الفكر الإخواني بين "العمامة" و"الزعامة"


فئة :  مقالات

الفكر الإخواني بين "العمامة" و"الزعامة"

الفكر الإخواني بين "العمامة" و"الزعامة"([1])

بقلم: وائل سعيد

(كاتب وصحفي مصري)

بذرة حسن البنا الأولى التي غرست فيه

ورد في تعريف البيئة بأنها: "إجمالي الأشياء التي تُحيط بنا وتؤثر على وجود الكائنات الحية على سطح الأرض، مُتضمنة الماء والهواء والتربة والمعادن والمناخ...، "والكائنات أنفسهم"، كما يمكن وصفها بأنها مجموعة من الأنظمة المتشابكة مع بعضها البعض لدرجة التعقيد، والتي تؤثر وتحدد بقاءنا في هذا العالم".

وعلى هذا، يُمكن التطرق إلى التكوين الأول للإنسان، باعتباره موطن الداء وجوهر القضية التي نحن بصددها، طفولة حسن البنا، باعتباره المؤسس لحركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، ومرشدها الأول.

نشأ البنا في أسرة تحتفي أيما احتفاء بالعمامة؛ والمقصود هنا هي "العمامة" الأزهرية، حيث كان الأزهر وقتها ولمئات السنين قبل ذلك، من أهم المؤسسات التعليمية الشعبوية - أو أوحدها - ليس على مستوى مصر فقط؛ بل على مستوى الوطن العربي والقارة الإفريقية أيضا.

ولا جدال في أن الأزهر قام بتخريج الكثير من الأسماء اللامعة والمهمة في تاريخ الفكر العربي الحديث، الإسلامي والعلماني على حد سواء، ولكن لذلك موضع مختلف للحديث، فما يهمنا هنا هو الصورة الأولى التي تربّى عليها البنا، مؤسس جماعة الإخوان، أول وأشهر جماعة إسلامية في المنطقة العربية خلال القرن الماضي.

والمتابع لسيرة حياة البنا، سيجد أنه قد تأثر بعدد من المشايخ والشيوخ المحيطين به؛ بداية من والده شيخ الأزهر، ثم احتكاكه بالشيخ عبد الوهّاب الحصافي شيخ الطريقة الحصافية الشاذلية في فترة شبابه عام 1923، ومن هنا يتضح التكوين الأول في الوعي الريفي للفتى الصغير، وهو التبجيل المُقدس من المجتمع الفقير بمفاهيمه البسيطة ككل لفكرة "العمامة" ومُرتديها، إذ كانت تُمثل لهم وسيلة من وسائل التقرب إلى الله، خاصة وهو شعب تُسيطر عليه فكرة "الله" والتدين منذ آلاف السنين.

أما على مستوى المشايخ وأهل الطُرق، فترتبط بصورهم العديد من المُريدين ومن ثم السيطرة على عقول العامة، وبالتالي الاصطفاء عنهم وعن كل ما هو خارج الطريقة، وستتضح إرهاصات فكرة "الطريقة" فيما بعد في المنهج الإخواني من خلال رسائل البنا التي وضعها كمانفيستو من الوحي الإلهي، والتي تقوم بتقسيم التواصل البشري لقسمين لا ثالث لهما: فإما أن تكون معهم وبذلك فأنت مع الله بالطبع، وإما أن تكون مخالفًا لهم، ومن هنا تستحق الاستتابة!

مفتاح المال والسلطة

استمر ظهور المتحدثين عن الله بالإنابة، ورسله المبعوثين بعد خاتم المرسلين؛ منذ أن عرف الإنسان فكرة "المجتمعات" وبدأ في تأسيسها، فلن تجد عصرا يخلو تقريبا من مثل هؤلاء المخولين لأنفسهم - بأغراض متنوعة - الحديث عن الله، ومن ثم فلهم الحق في تغيير ما يرونه يخالف أفكارهم أو يتعارض مع أيديولوجية هذا الاصطفاء الذي يرونه في ذواتهم. الأمر الذي جعل رجال الدين يتحكمون في الكثير من اقتصاديات الشعوب وسياستها لأزمنة عديدة، حتى خلقوا من هذا التواجد الثقيل ما يُسمى بالكهنوت الديني أو المتحدثين باسم الدين، وليس الأمر مقتصرا فقط على الدين الإسلامي؛ فكما هو معروف لم يولد الاقتصاد الحقيقي عالميا سوى بانفصال الكنيسة كما نادى آدم سميث في القرن السابع عشر من خلال كتابه الأشهر "ثورة الأمم".

ولابد من الوقوف كثيرا عند فكرة "ثورة الأمم" ذلك بالنسبة إلى جماعة الإخوان، خاصة في صورتها الأخيرة؛ لنجد أن الرؤوس الكبيرة للجماعة لا تعرف عن التقشف الذين يدعون إليه شيئا، ولا يرون من فقر الدنيا سوى صوره في مُرديهم، هؤلاء المُريدون هم بمثابة النواة الأولى في ثوراتهم من خلال التبرعات والزكاة والصدقات، قبل أن تختلط موارد الجماعة بالتمويلات الدولية، ويصبح اللعب على كبير كما يُقال.

ودخلت من باب الإنابة عن الله، التخويل لهم بإصدار الأحكام المطلقة على البشر والقطع بتكفير البعض، وإقامة حدود الله التي قد تصل لدرجة إزهاق النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وتوزيع الموارد المالية، باعتبارهم القائمين عليها. وترتب على ذلك ظهور المصارف الإسلامية لضرب الاقتصاد المصري من جهة، وتوسيع دائرة الموارد لتنفيذ مخططاتهه. وإذا نظرنا إلى هذه الشبكة من أسفل، عند صغار أعضاء الجماعة أو المتعاملين بمنهجها "السُّنّي" المُتمثل في اللحية والجلباب؛ لن يكون الوضع مختلفا كثيرا عن هؤلاء الكبار؛ فمعظمهم يلعبون بالفلوس لعبا، تحت اسم الله ورسوله. خاصة وأن تجاراتهم المتنوعة تحتك احتكاكا مباشرا مع الاستهلاك اليومي للمواطن.

الشوفينية والإقصاء، شريعة ومنهاج...

قامت جماعة الإخوان على أفكار حسن البنا التي اجتهد لتدوينها كمنهاج في أكثر من مؤلف له، وكانت أشهرها هي "رسائل البنا"، والتي تُعتبر من أدبيات الإخوان، وفيها وضع البنا "مانفيستو" عام يُحدد توجهات الجماعة، كما رسم نظرتها للغير، والتي تعتمد كثيرا في منهجها على الاستقصاء من خلال الشوفينية المُتعصبة.

وقد قسم البنا في بداية الرسائل المجتمع إلى نصفين (نحن وهم)، مُنطلقا من اعتقاده بالاصطفاء عن بقية خلق الله، وبالتالي الأحقية بالوصاية الدينية، والتي ستطور فيما بعد وتتخذ من العنف والإرهاب منهجا، وتستهدف التغيير باليد سلاحا لردع الخارجين عن الجماعة، والمنشقين، وأهل الكتاب والكفار بالطبع.

يقول البنا في مقدمة الرسائل: (والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ، أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين).

وعلى هذا، يُصنفون استقبالهم لـ "الآخر" وفق أربعة أنواع:

1-      مؤمـن: إما شخص آمن بدعوتنا وصدق بقولنا وأعجب بمبادئنا..

2-      متـردد: وإما شخص لم يستبين وجه الحق..

3-      نفـعي: وإما شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة، وما يجره هذا البذل له من مغنم..

4-      متحامـل: وإما شخص أساء فينا ظنه وأحاطت بنا شكوكه..

وإذا تأملنا التعاملات الإنسانية للإخوان، سنجد أنها قائمة على الإقصاء وإن تم ذلك على عدة مستويات مختلفة: أولا إقصاء أهل الديانات الأخرى، ثانيا إقصاء العلمانيين، ثم إقصاء الشيعة، وفي النهاية داخل السُنة المحمدية الواحدة يتم إقصاء من هو غير إخواني... أي إننا بإزاء إقصاء داخل إقصاء إلى أن يقتصر الأمر على فئة بعينها، والتي لعبت أدوارا كثيرة في المعترك السياسي منذ الملكية، مرورا بثورة الضباط الأحرار وصدامها مع الرئيس الراحل عبد الناصر، ثم معاهدات السادات في سبعينيات القرن الماضي، تلك التي أعطت لحركتهم كامل الحرية والانتشار في ربوع مصر، ومن ثم فترة السكون الطويلة منذ الثمانينيات وحتى بداية الألفية الثالثة، أثناء حكم مُبارك، الحكم الذي تمكن على الرغم من مساوئه، من تحجيم دورهم كثيرا بقبضته الأمنية المحكمة.

بداية النهاية

ظل الإخوان طيلة فترة حكم مبارك يتمددون في الخفاء، موسعين من دائرة مؤيديهم ملتمسين في ذلك ما استطاعوا إليه سبيلا، خاصة في المناطق الشعبية التي تتسم بالفقر وبساطة التعليم، وعلى مدى سنوات تمكنوا من تجنيد كل طاقتهم في استقطاب أحياء بأكملها فاتشحت النساء بالأسود من منبت رأسها حتى أخمص قدميها، والرجال بالسراويل والجلابيب البيضاء القصيرة واللحى المشعثة. وشاعت كلمة الأخ والأخت على ألسن الجميع، ومن ثم كان الصعود إلى السلطة وسط تهليل تلك المجتمعات الصغيرة التي سبق وأن شكلوها ونمت كالسرطان، منطلقة من الأحياء.

ومع تواجدهم في السلطة بدأت سلسلة طويلة من التصادمات مع الفئات الأكثر وعيا في المجتمع. وعلى الرغم من استفحال الأمر بين الطرفين، جاء السقوط المدوي قبل أن يكملوا عامهم الأول في السلطة، وألقي برؤوسهم مرة أخرى إلى السجون، ما حدا بهم إلى الكشف عن الوجه الحقيقي وممارسة العنف في أقصى صوره، والعودة إلى نقطة الصفر.

ليس من المنتظر عودة الإخوان مرة أخرى إلى السلطة، كما يعتقد البعض أو يروج لتلك الفكرة، لقد برهنوا للجميع أثناء فترة حكمهم عن عقليتهم ذات التفكير الأحادي، وانغلاقهم على أنفسهم، وعدم قدرتهم على إجراء تفاوضات أو معاهدات أو القيام بأية تسويات، فضلا عن تشبثهم بمصلحة الجماعة باعتبارها الوطن الأكبر. ولكن السؤال الذي يبقى، هل سترضى الجماعات المتطرفة، ومن ضمنها جماعة الإخوان التي ذاقت الزعامة بالاكتفاء بدور محدود كغيرها من الأحزاب في المشهد السياسي؟ وإلى متى ستظل شعلة المقاومة والرفض متقدة داخلهم؟ وكم ستدفع المجتمعات العربية على وجه الأخص جرّاء ذلك؟

[1]- نشر بمجلة ذوات العدد 47