكنّه مدمّر وبشع بكلّ مقاييس البشاعة، فهل من الدين أن يقاتل أتباع الدين ذاته ويقتّل غيرهم من الخلق؟ وهل من الدين ترويع الناس وتهديدهم؟ وهل من الدين أيضًا قتل الأطفال والشيوخ والنساء وإبادة القرى والأحياء بتعلّة مخالفتهم في العقيدة أو المذهب؟ وهل من الدين حرق الأحياء والتلذّذ بذلك؟
وندرك من خلال ما سبق أنّ العنف الديني يمارس باسم الدّين، والدّين براء منه، فالإسلام يقرّ الاختلاف، ويؤمن بالتعدّد، ويرى أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفس الخلائق، وأنّ رحمته تسع البشر كلّهم، فلا وصاية على الدين، ولا مجال للحديث عن شعب مختار أو فرقة ناجية دون بقية الخلق.
يعتقد بعضهم أنّ العنف الدينيّ الذي يمارسه أفراد أو جماعات حالة مرضية نفسية ساهمت العوامل الاجتماعية والاقتصادية في إبرازها وتفعيلها، ولكننا نعتقد أنّ الأمر أعمق من ذلك وأخطر، فالعنف جزء لا يتجزأ من ثقافة توارثناها دون مراجعتها وتمحيصها، لا نختلف كثيرًا في مسلّماتنا ومعارفنا الدينية عمّن صرّح بتشدّده وانتهج منهج العنف والغلوّ، ولذلك يسهل على دعاة العنف الدينيّ استقطاب عدّة شرائح من المجتمع، بما في ذلك المتعلمين والمثقفين وحتى الأمنيين والعسكريين، فالمسألة ثقافية بامتياز، ولا يمكن التحرّر من ثقافة الموت والدمار إلاّ بفتح باب المراجعات على مصراعيه، وتحرير الدين ممّا يشوّه الدين.
توصلنا فيما سبق إلى نتيجة مفادها أنّ "نشوء التطرّف لا يأتي من فراغ بل هو نتيجة خلل ما يصيب منظومة القيم والمبادئ التي تحكم العلاقة الإنسانية في بعض وجوهها"[6]، والخلل الذي أصاب ثقافتنا الإسلامية ليس هيّنًا، إذ انقلبت فيه الأمور رأسًا على عقب، فاستحال الفرع أصلاً، والنسبيّ قطعيًّا، والبشري إلهيًّا، وأصبح العنف والقتل والتدمير والترهيب والتكفير والتفسيق وإدارة الرعب وإبادة الجماعات المخالفة من تعاليم الدين، يبشّر بها بعض الدعاة، ويدعو لها ثلّة من العلماء.
ولنا أن نميّز في هذا المستوى من العمل بين التعصّب والغلوّ، فالتعصّب يعكس حماسة المرء لعقيدة أو فكر، اعتقادًا منه أنّ جماعته تمثّل الحقّ وتمتلك اليقين، أّمّا الغلوّ فهو درجة متقدمة من التعصّب تختلط بحالة من الكراهية والرغبة في العنف، فالغلوّ يعني الاعتقاد بأنّ الآخرين جميعهم في ضلال ويجب إصلاحهم وهدايتهم بالسلم والعنف، فالآخرون كفرة فاسقون منافقون مفسدون في الأرض يجب محاربتهم وتطهير الأرض منهم، فالغلوّ نظرة للكون تكاد لا تراه، وآية ذلك أنّها نظرة مغلقة لا تتجاوز حدود الذّات، فحينما تنغلق الثقافة على نفسها لقرون من الزّمن وتغلق باب الإبداع والاجتهاد تنتج بالضرورة فكرًا مريضًا واهمًا، يرى أنّ الذات المتضخمة لا مثيل لها في الكون، وبناء على ذلك تعتقد كلّ جماعة دينية أنّها الحق كلّ الحقّ، وأنّها الأكثر معرفةً والأفضل قيمًا والأنجع شفاعةً وخلاصًا، وينطبق هذا الوصف على ثقافتنا الإسلامية، إذ انغلقت على نفسها قرونًا من الزّمن بعد سيادة التقليد وغلق باب الاجتهاد، انقسمت الملّة إلى جماعات عقدية ومذهبية، وانغلقت كلّ جماعة على نفسها، حتى أصبحت تكاد لا ترى غيرها، ولا تعترف بمن يخالفها، بل تراه عدوًّا دائمًا لا بدّ من مقاتلته انتصارًا للدين، واستطاعت الثقافة الإسلامية في مختلف وجوهها أن تصوغ مقالات غريبة تخالف الدّين ذاته، تدعو إلى قتل المؤمنين وتخريب مواطنهم ومساكنهم.
ولّد التعصّب غلوًّا ثمّ نتج عن الغلوّ تطرّف في الآراء والمواقف والسلوك، واستحال التطرّف عنفًا قاتلاً لا يرحم، أصبح المسلمون يعيشون تخلفًا حضاريًّا منذ أن منعوا التفكير والتدبّر والاجتهاد واكتفوا بالاتباع والتقليد، كانت الثقافة الإسلامية منسجمة ثابتة تتوسّع وتغزو بقية الثقافات، فاستحالت بعد تراجعها ثقافة مثقلة بالانزياحات والتشويهات، واختلّ توازنها وكثرت تناقضاتها وانقلبت فروعها أصولاً وأصولها فروعًا، وليس من اليسير الوقوف على ظاهرة التخلّف الثقافي، فالأسباب متعددة والانعكاسات متنوعة، ويعني التخلّف الثقافي حسب رواد علم الاجتماع الثقافي أنّ "البناء لم يعد متماسكًا كما كان من قبل، ومن ثمّ تنعكس آثاره على كفاءة تأديته لوظيفته في إشباع حاجيات أفراد المجتمع"[7]، وهذا يعني أنّ العنف الدينيّ ينتج عن خلل في البناء لا ندرك خطورته، بل لعلّنا نعتقد أنّه ما يفترض كونه خللاً ليس سوى وجه من وجوه الأصالة والتراث، فالصّرح ما عاد متناسقًا ومنسجمًا، والنسيج أصبح هشاًّ سهل التمزّق، وأصبح المسلمون نموذجًا في الجهل والتخلف والتقاتل فيما بينهم والتفنّن في ممارسة العنف الدينيّ بكلّ أشكاله، وأصبحت الثقافة الإسلامية مليئة بالتناقضات والمفارقات، تدعو إلى السلم، ويعتمدها المتطرّفون والإرهابيون لتبرير عنفهم وغلوّهم، تعترف بالآخر وتؤمن بالاختلاف، ولكنها في الآن ذاته تحتوي بين طياتها قواعد التفسيق والتبديع والتكفير، وتعتمدها الحركات الدينية المتشدّدة عنوانًا لكلّ ممارساتها الإجرامية البشعة التي تتنافى مع روح الوحي والقيم الإنسانية الكونية.
وينتج عن هذا البناء الثقافي المختلّ ظهور عدّة آفات ومشكلات و"يصبح المجتمع في حالة "مرضية" يظهر فيها الكثير ممّا يعرف في علم الاجتماع بالمشكلات الاجتماعية"[8]، ولا نبالغ إذا اعتبرنا العنف الديني من أخطر هذه المشكلات، فما نراه اليوم من قتل وحرق ودمار وتخريب في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وما يحدث بين الفينة والأخرى من محاولات إرهابية ترهيبية في تونس ومصر وغيرها من الدول العربية، يعتمد واجهة دينية لا يمكن إنكارها، فداء التشدّد الدينيّ أصاب عددًا كبيرًا من شباب الأمّة، فغيّر مزاجهم وطباعهم، وتحوّلوا إلى مجرمين لا همّ لهم إلاّ سفك الدماء وقتل المخالفين وتدمير الحضارة، أغلب هؤلاء الشباب صغار السنّ، بعضهم مثقفون وجامعيون، وبعضهم ولد بأوروبا وترعرع في مجتمعاتها الديمقراطية، فكيف تحوّل هؤلاء الشباب إلى آلات عنف مدمّرة، لا تسمع غير نداءات القتل والخراب.
لا يمكن أن ننكر مختلف العوامل التي أسهمت في ظهور التشدّد الدينيّ وما ينبثق عنه من عنف، فالمجتمعات العربية مرّت بحقبات مديدة من التجهيل والتفقير والتهميش والاستبداد، لعب الاستعمار الأجنبيّ دورًا أساسيًّا في ذلك، فسرق ثروات المجتمعات العربية، وكرّس الفقر والطبقية، ولم تكن أنظمة الاستقلال بأفضل حال، فقد ظهرت أنظمة مستبدّة تحكم بعقلية قروسطية بائسة، ولم تستطع الأنظمة العربية التحديثية تجاوز ثقافة الهيمنة والاستبداد، وأصبح رموز الفكر الحداثي والتقدّمي المنتصبين على عروش الحكومات العربية يقمعون النّاس، وينتهكون الحريات التي بشّروا بها، وينسفون العدالة التي تحدّثوا عنها، سرقوا الأموال والثروات، وجعلوها حكرًا على عائلاتهم ومن والاهم، وزجّوا بكلّ من خالفهم الفكر في السجون والمعتقلات، ونفوا كلّ من عارضهم أو انتقدهم، وركّزت أغلب حكومات الاستقلال في مصر وتونس والجزائر وسوريا والعراق وغيرها على محاربة الفكر الدينيّ والأطروحات الإسلامية دون تبرير ذلك.
لا ننكر الخلفية السياسية لظاهرة العنف الدينيّ، ولكنّنا نؤكّد أنّ اهتزاز بنيان الثقافة كان له دور الريادة في ظهور التشدّد الدينيّ وما نتج عنه من عنف وتعنيف، فالثقافة الإسلامية معلولة، مثقلة بتشويهات وانزياحات ومغالطات أرهقتها لقرون من الزمن، فالعنف الدينيّ جزء من ثقافة لا تراجع نفسها ولم تمحّص مقالاتها ولم تتطهّر ممّا علق بها من رواسب وأمراض، وهذا يعني أنّ منهجية التعامل مع العنف الدينيّ وأصحابه لم تعد ناجعة، فالأمر لا يتعلّق فحسب بمحاربة الحركات الدينية المتشددة وقمعها، إذ "باسم الحفاظ على أمن الجماعة، تتجه القوى السياسية الحاكمة إلى العنف المنظم للقضاء على الجماعة الدينية (الراديكالية) في محاولات لاقتلاع جذورها والقضاء التام عليها، دون الانتباه إلى أنّ هذه الجذور مرتبطة بتراث الجماعة وكامنة في موروثها السابق"[9]، ولا يمكن أن نفهم المسألة الثقافية إلاّ في إطار الحديث عن الهوية وتداعياتها، فالعنف الدينيّ يرتكز على خطاب هوية مضخّم ومأزوم وموهوم، تثير هويات الحركات الدينيّة المتشدّدة ومنتسبيها عدّة إشكاليات في زمن تداخلت فيه الانتماءات وتعقّدت، أصبحت بعض الحركات لغزًا مبهمًا لا يعرفه أحد، فعلى سبيل المثال ما هي حركة داعش؟ ما طبيعتها؟ كيف تشكلت؟ من يقف وراءها؟ كيف استطاعت أن تجمع بين أطياف مختلفة من حيث الثقافة والجنس والجغرافيا؟ كيف نفهم تعاون هذه الحركة مع قدامى البعثيين وتجار الآثار والأسلحة وكبار المهربين؟ هل يمكن اختزال كلّ ذلك في هوية إسلامية منشودة تعمل حركة داعش على تجسيدها في الواقع كما نفهم من ظاهر خطابها؟ أم أنّ الأمر يتجاوز ذلك؟
يدفعنا هذا الحديث إلى مراجعة مفهوم الهوية وما تعلّق به من وظائف، فما معنى هوية؟ وما هي وظائفها؟ وكيف استحالت عنصرًا فاعلاً في دعم العنف الدينيّ وتبريره؟
إذا تناولنا مفهوم الهوية في سياقه الاجتماعي الثقافي، نجده يعبّر عن خصوصيات جماعة بشرية تميّزها عن غيرها من الجماعات، ولكنّ الهويات ليس مغلقة بل ينفتح بعضها على بعض، فقد يكون المرء مسلمًا وفارسيًّا ومثقفًا جامعيًّا ومتقنًا للّغة الفرنسية ويحسن الطبخ اليابانيّ ويستمع إلى الموسيقى الصينية وينشط ضمن حزب سياسيّ ليبرالي ويشارك ضمن حلقات لقراءة القرآن وحفظه ويمارس الرياضة مع أفراد أسرته ضمن نادٍ ثقافي، ويكون مولعًا بقيادة السيارات الألمانية واستعمال أحدث الهواتف الذكية (الخ...)، فكلّ هذه الصفات وغيرها ممّا لم نذكر تمثّل مستويات مختلفة من الانتماء، وتشكّل بالضرورة روافد أساسية في بناء الهوية، فالهوية لا تقتصر على جانب واحد، وآية ذلك أنّ "الإصرار -حتّى لو كان ضمنيًّا- على جانب واحد لا خيار فيه للهوية الإنسانية.. ويجعل العالم مكانًا أكثر التهامًا واضطرامًا"[10]، والحديث عن إصرار يعكس حالة من التعنّت والمبالغة والتعسف، إذ من السذاجة أن تهتمّ بوجه مخصوص فتجعله عنوان الهوية وتهمّش بقية الوجوه، فالحركات الدينيّة المتشدّدة تركّز أساسًا على العامل الدينيّ، وتعتبر الإسلام القياسيّ الذي تحدّد معالمه الكتب والخطابات أسّ الهوية ومنشودها وسرّ وجودها، ولكن "لا ضرورة لأن تكون ديانة المرء كلّ هويته على وجه الحصر"[11]، خاصة إذا تعلّق الأمر بفهم الدين وقراءته، فما تعرضه هذه الحركات الدينية المتشددة من صور مثالية لا يعكس حقيقة الدين ولا يمثّل الوحي، بل هي معارف دينية وأفهام بشرية تاريخية استندت على الدين واعتمدت نصوصه تفسيرًا وتأويلاً.
تسهم الهوية في تحقيق اندماج الأفراد في الجماعة وتحقيق الانسجام الداخلي، ولكنّها قد تتحوّل في إطار ثقافة مأزومة إلى لعنة تصيب الجميع حتّى أصحابها، قد تستحيل الهوية هوية قاتلة لا أمل لها غير خراب العمران ودمار الإنسان، وما الحروب الدينية العنيفة في تاريخ البشرية إلاّ حروب هويات واهية، تقتّل الجماعات وتباد الإثنيات وتمحق الديانات بتعلّة الدفاع عن الهوية وصدّ الهويات الغازية، نعيش اليوم زمن الهويات القاتلة بامتياز، وهي هويات تقوم أساس على ثقافات دينية موهومة وانزياحات خطيرة أربكت بناء الثقافة الإسلامية، وحوّلتها من ثقافة اعتدال وسماحة وعيش مشترك إلى ثقافة غلوّ وكراهية وتقاتل بين أبناء الملّة الواحدة، ويتطلّب منّا ذلك القيام بمراجعات جذرية تعيد الثقافة إلى أصالتها وتحرّرها من تورّم طال عهده.
[1] جاء في لسان العرب: عنّفه أخذه بشدّة، وعنف الرجل كان شديدًا قاسيًا، فهو عنيف: محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري جمال الدين أبو الفضل، لسان العرب، دار صادر 2010، ج4، ص 247
[2] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ج2، ص 112
[3] حسين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992، ص 42
[4] حسين توفيق إبراهيم، المرجع نفسه، ص 43
[5] عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة: قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009، ، ص 177، ترجمة: أحمد القبانجي.
[6] مصطفى ملص، قراءة في واقع ظاهرة التطرف وفي كيفية التعاطي معها، رسالة التقريب، عدد83، ص 32
[7] محمّد السويدي، مفاهيم علم الاجتماع الثقافي ومصطلحاته، الدار التونسية للكتاب، تونس، 1991، ص 136
[8] المرجع نفسه.
[9] يوسف زيدان، اللاهوت العربي وأصول العنف الدينيّ، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2010، ص 211
[10] أمارتيا صن، العنف والهوية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2008، ص 32
[11] أمارتيا صن، المرجع نفسه، ص 29