الفقيه المغربي محمد الصفار وسؤال الإصلاح أواخر القرن 19
فئة : مقالات
الفقيه المغربي محمد الصفار
وسؤال الإصلاح أواخر القرن 19
محمد الصفار (-1881م)
أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الصفار، فقيه وكاتب مخزني ودبلوماسي مغربي ولد في مدينة تطوان (1810م)، وسط أسرة أندلسية نزحت من الأندلس إلى المغرب توفي (1881م) انخرط الصفار في وظيفة العدل بتطوان، ينوب عن القاضي في غيابه، ويعطي دروسا نظامية وأخرى تطوعية للراغبين، والتحق بكتابة، التحق الى الجهاز المخزني حينها، بصفته كاتب ومحرر المراسلات الرسمية.
الرحلة إلى باريز
قام الفقيه المغربي محمد الصفار برحلة إلى العاصمة الفرنسية باريز[1] في دجنبر 1845م، وقد نشرت تحت عنوان "رحلة الصفار إلى فرنسا"، وهي رحلة لها نفس أهمية الطهطاوي من مصر (-1873م) بالنظر إلى فحوى ما دوّن فيها، فما كتبه محمد الصفار يشبه من جهة المضمون ما كتبه الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، مع العلم أن ما كتبه الطهطاوي كان سابقا عما كتبه محمد الصفار. سبب رحلة الطهطاوي ارتبطت بمهمة مصاحبة بعثة طلابية إلى فرنسا أرسلها محمد علي (-1849م)، بصفته إمامًا لها وواعظًا ومرشدا دينيا كما تقدم. أما رحلة محمد الصفار، فهي رحلة قصيرة، دامت أكثر من شهر، ارتبطت بمهمة بعثة دبلوماسية كان الصفار من بين أعضائها، أرسلها السلطان المغربي عبد الرحمن بن هشام (-1859م) إلى فرنسا.
الصفار والوعي بالمدنية الأوروبية
من بين النصوص الكثيرة التي تضمنها كتاب "رحلة الصفار إلى فرنسا" نورد النص التالي: "والعالم عندهم هو من له قدرة على استكشاف الأمور الدقيقة واستنباط فوائد جديدة وإقامة الحجج السليمة من الطعن على ما أبداه ورد ما عارضه به من عداه. وليس اسم العالم عندهم مقصورا على من يعرف أصول الدين النصرانية وفروعها وهم القسيسون، بل ذلك ربما كان عندهم غير ملحوظ بالنسبة لغيره من العلوم العقلية الدقيقة".[2]
أورد الصفار هذا النص في محور حديثه عن موضوع المداخل والجبايات عند الفرنسيين، والحقيقة أنه نص ذو دلالة منهجية عميقة، فهو من جهة فيه تذكير بأن العلم في الإسلام يجمع بين العلوم الدينية والعقلية، مع العلم أن كاتبه فقيه ملم بالثقافة الإسلامية، ومن جهة أخرى، فيه إقرار بما أصبحت عليه أوربا في نظرتها الجديدة لموضوع العلم، وهي نظرة غير غريبة عن الثقافة الإسلامية، فالنص يوحي بالعمل على استرجاع هذا المعطى المنهجي في الثقافة الإسلامية بشكل يتوافق مع روح العصر حينها.
يحضر في نص رحلة الصفار، حس رجل الاجتماع الذي يصف مختلف ما عليه مجتمع أهل باريز حينها، خاصة الجوانب التي تعكس مدى مدنية وتحضر المجتمع، من بينها الاهتمام بالعلم والمكتبة والكتاب، يقول في هذا السياق: "وأهل باريز موصوفون بذكاء العقل وحدة الذهن ودقة النظر، ولا يقنعون في معرفة الاشياء بالتقليد، بل يبحثون عن أصل الشيء ويستدلون عليه ويقبلون فيه ويردون. ومن اعتناءهم بذلك، أنهم كلهم يعرفون القراءة والكتابة، ويدونون في الكتب كل شيء."[3] وفي موضع آخر يقول: "ولهم مدارس ومكاتب حتى في علوم الطبخ والغرس البناء والزراعة ومعالجة النباتات وإنتاج الحيوانات وغير ذلك؛ فكل ما يسمعونه أو يرونه أو يستنبطونه أو يبلغ إليهم علمه، يدونونه في الدواوين ويحفظونه على مر الأيام"[4]، ولا شك في أن هذه النصوص فيها اكتشاف لما كان عليه حال العلم والمعرفة عند الآخر، وفي الوقت ذاته فهي دعوة للاستفادة من حضارة الآخر.
القارئ لمختلف كتب الرحلة إلى أوروبا سيجدها تلتقي في نفس الهَمّ وتحمل نفس الشعور الواقعي، الذي يفيد "مؤرخ الفكر العربي الإسلامي المعاصر، في التعرف على الكيفيات التي نظر بها العرب إلى واقع تأخرهم وانحطاطهم في مقابل تقدم أوروبا وتفوقها".[5] لقد اختلف موضوع الرحلة وشعور الرحالة المسلمين بدءا من القرن التاسع عشر، قبل هذا القرن كان الرحالة المسلم مزهو بنفسه، ينظر فيها بكونه ينتمي الى حضارة تقَدّم العالم؛ إذ كانت حينها مصدرا لمختلف المعارف، هذا هو النفس الذي نجده في كتاب ابن بطوطة في القرن الرابع عشر "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار".
لقد كان لأدب الرحلة في القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي دور محوري في تجديد الوعي بمعرفة الذات؛ أي الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي...الذي عليه العالم الإسلامي حينها، والوضع الذي أصبح عليه الآخر، فقبل القرن التاسع عشر كان الآخر يشكل الهامش للذات المسلمة وتنظر في نفسها بأنها هي المركز، ولكن مع رحلات القرن التاسع عشر، سار الوضع مقلوبا؛ إذ تحول الآخر من الهامش إلى المركز، نتيجة تفوقه الحضاري، وهي حالة صاحبها شعور بالحسرة والأسف، وفي الوقت ذاته البحث عن الحل.
والحل كما تمثله رواد النهضة الأوائل، يتمثل في التثاقف، وعيا منهم بأن "الظاهرة الإسلامية منذ بدايتها، تميزن بميل لافت نحو الانفتاح والتركيب والتثاقف، سواء على الصعيد الديني، الإنساني، السياسي أو الثقافي. ونهلت من كل الحضارات بدون أدنى شعور من الحرج أو النقص. وبنت حضارة إنسانية بفضل هذه القدرة الاستثنائية في حينها على استيعاب التجارب والإنصات إلى عبر وعطاءات الآخرين. سواء البزنطيين، اليونانيين، الفارسيين، الهنود أو الصين..."[6] فمادام الأمر في نظر رجال النهضة على هذه الحال في الماضي، يمكن أن يتجدد في الحاضر.
استمر محمد الصفار بعد رحلته إلى أوروبا في عمله الدبلوماسي، ولا شك أنه كان من رواد الإصلاح من داخل الدولة المغربية حينها، وقد أسندت له من لدن السلطان مولاي عبد الرحمن ابن هشام (-1859م) عن وعي حقيقي منه بأهمية تجربة الصفار السياسية والفكرية، مهمة السهر على تربية أفراد الأسرة السلطانية وتعليمهم، ومن بينهم محمد بن عبد الرحمن، ومولاي الحسن(الأول)، اللذان أصبحا فيما بعد، وكما هو معلوم، من أبرز سلاطين المغرب انشغالا بموضوع الإصلاحات والتحديث، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.[7] وبهذا الشكل تكون الأفكار الإصلاحية لمحمد الصفار حاضرة في سياق تاريخ المغرب الحديث.[8]
[1] وهي رحلة لم يكتب لها أن تصل أيدي القراء حينها، وبقية طي النسيان، وأول من حققها هي الباحثة الأمريكية سوزان ميلار، التي نالت عنها درجة الدكتوراه من جامعة ميشغن، في شعبة التاريخ سنة 1976م. ونقلها إلى العربية خالد بن الصغير 1995م. وقد تجددت طبعتها سنة 2007م، من لدن دار السويدي، بأبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، لبنان.
[2] محمد الصفار، تحقيق؛ سوزان ميلار، ترجمة؛ خالد بن الصغير، رحلة الصفار الى فرنسا، دار السويدي، بأبي ظبي، الإمارات العربية المتحدة، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، لبنان. 2007م، ص.255
[3] محمد الصفار، فقيه في مواجهة الحداثة، خالد بن الصغير، سلسلة، الشخصية المغربية، منشورات، مجلس الجالية المغربية بالخارج، 2016م. ص. 23
[4] الرحالة في تاريخ المغرب، خالد بن الصغير. موقع: http://koutoubouna.blogspot.com/2013/10/1845.html
[5] أوروبا في مرآة الرحلة، م. س. ص.9 (بتصرف)
[6] محمد نور الدين أفاية، الغرب المتخيل، صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط.1، 2000م، ص.239
[7] خالد بن الصغير، محمد الصفار فقيه في مواجهة الحداثة، سلسلة الشخصية المغربية، منشورات مجلس الجالية المغربية بالخارج، مطبعة التومي، سلا، المغرب، 2016م، ص.32
[8] هناك مسألة بقية معلقة تتعلق بدور الصفار بكونه من أبرز رجالات الدولة حينها، وترتبط بعدم تبنيه لخيار اعتماد المطبعة كأداة قادرة على نشر العلوم الحديثة، وقد عاين دور المطبعة في تمكين الدول الأربية حينها من اقتحام عالم الصناعة ... نفسه، ص. 41-22