العنف وصعود الأصوليات الجهادية..
فئة : مقالات
يعكس العنف وعيًا مضطربًا وعميقًا، وسلوكًا يتسم بالعدوانية، مثلما هو أسلوبُ حياةٍ تتعالق خاضع لمجموعة من الممارسات والأفكار والقيم والذكريات والعادات الحاملة لغرائز الإكراه والقسوة.
لقد بات موضوع العنف اليوم من أكثر الموضوعات إثارةً للجدل والخلاف والأسئلة، لاسيما مع صعود الأصوليات الجهادية الإسلاموية، والتي وجدت في العنف خطابًا وسلوكًا وتنظيمًا تُعبِّر من خلاله عن مركزية وجودها العنفي، وتبرّر فهمها لممارسة هذا العنف من منطلقات ومرجعيات نصوصية، أو فقهية وعاطفية لتحقيق أهداف شرعية وسياسية، تتعلق بمفهوم الأمة والجماعة، أو بمجاراة ما هو سائد في فهم ظاهر النص وأحكامه، ليكون العنف هنا هو النمط المتعالي لصيانة النص والعقيدة وللدفاع عنهما..
الأصوليات الجهادية الإسلاموية، وجدت في العنف خطابًا وسلوكًا وتنظيمًا تُعبِّر من خلاله عن مركزية وجودها العنفي
وإذا كان بعضُهم يضع مفهوم الجهاد في الإسلام في سياق توصيف هذا العنف، أو في ثقافوية ما يمكن تسميته بـ(العنف المقدس) فإنّ حمولات هذا العنف الرمزية - كما ورد في العديد من الروايات - تتقاطع مع الشرعة الأخلاقية لمضمون رسالة الجهاد بوصفه ممارسة دفاعية شرعية، أو بوصفه ضرورة في تأصيل معنى العقيدة، أو التعبير عن مسألة كلامية - مُختَلف عليها - تخصُّ إجرائية الدفاع عن المعروف والنهي عن المنكر، والتي قال فيها الإمام بن حزم الظاهري: اتفقت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلافٍ من أحد منهم، ثم اختلفوا في كيفيته)[1]
فضلاً عن كونه - من جانب آخر - مسألة فقهية تخص تحقيق الفهم الإسلامي للشريعة، ولتطبيق مشروعه السياسي، وأنْ يكون الجهاد في هذا السياق هو (الدعوة والدفاع من أجل تحقيق المشروع السياسي وإقامة الدولة)[2]
العنف في الأدبيات والسرديات الإسلاموية ليس مصطلحًا مجردًا، بل هو مفهوم تداولي، له سياق اجتماعي وسياسي وشرعي، وهذا التداول يرتبط بالوعي المنحاز لفرضية التكليف في ممارسته ضد الآخر الكافر والمنافق والضال والمارق، والمجاهرة بالكراهية له، وهو ما يُعطي للعنف دفعًا وتبريرًا في التعبير العصابي عن الاختلاف، وفي الاندفاع نحو تعطيل إرادة الآخر، والتجاوز على حقه في التعبير عن رأيه وعن خياراته، فضلاً عن التعالقات السيكولوجية التي تُفسِّر العنف بوصفه إبرازًا للكراهية الشرعية والانصراف عنه، فضلاً عن كونه إفصاحًا عن أفكار ومعتقدات ضدية، لها فاعلية المشاهرة بفعل اجتماعي رافض للمشاركة والقبول بالآخر..
وفي اللغة وردت مفردة العنف في العديد من الإشارات التي تفسّره، وتضعه في سياق المشابهة أو المخالفة، فهذا ابن منظور يقول: إنّ العنف هو بمعنى الخرق بالأمر وقلة الرفق، ليشمل كل سلوك يتضمن معاني الشدة والقسوة والتوبيخ واللوم والتقريع[3]
ووفي سياق آخر نجده خاضعًا لتوصيف القول: عنّف فلانًا، أي لامهُ بشدة وعنّفه وعنّف عليه، واعتنف الأمر بمعنى أخذه بالعنف والشدة، واعتنف الشيء، أي ابتدأه واستقبله، جهله وأتاه ولم يكن له به علم، واعتنف الطعام والأرض، أي كرههما[4]
وهناك من يرى كما في الصحاح للرازي "أنّ (العين والنون والفاء) أصل صحيح، وهو ما يدل على خلاف الرفق، فقال الخليل: العنف ضد الرفق، تقول عنف يعنف عنفًا فهو عنيف إذا لم يرفق في أمره"[5]
من هنا نجد أنّ العنف سلوك نافر، وهو ضد الرفق، إذ تقول منه عنف عليه بالضم عنفًا وعنف به أيضًا، والتعنيف والتعيير واللوم، وعنفوان الشيء أوله[6]
أما العنف في السياق الاصطلاحي، فقد خضع للكثير من المقاربات، التي تناولته من منطلق تأثره وأثره في التاريخ وفي مجال العلوم الاجتماعية والعلوم النفسية، وحتى في مجال الأنثربولوجي، إذ نجد أنّ قراءة هذه الظاهرة قد تمت من زوايا مختلفة، ومن خلال توظيفات متعددة، وعلى الرغم من هذا التعدد والتنوع في المداخل التي انصبت على تحليل العنف، إلا أنّه ظلَّ عنوانًا يخصُّ التعبير الرمزي والإجرائي الذي يلحق الضرر بالمجتمع، وهو ما سبقت الإشارة إليه من قبل العالم الإنكليزي توماس هوبس صاحب نظرية الليثيون، ومن منطلق حيازة الرغبة حافزًا شعوريًّا يمكنه أنْ يؤدي إلى ممارسة السلوك العنفي، فضلاً عن تداعيات فهم المرجعيات النفسية والاجتماعية التي تتعلق بـ(نظرية العنف المكتسب) تلك التي تم التركيز فيها، لاسيما مع سيجموند فرويد على دور البيئة في اكتساب الشخصية الفردية أو الجماعية صفة العدوانية، وقالوا إنّ الإنسان يتعلم نماذج العنف ويقلدها[7]..
وورد في الموسوعة الحرة تعريف العنف بأنّه (تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى، وتشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات (مثل تدمير الممتلكات). ويستخدم العنف في جميع أنحاء العالم بمثابة أداة للتأثير على الآخرين...
إنّ تنامي العنف ضمن البيئة الاجتماعية يجد له سياقًا ثقافيًّا يؤوله، بوصفه قياسًا للقوة الرمزية، وتعبيرًا عن رمزية السلطة
إنّ من أخطر تجليات العنف ارتباطه بالعصابية، والرغبة في السيطرة، إذ ستبدى من خلالها ممارسات لا علاقة لها بـ(انبعاث مشروع سياسي) بل بفرض عادات وأنماط تبغي العدوان والكراهة والسيطرة والاستحواذ على الآخرين، وهو ما يُحفّز على إطلاق مشاعر التحريض وإرهاب الناس بالقوة، حتى بات من الشائع اقتران الخطاب الإسلامي بهذه الدعوات، لاسيما مع بروز مظاهر(العنف المُقدّس) عند بعض الحركات الإسلامية، وهو ما ذهب إليه (محمد أركون) بتوصيف أنّ هذا العنف يخلع المشروعية على ذاته من (خلال التعاليم الإلهية للأديان، وعنف مادي أو دنيوي محض نزعت عنه أغلال التقديس)[8]
مثلما يعمد إلى تكريس نوع من الإخضاع والتابعية، ليس استجابة للمصالح والحاجات، بل لمفهوم الإكراهية الذي كرسته (ولاية الأمر) التي أوجبت الطاعة الفرضية، وحملت معها خصيصة الاعتراف بهيمنة الولاية، وبعكسه فإنّ المروق عن الأمة والنفور منها هما السبيل للمخالفة والخروج عن الطاعة، مهما كان شكل هذا الخروج باللفظ، أو بـ(السيف) ومن هنا فلا يمكن الحديث عن (معارضة) في الإسلام، لأنّ هذه المعارضة لا عصمة ولا حماية لها، وتاريخ (الأمة) حافل بالكثير من السرديات القمعية، وتحت يافطة (إحداث الفتنة) وإخضاع العنف إلى السلطة بوصفها الجهة المسؤولة عن صيانة نظام الحكم، ومواجهة القوى الظاهرة والمستترة، وهو ما دعاها دائمًا إلى تبني (خطاب عنيف متفجر، يتضمن الادانة والوعيد والتهديد بالقوة، ويستعمل بالنسبة إلى النظام والقوى السياسية الأخرى، وفي بعض الحالات بالنسبة إلى المجتمع الأهلي نفسه، مقولات الكفر والارتداد والفسق وموالاة الكافرين)[9]
ثقافوية العنف..
قد يكون العنف تعبيرًا عن ثقافات مهيمنة، مثلما هو التعبير عن أنثربولوجيات تجد في علاماتها الطوطمية مجالاً لترسيم العنف بوصفها صيانة للوجود/ الهوية، ودفاعًا عصابيًّا ضد الأغيار، وتكريسًا لعلاقات السيطرة في البيئة الاجتماعية والدينية، وفي التعبير عن الوعي السائد، وهذا ما يجعل توسيم العنف بنزعات أقرب إلى الفطرية، أو الاسترهان إلى الذات السحرية، الحافظة لوجودها عبر الحفاظ على علاماتها العبادية والرمزي، وهذا ما يسبغ على العنف توسيمات ودلالات قد تجترح لها سياقًا سياسيًّا، وعنفًا مسلحًا يجد من يبرره ويقننه من قبل السلطة المهيمنة، أو من قبل الأفراد أنفسهم..
إنّ تنامي العنف ضمن البيئة الاجتماعية يجد له سياقًا ثقافيًّا يؤوله، بوصفه قياسًا للقوة الرمزية، وتعبيرًا عن رمزية السلطة، وضمنها السلطة القرابية تلك التي تميل إلى الانغلاق، وإلى موضعة العنف الدفاعي تمثّلاً لفرضية تلك الهيمنة المقدسة، من منطلق الحفاظ على قوتها الرمزية، وبما يُعطي لها تمركزًا هو الأكثر تعبيرًا عن هويتها، التي تتجوهر حول تلك القوة، وحول علاقاتها وآليات التصرّف بها، من خلال وجود مرجعيات دينية/ طائفية، أو من خلال منظومة اجتماعية تؤمن بقيم الثأر والدية وحفظ النوع والعرض وغيرها..
لكن الأخطر في تجليات العنف هو العنف الطائفي والعنف الأيديولوجي، إذ كثيرًا ما يتحول هذا العنف إلى ظاهرة اجتماعية، وإلى عنف له شرعة دامية تمارسه السلطة والجماعة، وتتبدى من خلال تضخمه وتغوّله، وكثرة ضحاياه الكثير من الهويات القاتلة، والهويات المقتولة بتوصيف أمين معلوف..
ثقافوية هذا العنف تنطلق من فكرة إيهامية لـ(امتلاك الحقيقة) وهذا الامتلاك يصطنع له ظواهر وعلامات وممارسات، وحتى مؤسسات، فبعضه يتعلق بالظلم التاريخي وتضخّم الشعور به كما هو عند الجماعات الطائفية، وبعضه يتعلق برهاب السلطة وطبيعة عنفها السياسي والعسكري والأيديولوجي، وهي التي تسعى إلى تأصيل مشروعية العنف المسلح كناية عن الدفاع عن المعروف، والدفاع عن مصالح الأمة، وربط فكرة التكليف الشرعي مع هذه المشروعية، على الرغم من أنّ بعض الجماعات العنفية الأصولية أباحت، عبر ما يسمى بـ(الشرعة الانغماسية)، تبرير العنف دون التكليف، والتحقق داخل شرط الجهاد على وفق اجتهاد الشارع أو الفقيه وولي الأمر...
الصراع حول الحقيقة يصطنع له بالمقابل مؤسسات ومرجعية دولتية/ عنفية، وفقهية تضع سياق الولاية بوصفه الشرط الحاكم، وبوصفه الكفاية التي تملك حيازة شرط التحريم والتكفير مع المختلف، وتضعه بالقوة والإكراه تحت سطوة حاكمية اجتهادها قتلاً بالنسبة إلى المسلم المارق عن ولاية الأمر وطاعتها، والإخضاع للجزية بالنسبة إلى غير المسلم..
مقابل هذا نجد بروز جماعات خارجة عن السياق، ومتماهية مع هذه السلطة ووفق مقتضى الأمر، وهي تتبنى الترويج لثقافوية العنف بوصفه دفاعًا مقدسًا عن النوع والطائفة والجماعة، وهو ما يعني تكريسًا قصديًّا للمركزة الحاكمة، وتغييبًا متواصلاً لسيرورة وجود أيّ مؤسسات حقوقية فاعلة ومهنية، قادرة على إعادة صياغة مفهومي (المنكر والمعروف) ليس بوصفها جزءًا من علم الكلام، بل جزءًا فاعلاً في سياق الحقوق والمصالح، مثلما تملك القدرة على مواجهة هذا الطوطم بكل خرافاته وأساطيره ونزعاته الشعبوية، إذ سيكون له وظيفة متعالية للفاعلية الاجتماعية، وفي التقليل من تضخّم المظاهر الاجتماعية والسياسية للتشظي المجتمعي، تلك التي تكرس العديد من معطياتها في الوجدان المجتمعي..
كثيرًا ما يتحول العنف الطائفي والعنف الأيديولوجي إلى ظاهرة اجتماعية، وإلى عنف له شرعة دامية تمارسه السلطة والجماعة
الحديث عن العنف الأصولي وتعالقه مع جماعات (الإسلام السياسي) ليس بعيدًا عن وجود العديد من العوامل التي أسهمت في تغذية هذه الجماعات وتضخيمها، إذ إنّ فشل الدولة الحديثة وانهيار مشروعها القومي الجامع، وكذلك فشل الكثير من البرامج والمشاريع التنموية والتعليمية والثقافية والإصلاحية كرس ظاهرة (الذات المهزومة) حتى بدت استعادة الرمزية التاريخية للذات الإسلاموية التاريخية وكأنها تماهٍ مع القوة التعويضية التي تواجه ظاهرة الاغتراب، و(العلمنة الكافرة) وكذلك هي مواجهة الهزيمة عبر استعادة طاقة التاريخ والنص، واصطناع سياق ضدي لصورة الدولة المتخيلة، ولهوية الجماعة المتخيلة، تلك التي ستجد في العنف الجهادي ممارسة ناسفة لهشاشة منظومة الدولة النمطية، والاستعاضة عنها باختلاق (الصورة الإيهامية للدولة الإسلامية) مقابل تخليق سلسلة من الفعاليات التي من شأنها صناعة (شبكة وكلاء) يمثلون هذه الدولة المُستعادة، ويبررون عنفها (المقدس) عبر استعادة متخيلة أيضًا للجهاز التفسيري الذي أنشأته مؤسسة (السنة والجماعة) بوصفها القوة المؤتمنة على صيانة النص والأمة..
إنّ تضخم ظاهرة داعش ليس بعيدًا عن المرجعيات الإسلاموية ذاتها، وإنّ العنف الرمزي، والعنف المادي العقابي الذي تمارسه جماعة الحسبة يستند في أصوله على مرجعيات تاريخية لها سندها في الفقه، وفي ولاية الحاكمية، وحين أدركت الجماعات الإسلامية الراديكالية تاريخيًّا، أو في العصر الحديث، انطلاقًا من نشوء الحركة الوهابية في القرن الثامن عشر، وتواصلاً مع الحركات المتطرفة التي نشأت في مصر، لاسيما بعد قيام حسن البنا بتشكيل حركة الإخوان المسلمين في أوائل القرن العشرين، وطموحات البنا في أنْ تتحول هذه الحركة إلى مؤسسة عسكرية لمواجهة الصراع مع الأجنبي، أو مع مظاهر التفكك في الأمة الإسلامية، ولعل أخطر ما في هذه المرجعيات ارتباط بعض توجهاتها بالأحداث السياسية، لاسيما في علاقة أبي الأعلى المودوي مع أحداث الحرب الهندية الباكستانية وإعلان استقلال باكستان، وكذلك علاقة سيد قطب بحادث محاولة اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954 والذي انتهى بإعدام سيد قطب وعدد من رموز حركة الإخوان المسلمين في مصر، كما أنّ صعود المدّ الأصولي الجهادي اليوم ليس بعيدًا عن (إدارة التوحش) الذي كرسته أمريكا، واصطنعت من خلاله مرجعيات ثقافوية وأصولية تم توظيفها في سياق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق، وتُعاد صياغة الوظيفة عبر داعش لغرض فرض نظريات جديدة للهيمنة، ولصدام آخر للأفكار والطوائف والحضارات على غرار ما اقترحه صموئيل هنتغتون في نهاية القرن الماضي...
[1] الشيخ محمد مهدي شمس الدين/ فقه العنف المُسلّح في الإسلام/ مركز دراسات فلسفة الدين/ بغداد/ 2004 ص 92
[2] المصدر ذاته، ص161
[3] ابن منظور/ لسان العرب/ جزء4/ دار المعارف - القاهرة سنة 1979 ص ص 31-32
[4] إبراهيم مصطفى/ المعجم الوسيط ط2 ج1-2 المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع ص 631
[5] أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا/ معجم مقايس اللغة/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت 2008 ص 683
[6] محمد بن أبي بكر الرازي/ مختار الصحاح/ دار الرسالة/ الكويت سنة1983 ص 458
[7] ناظم عبد الواحد الجاسور/ موسوعة المصطلحات السياسية والفلسفية والدولية/ دار النهضة العربية/ بيروت ط1 سنة 2008 ص 432
[8] محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، ط 1، بيروت، 1997، ص 37
[9] الشيخ محمد مهدي شمس الدين/ فقه العنف المُسلّح في الإسلام / مركز دراسات فلسفة الدين/ بغداد/ 2004 ص 14