"الفاتحة الأخرى: الإسلام وفكر حقوق الإنسان" لعياض بن عاشور
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب "الفاتحة الأخرى: الإسلام وفكر حقوق الإنسان" لعياض بن عاشور([1])
صدر كتاب "الفاتحة الأخرى الإسلام وفكر حقوق الإنسان" لعياض بن عاشور، في طبعة أولى عن دار الجنوب للنّشر والتّوزيع في تونس سنة 2012م، وتَرجَم الكتاب من اللّغة الفرنسيّة إلى اللّغة العربيّة الباحث التّونسيّ فتحي بن الحاج يحيى.
وما يلفت الانتباه؛ أنّ عنوان الكتاب في نسخته العربيّة، يختلف عن عنوان الكتاب في النّسخة الفرنسيّة، وهو "La Deuxième Fatiha L’islam et la pensée des droits de l’homme"
وقد ارتأى المترجم استبدال عبارة "الفاتحة الثّانية / La Deuxième Fatiha" بــ "الفاتحة الأخرى"، وذلك - في تقديرنا - تجنّبًا للالتباس بين مراد ابن عاشور والاعتقاد أنّ المقصود بالفاتحة الثّانية؛ قراءة جديدة لفاتحة القرآن الكريم، ذلك أنّ المقصود بالفاتحة الأخرى - عند ابن عاشور - الآيات الممتدّة من الآية الثّانية والثّلاثين إلى الآية الثّانية والسّبعين من سورة الإسراء، وهي في تقديره تتضمّن أربعة عشرة وصيّة، تمثّل - عنده - قوام ميثاق إسلاميّ لحقوق الإنسان، ففي تلك الآيات احتفاء بقيم أخلاقيّة متناغمة مع المعايير الكونيّة لحقوق الإنسان، وقد ترتّبت عن هذه الرّؤية أسئلة عديدة، توزّعت على أبواب عشرة، هي:
الباب الأوّل: صرخة العدل ومنطق رفض مهانة. (من ص 39 إلى ص55)
الباب الثّاني: الإنسان؛ هذا الحيوان الّذي ...إلخ. (من ص 57 إلى ص74)
الباب الثّالث: من روح العدل إلى دولة القانون. (من ص75 إلى ص 92)
الباب الرّابع: وجوه الإنسان. (من ص 93 إلى ص 114)
الباب الخامس: تحرير الحرّيّة. (من ص 115 إلى ص 128)
الباب السّادس: التّحدّيات الثّلاثة للتبعيّة. (من ص 129 إلى ص 151)
الباب السّابع: القوس المرجعيّ. (من ص 153 إلى ص 176)
الباب الثّامن: في التّوافقية وحدودها. (من ص 177 إلى ص 196)
الباب التّاسع: النّصّ الدّينيّ بين المقاصد والألفاظ. (من ص 197 إلى ص 215)
الباب العاشر: القانون الإلهيّ وتطهير المجتمع الجاهليّ. (من ص 217 إلى ص 239)
وقد مهّد للكتاب في ستّ صفحات (من ص 9 إلى ص 14)، وقدّم له في أربع وعشرين صفحة (من ص 15 إلى ص 38)، أمّا الخاتمة؛ فجاءت في تسع صفحات (من 231 إلى ص 239)، في حين امتدّت قائمة المراجع على عشرين صفحة (من ص 240 إلى ص 259)، فاحتوى الكتاب - بذلك - مئتين وستين صفحة.
وإذا تأمّلنا محتويات الكتاب، ألفينا أبوابه متّصلة ببعضها، حاول من خلالها عياض بن عاشور التّطرّق إلى مسألة مهمّة في الفكر الإسلاميّ المعاصر، هي: مدى قدرة الإسلام على كسب معركة الحداثة، وهل بالإمكان مواجهة الحداثة ومتطلّباتها بالتّمترس خلف المسلّمات الفكريّة التّقليديّة المتّصلة بالعقليّة الأصوليّة، من هذا المنظور؛ فإنّ الكتاب يتساءل عن مدى قدرة الأحزاب السّياسيّة والتّنظيمات الدّينيّة على التّفاعل مع الحداثة، وما تفرضه من انخراط في المشروع الدّيمقراطيّ، وميّز ابن عاشور - في هذا المستوى - بين؛ الإسلام بما هو دين، والإسلام بما هو ممارسة؛ فالإسلام - في تقديره - ينطوي على قيم تتيح له الانخراط في الحداثة، فهو في جوهره لا يتعارض مع القيم الكونيّة لحقوق الإنسان بمختلف تجلّياتها، في حين يبدو الإسلام السّياسيّ عاجزًا عن مواكبة الحداثة؛ فهو فكر منغلق لا يستطيع تحقيق انتقال من الرّؤية الحضاريّة القديمة، إلى الرّؤية الحضاريّة الجديدة الّتي تؤمن بقدرة الفرد على تحمّل مسؤوليّته، بعيدًا عن الوصايا وسلطة الأوصياء، ذلك أنّ الإيمان بالفرد يفتح الباب على مصراعيه للنّظر في إشكاليّات الحداثة، وقضاياها المؤرّقة للفكر الإسلاميّ (المساواة بين الرّجال والنّساء، المواطنة، الدّيمقراطية، ...إلخ)، ففي الآيات القرآنيّة (الفاتحة الأخرى) الّتي استند إليها ابن عاشور، دعوة واضحة إلى احترام الحياة، والوفاء بالعهود والمواثيق، واحترام الفقراء، واحترام حقّ الحياة، والتّحلّي بقيم أخلاقيّة حميدة، مثل: التّواضع، ...إلخ.
إنّ قراءة عياض بن عاشور للإسلام، جعلته يؤسّس طرحًا جديدًا مداره حول اعتبار القرآن الكريم نصًّا إنسانيًّا، ذلك أنّ فيه مضامين إنسانيّة ما انفكّ الفكر الحداثيّ ينادي بها.
من هذا المنظور؛ فإنّ "الفاتحة الأخرى" امتداد لكتاب "الجذور الأرثوذكسيّة السنيّة"، في مستوى الطّرح والمقاربة؛ ففي الكتابين إشارة واضحة إلى أنّ الفكر الإسلاميّ يعيش مأزقًا حقيقيًّا، مأتّاه عجزه عن الارتقاء إلى مصاف الثّقافات والحضارات المتقدّمة.
ولم يكتف عياض بن عاشور - في "الفاتحة الأخرى" ببسط الإشكاليّات، وتناول تبعاتها فحسب؛ إنّما قدّم - أيضًا - تصوّرًا للخروج من المأزق الحضاريّ، فالمطلوب - في تقديره - بناء "نظام تربويّ ملائم [يؤدّي] إلى تخليص معتقداتنا من شوائبها المرَضيّة النّفسيّة، من قبيل عذاب القبر، وفنون التّعذيب في نار جهنّم، وملذّات الجنّة، وما شابه ذلك من السّذاجات الّتي يمكنها - بفعل توارد الهذيان التّأويليّ - توفير الأرضيّة لنفي المواطنة، أو تغذية منطق التّدمير الذّاتيّ عن طريق العنف" (ص 37).
فالفكر الإسلاميّ مطالب بالنّظر في (وإلى) الواقع، بدلًا من الانغماس في الماضي؛ بل قد كان للإسلام في القرون الماضية - لاسيما القرن الرّابع عشر - مفكّرون، أمثال: التّوحيديّ، وإخوان الصّفا ...إلخ، أكثر انفتاحًا فكريًّا من المفكّرين المعاصرين، من ذلك أنّهم تناولوا مسائل، هي في حيّز المنسيّ فكريًّا - اليوم - مثل: قضيّة منزلة الحيوان، ومسألة إيلامه (القاضي عبد الجبّار في كتاب المُغْنِي..)، ففي التّصوّر الإسلاميّ كان الحيوان (الحياة، ..إلخ)، الاسم/ الصّفة الجامع بين الإنسان ومختلف الحيوانات، ومن المفارقات أنّ النّصّ القرآنيّ قد أقرّ أنّ الإنسان قد ولد حرًّا، وأنّ الحرّيّة أصل من أصول حياته، ومع ذلك، يتحوّل إلى كائن مسلوب الإرادة والحرّيّة (العبوديّة، استنقاص المرأة، التّمييز وفق اللّون، ...إلخ).
اهتمّ الإسلام بالإنسان والحيوان ...، وأقرّ حقّ الحياة ومبدأ الحرّيّة لهما، بيد أنّ "القمع [السّياسيّ والفكريّ ...إلخ] استطاع أنْ يستعبد الدّين من أجل استعباد الإنسان، ليضفي الشّرعيّة على أفعاله؛ من لا مساواة بين المرأة والرّجل، وخنق حريّة الفكر، وتسليط العقوبات المذّلّة، وزرع كراهيّة الآخر"، [... وذلك] باسم الرّبّ الأعلى وتعاليمه وحقّه، [ولا مخرج من هذا القمع والتّسلّط إلّا] بالتّصالح مع فكرة الحرّيّة والعدل؛ أي فكرة دولة القانون [الّتي تؤدّي إلى] تآلف المؤمن مع المواطن والنّظام مع الحرّيّة، وفكر حقوق الإنسان مع ممارستها الفعليّة" (ص 74).
هذه الرّؤية: هي الّتي سوف تمكّن الفكر الإسلاميّ من الانتقال "من روح العدل إلى دولة القانون"، قانون دولة القانون يتمثّل - بالأساس - في الإيمان بها (دولة القانون)، وهو ما يتطلّب - في تصوّر ابن عاشور الإيمان بالدّولة - ذلك أنّ الدّولة توفّر لنا فرصة لتأمّل الحياة، وعيشها بما يحقّق للإنسان بعض "وجوه الإنسان"، الّذي يظلّ حيوانًا ثقافيًّا، لا يتسنّى لنا إدراك جوهره ما لم نتأمّل وضعه الاجتماعيّ، وهو ما يدعو إلى ضرورة التّمييز بين الرّؤية التّقليديّة للكائن- الإنسان، والرّؤية الإسلاميّة الّتي تنطوي على تأكيد واضح على حقوق الكائن الإنسان، وهو ما دفع الباحث إلى عقد مبحث وسمه بـ"الحقوق الأساسيّة بين المبادئ والتّشريع"، بيّن فيه أنّه ثمّة عوائق عديدة موصولة بالعادات والتّقاليد البالية، والصّعوبات الاقتصاديّة والسّياسيّة، تحول دون "الاستبطان الحقيقيّ لحقوق الإنسان، والنّظام السّياسيّ المترتّب عن هذه الحقوق؛ أي الدّيمقراطيّة التّعديّة، والتّداول على الحكم [....]؛ فالمفكّرون المسلمون متّفقون - في مستوى المبادئ - على قبول المساواة في الحقوق بين البشر دون استثناء [...]، إلّا أنّ مشاكل عديدة خطيرة تبرز على مستوى التّشريع [...]، متّصلة بالأعراف والأخلاق الاجتماعيّة القائمة والدّين" (ص 109).
إنّ هذا الوضع يتطلّب "تحرير الحرّيّة"، وفي هذا السّياق، تتحوّل الحرّيّة؛ من فكرة موصولة بالمجال الماورائيّ، إلى بناء مخصوص، فالحرّيّة ليســـت معــطى؛ إنّما هي "بناء هندسة يتعيّن بناؤها، [... وهو ما يتجلّى في] المشروع الدّيمقراطيّ القائم على الذّات البشريّة" (ص 127)، تلك الرّؤية الّتي من شأنها أنْ تحرّر الإنسان من النّظريّة الاستبداديّة، القائمة - بالأساس - على فكرة الأمير/ الإمام/ الخليفة، الّذي يمثّل قطب الحياة، ومركزها الّذي تدور في فلكه جميع شؤون الدّنيا ومصالح العباد.
هذا الانتقال ليس سهلًا في تصوّر ابن عاشور، ذلك أنّ ثمّة تحدّيات ثلاثة للتّبعيّة: هي النّزعة التّاريخانيّة، والنّزعة الطّبيعانيّة، والنّزعة الثّقافويّة، وهي نزعات مُؤسّسة للجهل الّذي يعدّه الباحث أخطر أعداء حقوق الإنسان، ذلك "أنّ النّضال من أجل حقوق الإنسان، برنامج ضخم من أجل القضاء على الجهل" (ص 151)، الّذي تساهم تلك النّزعات الثّلاث في توطيد أركانه من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإنّ مسألة المرجعيّة في الفكر الإسلاميّ، تعدّ أكثر العوائق تأثيرًا في المشروع الحداثيّ، فجميع "الدّيانات القائمة على فكرة الإله المشرّع، قد تجد بعض الصّعوبات مع حقوق الإنسان" (ص 153)، ومكمن الصّعوبة أنّ الفكر الدّينيّ - في تعامله مع حقوق الإنسان - مضطرٌّ إلى حشرها في حقوق الله، وبذلك يضفي عليها طابعًا قدسيًّا، يجعل منها خارجة عن كلّ نقاش، أو هو يخرجها من دائرة حقوق الله، فيضفي عليها - بذلك - طابع النّسبيّة.
ويُميَّز - بناء على ذلك - بين حقوق الإنسان وحقوق الله، وهو ما دفع الباحث إلى الخوض في إشكاليّات عقائديّة كلاميّة، مثل: كلام الله مخلوق غير المخلوق، وقضيّة الأحكام (المحاربة، الحجاب، ...إلخ)، منتهيًا - في هذا المجال - إلى عدّ نظريتيْ حقوق الله وكلامه المنزّل/ الموحى، هما المؤسِّستان لمفهوم القانون في الوسط الإسلاميّ، المحدّد بدوره لحقوق الإنسان، وقد شاع القول: إنّ هذا القانون هو قانون إلهيّ أزليّ ثابت، صالح للجميع بصرف النّظر عن اختلاف أزمانهم، وأمكنتهم، وألسنتهم، وحضاراتهم.
إنّنا إزاء منظومَتين أو تصوّرَين؛ تصوّر لائكيّ: يقدّم حرّيّة التّعبير على الحرّيّة الدّينيّة، وتصوّر ثقافيّ دينيّ: يرى في مبادئ الأولى إهانة للأديان والمقدّسات، (يتناول الباحث - في ما يتّصل بهذه المسألة - قضية الرّسومات الكاريكاتوريّة الصّادرة في الجريدة السّاخرة شارلي هبدو، قضيّة مسلم قندوز ضدّ الدّولة التّركيّة، ...).
وهي مسألة معقّدة، تتداخل فيها مبادئ حرّيّة التّعبير، بالحدود الّتي يجب أن تُحترم، وهو ما جعل ابن عاشور يستشعر الخطر من تداخل البعدين، بقوله: "تمثّل [هذه الممارسات التّهكّمية] - في حدّ ذاتها - تهديدًا لذلك المكسب الثّمين من مكاسب فلسفة حقوق الإنسان، الّذي يضع حرّيّة الضّمير والمعتقد في أعلى هرم الحرّيّات" (ص 175).
إنّ الحرّيّة الوحيدة المحتفى بها في الإسلام - في تصوّر عياض بن عاشور - هي حرّيّة الاجتهاد، وهو ما تجلّى في ظهور نظريّة إسلاميّة، تؤكد أنّ العقل البشريّ هو مصدر التّشريع، بيد أنّ هذه النّظريّة ظلّت مستبعدة مقيّدة، وهو ما أدّى إلى تغليب المقاصد الحرفيّة للنّصّ.
في ظلّ هذه المفارقة؛ سعى بعض المفكّرين المسلمين إلى إعادة بناء تصوّر توفيقيّ، يساهم في بناء الملاءمة بين حقوق الإنسان ومفهوم الحقوق المنزّلة، بيد أنّ هذه المحاولات التّوفيقيّة تؤكّد استحالة التّفكير خارج القوس المرجعيّ، وخير مثال على ذلك: أنّ كلًّا من جمال البنّا ومحمّد الطّالبيّ، رغم أنّهما من المفكّرين المسلمين اللّيبراليّين، إلّا أنّهما - في نقدهما للمنظومة الدّينيّة التّقليديّة - وقفا على سطح الإشكاليّات، دون الخوض في لبّ الإشكاليّات الرّئيسة، ويعود ذلك إلى عدم القدرة على تأمّل الإشكاليّات الحقيقيّة تأمّلا فلسفيًّا، فالمفكّران المشار إليهما تحرّكا في إطار القوس المرجعيّ.
وفي تقدير عياض بن عاشور، المسألة يجب أنْ تعالج خارج دائرة القوس المرجعيّ، وفي سياق جديد، يقع فيه التّمييز بين النّصّ الدّينيّ بين المقاصد والألفاظ، والوعي بما بين "حَرْفيّة النّصّ وحركة الحياة" من صلات، تتيح لنا "إعادة قراءة القرآن، وتصميم المفاهيم والآليّات الّتي تأسّس عليها [..]، وذلك بوضعه في سياقه التّاريخيّ، وفي ضوء روح النّصّ، وليس التّعامل معه كنصّ مغلق ونهائيّ" (ص 247)، بعيدًا عن الرّؤية التّقليديّة الّتي تعمل على إعادة إنتاج الرّؤية القديمة، من خلال إحياء وسائل التّأويل التّقليديّ، ومن أهم مظاهر الوعي الجديد: الإلمام بمقاصد الشّريعة؛ فهي روح القانون الّذي يجب التّمسّك به.
[1] عياض بن عاشور: هو ابن الشّيخ العلاّمة محمّد الفاضل بن عاشور، وحفيد الشّيخ العلاّمة مـحمّد الطّاهر بن عاشور، ولد عياض بن عاشور في 1 حزيران 1945م في تونس العاصمة، وهو رجل قانون متخصّص في النّظريّة السّياسيّة الإسلاميّة، وفي القانون العامّ، وتولّى عمادة كليّة العلوم القانونيّة في تونس، والتّدريس في معهد البحوث والدّراسات حول العالم العربيّ والإسلاميّ، وعُيِّن- بعد ثورة 14 كانون الثّاني- رئيسًا للهيأة العليا لتحقيق أهداف الثّورة والإصلاح السّياسيّ والانتقال الدّيمقراطيّ في تونس.