الفعل السوسيولوجي الكولونيالي بالمغرب
فئة : مقالات
على سبيل التقديم:
إن الكتابة عن تاريخ السوسيولوجيا بالمغرب، تجعل الباحث في مجال علم الاجتماع أمام إشكالية كبيرة حول تاريخ ظهور هذا العلم بالمغرب قبل الحماية؛ أي الحديث عن سوسيولوجيا ما قبل كولونيالية بالمغرب، وبالتالي تطرح تساؤلات قديمة لكنها ضرورية ونحن بصدد محاولة معرفة مدى حضور السوسيولوجيا بالمغرب الما قبل الاستعماري، وهي كالتالي: إلى أي حد يمكن الحديث عن سوسيولوجيا ما قبل كولونيالية بالمغرب؟ ألا يمكن اعتبار أنّ المغرب عرف فكرا سوسيولوجيا مع ابن خلدون؟ أم إنّ نشأة السوسيولوجيا مرتبطة ارتباطا عضويا بدخول الاستعمار إليه؟ أيضا، ما درجة مساهمة الفعل السوسيولوجي الكولونيالي في ميلاد "السوسيولوجيا المغربية"؟
أولا: السوسيولوجيا ما قبل الكولونيالية
تعترض مسألة الكتابة عن تاريخ نشأة السوسيولوجيا، في مرحلة ما قبل الكولونيالية بالمغرب صعوبتان[1]؛ تتمثل الأولى في ما مدى مساهمة ابن خلدون في نشأة السوسيولوجيا بالمغرب، على اعتبار أنّ السوسيولوجيا بالمغرب[2] لم تولد من رحم فكر ابن خلدون، ولم يؤثر فيها إنتاجه، ولو بشكل غير مباشر، انطلاقا من أنّ هناك قطعا تاما بين الفكر السوسيولوجي ما قبل الكولونيالي، وبين استيراد تقنيات، وأساليب حديثة في البحث، على الرغم أنه من المؤكد أنّ المستشرقين في المغرب الكبير كانوا على معرفة بأهمية الإنتاج الخلدوني، الذي كان يذكر غير ما مرّة كمصدر أساسي، ومع ذلك فإنّ ابن خلدون كان يعتبر مؤرّخا في البدء والمنتهى[3]. لكن كيف يمكن أن نتجاوز علم العمران الخلدوني؟ ألا يعتبر منجزاَ سوسيولوجيا؟ وفي المقابل، ألا يمكن القول إنّ العودة إلى ابن خلدون مجرّد عصا سحرية، تغطي عن طريق الوهم، غياب العرب عن ساحة السوسيولوجيا؟[4]
إجابة عن التساؤلات أعلاه، نجد من يعتبر أنه لا يمكن رصد تاريخ السوسيولوجيا المغربية وتطورها، دون الحديث على مساهمة ابن خلدون، والذي حظي باهتمام الباحثين السوسيولوجيين المغاربة بعد الاستقلال، إنّ فكر ابن خلدون هو الذي أرسى دعائم البحث الموضوعي والتحليل العلمي لديناميكية المجتمعات والمماليك.[5]
أما الصعوبة الثانية التي تواجه التأريخ لبداية السوسيولوجيا بالمغرب تتجلى في ضرورة تحديد مجال علم الاجتماع بدقة أكثر، وفي هذا الاتجاه نعثر على رأيين.[6]
الأول لعبد الكبير الخطيبي، الذي يدعو فيه إلى ضرورة التفريق بين البحث السوسيولوجي، والبحث الاجتماعي، انطلاقا من معياريين؛ يتمثل الأول في وجود التصور السوسيولوجي كمقصد وكمنهج عند الباحث السوسيولوجي، والمعيار الثاني يتجلى في مدى احترام الحد الأدنى من الشروط العلمية.
أما الرأي الثاني، فهو لأندري أدم André Adam الذي يرفض ذلك التميز التعسفي، بين السوسيولوجيا والتاريخ الاجتماعي وعلم السياسة، والإثنولوجيا...إلخ، حيث يعتبره أمرَا مشوّها لما هو موجود، ومزيفّا للارتباطات الحقيقية، بين مختلف أنواع العلوم الاجتماعية، وفي ذلك إقصاء وإغفال لأسماء مثل موليراس Moulieras وهو صاحب كتاب "المغرب المجهول"[7] الذي يعتبر أول بحث إثنولوجي من نوعه حول مناطق مغربية سنة 1895. وتعد هذه السنة بداية مرحلة ما قبل سوسيولوجية إلى حدود سنة 1930.[8] ونجد كذلك إدموند دوتي Doutte، الذي قام بالعديد من الاستطلاعات حول المغرب، البعض منها في كتابين "مراكش" و"في القبيلة" وأسماء أخرى مثل ليفي بروفنسال Levi-Provençal ولوترنو Letourneau، على الرغم من أنّ هذه الأسماء لا تدخل ضمن مجال السوسيولوجيا، إذا نظرنا إليها بمعناها الاختزالي الضيق.[9]
ويمكن القول إنّ كتابة تاريخ السوسيولوجيا في المغرب، تتميز بالصعوبة؛ فالكتابة في مثل هكذا موضوع ليست فعلا معرفيا حرّا وكاملا، ومستقلا عن اللامساواة، التي تطبع علاقات العرب بالغرب.[10]الفكرة التي يمكن الوقوف عندها أكثر من مرة لأهميتها تتمثل في كون السوسيولوجيا بالمغرب، نشأت في قطيعة كلية مع الفكر الخلدوني، ومع كل التراث الما قبل استعماري.[11] وبذلك تأسست بالمغرب سوسيولوجيا كولونيالية في خدمة المصالح الاستعمارية، وتقدم أحيانا نتائج غير صحيحة عن حقيقة المجتمع المغربي ما دام الهاجس الاستعماري هو محركها الأساس، وعلى الرغم من ذلك، فهي تعتبر مرحلة أساسية في تاريخ السوسيولوجية بالمغرب ما زالت تحتاج إلى المزيد من الدرس والتحليل.[12]
ثانيا: السوسيولوجيا الكولونيالية
إذا حاولنا النظر في كيفية ظهور علم الاجتماع في أوروبا، نجد أنّه قد ظهر بعد الثورة الصناعية بقليل، وبعد احتدام الصراع الطبقي بين البورجوازية والبورليتاريا، بعبارة أخرى السوسيولوجيا ظهرت في أوروبا نتيجة لمطلب اجتماعي.[13] فهل الأمر كذلك بالنسبة إلى المغرب؟ أم إنّ هذا الظهور جاء نتيجة للصدفة؟
يمكن القول إنّ السوسيولوجيا في المغرب لم تأت نتيجة لمطلب اجتماعي، كما كان عليه الأمر في أوروبا، فالسوسيولوجيا في بدياتها في المغرب كانت مؤسسة إدارية وسياسية في خدمة الحماية. لكن كإجابة عن السؤال السابق، يمكن القول إنّ السوسيولوجيا بالمغرب جاءت نتيجة سببين:
إنّ كتابة تاريخ السوسيولوجيا في المغرب، تتميز بالصعوبة؛ فالكتابة في مثل هكذا موضوع ليست فعلاً معرفياً حرّا وكاملا، ومستقلاً عن اللامساواة، التي تطبع علاقات العرب بالغرب
السبب الأول، يمكن إرجاعه إلى "الصدفة" ذلك أننا وجدنا أنفسنا بالصدفة نواجه السوسيولوجيا، والتي اتخذت من نفسها شكلا إبيستيمولوجيا لمقاربة الواقع المغربي إبّان المرحلة الاستعمارية، الذي كان فيه المغرب تحت مجهر المعرفة العلمية، خصوصا السوسيولوجيّة منها.
أما السبب الثاني، فيمكن ردّه إلى "الضرورة"؛ أي إنّ السوسيولوجيا كمعرفة ضرورية لأي مجتمع، حتى يمكن معرفة تكوّن وتنظيم، وتحول المجتمع، ألسنا مضطرين لكي نعرف هذه القضايا، التي تمليها مواكبة تطور بنية المعرفة لبنية الإنتاج؟ ألسنا بحاجة إلى معرفة سوسيولوجية لمقاربة المجتمع المغربي؟[14]
ظهرت السوسيولوجيا بالمغرب مع الاستعمار الفرنسي، الذي أراد أن يبسط سيطرته الاستعمارية على خيرات المغرب، وموقعه الاستراتيجي، وذلك لا يتم بالآلة العسكرية[15] فقط، بل إنّ سياسة ليوطي كانت موجّهة في البداية نحو العقول والقلوب، فهو من أنصار الاستعمار السلمي العلماني، القائم على التحكم في القوى الداخلية (الأهلية) دون المس بها، ودون مقابلتها بكيفية مباشرة.[16]
وهذا الأمر أدى بالإدارة الفرنسة بالمغرب، إلى القيام بأبحاث ودراسات سوسيولوجية وأنثروبولوجية، كانت في البداية لا تتعدى الطابع التقريري والوصفي للحياة الاجتماعية للمغاربة، من تغذية، ولباس، وأعراس، وطقوس فلاحية ...إلخ.
لكن السوسيولوجيا ظهرت بوادرها مع تأسيس البعثة العلمية la mission scientifique التي كان لها الدور الكبير، في مأسسة البحث السوسيولوجي بالغرب الكولونيالي. ومن هكذا معطى، فإن السؤال الذي يمكن أن يطرح في هذا المقام هو: أيّ دور لعبته البعثة العلمية في التأسيس لفعل سوسيولوجي بالمغرب الكولونيالي؟
1. البعثة العلمية...ميلاد سوسيولوجيا كولونيالية
انتصارا للمقاربة الإيديولوجية الكولونيالية، للتغلغل داخل المجتمع المغربي، قام ليوطي بسياسة علمية ملهمة من طرف ليشاتليه ومنظمة من طرف Hardi هاردي. كان ليشاتلي أستاذا بكلية فرانس للسوسيولوجيا الإسلامية. وأسس في طنجة سنة 1904 بعثة علمية أشرف على إدارتها Georger Salamon[17]، وقد تمّ تعيينه كملحق لتسيير بعثة دراسية بالغرب تحث إشراف لوشاتوليه، الذي أبى إلا أن يصدر أربعة أعداد تباعا من مجلة الوثائق المغربية Archives marocain، لإبراز مكانته وأهليته العلمية لتسيير البعثة العلمية، خصوصا بعد الشكوك التي دارت حول قيمته العلمية، من طرف موليراس ودوتي، اللذيْن كان ينتظران، أن تسند إليهما مهام البحث العلمي في المغرب، إلاّ أن دوتي، وعلى الرغم من الاتهامات التي وجّهها إلى Le Chatelier، لم يستطع أن يخفي إعجابه بالمنجز "الشاتولي"، ويقول في حقه "لقد قرأت المحفوظات المغربية لسالمون، إنّ ذلك الشاب قد عمل بشجاعة، وأدى مهمته حتى نهاية الأمر بطريقة مشرّفة".[18]
مع بداية سنة 1920 سيتم تحويل مقر البعثة العلمية بالمغرب من مدينة طنجة إلى الرباط، لتصبح في حلّتها الجديدة، الفرع السوسيولوجي La section sociologique، التابع لإدارة الشؤون الأهلية، وسيصبح ميشو بلير رئيسه حتى وفاته سنة 1930.[19]
وقد كتب ميشو بيلير Michaux-Bellaire في شأن البعثة العلمية، فقال: "إنّ غاية هذه البعثة هو البحث في عين المكان، عن وثائق تساعد على دراسة المغرب وتنظمه، وتتبع حياته، بفضل ما كتب من مؤلفات ومخطوطات، بل حتى المعلومات الشفوية، وتقاليد القبائل، وجماعات الطرائق الدينية، وتقاليد الأسرة...وهكذا كان ينبغي في الأصل القيام بدراسة سوسيولوجية".[20]
هدف البعثة العلمية إذن، حسب ميشو بيلير، كان واضح المعالم بالنسبة لإدارة الاستعمارية، المتمثل في فهرست مدن المغرب وزواياه ولأصولها وتفرّعاتها، وللصراعات والتحالفات.
وقد رسم ميشو بيلير الخطوط الرئيسة لاشتغال البعثة العلمية، التي تتمثل في عنصرين اثنين[21]:
- البحث عن الوثائق التي تمكّن من فهم ودراسة المجتمع المغربي في الميدان؛
- العمل على إعادة هيكلتها ومنحها الحياة من خلال الاعتماد، إضافة على الكتب والمخطوطات، على المعلومات والروايات الشفوية والتقاليد الأسرية والقبلية.
وهكذا ساهمت البعثة العلمية، انطلاقا من أهدافها الواضحة، في تشخيص النظام الاجتماعي والسياسي للمغرب، وبالتالي وضعت رهن إشارة السياسة الاستعمارية، مستندات ووثائق ذات أهمية لا تقدّر بثمن.[22]
2. السوسيولوجيّون الكولونياليّون:
إنّ الحديث عن السوسيولوجيا الكولونيالية، هو بالدرجة أولى حديث عن السوسيولوجيين الذين ساهموا بوعي أو بدونه في ميلاد السوسيولوجيا بالمغرب، وذلك بغض النظر عن نزعتها الاستعمارية، التي أوجدت من أجلها، ذلك أنّ ما يهمنا نحن كباحثين، هي تلك الإنتاجات السوسيولوجية، والأثتروبولوجية، التي كان النظام المغربي بمختلف جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، هو موضوع دراستها، والتي ستساهم، بعد حصول المغرب على "استقلاله السياسي"، في التأسيس لسوسيولوجيا "مغربية". وبالتالي، فالتساؤلات التي تتعالى في الأفق، ومشروعة في نفس الآن، هي كالتالي: ما هي حقيقة وخلفيات السوسيولوجيا الكولونيالية؟ ما طبيعة تكوين الباحثين؟ وما الذي قدمته السوسيولوجيا الكولونيالية؟
2-1. ميشوبيلير Michaux-Bellaire
مؤرخ هاجر من التاريخ إلى السوسيولوجيا، أسس لمعنى جديد للسوسيولوجيا، من خلال مقال له معنون "بالسوسيولوجيا المغربية" المنشور بالمحفوظات المغربية سنة 1917، والذي حدد من خلاله مضمون السوسيولوجيا، ومواضيع البحث فيها، حيث عارض التفسير الذي يستند على أساس إسلامي فقط، وتوسع بعد ذلك في وصف الحضارات السابقة للإسلام، محاولا التأكيد أنها أثرت في الحياة المغربية.[23]
يمكن اعتبار ميشو بيلير المهندس الأول لنشأة السوسيولوجيا الاستعمارية، ففي مقاله السابق الذكر، يرى أنه من الضروري على علم الاجتماع أن يتفرّع إلى ثلاثة أقسام.
1. سوسيولوجيا المخزن؛
2. سوسيولوجيا إسلامية؛
3. سوسيولوجيا مغربية.
فبالنسبة إلى الأولى أسند إليها وظيفة الاهتمام بالمدن وبمناطق نفوذ وسيطرة المخزن، أو ما يسمى بمناطق الشرع. أمّا الثانية، فموضوعها دراسة المظاهر الإسلامية الرسمية والسنّيّة، في حين أنّ النوع الثالث من السوسيولوجيا فموضوعها القبائل البربرية، والتركيز على استمرار الرواسب الما قبل الإسلامية فيها على مستوى المعتقدات والممارسات.[24]
2-2. شارل لوكور Charles Loukhor
تلميذ مارسيل موس، حصل على دبلوم مدرسة الدروس العليا، وعمل ابتداء من سنة 1928 في الثانوية الإسلامية بالرباط، وفي معهد الدروس العليا المغربية. يتميّز شارل لوكور من انحداره من الوسط الأكاديمي، فهو أكاديمي ذو مرجعية يسارية، لم يصدّق أسطوانة الاستعمار، وهو أيضا يتميز بدقة ملاحظاته، التي أدت به إلى نتيجة علمية لازالت كذلك إلى حد الآن، وهي "أنّ الملاحظة الخارجية للسائح أعمق من ملاحظة الأهالي، إذا كانت منظمة بطريقة منهجية".[25] بالإضافة إلى ذلك، فقد ابتكر مفهوما جديدا للسوسيولوجيا المغربية على غرار مفهوم ميشو بيلير، الذي قسّم السوسيولوجيا المغربية إلى ثلاثة أقسام إلا أنّ السوسيولوجيا المغربية حسب شارل لوكور "تهتم بصفة خاصة بما لا يفهمه الأجانب في المجتمع الذي تدرسه، وأنّ هدف السوسيولوجيا المغربية هو إفهام الأجانب ما لا يفهمه إلا المغاربة وهذا علم لا مثيل له من حيث التناقض والإثارة".[26]
وقد توفي سنة 1944 إبان مشاركته في الحرب العالمية الثانية، تاركا وراءه أطروحة سوسيولوجية في موضوع "الطقوس والأداة" مبرزا فيها التناقض الكبير للطريقة التي يرى فيها الناس أنفسهم، وبين تلك التي يظهرون فيها للغير.
2-3. روبير مونطاني Robert Montagne
هو روبير مونطاني ولد 1893، عيّن بقصبة مهدية (ضواحي القنيطرة) ملاحظا بالطيران المدني، بعد ذلك أسندت إليه مهمة دراسة أصول سلطة القياد الكبار في الجنوب نظرا لثقة ليوطي فيه، ليؤسس سنة 1937 مركز الدراسات الإدارية والإسلامية ليلتحق بعد ذلك بكوليج دو فرانس سنة 1947.عرف عن مونطاني بأنه كان أكثر ديناميكية، حيث قام بإنجاز بحث شامل وجماعي من سنة 1948 إلى 1950، والذي شارك في إنجازه باحثون وموظفون وسلطات، بغية معرفة الأسباب التي أدت إلى الهجرة من القرية نحو المدينة، خصوصا مع تنامي هذه الظاهرة. ويعدّ هذا البحث بمثابة حفل عقيقة السوسيولوجيا بالمغرب لكونه أكبر بحث قدّم تحت لواء السوسيولوجيا في الحقبة الاستعمارية، وتأسّف مونطاني لعدم وجود باحثين مغاربة، ودعا إلى التعاون في المستقبل[27]. وبالتالي يمكن طرح تساؤل له أساس شرعي، حتى لا نبقى نسبح في بحر من الأفكار التائهة، وهو: كيف يمكن الحديث عن روبير مونطاني دونما الحديث عن النزعة الاستعمارية للسوسيولوجيا التي دعا إليها؟ ألم يكن من مهندسي الظهير البربري؟
ما من شك في أنّ ميلاد السوسيولوجيا ارتبط ارتباطا مباشرا بأجهزة المخابرات، والتي تركزت أهدافها منذ نشأتها الأولى على محاربة الإسلام وشريعته، وتشجيع ملامح الحضارة المغربية ما قبل الإسلامية، حيث ساهمت السوسيولوجيا في تحقيق الأهداف الكولونيالية الهادفة إلى تعميق الفجوة، بين العرب والبربر من جهة والعمل على تطوير البربر نحو الحضارة الغربية، وليس الإسلام من جهة ثانية.[28]
إنّ سوسيولوجيا الاستعمارية عندما ركّزت على النموذج العرقي، كانت أكثر ذكاء، حيث رأت بأنّ السياسة العرقية (بربر- عرب) أسهل طريق يمكن سلكه بالنسبة للحماية، على اعتبار أنّ التقابل بين العرب والبربر، يُعدّ ميكانيزما يسهل استغلاله، وتوظيفه[29]. وجاء الظهير البربري سنة 1930 كتتويج لتلك السياسة، والذي رافقه ظهور أطروحة مونتاني "البربر والمخزن بجنوب المغرب" التي أثارت الكثير من الشكوك، حول الدور الذي لعبه مونتاني في هندسة الظهير البربري، خصوصا وهو العارف أكثر من غيره لأعراف البربرية. لكنّ تلك الأطروحة، على الرغم من ذلك، تعدّ أوّل عمل سوسيولوجي بمعناه الدقيق.[30]
2-4. جاك بيرك Jacques Berque
من مواليد سنة 1910 بالجزائر، تابع دراسته في ثانوية بيجو Bugeaud، وكلّية الآداب التي حصل منها على الإجازة في الآداب، ليلتحق بعد ذلك بجامعة السوربون بفرنسا، طامحا لالتحاق فيما بعد بالمدرسة العليا للأساتذة، لكنه عاد إلى الجزائر بعد أن تخلّى عن مهنة التدريس، ليعين مراقبا مدنيا في المغرب بعد نجاحه في مباراة الالتحاق بالسلك الإداري، وهو شاب لم يتجاوز ربيعه الثالث والعشرين.
سينجز جاك بيرك أوّل بحث له حول المواثيق الرعوية عند قبيلة بني مسكين، بعد تعيينه في مركز البروج سنة 1934 كمراقب مدني. ويعتبر هذا العمل أول تجربة ميدانية خاضها بيرك، والتي اعتمد فيها على بعض النظريات والمفاهيم المدرسة الفرنسية، التي كانت معروفة آنذاك، وعلى وجه الخصوص تلك التي تمتح من أعمال لويس جيرنيه Louis Gernet ومارسيل موس Marcel Mauss، فكان لهاته التجربة الأثر البالغ، في تعميق الحس السوسيولوجي والأنثروبولوجي لبيرك.[31]
ثاني بحث أو عمل لبيرك، هي أطروحته حول "البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير"، وتعتبر هذه الأطروحة ثاني أكبر عمل سوسيولوجي في المرحلة الكولونيالبية. أبرز الإشكالات التي عالجتها هذه الدراسة العميقة، تطرّقها لعلاقة العرف بالشرع، بعد أطروحة مونتاني "البربر والمخزن".
وإذا كان مونتاني قد شارك في السياسة الاستعمارية، من خلال مشاركته في صناعة الظهير البربري، وتوظيفه المعرفة السوسيولوجية لخدمة المصالح الكولونيالبية، وهذا ليس بالأمر الغريب، فإن جاك بيرك لم يقبل الاندماج بسهولة في الإيديولوجيا البربرية الكولونيالية، وهذا يتضح من خلال أطروحته.[32]
وبالتالي رفض بيرك الانصهار مع العقيدة الاستعمارية، وهذا الأمر ليس بالغريب عن هذا الرجل، الذي أعطى إشارات مبكّرة عن حسن نواياه (رفضه للسياسة الاستعمارية بالمغرب)، عندما ابتكر فكرة مشروع لتحديث القطاع الزراعي، مبتغيا وطامحا بأن يساهم بالتوليف، بين التقنية العصرية وتقاليد العمل الجماعي. هذا الأخير يقف حجر عثرة أمام تطوّر الفلاح المغربي، ولخصّها بيرك، أي تقنية التحديث بـ "الجْمَاعَة فوق الجرّار" (مع تسكين جيم الجماعة).[33] إلاّ أنّ المعمّرين نجحوا في إجهاض هذا المشروع وهو في مرحلته الجنينية، ذلك أنه ليس في صالحهم تنمية الفلاّح المغربي، حتى يبقى يعمل في مزارعهم المستعمرة. الأمر الذي دفع الإقامة العامة إلى التخلي عن المشروع بحجّة ارتفاع تكاليفه المالية.
وكان إفشال مشروع التحديث الزراعي من طرف الإقامة العامة بالنسبة إلى بيرك (صاحب المشروع) بمثابة الصفعة التي أزالت الحجاب عن الإيديولوجية الاستعمارية للسياسة الفرنسية بالمغرب لجاك بيرك، باعتباره (الاستعمار) يحمل للمغرب مشروعا لإصلاح المجتمع باستخدام المعرفة العلمية، وخصوصا السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، من أجل الرقي والسير بالمجتمع نحو التقدم والتنمية، هكذا أراد أن يسوق الاستعمار إيديولوجيته للباحثين الكولونيالين.
ساهمت هذه الحقيقة في التأثير على فكر جاك بيرك، حيث وعى بأهداف الكولونيالية التي جاء بها النظام الفرنسي بالمغرب، الذي تتناقض مصالحه وأهدافه الاستعمارية مع ذاك الفكر الداعي إلى تحسين وضعية السكان المحلين، الأمر الذي دفع بجاك بيرك إلى الاستقالة من منصبه كمراقب مدني سنة 1953 وهو التاريخ الذي رحل فيه نهائيا من المغرب معارضا للسياسة الفرنسية بالمغرب.[34]
على سبيل الختام:
من خلال عرضنا لأبرز الباحثين في المرحلة الكولونيالية، ولأهم أعمالهم السوسيولوجية، اتضح لنا أنّ السوسيولوجيا في بدياتها في المغرب، كانت مؤسسة إدارية وسياسية (البعثة العلمية) في خدمة الحماية، وأنّ كرونولوجيا السوسيولوجيا في هاته المرحلة من تاريخ مدرسة القلق الفكري، تميزت باستثمار الورقة البربرية كما رأينا من خلال أطروحة "البربر والمخزن بجنوب المغرب" لمونتاني، التي تزامنت والظهير البربري، كمرحلة أولى، وتوظيف الورقة التغريبية كما سمّاها السوسيولوجي عبد الصمد الديالمي، من خلال رسملة، وتصنيع المغرب، حتى يقع اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، وفكريا في التبعية. وهذا الأمر أدى، زمن بزوغ فجر "الاستقلال"، إلى محاولات غير قليلة تناشد التحرر من أوهام السوسيولوجيا الكولونيالية، ومجابهة تحديات التبعية والتخلف والتنمية والتحرر[35]، أمثال الراحل عبد الكبير الخطيبي، الذي أسس مشروعه الفكري على النقد المزدوج.
[1]. الحسين الإدريسي، "ملامح تطور السوسيولوجيا في المغرب" مجلة إضافات، العدد 7، صيف 2009. ص: 135
[2]. هناك اختلاف بين الباحثين في مجال علم الاجتماع حول عبارة "السوسيولوجيا المغربية "، حيث يعتبر لفظ السوسيولوجيا بالمغرب هو الأكثر علمية، على اعتبار أننا لا نتحدث عن سوسيولوجيا هوياتية محض، فالعلم يتميز بكونيّته، ولا يجب أن يقع في مأزق الخصوصية، وبالتالي تصبح مسألة هوياتية ضيقة، السوسيولوجيا علم، وماهية العلم في كونيته. هناء شريكي، قراءة في كتاب الجنس كهندسة اجتماعية لفاطمة المرنيسي، منشور على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[3]. عبد الكبير الخطيبي، "مراحل السوسيولوجيا بالمغرب1912- 1967"، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس- السويسي، المعهد الجامعي للبحث العلمي، العدد 48، السنة 2004، ص: 9
[4]. عبد الصمد الديالمي، القضية السوسيولوجية، نموذج الوطن العربي، أفريقيا الشرق، سنة 1989، ص: 36
[5]. محمد أعراب، البحث السوسيولوجي في المغرب، مقاربة تاريخية – موضوعية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث ص: 1
[6]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق، ص: 36
.[7] يتموضع كتاب موليراس داخل سلسلة الأبحاث الاجتماعية، التي أشرف على تنظيمها الحاكم العام كامبون (1890) في الجزائر وقد ساهم هذا الكتاب في فهم الواقع المغربي في إحدى فتراته الأكثر غموضا أي الفترة (الاستعمارية) وما قبل استعمارية، وتتمثل هذه الأهمية في ثلاثة مستويات: فهي مكّنت من استخدام مناهج العلوم الاجتماعية لدراسة وفهم وقائع المجتمع المغربي؛ كما أنّ الموضوعات الخاضعة للملاحظة والتحليل كانت متنوعة بشكل كبير وأبانت عن تعدد الثقافات وخصوبتها، وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها؛ ومن جانب ثالث، ساهمت في التمهيد لقيام سوسيولوجية تهتم بالوقائع الاجتماعية بمغرب ما بعد الاستعمار. أوجست موليراس، المغرب المجهول، الجزء الأول اكتشاف الريف، ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي، منشورات تفرازن، ريف، ط2007، ص: 9
[8]. تاريخ ظهور أول أطروحة في السوسيولوجيا بمعناها الدقيق حول المغرب (البربر والمخزن بجنوب المغرب) لروبير مونتاني.
[9]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق: 36
[10]. عبد الصمد الديالمي. نفس المرجع، ص: 36
[11]. عبد الفتاح الزين، السوسيولوجيا في المغرب: من إعلان الحماية الفرنسية إلى المرحلة الراهنة، مجلة المستقبل العربي، العدد 146السنة 13، أبريل 1991، ص: 121
[12]. عبد الرحيم العطري، دفاعا عن السوسيولوجيا، الطبعة الأولى، 2000، بدون دار نشر، ص: 30
[13]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق، ص: 35
[14]. قيس مرزوق ورياش، أية سوسيولوجية لأيّ مغرب؟، مجلّة كلّية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، عدد خاص 3، سنة 1988، شعبة الفلسفة، ص: 55
[15]. عاش المستعمر الفرنسي صراعا داخليا بين فرنسيي الجزائر، أو ما عرف بمدرسة الجزائر، والتي كانت تدعو إلى استعمار المغرب بأية طريقة وبأية تكلفة، ومدرسة الحزب الكولونيالي الموجودة بالمتربول، والتي تعتقد أنّ الإخضاع السلمي للبلد هو الحلّ الأصح لتجنّب الاصطدام الدموي مع الأهالي. نور الدين الزاهي، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، دفاتر وجهة نظر، الطبعة الأولى 2011، ص: 9
[16]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق، ص: 41
[17]. عبد الكبير الخطيبي، مراحل السوسيولوجيا بالمغرب 1967-1912، مرجع سابق، ص: 10
[18]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق، ص: 42
[19]. عبد الفتاح الزين، مرجع سابق، ص: 125
[20]. عبد الكبير الخطيبي، مرجع سابق، ص: 10
[21]. نور الدين الزاهي، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، منشورات وجهة نظر، ط 1، السنة 2011، ص: 15
[22]. عبد الكبير الخطيبي، مرجع سابق، ص.11
[23]. عبد الكبير الخطيبي، مرجع سابق، ص: 13
[24]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق، ص: 43
[25]. عبد الكبير الخطيبي، مرجع سابق، ص: 15
[26]. عبد الكبير الخطيبي، مرجع سابق، ص: 15
[27]. عبد الكبير الخطيبي، نفس المرجع، ص: 18
[28]. أحمد خضر، "اعترافات علماء الاجتماع - عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع"، المنتدى الإسلامي، لندن. ط الأولى 1993، ص: 18
[29]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق، ص: 48
[30]. عبد الصمد الديالمي، نفس المرجع، ص: 45
[31]. إدريس حسين، مرجع سابق، ص: 55
[32]. عبد الصمد الديالمي، مرجع سابق، ص: 49
[33]. إدريس حسين، مرجع سابق، ص: 62
[34]. إدريس حسين، مرجع سابق، ص: 64
[35]. عبد الرحيم العطري، دفاعا عن السوسيولوجيا، مرجع سابق، ص: 31