MENU

العنف وسؤال الشرعيّة في التراث الفقهي


فئة :  مقالات

العنف وسؤال الشرعيّة في التراث الفقهي

تمهيد

مما لا ريب فيه أنّ الإسلام دين رحمة وتسامح، وأنه دين تعايش مع الآخر المخالف كيفما كانت عقيدته وعرقه ولونه، وفق محددات منهاجية هي التي جعلت العالمية الأولى تتفاعل مع مختلف البيئات الحضارية والفكرية المتعددة، إلا أنّ هذا الأمر لا يعني شيئا أمام الاجتهادات الكثيرة التي انبثقت من فهم كتاب الله وفق سياقات تاريخية متعدّدة تحكّم فيها الواقع أكثر منه العقل المسدّد بمنطق الشرع وفلسفته الإنسانية، فأنتجت تلك الاجتهادات ركاما معرفيا أصبح عصيا عن التجاوز، أو على الأقل بلورته وفق حاجات الواقع المعاصر.

العقل الإسلامي اليوم يعيش تحت وطأة تحديات كثيرة قد تعصف بالأمّة الإسلامية برمّتها وتهدد ما تبقى من أمنها وتماسكها

و لا شك أنّ الصورة التي يرسمها الإعلام الغربي اليوم للإسلام والمسلمين بأنّه دين إرهاب وتطرف، لها مبرراتها في تراثنا الإسلامي، وبغض النظر عن صحة توجّه الإعلام الغربي من عدمه، فإنّ العقل الإسلامي اليوم يعيش تحت وطأة تحديات كثيرة قد تعصف بالأمّة الإسلامية برمّتها وتهدد ما تبقى من أمنها وتماسكها، وتشوّه صورتها وتعرّض حاضرها ومستقبلها للأخطار، ومن ضمن هذه التحديات: مدى قدرة العقل الإسلامي تقديم قيم الإسلام الإنسانية لتكون عالمية، خاصة وأنّ العالم اليوم في أمس الحاجة إلى نموذج بديل يخرجه من مطبّات الفلسفة المادية وويلاتها التي جرّدت العالم من إنسانية الإنسان، وقدّمت نفسها بديلا يسوق الإنسانية إلى عالم مجهول.

وهناك نوع آخر من التحديات، وهي تحديات داخلية تكمن في مدى قدرة العقل الإسلامي على إعادة النظر في اجتهاداته التي كوّنت صورة قاتمة على الإسلام، تلك الاجتهادات التي أنتجت إرثا يؤمن بثقافة النبذ والعنف، من الصعب أن ننسلخ منها في ظل انعدام أدنى شروط المناعة الداخلية، فتحوّل المسلم إلى إنسان صدامي وعدواني تجاه الآخر ممن لا يتفق معه في الرأي أو لا يلتقي معه في المذهب أو الدين، وقد استفحل هذا التحدي، فبتنا نشهد حركات استباحت الدماء باسم الإسلام وبشعارات قرآنية مقدّسة.

وعليه، فإنّ هذا البحث يروم إظهار جذور شيوع ثقافة العنف ومنابعه، وبيان الاختلالات الكبرى التي أسقطت العقل الإسلامي في اجتهادات تخالف تعاليم الإسلام السمحاء.

أوّلا: العنف في التراث الفقهي بين منطق التاريخ وتحدّيات الحاضر

إنّ المتأمل في تراثنا الفقهي، سيجد حقيقة لا غبار عليها ألا وهي: أنّ الجهاد بكل أنواعه وأشكاله يعتبر فريضة كغيرها من الفرائض المتوجّب على المسلم القيام بها، "وثمّة جانب تاريخي وتراثي آخر، يتجلى في ممارسة المسلمين، على أرض الواقع وعبر مختلف العصور الإسلامية، الشكل الحرابي والقتالي العنيف الذي أفضى إلى إقامة دولة إسلامية مترامية لامست في وقت من الأوقات حدود الصين شرقا ومعظم أفريقية جنوبا، محتضنة ومتكيفة مع شعوب ومجتمعات شديدة التنوّع والاختلاف"[1].

وهي حقيقة تجعل المتأمل فيها في مفترق الطرق؛ إذ تؤدي إلى مسالك مختلفة في التأويل، فاعتبار العنف أمرا هيكليا ثابتا في الفكر الإسلامي يبيح للجماعات المسلّحة اليوم أن تستمد شرعية عنفها من مرجعية القرآن والسُنّة، فصلاح القرآن لكل زمان ومكان يمنح العنف في نظرهم صفة الإطلاق، مثلما يمنح للمنتحر اليوم ثقة بأنه يجاهد في سبيل الله لمواجهة من بغى وكفر من الناس، ورغم ادّعاء بعض المفكرين الإسلاميين[2] بأنّ معظم الفتوحات الإسلامية أنجزت بوسائل سلمية، فمنطق التاريخ جعل تلك الفتوحات تتّخذ طابعا قتاليا وعنيفا في العديد من الدول التي غزتها الجيوش الإسلامية، والتي أدّت إلى انهيار أعظم الإمبراطوريات في التاريخ الإنساني، "فليس من العدل في شيء أن يضع المسلمون أنفسهم على الدوام في موقع الدفاع عن فتوحات الجيوش الإسلامية التي تمّت عبر فريضة الجهاد القتالي والحربي العنيف، ولا حرج في ذلك، فمنطق التاريخ يقرّ أنّ جميع إمبراطوريات العالم تشكّلت في أعقاب حروب دامية وسفك للدماء دام عشرات بل مئات السنين، بدءا بالإمبراطورية الرومانية وإمبراطورية فارس، مرورا بحروب الفرنجة الدموّية وإمبراطورية الكنيسة الرّسمية في العصور الوسطية، حيث كان البابوات حكّاما للعالم، انتهاء بالإمبراطورية الأسبورجيّة ومن ثم الإمبراطورية البريطانية في العصر الحديث"[3].

صحيح جدّا أنّ تاريخنا الإسلامي مرّ هو الآخر بغزوات وقتال وجهاد، لكن لا عيب في ذلك؛ ففرنسا اعتبرت بونابارت بطلا قوميّا محوّلة ضريحه إلى مزار محاط بهالة مقدّسة يقبع شامخا في قلب باريس، ويدفع ملايين السيّاح أموالا طائلة لإلقاء نظرة عليه، فلماذا لا يحقّ للمسلمين الاعتزاز بمجاهدين ومحاربين مرّوا في التاريخ؟، أرى أن محاولة تبرئة المسلمين من حروب الفتوحات ما هو إلاّ إحساس بالضعف والنقص والوهن والاحباط، وجزع من إلصاق تهمة العنف بالمسلمين من قبل أقوياء العصر، الذين يمارسون كلّ ضروب العنف والغزو وسفك الدماء لإقامة إمبراطوريّاتهم الكوكبية المعاصرة، لكن الذي يجب أن نفهمه من شكل الجهاد والعنف الذي مارسه المسلمون في مرحلة من المراحل، هو أنّه جهاد كانت له مبرّرات إنسانية إسلامية عالمية، وهي إرساء قيم العدالة والسلام والاستقرار، وشدّد الحق سبحانه على تغليب قيم العفو والتسامح والرحمة والقسط، ولنا عودة الى الآيات التي رسّخت هذه القيم الإنسانية العالمية. لكن قبل ذلك أريد أن أرجع إلى بعض الاجتهادات في تراثنا العريق التي تستند إلى فهم خاطئ للآيات القرآنية وبعض الأحاديث غير الصحيحة، لتنتج بذلك فكراً عنيفا يتعارض مع جوهر الإسلام ومقاصده، بل يتعارض بشكل صريح مع الإرادة الإلهية حول حتميّة الاختلاف بين الناس والأمم ومع الخطاب الإلهي حول حرية المعتقد التي رسمها القرآن الكريم، كما يتعارض مع سنّة الرسول القوليّة والفعلية.

نبدأ أوّلا بأقوال الفقهاء وتحريضهم لثقافة العنف، يقول القسطلاني: "الجهاد في الاصطلاح يعني قتال الكفّار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله"[4] ويقول ابن كثير: "الجهاد فريضة يجب القيام به، سواء أحصل من الكفّار اعتداء أم لم يحصل. والكلام نفسه للشافعي في كتاب الأمّ[5]"، وهو تحوّل عجيب؛ إذ تحول الجهاد إلى قتال في سبيل الله عند كثير من الفقهاء، وكأنّ أصحابه لم يقرؤوا قول الحق سبحانه: "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا[6]" وقول الحق سبحانه "وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا"[7] فالحديث في الآيتين يدور حول برّ الوالدين وطاعتهما، ويستحيل عند العقلاء أن يكون جهاد الوالدين قتالا، لكن الأعجب من هذا وذاك أنّ الفقهاء لم يكتفوا بتحويل الجهاد إلى قتال، بل حولوا الجهاد إلى غزو والقتال إلى قتل يقول الإمام الشوكاني: "وأمّا غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر، لحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية، وأدلّة الكتاب والسنّة. في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم وفي تركهم إذا تركوا المقاتلة؛ فذلك منسوخ باتفاق المسلمين، بما ورد من إيجاب مقاتلتهم على كل حال، وقصدهم في ديارهم في حال القدرة عليهم والتمكن من حربهم...."[8]، وكلام العلّامة الشوكاني كلام "تكتيكي" إن صحّ التعبير يعني: إن استطعنا ولنا القدرة على مغالبتهم، فعلينا بالهجوم عليهم في ديارهم، لأنّ كل الآيات التي تدل على معاملتهم بالحسنى قد نسخت، وأما إن كان العكس: أي إن لم نكن قادرين على مواجهاتهم فالآيات غير منسوخة؟ إن هذا الكلام وغيره يقتضي منا التساؤل حول السبب الذي جعل الجهاد قتالا في ثقافتنا؟ وما السبب وراء هذا التحول العجيب في المفاهيم؟ وما الأدلة التي استند إليها الفقهاء في فهمهم لكتاب الله في قضية القتال؟

ولا شك أنّ كلام الفقهاء له مبرّرات نصية من متن الحديث النبوي، نأخذ على سبيل المثال حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله[9]" ومعناه واضح لا يحتاج إلى شرح. فالنبي في هذا الحديث لم يعلل القتال بشيء، "إلا أن يقولوا: لا إله إلا الله" أي يدخلوا في الإسلام. وحديث: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف[10]"، ولا شك أنّ مثل هذه الأحاديث دُوّنت في أصحّ الكتب الإسلامية في نظر المسلمين، ومن المعلوم أيضا أنّ جهود الأمّة هائلة وضخمة في مجال نقد الأسانيد، في مقابل ضعف شديد في مجال نقد المتون، ووضع مناهج ومقايس علمية في دراسة وتحليل متن الحديث النبوي، وكذا إبراز علاقات بعض الأحاديث المختلفة بالزمان والمكان والبيئة والواقع.

فمنذ ظهور الإسلام والاحتجاج بسنّة الرسول قائم كالاحتجاج بكتاب الله تعالى وفقا لضوابط معروفة لأئمة المسلمين ومجتهديهم. والمسلمون كل المسلمين، يعلمون من دين الله بالضرورة العقلية والبداهة الفطرية حجية السنّة من أقوال وأفعال وتقريرات الرسول، في كل ما يتعلق بالتبليغ والتشريع والبيان، ولا يسع مؤمنا بالله ورسوله أن يقول بخلاف ذلك، وكيف يسع مسلما أن يقول غير ذلك والسنّة دائرة مع القرآن لبيان مجمله ولتفصيل مبيّنه، وتوضيح آياته، وتفسير بياناته، وتطبيق شرائعه. وقد تخصّص السنّة ما يبدو أنه مفيد للعموم، وتقيّد ما يبدو أنه مفيد للإطلاق. لا خلاف في هذا الأمر، إلاّ أنه من الواجب على العقل الإسلامي اليوم تحويل اهتمامه من شكليّات الأسانيد وقوالب الروايات، صوب فهم جديد وفقه جديد، ينطلق من قراءة الكتابين معا الكتاب المسطور والمنظور، وفق متطلّبات الواقع، فلا يعقل أن نقول: إنّ القرآن الكريم كتاب رحمة للعالمين، وفي المقابل نجد في متن الحديث النبوي عكس ذلك، لا يعقل أن يكون صاحب الرسالة القرآنية يخاطب الناس بخطاب السيف، وهو الذي قال الحق سبحانه: -معللا رسالته- "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين"، وهو الأمر الذي يؤكد بالواضح والملموس أنّ أمتنا أحوج ما تكون- اليوم- إلى مشروع نهضة شامل كامل يعيد هذه الأمة إلى موقع الوسطيّة والشهود الحضاري من جديد، ولتفعيل ذلك يستلزم الواقع نظرة جديدة لتراثنا ومراجعة مسلماته؛ إذ إنّ هذه المسلمات تفعل في الواقع فعلا قويا ومؤثّرا، بفعل السلطة الرّمزية التي أشربت في النفوس، حيث أضحى العقل الإسلامي يقدّس فهوم بشرية ويحنّطها بهالة من الحيطة فأنتجنا "الإسلام الجهادي" الذي يتوسّل أدوات عنيفة لتطبيق الإسلام، ومن ثم نظرة جديدة للعالم، دار حرب ودار سلام.

ثانيا: العنف وإشكال المحصّلات التاريخية: "الخلافة"

ينطلق هذا العنوان من فكرة مفادها أنّ البنية الفكرية التي ترتكز عليها الحركات الأصولية الإسلامية المعاصرة في تبرير أشكال التطرف وأعمال العنف والإرهاب، راجعة بالأساس إلى فهم خاص لنصوص الوحي، القرآن الكريم والسنة النبوية؛ "إذ الحجية في الإسلام، ليست لشيء سوى الوحي الرباني، ولقد ظلت هذه الحقيقة الأولية مهيمنة على العقل المسلم، لفترة من الزمن، لم يكن للعقل المسلم فيها سلف ولا تاريخ، كان ذلك في مرحلة التكوين الأولى منذ المنشأ وحتى مشارف عصر التدوين. فعلى مدى هذه الحقبة التي لم تدم طويلا، كانت الحجية منحصرة في الوحي، وبوجه خاص في القرآن، على اعتبار أنّ السنّة في معظمها كانت تطبيقا عمليا للقرآن، أو شرحا شفهيا له، ولم يلتفت إليها في الوعي الفقهي، كمصدر كامل الاستقلالية عن القرآن إلاّ في وقت لاحق"[11]، حينما بدأت عملية التدوين، تدوين الحديث والفقه والتفسير...؛ إذ لم ينته عصر التدوين حتّى وجد العقل الإسلامي نفسه أمام منظومة نظرية كاملة من الرؤى والنظم والمفاهيم، تحاول أن تقدم نفسها كممثل وحيد للإسلام وبتعبير أدق وسيط أساس بين الإسلام وبين أبنائه، فأصبح العقل الإسلامي في خلط كبير بين تعاليم الإسلام -التي تتسع فيها دائرة المباح، وتتقلص دائرة الإلزام، ويرتفع سقف التكاليف فوق فضاء واسع من الحرية واحترام العقل الإنساني- وبين الفهوم التي انبثقت من عصر التدوين حيث تنقبض دائرة المباح، وتتسع دائرة الإلزام، ويتسع التوجس من العقل والحرية، ولسنا نقصد من تلك المنظومة إلا أولئك الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين، يكلمون الناس بلسان الله، ويتمسّكون بحرفية النصوص التأسيسية، ويغفلون المقاصد ويخرجون بأدلة بعيدة عن سياقها وإطارها؛ ذلك أنّ تأويل منطوق الخطاب القرآني من منظور أحادي الجانب؛ أي من دون منح الآخر المخالف، الحق في ممارسة عمليّات قراءة وتفسير وتأويل مضامين النص الديني، ساهم إلى حد كبير في خلق ذهنيّة العنف التي أفرزت التعصب والتطرف الديني.

وتجدر الإشارة إلى "أنّ النص القرآني فيه ما يتكفل بتنظيم السلوك الفردي والجمعي، والتي سمّيت آيات الأحكام، وفي الحديث النبوي والروايات عن آل البيت والصحابة ما له علاقة بأفعال الإنسان من منظومة الحلال والحرام، ولتعدد مناهج الإفادة من هذه النصوص فقد تكوّن في المسار الإسلامي اتجاهان: اتجاه يقرأ النصوص قراءة حرفية ويتوقف عندها كما أشرنا آنفا، واتجاه عقلاني ينطلق من النصوص إلى العقل ليكتشف الموقف الديني من الواقعة أو التصرف، ومن هذين الاتجاهين تكونت المذاهب الفقهية"[12]، وهي اتجاهات مدرسية يعتمد كل منها منهجاً في اختيار النصوص التي يراها دليلا تقوم به الحجة، ومنهجا في طرق الدلالة، للإفادة منها أحكاما تفصيلية، إلا أن الذي يهمنا من هذا السياق هو تللك القضية التي شكلّت مربط الفرس في التاريخ الإسلامي، وأفضت إلى تشكّل تلك المذاهب الفقهية، ويتعلق الأمر بـ "قضية الخلافة"؛ إذ عدّ حدث الخلافة وانقلابها إلى ملك عضوض، من بين أبرز المؤشرات التاريخية لثقافة العنف عند الفرق الإسلامية، ذلك "أنّ الأنظمة المعرفية الكلاميّة، بمختلف توجّهاتها ومنطلقاتها: الأصولية والعقديّة ثم السياسية، خطابات تعبّر موضوعيا عن أفقها الفكري المحكوم بشرطياته التاريخية وغائيّاته المعرفية، وعليه فإن الإنتاج الكلامي الإسلامي، قد كان وليد شرط موضوعي، تمثل جوهريا في انخراط الفراق الكلامية في الصراع من أجل انتزاع الأحقية بامتلاك الخلافة، الشيء الذي جعل من هذا المفهوم الكلامي والأصولي الأخير العلة الفاعلة والمؤسسة لعلم الكلام الإسلامي في شموليته[13]". والأمر راجع في نظري إلى كون القرآن الكريم لم يحسم في قضية الخلافة والشورى والأمور السياسية التي أوقدت فتيل الحرب بعد وفاة النبي، فالقرآن أنشأ جماعة دينية سياسية استطاعت أن تنقل العرب من طور في الحضارة إلى طور آخر، فسادوا العالم واستفادوا من منجزاته وأضافوا إليها الكثير. ولكن لم تجد الأمة في القرآن الكريم، بعد وفاة نبيّها، قانونا تسير عليه فكان الاختلاف ثمّ الردّة ُثمّ الفتنة الكبرى. وأكبر النوازل في تقديري تلك المتعلقة بالخلافة؛ إذ فعلت فعلتها في الأمة، صحيح أنّ في سكوت القرآن الكريم عن أمرها فيه حكمة ربانية، تحثّ المِؤمنين على الاجتهاد والتفكير في أمرهم ليقودوا أنفسهم بأنفسهم، إلا أنّ الأمة وجدت نفسها على ما يفرّق بدل ما يوحّد، والأدهى والأمر أن جلّ القضايا التي اشتغل بها العقل الإسلامي بعد هذه الأزمة (أزمة الخلافة) تتغدى من هذه الصراعات المذهبية والطائفية؛ إذ يعدّ هذا السياق بمثابة فاعل مؤسس للحظة بناء المفاهيم الأولى الحاسمة لدى الفرق الإسلامية، وأفرز لنا جذور الاتجاه الكهنوتي في الإسلام، ذلك الاتجاه الذي يحتكر الحقيقة ويحمل الناس على الانقياد إليها، ويوّظف أساليب العنف والقتل والتكفير؛ إذ تسعى كلّ جماعة من الجماعات الإسلامية أن تجعل نفسها هي المتحكّمة، وهي التي على صواب وغيرها على ضلال مبين، "من منطق ادعاء احتكارها لسلطة الدفاع عن المبادئ الإسلامية الخالصة التي انحرفت من -منظورها- عن مساراتها الصحيحة، والتي لن تستقيم إلا من خلال إقامة جدلها الكلامي واحترابها العقدي والسياسي على أساس كونها المعبّر الحقيقي عن جوهر مضامين منطوق الخطاب القرآني، والضامن الفعلي لأهليّة الانتساب إلى النهج المحمدي القويم من خلال اعتبارها ذاتها الفرقة الوحيدة النّاجية من النار[14]".

انسجاما مع هذه المنطلقات، أضحت التيمات المركزية الناظمة لقول الفرق الإسلامية مشتقة من تعنيف المخالف وتكفيره، بل وسلب حقه في ممارسة فعل الحياة، علاوة على تقسيم المجال السياسي الإسلامي إلى دور تجمع بينهم علاقة تناحر وتنافر، وهو الأمر الذي يؤكد ما أشارنا إليه آنفا، من كون أزمة الخلافة أحدثت قلقا في الوعي الإسلامي، أفرزت قراءات جانبت الصواب لمفاهيم كثيرة، منها، مفهوم التكفير، مفهوم الحاكمية، قضية النسخ في القرآن الكريم.

ثالثا: العنف وإشكالية النسخ

شكّلت قضية النسخ بؤرة أساسية في الفكر الإسلامي، إذ اختلفت حولها أنظار الباحثين بين مِؤيد لها ومعارض، فهي من الأمور المعقدة تماما، والتي أخذت مدى في العقل الإسلامي وكانت موضع نقاش واختلاف وأخذ وردّ؛ إذ القول بالنسخ يجيز إسقاط مجموعة من الأحكام ونسف آيات كثيرة من كتاب الله الحكيم، وفي المقابل ابتكار أحكام وفهوم أخرى تقوم مقام الأحكام المنسوخة، وكان من ضمن الآيات التي نال منها النسخ أو إن شئنا قلنا -التحريف- الآيات التي تحثّ على معاملة ومجادلة الآخر بالتي هي أحسن، فجلّ الآيات التي ترسّخ قيم التعايش والسلم نسخت وحرّفت بآية السيف، والآية نفسها هي التي جعلت من الجهاد قتالا ومن القتال قتلا في ثقافتنا الإسلامية، فالقرآن يتعامل مع المخالفين له بسامحة منقطعة النظير، يدعو على بصيرة ويجادل بالتي هي أحسن، ويدفع بالتي هي أحسن، ويأمر بالصبر على أذى الخصوم، والصفح عنهم، وترك أمرهم إلى الله يحكم بينهم يوم القيامة. كما كان يدعو إلى السلم كافة، والإعراض عمّن تولّى عن الدخول في الإسلام، ولا يشرع القتال إلا لردّ العدوان، وقتال من يقاتل المسلمين، أو يفتنهم عن دينهم، أو يعذّب المستضعفين منهم ممّن لا يستعطون حيلة ولا يهتدون سبيلا.

وإذا اضطر المسلمون إلى القتال: "التزموا بآداب وأخلاق، تقفهم عند حدود الله التي تحرم عليهم الاعتداء، لا يقاتلون إلا من يقاتلهم، لا يقاتلون امرأة ولا وليدا ولا شيخا فانيا، ولا راهبا في صومعته، ولا فلاحا يحرث أرضه، ولا تاجرا في متجره، ولا يخربون عامرا، ولا يقطعون شجرا، ولا يفسدون في الأرض"[15].

إنّ هذه التعاليم القرآنية الواضحة التي دلت عليها عشرات الآيات بل مئاتها، وأكدتها السنّة النبوية الصحيحة قولا وفعلا وتقريرا: ذهب بعض المفسرين القدامى[16] إلى أنها فقدت فاعليتها، وأن كل الآيات المكتوبة في المصحف: موجودة حسا، معدومة معنى، أو باقية تلاوة، منسوخة حكما؛ بمعنى آخر: أنّ هذه الآيات -التي قدّرها بعضهم بمائة وأربعة عشر آية (114) وبعضهم بمائة وأربعين آية (140)، بل بعضهم (200) مائتي آية، والتي نتلوها آناء الليل وآناء النهار، ونتعبد بتلاوتها- قد ألغتها وقضت عليها آية واحدة، أو جزء من آية، اطلقوا عليها آية السيف؟ فما هي آية السيف هل هي آية واحدة؟ أم آيات كثيرة؟

تكمن التحديات التي تواجه العقل الإسلامي في مدى قدرته على إعادة النظر في اجتهاداته التي كوّنت صورة قاتمة على الإسلام

آية السيف من سورة التوبة، لكن اختلف المفسّرون في تحديدها هل هي قول الحق سبحانه: "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[17]"

أم آية: "وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[18]"

أم قول الحق سبحانه وتعالى "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[19]"

وإن كان الترجيح لأوّل آية ذكرناها في هذا السياق، وهي الآية الخامسة من سورة التوبة.

وهي آية لها دور كبير في ترسيخ ثقافة العنف خاصة عند الذين أقروا بأنها نسخت عددا كبيرا من آيات القرآن، إذ "اعتبر ابن العربي المعافري عدد الآيات المنسوخة، مائة وخمس وسبعون آية منسوخة بآية القتال، وذهب ابن حزم في كتابه معرفة الناسخ والمنسوخ أن آيات النسخ تبلغ مائتين وأٍربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس في كتابه، الناسخ والمنسوخ إلى أنها تبلغ مائة وأربعا وثلاثين آية، وأوصلها ابن سلامة الضرير إلى مائتين وثلاث عشرة آية[20]". وفي حين أوصلها، ابن الجوزي إلى مائتين وسبعة وأربعين آية[21]، أغلبها منسوخ بآية السيف، يقول ابن العربي: "كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار، والتولي والإعراض والكفّ عنهم، فهو منسوخ بآية السيف"[22]، وهي: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد[23]" وتلك هي آية السيف كما يسمّيها علماؤنا الأفاضل، ومن عجائب ما قيل في النسخ أيضا: ما قاله الإمام أبوبكر بن العربي في قول الحق سبحانه: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين[24]" يقول "أول الآية منسوخ، وأخرها ناسخ، وأوسطها محكم[25]" بمعنى أن قوله تعالى "خذ العفو" منسوخ، وقوله: "وأعرض عن الجاهلين" ناسخ، وأما قوله تعالى: "وأمر بالعرف" فهو محكم.

وقد رد الشيخ محمد الغزالي -في كتابه كيف نتعامل مع القرآن- ردا قويا حول دعاة النسخ، في فقرة ننقلها بحرفيتها: "... والزعم بأن (120) آية من التنزيل الحكيم نسخت بآية السيف حماقة غريبة دلت على أنّ الجماهير المسلمة في أيام التخلف العقلي والعلمي من حضارتنا جهلوا القرآن، ونسوا بهذا الجهل كيف يدعون إلى الله. ولعل من أسباب فشل الدعوة الإسلامية في أداء رسالتها الظن بأنّ السيف هو الذي يؤدي واجب التبليغ، وهذا باطل باتفاق العقلاء، والقول بالنسخ والحكم بتحنيط بعض الآيات، قول باطل، فليس في القرآن أبدا آية يمكن أن يقال إنها عطلت عن العمل وحكم عليها بالموت. كل آية يمكن أن تعمل، لكن الحكيم هو الذي يعرف الظروف والمجالات التي تعمل فيها[26]".

ولنا أن نتساءل كيف نوافق بين مجموعة من الآيات التي تبين أن الإسلام دين يقر الحرية الدينية من قبيل قول الحق سبحانه وتعالى: "لا إكراه في الدين[27]" وقول الحق سبحانه: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[28]" وقول الحق سبحانه "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[29]" وقول الحق سبحانه "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[30]".

و في المقابل، نجد الآية التي عرفت في ثقافتنا بآية السيف[31] -(الآية الخامسة من سورة التوبة)-

نبادر بالإجابة، فنقول: إن ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الأمرة بالتخفيف: أنها منسوخة بآية السيف، ليست كذلك بل هي من المَنْسَأ، بمعنى أنّ كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلّة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا[32]، وإلى هذا أشار الشافعي في الرسالة إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة، والدافة: الجماعة تنتقل من بلد إلى بلد.

فكيف تصبح آية السيف نفسها سيفا يقطع رقاب الآيات، ويتركها جثة هامدة لا روح فيها ولا حياة؟" فهي متلوّة لفظا، ملغاة معنى. إذ حكم عليها بالإعدام[33]. إنّ هذا التصور يثير إشكالات كثيرة وخطيرة في آن واحد. نجملها فيما يلي:

- أليس في القول بالنسخ إخلال بإطلاقية القرآن وإحكامه وحسن تفصيله؟. أليس في النسخ تعارضا مع قوله تعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من حكيم خبير[34]"، وقوله سبحانه: "وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد[35]".

- أليس في القول بالنسخ إقرار باختلاف القرآن وتناقض آياته وهو المحال في حقه لقوله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا[36]".

- ألم يحكم القرآن بخلود آياته، ويقر بأنّ خطابه عالمي إنساني شامل نزل ليرسم الطريق الصحيح للبشرية ويعالج مشكلاتها، ويضع حلولا لها في كل زمان ومكان، فكيف يمكن والحال هذه أن نعمل بعض الآيات ونعطل بعضها بسبب القول بالنسخ؟

- كيف ننسخ النص القرآني الثابت القطعي بأخبار آحاد؟. وقد أكد العلماء عدم جواز نسخ القرآن بأخبار آحاد وفي مقدّمتهم أولئك القائلون بالنسخ؟.

- كيف يدعى النسخ بعد وفاة الرسول والعلماء قد اشترطوا أن الزمن الذي يسوغ فيه نسخ النصوص هو مصدر الرسالة دون ما بعده؟.

- كيف يتبدل الوحي ويتحول والله يحكم بأنه، "لا تبديل لكلمات الله". [37]

إنّها أسئلة تمثل اعتراضات وجيهة عن القول بالنسخ، وتزداد وجاهتها بالنظر إلى عدد الآيات التي حكم القائلون بنسخها.

إنّ القرآن يتلى كما أنزل، لم يخالطه قول بشر، وهو الكتاب الذي ارتبطت سوره وآياته بعضها ببعض ارتباطا قويا، ليس لجبريل فيه إلاّ النزول به من السماء إلى الأرض: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين[38]" وليس لمحمد إلاّ تلقّيه وحفظه، ثم تبليغه للناس، وتلاوته عليهم، وبيانه لهم، فكيف لدعاة النسخ أن يتدخلوا في القرآن بما ليس منه؟ كأنهم لم يقروا قول الحق سبحانه وتعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير[39]"، "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"[40].

بقيت نقطة مهمة في هذا الصدد، وهي النقطة التي فاتت معظم الكتّاب الإسلاميين؛ ذلك أنّ الانتقال من جهاد النفس في مكة إلى الدفاع عنها في المدينة، يمثّل مرحلة أخرى كانت-بالدرجة الأولى – تطورا في المواقف تطلب وسيلة جديدة للدفاع عن مبدأ قديم، وهو المحور الذي تدور عليه العقيدة ألا وهو حرية العقيدة، فلم يسنّ القرآن القتال كمبدأ. إنه سنّ الجهاد. أمّا القتال، فليس إلا وسيلة يتطلبها الدفاع عن النفس عند الاقتضاء.

و هذه نقطة مهمة، لأنّ القرآن يقدّس الحياة، ويقدّس حق الفرد فيها، وأن لا يتنزع منه إلاّ لأسباب محددة وضعها على وجه التعيين، وإذا كان الله تعالى قد أنزل في كتابه ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا[41]﴾ فإن هذا يؤكد لنا أنّ الإسلام ليس سيفا في الأصل. إنه "كلمة" جاء بها الوحي ليقرأها الناس، وعندما هوجم الإيمان وهُدِّد المؤمنون، لم يعد مناص من القتال، حماية له ولهم، وقد حرص القرآن الكريم إيضاح هذه المعاني وصيانتها. فالقتال أمر كريه، فهو ليس إلا سفكا للدماء وإهدارا للحياة وإصابة الآخرين بالعاهات من بتر الأيدي والسيقان إلخ.. ولم يجعل الله هذا الكره خيرا إلا عندما يتعلق الأمر بحماية حرية الضمير والنفس، فهذا وحده، هو الذي يعطي المشروعية للقتال ويبرره، بل ويجعله خيرا لأن الاستسلام للحكم الظالم لا يعني إلا مزيدا من الظلم والإذلال. ومن هنا كانت مقاومته ولو بالقتال أفضل من الاستسلام له، بدليل أنه ما أن يجنح إلى السلم ويتخلّى عن الحرب حتى يستجيب له المسلمون[42].

إجمالا، إنّ القول بالنسخ قول غثيث، يمكن إرجاعه -إلى مسلّمة من المسلّمات لدى الكاتبين في علوم القرآن وأصول الفقه- ذلك التساهل العجيب في قبول الروايات الضعيفة، وتداولها والعناية بتناقلها، وإشهارها، ثم الحكم بها على القرآن الذي تكفّل الحق سبحانه بحفظه، أضف إلى ذلك التعصب إلى المذاهب والفرق والمقالات والآراء، وما أنتجه من روايات سخيفة افترت على القرآن الكريم ما ليس فيه. فظهر الناسخ والمنسوخ فجأة بعد وفاة النبي. فالقول بالنسخ يجيز القول: إن الله لا يعلم عواقب الأمور، فغيّر هذه الأحكام بعد أن تبيّن له عدم ملاءمتها للواقع، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.


 

[1] فريال مهنا، إشكالية الجهاد في عصر المعلوماتية، دار الفكر، ط، الأولى، 1426 ه/2005م، ص 128

[2] أمثال، محمّد سعيد رمضان البوطي، الجهاد في الإسلام، دار الفكر، دمشق الطبعة الثانية، 2001، 279

[3] فريال مهنا، م س، ص 129

[4] عبد الملك القسطلاني، أبو العباس، شهاب الدين، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة: السابعة، 1323 هـ، ج: 2، ص 30

[5] ابن كثير، البداية والنهاية، دار الفكر 1407 هـ - 1986 م، ج: 2، ص 5

[6] سورة العنكبوت الآية: (7)

[7] سورة لقمان الآية: (15)

[8] ينظر محمد شحرور، تجفيف منابع الارهاب، مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة، لبنان، ط. الأولى 2008، ص 58

[9] حديت متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه، باب الإيمان رقم الحديث25، وصحيح مسلم، باب الإيمان رقم الحديث (22)، عن ابن عمر.

[10] أخرجه أحمد في المسند وسنده حسن، وجود ابن تيمية إسناده في الاقتضاء، ص (29)، وصحّحه الحافظ العراقي في الإحياء وحسّنه الحافظ في الفتح ص (230) وعلّق طرفا منه البخاري في صحيحه ج (6) رقم (76)، انظر تفصيلا لهذا الحديث، كتاب فقه الاجهاد ليوسف القرضاوي، م س ص (340)

[11]عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، ط. الأولى 1998، ص 33

[12] عبد الأمير كاظم زاهد، إشكالية فهم النصوص المرجعيَّة لدى الأصوليات الإسلامية المعاصرة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت لبنان، الطبعة، الأولى 2016، ص 434

[13] جمال العزاوي، مقال بعنوان: خطاب العنف والتكفير عند فرقة الخوارج الكلاميّة وانعكاساته على الحركات الجهادية المعاصرة، قسم الدراسات الدينية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 08 مارس 2018، ص 5

[14] جمال العزاوي، م، س، ص 8

[15] يوسف القرضاوي، فقه الجهاد، م.س، ص 285

[16] نفسه: ص 286

[17] سورة التوبة الآية (5)

[18] سورة التوبة الآية (36)

[19] سورة التوبة الآية (29)

[20]محمد فاروق النبهان، مقدمة في الدراسات القرآنية، وزارة الأوقاف المغربية، ط، الأولى1415هـ/1995م، ص207

[21] مصطفى زيد، النسخ في القرآن، دراسة تشريعية تاريخية نقدية، دار الوفاء، المنصورة، ط، الثالثة، 1408هـ/1987م ج1، ص235

[22]جلال الدين بن عبد الرحمان السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار الكتاب العربي، ط1425هـ/2004م، ص527

[23] سورة التوبة الآية: (05)

[24] سورة الاعراف الآية (199)

[25]ابن العربي، أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط، الأولى، 1957م، ج. ص 338

[26] انظر محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن الكريم، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط، السابعة، يوليو2005م، ص 84

[27] سورة البقرة الآية: (256)

[28] سورة النحل الآية: (125)

[29] سورة الانفال الآية: (61)

[30] سورة الممتحنة الآية: (07)

[31] لا يمكن فهم آيات القتال التي تحدّث عنها الفقهاء إلا بفهم السياق الذي نزلت فيه فقد كانت هجرة الرسول إلى المدينة، إيذانا بفتح عهد جديد في الدعوة الإسلامية، عهد تكون فيه سيدة بلادها تحكم بالقرآن وتدين للرسول بالطاعة، وكان هذا بالطبع يختلف اختلافا تاما عما كان عليه عهد مكة وملاحقة قريش للرسول وحيلولتها ما بينه وبين الناس ليبلغ دعوته.

واصطحب تغيير البيئة بتغيير وسيلة العمل، فبعد أن كان في مكّة الجهاد النفسي، فإنها أصبحت في المدينة القتال المسلح، بسبب قريش ومؤامرتهم ضد النبي، لأنّ الصراع أصبح يقوم بين كيانين كيان الإيمان بالمدينة وكيان الكفر بمكة، ومثل هذا الصراع يطلق عليه الحرب، أو القتال.

كان الانتقال إلى الجهاد بصبره، وهجرته، إلى القتال بما يعنيه من قوة ورباط الخيل وسلاح انتقالا طبيعيا، رغم ما في ذلك من اختلاف، كان مختلفا عن سابقه ولكن مؤتلفا مع لاحقه. وكان القرشيون أنفسهم هم الذين بلغوا به هذا التطور، عندما حاكوا مؤامراتهم على الرسول التي كادت أن تتم لولا هجرته، فلا يمكن فهم آيات القتال، ولا الشكل الذي أخذته إلا بالتعرف على المناخ الذي صدرت عنه، .. إنّ النقلة من مكة إلى المدينة لم تكن نقلة من مكان إلى مكان، ولكنها كانت نقلة إلى مجتمع جديد له صفات وخصائص تختلف كل الاختلاف عن قريش..

لقد آمن الأنصار أعمق الإيمان، وأسلموا إلى الرسول الأمر كله ليحكمهم بالإسلام، ولم يكن هناك أدنى شك في إخلاص الأنصار. فلم تكن النقلة قطيعة بين عهد مدني وعهدي مكي، ولكنها كانت تطورا في ميزان القوى. من عهد مكي لايزال موجودا إلى عهد مدني بدأ في الظهور، لأنّ المشركين –أي أهل مكة- تملكهم الغيظ عندما استطاع النبي أن يفلت من قبضتهم، وأن يهاجر ليجد أنصارا يحمونه. ومن ثم عقد المشركون العزم على ملاحقته قبل أن يستغلظ أمره.. ورأوا أنّه من الضروري إصلاح خطئهم عندما أفلت منهم الى المدينة خاصة وأنّ المدينة يمكن أن تهاجم قوافلهم التجارية التي كانت عماد حياتهم.

وكان في المدينة نفسها جالية قوية من اليهود استوطنوها منذ عهد طويل وأقاموا بها الآطام -أي الحصون- وسيطروا على التجارة والحرف فيها. ومع أن الرسول حاول أن يسترضى هؤلاء اليهود فعقد في الايام الاولى لدخوله المدينة اتفاقا يعطيهم حق المواطنة، ويجعلهم مع المسلمين "أمة واحدة لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" إلا أنهم نقموا أن لم يكن هذا النبي العظيم منهم، وأن يخرج إطار النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، فضلا عن أنّ الأخوّة الاسلامية الوثيقة بين الأنصار قضت على سياسة "فرّقْ تسد" التي كان اليهود يتبعونها ما بين الأوس والخزرج ويحاولون بذلك دون اتحادهم. ومن ثم فقد وقف هذا المعسكر موقف المتربّص الذي إذا بدت له فرصة القتال قاتل. وإذا لم يجد لاذ بوسائل من النفاق وادعاء الحيلة، أو نصب المكائد ودسّ الدسائس. (انظر تفاصيل هذا الامر في، جمال البنا، الجهاد، م س، ص55).

[32] الزركشي البرهان في علوم القرآن، ط عيسى الحلبي، بتحقيق أبو الفضل إبراهيم.ج، 2، ص 42

[33] يوسف القرضاوي، فقه الجهاد، م.س. ص 286

[34] سورة هود، الآية

[35] سورة فصلت الآيات 41-42

[36] سورة النساء الآية (82)

[37] سورة يونس الآية (64)

[38] سورة الشعراء الآيات (193-194)

[39] سورة هود الآية (01)

[40] سورة فصلت الآية (42)

[41] سورة المائدة الآية (32)

[42] أنظر جمال البا، الجهاد، م.س، ص 56 بتصرّف