الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة -نصوص مختارة- للكاتب محمد ياقين
فئة : قراءات في كتب
الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة -نصوص مختارة-
للكاتب محمد ياقين[1]
يُشكل الفرد والمجتمع معاً "حقيقتين" أساسيتين في كل المجتمعات وكل الحقب والأزمنة، إلا أن متابعتهما بالنظر والتحليل في السوسيولوجيا لم تتم بشكل متكافئ بالنظر إلى جملة من العوامل والشروط مثل: تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية من جهة أولى، وتطور دائم ومستمر للتنظيرات والتراكمات العلمية والمنهجية الحاصلة في مجال السوسيولوجيا من جهة ثانية. من هنا، تأتي أهمية الكتاب الموسوم بـ: "الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة-نصوص مختارة-" للأستاذ الباحث محمد ياقين[2] في كونه يتابع تطور التفكير السوسيولوجي المعاصر في تناوله ومواكبته للعلاقة الإشكالية التي تجمع ما بين الفرد والمجتمع. والأكيد أننا لسنا أمام علاقة بديهية بدليل السجالات القوية التي كانت موضوعا لها. وهذا إميل دوركايم (E. Durkheim)، مثلا، في كتابه "قواعد المنهج السوسيولوجي"، اعتبر أن الواقعة الاجتماعية تمتاز بخاصيتي الإكراه والخارجية عن إرادة الأفراد، بالإضافة، بطبيعة الحال، إلى فصله بين علم النفس وعلم الاجتماع، على أساس أن الأول يعنى بدراسة "الفردي" (l’individuel) والثاني يهتم بدراسة "الجماعي" (le collectif)، وهو الموقف الذي خضع، فيما بعد، لعدة سجالات ومراجعات مست جوانب متعددة، وما يزال صداها حاضراً إلى الآن.
تأسيسا على ما سبق، اخترنا مراجعة كتاب الأستاذ الباحث محمد ياقين مُحاولين، في البداية، تقديم صورة أولية عن أهم المضامين والأفكار الثاوية في الكتاب، ثم الانتقال بعد ذلك إلى إبراز أهمية هذا المنجز على عدة مستويات، وتسليط الضوء على الجوانب المضيئة فيه، لنخلص، فيما بعد، إلى إثارة بعض التحديات التي واجهها الباحث أثناء إقدامه على هذا العمل المتميز.
-1-
صدر عن دار نشر المعرفة سنة 2020 الجزء الثاني من سلسلة المعارف السوسيولوجية الموسوم بـ: "الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة-نصوص مختارة" للأستاذ محمد ياقين، وهو كتاب يقع في حدود 304 صفحة من الحجم المتوسط، يحاول من خلاله الباحث إبراز النقاشات السوسيولوجية في طبيعة العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، انطلاقا من التقاليد والمدارس السوسيولوجية المعاصرة الكبرى.
وقبل أن نعرج على أهمية العمل، ننوه إلى أن الجزء الثاني جزء من سلسلة يروم الباحث من ورائها "تيسير فهم واستيعاب مفاهيم ونظريات وقضايا سوسيولوجية، بغاية الإحاطة بأبعادها التاريخية وخلفياتها الإبستمولوجية؛ وذلك من خلال نصوص مختارة ومداخل نظرية تمهيدية وقواميس".[3] وبهذا الاختيار، يرغب الباحث في الإمساك بإشكالية العلاقة ما بين الفرد والمجتمع في إطار المتن السوسيولوجي على امتداد مراحله وتطوراته عبر النظر المتبصر والتقليب البارع والأسلوب الثري والأكاديمي الرفيع الذي يتميز به الكاتب في ترجمة النصوص وتقديمها، بعدما خضعت لعملية الاختيار والانتقاء؛ وذلك بالنظر لمجموعة من الاعتبارات، لعل من أبرزها تمحور "التفكير والجدال، عموما، حول تقدير حدود حرية وإرادة وفاعلية الفرد وحول طبيعة ومدى تأثير المجتمع في هذا الأخير، وهو ما ترجمته أطروحات سوسيولوجية متضاربة يدافع بعضها عن الحتمية وينتصر بعضها لاستقلالية الفرد، في حين يتخذ بعضها الآخر مواقف بينية ووسيطة تتوسل بصيغ توليفية مختلفة".[4]
وفي الوقت الذي انصرف فيه الباحث في الكتاب الأول من سلسلته إلى الاهتمام بأشكال تعاطي رواد السوسيولوجيا الكلاسكية لمفهومي الفرد والمجتمع، فإنه يسخر الكتاب الثاني لإبراز الكيفية التي جرى بها تناول نفس الإشكالية، الكامنة في الفرد والمجتمع، لكن هذه المرة من بوابة التقاليد السوسيولوجية المعاصرة الكبرى.
تبعاً لذلك، يتبين أننا إزاء مشروع طموح يدخر له الباحث مجهودًا كبيرًا يهم متابعة النقاش الإشكالي لمفهومي الفرد والمجتمع من داخل المتن السوسيولوجي في مختلف مراحل تشكله (المرحلة الكلاسيكية، المرحلة المعاصرة، المرحلة الجديدة أو الراهنة...)؛ وذلك من أجل الاقتراب والدنو من التجارب التاريخية في تغطية هذين المفهومين الأساسيين، واستيعاب بعض عوامل ومظاهر تفاوت درجات وإيقاعات التعقيد التي تسم تطور المجتمعات ومستويات تطور علاقة الفرد بالمجتمع ضمن سياقات اجتماعية وتاريخية مختلفة.[5]
ركز الباحث ياقين، في الجزء الثاني من سلسته الواعدة، إذن، على السوسيولوجيا المعاصرة التي نمت وتطورت في سياق أزمة السوسيولوجيا الكلاسيكية والحاجة لتطوير مقاربات مواكبة لما شهدته المجتمعات الغربية، على الخصوص، من تحولات خلال القرن العشرين على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفكري.
وعلى الرغم من أن الأمر يتعلق بسلسلة وبإشكالية واحدة، اختار الباحث أن يكون الجزء الثاني مختلفاً عن الجزء الأول. ومكمن الاختلاف الأساسي هو التركيز على المرحلة المعاصرة من تاريخ السوسيولوجيا بالاعتماد على تقسيم مغاير قوامه التركيز على التقاليد السوسيولوجية الكبرى. وقد بنى الباحث اختياره هذا على مجموعة من المبررات، التي يمكن تركيزها في مبررين أساسيين:
- يكمن المبرر الأول في أننا لم نعد نتعامل بالدرجة الأولى، حسب تقدير الباحث، مع إسهامات رائدة أو مؤسسة بقدر ما أصبحنا نتعامل مع تراكمات تتفاعل ضمنها النظريات بشكل جدلي ونقدي؛ [6]
- ويهم المبرر الثاني اعتبار أن التقاليد تجمع ما تراكم في بلد أو بلدان من إنتاجات فكرية-موسومة بطابع الاستمرارية- وأطروحات تخترقها قواسم مشتركة على المستوى الفكري واللغوي والثقافي.[7]
وجدير بالذكر أن الباحث يستعمل التقليد في الكتاب ليس بمعناه الواسع، كما ورد لدى ناسيبت (Nisbet)؛ أي وجود نواة للأفكار الأساسية التي تستمر من جيل إلى جيل، وتميز نفسها عن جميع التخصصات الأخرى المكرسة لدراسة الإنسان، سواء كانت بخلفية إنسانية أو علمية، بل بمعنى وجود تقاليد سوسيولوجية وطنية، أو عابرة للأوطان لكنها مكتوبة بنفس اللغة وحاملة لملامح ثقافة مشتركة.[8]
وبناءً عليه، استقر الباحث على تناول ثلاثة تقاليد أساسية، وهي: التقليد الأنجلوسكسوني، والتقليد الألماني، ثم التقليد الفرنسي؛ وذلك من خلال نصوص مختارة نكتشف من خلالها الاتجاهات والنظريات التي نمت وتطورت في إطار كل تقليد من هذه التقاليد الثلاثة.
وبناء على التقسيم المشار إليه أعلاه، يمكن تقديم المحاور الفرعية للكتاب على الشكل الآتي:
في القسم الأول المخصص لـ"السوسيولوجيا الأنجلوسكسونية" (الممتد من الصفحة 13 إلى الصفحة 141)، فنجد على التوالي المحاور الآتية:
- الإيكولوجيا البشرية/مدرسة شيكاغو: وهو المحور الذي يتألف من النصوص التالية: الفرد والمجتمع لدى مدرسة شيكاغو (أندري إيبوت)؛ مفهوم المجتمع (رودريك ماكنزي)؛ الفرد والمجتمع (توماس وزنانيكي)؛ السوسيولوجيا والمجتمع (لويس ويرث)؛ الفرد وسيرورة تحديد الوضعية (وليام إسحاق توماس).
- الوظيفية البنيوية (تالكوت بارسونز): وهو المحور الذي يشتمل على النصوص الآتية: مفهوم المجتمع ومكوناته؛ مفهوم النسق الاجتماعي؛ المجتمع والنسق الثقافي؛ الفاعل وهامش الفعل.
- الوظيفية النسبية/المعدلة (وظيفية المدى المتوسط) روبير كينغ ميرتون: وهو المحور الذي يخصص للنصوص التالية: المجتمع في النظرية متوسطة المدى؛ علاقة الفرد بالمجتمع في النظرية متوسطة المدى؛ إشكالية عُدَّة الأدوار.
- أصول التفاعلية الرمزية (جورج هربرت ميد): وهو المحور الذي يسخر للنصوص الآتية: الذات والجهاز العضوي؛ "الأنا الداخلية" و"الأنا الداخلية الخارجية"؛ الغير-المعمم.
- التفاعلية الرمزية (هربرت جورج بلومر): وهو المحور المخصص للنصوص التالية: مبادئ التفاعلية الرمزية؛ المجتمع الإنساني والتفاعل الإجتماعي؛ المجتمع بوصفه تفاعلا رمزيا.
- المنظور التفاعلي الدراماتورجي (إرفينغ غوفمان): وهو المحور الذي سُخر للنصوص الآتية: السوسيولوجيا والإطار المسرحي؛ التحليل الدراماتورجي للمجتمع؛ الأنا والإخراج المسرحي.
- المنظور الإثنوميتودولوجي (هارولد غارفنكل): وهو المحور الذي شمل النصوص التالية: المجتمع من وجهة نظر إثنوميتودولوجية؛ المجتمع والحس المشترك؛ وضع الإنسان داخل المجتمع.
- البنائية الفينومينولوجية (بيتر بيرجي وتوماس ليكمان): وهو المحور الذي شمل النصوص الآتية: التحديد الاجتماعي للواقع؛ المجتمع والاجتماعي؛ المجتمع بوصفه واقعا موضوعيا؛ المجتمع بوصفه واقعا ذاتيا.
- نظرية البَنْيَنَة (أنتوني غيدنز): وهو المحور المتألف من النصوص التالية: النسق الاجتماعي والمجتمع؛ البنية والنسق وإعادة الإنتاج الاجتماعي؛ محددات التفاعل الاجتماعي.
أما القسم الثاني المخصص لـ"السوسيولوجيا الألمانية" (الممتد من الصفحة 143 إلى الصفحة 206)، فنجد المحاور الفرعية التالية:
- السوسيولوجيا الظاهراتية (ألفريد شوتز): وهو المحور الذي اشتمل على النصوص الآتية: العالم الاجتماعي؛ مفهوم الفعل؛ مفهوم الفعل العقلاني؛ الدافع من أجل والدافع بسبب.
- مدرسة فرانكفورت: وهو المحور الذي خصص للنصوص الآتية: النظرية النقدية والمجتمع؛ المجتمع بين الفلسفة الاجتماعية المعاصرة؛ نظرية المجتمع؛ نظرية المجتمع بين الفلسفة والسوسيولوجيا؛ الفرد في "المجتمع الراقي"؛ الفردانية: مفهومها وسيروراتها.
- السوسيولوجيا السيروراتية (نوربيت إلياس): وهو المحور الذي تألف من النصوص التالية: علاقة الفرد بالمجتمع؛ مجتمع الأفراد؛ طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع؛ نقد فكرة التعارض بين الفرد والمجتمع؛ الهويات في مجتمع الأفراد.
وأخيرا، في القسم الثالث المخصص لـ"السوسيولوجيا الفرنسية" (الممتد من الصفحة 207 إلى الصفحة 291)، فنجد المحاور الرئيسة الآتية:
- المرفولوجيا الاجتماعية (موريس هالفيكس): وهو المحور المسخر لكل من النصوص التالية: أسبقية المجتمع؛ المجتمع من منظور المروفولوجيا الاجتماعية؛ نظرية الذاكرة الجماعية.
- سوسيولوجيا الفعل الجماعي (ألان تورين): وهو المحور المخصص للنصوص الآتية: سوسيولوجيا الفعل؛ الفاعلون والأنساق؛ المجتمع ابتكار وإنتاج ذاتي؛ "عودة" الفاعل؛ عودة الذات.
- البنيوية التكوينية (بيير بورديو): وهو المحور الذي اشتمل على النصوص التالية: العالم الاجتماعي من منظور بنيوي بنائي؛ الهابيتوس مفهومه ومحدداته؛ الهابيتوس بوصفه منتوجا ومنتجا.
- الفردانية المنهجية (ريمون بودون): وهو المحور الذي تألف من النصوص الآتية: باراديغم الإنسان القصدي؛ الفعل الاجتماعي والنظرية العامة للعقلانية؛ الفاعل الاجتماعي والنموذج العقلاني؛ الفاعل الفردي والعنصر الفاعل الفردي.
- الفردانية الجديدة (فرانسوا بوريكو): وهو المحور الذي همَّ النصوص التالية: مبادئ الفردانية الجديدة؛ الفردانية المؤسساتية؛ الفاعل بين الدوافع والنماذج.
- باردايغم التعقيد (إدغار موران): وهو المحور الذي تضمن النصوص الآتية: المجتمع وباراديغم التعقيد؛ المجتمع مفهوم مركب؛ هوية المجتمع؛ المجتمع نسق يعيد تنظيم بيئته ذاتيا.
تلك، إذن، هي المحاور الفرعية التي يشتمل عليها الكتاب. وهي المحاور الفرعية التي تتألف هي ذاتها من مجموعة من النصوص المترجمة المختارة التي يتخلل كل منها تقديم وتمهيد.
وقبل الانتقال إلى الأقسام والمحاور، افتتح الباحث الجزء الثاني من السلسلة بتقديم من ست صفحات بسط فيه الأفكار الأساسية التي سيتضمنها المؤلف والأهداف المتوخاة من خلاله.
-2-
بعد تقديم وبسط الأفكار الأساسية لعمل الباحث محمد ياقين والمحاور التي يتألف منها، ننتقل إلى تناول أهمية إسهامه.
من خلال مراجعة الكتاب وقراءته، أمكننا القول إن أهمية الكتاب الأكيدة والمحسومة تطال عدة جوانب ونطاقات. إنها الأهمية التي يمكن تناولها على صعيد ثلاثة مستويات، وهي كالآتي:
¨ الأهمية العلمية: وتكمن في التعريف بالإنتاجات السوسيولوجية النظرية والمفاهيمية والمنهجية المعاصرة وطرائق مواكبتها لإشكالية العلاقة بين الفرد والمجتمع. وينطوي مثل هذا العمل على أهمية علمية بالغة تفيد أن التراكمات النظرية في مجال السوسيولوجيا متعددة وغزيرة ومطبوعة بعدم التجانس، كما أن حضورها وتلقيها في السياق العربي بوجه عام ما يزال ناقصا وضعيفا، من حيث الكم والكيف، ولا يُعرِّفُ بكافة الاتجاهات والتراكمات الحاصلة بالشكل الكافي. تلك التراكمات المطبوعة بعدم التجانس ودرجات مختلفة من التعقيد لأن تطور السوسيولوجيا، من حيث مواضيعها ومناهجها ومقارباتها، عموما، هو تطور مطرد وغير متوقف. لذلك، فإن المواكبة الجيدة للتنظيرات الجديدة والمعاصرة تحتاج إلى بذل مجهودات كبيرة وضخمة تروم التعريف بها وتقريبها من الأوساط الأكاديمية العربية حتى لا يحصل تفاوت وتأخر في الاشتغال والعمل السوسيولوجيين في العالم العربي على صعيد استعمال الأطر النظرية وتوظيف المقاربات والمفاهيم والمناهج وما إلى ذلك. وبذلك، فإن العمل الذي نحن بصدد تقديمه ومراجعته يشبه، إلى حد كبير، العمل الذي قام به، مثلاً، كل من إيف غرافماير (Yves Grafmeyer) وإسحاق جوزيف (Isaac Joseph)، [9]حيث جاء عملهما في سياق التعريف بالأعمال الرائدة لمدرسة شيكاغو قليلة التداول والتي لم تكن تحظى بأهمية كافية في الأوساط الأكاديمية الفرنسية؛ وذلك عن طريق اختيار وانتقاء النصوص الأساسية التي بموجبها سيتم ردم الهوة بين المقاربات الرائدة في مدرسة شيكاغو وما دأب عليه السوسيولوجيون الفرنسيون في تعاطيهم السوسيولوجي.[10]ولا يفوتنا، في هذه النقطة، أن نشير إلى أنه قلما نعثر على مثل هذه الإسهامات التي تطمح التعريف بمحطة من محطات تطور السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا من حيث المنظورات التفسيرية والمفاهيمية والمنهجية بالعودة إلى النصوص الأساسية لها في المكتبات العربية.
¨ الأهمية المنهجية: وتتجلى في أن اشتغال الباحث انصب على النصوص والعمل على انتقائها وترجمتها وتقديمها للقراء والقارئات العرب (طلاب وباحثين خصوصا) على اختلاف مستوياتهم ودرجاتهم. وجدير بالذكر، أننا لسنا إزاء اختيار عفوي، بل اختيار منهجي يحسب للباحث. ومكمن الأهمية، هنا، اختيار النصوص بعناية ومحاولة تقريبها لجمهور واسع عبر عملية الترجمة، خصوصا الطلبة الباحثين من مختلف مستوياتهم الأكاديمية عوض إنجاز عمل مسترسل ومعمم؛
¨ الأهمية البيداغوجية: إلى جانب الأهميتين العلمية والمنهجية، تنضاف أهمية أخرى لعمل الباحث محمد ياقين. إنها الأهمية البيداغوجية من خلال اختيار وانتقاء مجموعة من النصوص التأسيسية في السوسيولوجيا المعاصرة والإقدام على ترجمتها وتقديمها. وتتمثل الأهمية لهذا الاختيار في كون هذه النصوص المنتقاة تجسد مصادر وموارد معرفية متنوعة تسمح للقراء باستثمارها في القضايا التي يشتغلون عليها وتساعدهم على الإمساك بالإشكاليات الدقيقة. والنصوص، بوصفها وسيلة أساسية من وسائل التعلم (outil d’apprentissage)، فإنها تنطوي على أهمية بالغة يمكن تركيزها في: تطوير القدرة وإعطاء الإمكانية للقارئ لتملك النصوص والقضايا، والتواصل المباشر مع النصوص ومحاورتها دون وسائط. وعلاوة على ذلك، فإن الاشتغال على النصوص يجعل القارئ يحتل موقعاً إيجابيًّا، وألا يكون تابعاً أو خاضعاً؛ فهو مستخرج للمعاني والدلالات والأفكار والمضامين مع إمكانيات عقد المقارنات والتوسع في التحليل والانفتاح على إشكاليات وقضايا أخرى. باختصار، تشكل النصوص مدخلاً رئيساً عن طريقه تتطور كفايات الطلاب ومهاراتهم التحليلية والنقدية والبنائية والكتابية والتخيلية والتجريدية. وبذلك، فإن إسهام الأستاذ الباحث محمد ياقين، في جانب ثانٍ منه، هو دعوة تحث على رفع درجات الارتباط مع النصوص عوض الانفتاح على الكتب المعممة. وهذا أمر محمود جداً.
-3-
إذا كنا نقر بتفرد وتميز العمل الذي قدمه الأستاذ الباحث محمد ياقين من حيث المجهود الكبير الذي بذله على مستوى تجميع النصوص المنتقاة والعمل على تقديمها وترجمتها بشكل سلس، فإنَّنا نفتح مراجعتنا لهذا العمل على عتبة أخرى، ألا وهي عتبة الملاحظات والتعليقات (عتبة المناقشة)، وهي، في الواقع، عبارة عن تحديات واجهت الباحث أثناء قيامه بهذا العمل الفريد والمتميز نرغب في مشاطرتها إياه من أجل المناقشة والمحاورة.
يتصل الأمر بجملة من الملاحظات التي ارتأينا تقديمها على شكل تحديات من مستويات مختلفة قمنا بتسجيلها ونحن نقوم بمطالعة الكتاب ومراجعته. إنها التحديات التي سننتقل فيها مما هو ذو طبيعة شكلية أو تقنية إلى ما هو ذو طبيعة منهجية، أو يمس كذلك بعض الاختيارات على مستوى بعض النصوص، كما سيتضح من خلال النقاط التالية:
- أولاً: التحدي المرتبط بإمكانية افتتاح كل قسم من الكتاب بتقديم يوضح فيه الباحث التقليد والشروط العامة لنشأته وإبراز النصوص التي سيتم الاشتغال عليها في إطار كل تقليد من التقاليد المدروسة، بالإضافة إلى إمكانية تذييل الكتاب بخلاصة وتركيب يُظهر فيها الباحث بعض مظاهر التلاقح المعرفي والنظري والمنهجي ما بين التقاليد السوسيولوجية الثلاثة التي جرى الاشتغال عليها؛
- ثانيا: التحدي المقترن بالترجمة ونقل بعض المصطلحات إلى اللغة العربية؛ ذلك أن الباحث ارتأى ترجمة بعض المصطلحات بشكل مختلف لما دأب عليه العديد من الباحثين في الأوساط الجامعية العربية عموما، والمغربية على وجه الخصوص. وكمثال على ذلك، نجد أن مصطلح «communauté» الذي عادة ما يترجم ب"الجماعة" قام الباحث بترجمته إلى "الجماعوية". فمثلا كان من الممكن، في مثل هذه الحالة، أن يشرح الباحث اختياره هذه الترجمة عوض الترجمة السائدة. وفي النقطة نفسها، نسجل الحاجة إلى وضع تثبيت للمصطلحات في نهاية الكتاب لتيسير عمليتي القراءة والمواكبة من قبل القراء بشكل سلس، خصوصا وأن الحدود ما بين بعض المصطلحات دقيقة جدا (مثال على المصطلحات: طبع؛ فعل؛ تصرف؛ سلوك؛ فاعل؛ عنصر فاعل؛ الوكيل؛ الغفلية؛ جماعة؛ جماعوية؛ مجموعة؛ الذات؛ الذات الفاعلة، الغير؛ الغير المعمم؛ المعيرة؛ التحديد؛ البناء؛ الأنا؛ الأنا الداخلية؛ الأنا الخارجية؛ الشخص؛ الشخصية؛ الفرد؛ التفريد؛ الفردنة؛ التمثل؛ التمثيل...إلخ). نقول، في هذا الباب، إذن، إن الحاجة كانت ماسة إلى شرح بعض الاختيارات في وضع مقابلات لبعض المصطلحات، ثم الحاجة إلى إنهاء الكتاب بوضع تثبيت للمصطلحات؛
- ثالثاً: التحدي المتصل بالتفاوت من حيث الحجم ما بين التقاليد خصوصا التقليد الألماني، حيث كان بإمكان الباحث، هنا، تجاوز هذا التحدي عن طريق خلق نوع من التوازن ما بين التقاليد، خصوصا وأن للباحث قدرة عالية على ترجمة النصوص بعدة لغات (الفرنسية والإنجليزية). وإذ ننوه بأهمية الانفتاح على التقليد الألماني، وهو أمر قليل التداول في الأوساط الجامعية العربية، كما أنه أمر محسوب للأستاذ محمد ياقين في هذا الإسهام، إلا أننا نسجل في الوقت نفسه أنه كان بإمكان الباحث سعياً للتخفيف من التفاوت الكمي ما بين التقاليد، إضافة بعض النصوص ضمن التقليد الألماني، خصوصا تلك المجسدة في الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت التي يعدّ يورغن هابرماس (Y. Habermas) أحد ممثليها الرئيسيين وما تلاها من أعمال معاصرة لاحقة، [11] مع ما يعنيه ذلك من تعريف بإسهامات جديدة قليلة التردد والتداول في أوساطنا الأكاديمية من جهة أولى، وتجنب السقوط في تكرار أسماء أو بعض الإسهامات المألوفة من جهة ثانية، كما نبه إلى ذلك الباحث جاي راول (Jay Rowell) من خلال ملاحظته التي تقول إن فرنسا على سبيل المثال كثيرا ما تركز في إحالتها على السوسيولوجيين الألمانيين على أسماء مثل ماكس فيبر (M. Weber) وجورج سيمل (J. Simmel) ونوربرت إلياس (N. Elias) أو كارل مانهايم (K. Mannheim)، وقلما تهتم بأسماء مثل يورغن هابرماس (Y. Habermas) ونيكلاس لوهمان (N. Luhmann) وأولغيش بيك (U. Beck) أو هرموت روزا (H. Rosa).[12]
- رابعا: التحدي المتعلق باختيار النصوص وانتقائها. ففي الوقت الذي أشار فيه الباحث في مقدمة الكتاب بأن السوسيولوجيا المعاصرة هي سوسيولوجيا حضرية بشكل ما، لم يشتغل كثيرا على نصوص من هذا النوع تعرف بكون أن "المسألة الحضرية" هي في صلب السوسيولوجيا المعاصرة ومن إشكالياتها الأساسية، حيث ظل الاشتغال مقصورا لديه على الإشكالية المتعلقة بالفرد والمجتمع، وهي إشكالية على قدر أهميتها المحورية والأساسية، فإنها تخفي، في جانب ثان، نقاشات إبستمولوجية وإشكاليات طفت وقلبت براديغم التفسير والمنظورات التحليلية السوسيولوجية. فإلى جانب إشكالية "المسألة الحضرية" (la question urbaine) التي بات التمييز بينها وبين "المسألة الاجتماعية" (la question sociale) معقداً، [13] برزت إشكاليات أخرى كانت موضوع اهتمام السوسيولوجيا المعاصرة مثل: "التنظيم" (l’organisation) كإشكالية معاصرة في السوسيولوجيا؛ [14] الإشكالية المتصلة ب"الفعل الاجتماعي" (l’action sociale).[15] وأمام وضع كهذا، نقترح إمكانية تعويض الاشتغال على التقاليد السوسيولوجية المعاصرة ليس انطلاقا من بعض أعلامها وروادها- وهم كثر بالشكل الذي يجعل حصرهم أمراً صعباً على كل حال- بل انطلاقا من مدخل الإشكاليات والقضايا لأنه مجال أرحب وأوسع.
- خامسا: هو تحدي مرتبط بالتحدي السابق، حيث إنه يخص سحب بعض النصوص على المرحلة المعاصرة من تطور السوسيولوجيا. وهذا، ربما في تقديرنا، هو أكبر تحدٍ واجهه الباحث؛ لأن التمييز بين مراحل تطور السوسيولوجيا أمر دقيق للغاية وتخترقه صعوبات وتكتنفه متاعب كثيرة. لذلك، كانت الحاجة ضرورية إلى بعض المداخل المساعدة من أجل التحكم الجيد في تتبع تطور السوسيولوجيا من حيث مراحلها. فبالإضافة إلى مدخل الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعرفية الذي أشار إليه الباحث في مستهل الكتاب، كانت الحاجة، بشكل موازٍ ومتساوق، إلى مدخل الأزمة الإبستمولوجية التي تفصل ما بين مرحلة طُبعت بانحسار ونهاية البراديغم الكلاسيكي المفسر للظواهر الاجتماعية، والانفتاح، بالمقابل، على براديغمات جديدة في تفسير الاجتماعي (le social). نتساءل مع الباحث، هنا، عن المداخل المعتمدة في تصنيف النصوص والأعمال وسحبها على المرحلة المعاصرة؟ هل المدخل زمني؟ أم نظري؟ لأن هنالك العديد من النصوص التي يصعب تصنيفها ضمن المرحلة المعاصرة كما نجد ذلك في العديد من المؤلفات. نتحدث هنا على سبيل المثال عن: النصوص الأولى الخاصة ب"الإيكولوجيا البشرية في مدرسة شيكاغو"؛ تالكوت بارسونز (Talcot Parsons) وروبير كارل ميرتون (Robert K. Merton)، بالإضافة إلى موريس هالفيكس (Maurice Halbwachs) ونوربرت إلياس (Norbert Elias). يعتبر هؤلاء "نيوكلاسيكيون" أكثر منهم معاصرون.[16]
-4-
وفي ختام هذه المراجعة، فإننا ننوه بهذا المشروع العلمي الكبير والواعد، الذي حمل السوسيولوجي محمد ياقين ثقله وأعباءه منذ سنوات طويلة، * كما ننوه بالعمل من حيث جدته وقيمته العلمية التي لا غبار عليها. وكذا من حيث أهميته على أكثر من صعيد: بيداغوجياً، معرفياً، ثم منهجياً. وهو عمل لا يخامرنا أي شك أنه سيحسن تلقي السوسيولوجيا، من أجل استشراف أفاق واعدة لها في الأوطان العربية، باعتبار أنه يمثل فرصة حقيقية، وهذا على الأقل ما استنتجه وأنا أقوم بعملية القراءة والمراجعة، لإعادة ضبط ومراجعة تاريخ تطور السوسيولوجيا من حيث الاهتمامات والإشكالات والإمساك بخيوطه الرئيسة، وعدم الارتكان، بالمقابل، إلى النظرة الاختزالية أو التعميمية، التي تسرع في التمييز ما بين الاتجاهات والتقاليد السوسيولوجية وتصنيفها. ويبقى في النهاية السؤال الكبير المصاغ على هذا النحو: سوسيولوجيا معاصرة، بأي معنى؟ ووفق أي تحديد يفرض نفسه على الجميع؟
[1] هو أستاذ باحث في علم الاجتماع بجامعة شعيب الدكالي (كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الجديدة/المغرب).
[2] ياقين محمد، الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة-نصوص مختارة، سلسلة المعارف السوسيولوجية 2، طبعة 2020
[3] ياقين محمد، الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا الكلاسيكية-نصوص مختارة-، سلسلة المعارف السوسيولوجية 1، دار نشر المعرفة، طبعة 2020، ص. 7
[4] نفس المرجع، ص. 7
[5] نفس المرجع، ص. 8
[6] ياقين محمد، الفرد والمجتمع في السوسيولوجيا المعاصرة –نصوص مختارة-، مرجع سابق، ص. 11
[7] نفس المرجع، ص. 11
[8] نفس المرجع، ص. 12
[9] Grafmeyer Yves Et Joseph Isaac, L’école De Chicago: Naissance D’une Ecologie Urbaine, Flammarion, 2004
[10] Ibid, p. I
[11] انظر بهذا الصدد، مثلا، إلى:
Frédéric Vandenberghe, Une histoire critique de la sociologie allemande. Aliénation et réification. Tome I: Marx, Simmel, Weber, Lukács, Les Éditions La Découverte/M.A.U.S.S., Paris, 1997
Frédéric Vandenberghe, Une histoire critique de la sociologie allemande. Aliénation et réification. Tome II: Horkheimer, Adorno, Marcuse, Habermas, Les Éditions La Découverte/M.A.U.S.S., Paris, 1998
[12] انظر:
Jay Rowell, Une structure sociale illisible ? Apports de la sociologie allemande contemporaine, Sociologie du Travail, vol. 58, n°2, 2016, pp. 181-189 (consulté le: 20 Mars 2021).
[13] من الإسهامات التي كان من الممكن الانفتاح عليها، في هذا الباب، نذكر إسهام كل من: هنري لوفيفر (H. Lefebvre) (مثال ذلك: "الحق في المدينة" (الجزء الأول1968 والجزء الثاني 1972)؛ "الثورة الحضرية" (1970)؛ "إنتاج المجال" (1974))، مانويل كاستلز (M. Castells) (مثال ذلك: "المسألة الحضرية" (1972)...
[14] نقصد بالتحديد سوسيولوجيا التنظيمات التي نشأت ونمت وتطورت لترتقي فيما بعد لتصير بمثابة "براديغم" مفسر للاجتماعي محدثة ثورة في الأسس الكلاسيكية للسوسيولوجيا..ومن الإسهامات التي يمكن أن نذكرها في هذا الباب: إسهام ميشيل كروزيي (M. Crosier) وإرهارد فريدبيرغ (E. Friedberg) "الفاعل والنسق" (1977)...
[15] خاصة مع إسهامات ألان تورين (A. Touraine) ومن أتى بعده (ميشيل فيفيوركا(M. Wieviorka)، فرانسوا ديبي F. Dubet) في السياق الفرنسي مثلا...
[16] في كتابه "سوسيولوجيا التجربة" (Sociologie de l’expérience) لصاحبه فرانسوا ديبي (François Dubet)، نجده يدرج الأسماء المشار إليها أعلاه ضمن الفترة النيوكلاسيكية باعتبار أنهم لم يخرجوا من البراديغمات الكليانية وظلوا أوفياء ومشدودين لها، رغم اجتهاداتهم المشهودة. وتوخياً للاختصار، أمكننا القول إن السوسيولوجيا الكلاسيكية، في عمقها، انبنت على بداهة مزدوجة مفادها أن: المجتمع موجود، وأنه مؤلف من الأفراد؛ إن المجتمع موجود، بمعنى نظام كلي محدد بالحداثة، وبدولة أمة، وبتقسيم عمل قائم وعقلاني، وإنه (أي المجتمع) موجود أيضا لأنه منتوج مجموعة من الأفراد الذين يستدمجون القيم والمعايير وينجزون مختلف الوظائف. وذلك معناه أن السوسيولوجيا المعاصرة هي التي استطاعت أن تيمم نظرها صوب إشكالات وقضايا جديدة بالاعتماد على أطر تحليلية ومنهجية ومنظورات تفسيرية جديدة ضد-كلاسيكية (anti-classiques) أو بعد-كلاسيكية (post-classiques) بعدما استنفذت السوسيولوجيات الكلاسيكية (les sociologies classiques) مخزوناتها التأويلية.
وللمزيد من التفصيل حول هذه النقطة، يمكن العودة إلى المرجع الآتي:
François Dubet, Sociologie De L’expérience, Editions Du Seuil 1994 Et Février 2016 Pour La Postface, pp. 23-110
* جمعتنا مع الأستاذ الباحث محمد ياقين لقاءات متعددة، وقد أكدنا لنا في أكثر من مناسبة عن المجهود الذي بذله في تجميع النصوص وتحصيلها، والمدة الزمنية الكبيرة التي استغرقها في القيام بذلك...