الفكر الطائفي وجدلية الدين والسياسة
فئة : مقالات
الفكر الطائفي وجدلية الدين والسياسة
تعد ثنائية السياسة والدين من المواضيع التي شغلت الفكر الديني على اتساع مداركه؛ فمنذ اللحظة الأولى لوفاة الرسول الكريم، ظهرت ملامح الفكر السياسي الإسلامي، حيث كانت السلطة محركاً أساسياً لطرفي الصراع حينذاك. ظهر السعي نحو التمكين، مع تعزيز الرؤية القبلية القرشية، أو مع حصر الأحقية في القرابة العائلية أو السلالة الطاهرة، كما ميَّز الفكر الشيعي، أو مع التوريث كما تحقق مع معاوية.
إن ما يمكن أن نستشفه من قراءتنا لعمق هذه الجدلية، وامتداداتها الثقافية والفكرية والاجتماعية، هو أن بحضورالدين، بصفته شرعية سياسية، تحرك التاريخ الإسلامي لفترات طويلة، بالرغم من تعدد المرجعيات والشرعيات التي اكتسبتها الدول التي أقيمت على شرعية تاريخية دينية؛ فالذي يجب أن نفهمه من خلال هذا التداخل العميق، في بنية الفكر السياسي العربي تحديداً، والإسلامي بشكل عام، أن هذه الجدلية رسمت للإنسان العربي تاريخه القريب والبعيد، وعبرها تم الدفع بعجلة هذا التاريخ إلى الأمام، ليكتشف الإنسان عدم قدرته على الانفراد بزمام هذا الكون، بعيداً عن التفاعل الإيجابي مع الذات والآخر والمحيط، أو ينتكس إلى الوراء حين يحسب نفسه مركزاً للمعرفة وللسلطة وللحق، وبأن ما يتميز عنه هو دونه، لا يرقى إلى أن يكون مثله، ما دامت مسبقاته الثقافية والفكرية تختلف عن مسبقاته.
إن تاريخنا جزءٌ من مسار إنساني، تفاعلت فيه جدلية الدين والسياسة، وحركت مساره نحو اتجاهات مختلفة. ولم تقف عند تاريخنا فحسب، بل تجاوزته لتحمل إلى عالمنا المعاصر الأسئلة نفسها، والهواجس عينها. وبالرغم من أن الدولة المعاصرة، خاصة في بعدها الغربي، تجاوزت كل هذه التساؤلات والإشكالات، حين فصلت الكنيسة عن السياسة، ولم تفصل جانب الدين عن الحياة، كما يظن البعض؛ فالفرق كبير بين منع الكنيسة من احتكار السلطة الدينية والروحية، وبين فصل قيم الدين عن الحياة.
يزداد الأمر وضوحاً، ونحن نحيا وسط عالم معاصر بكل تناقضاته وإشكالاته، حيث تبرز هذه الجدلية بشكل واضحٍ في استعمالات الساسة والقادة والمنظرين السياسيين، في عالم سيطرت عليه القطبية الأحادية؛ ذلك العالم المدفوع من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة، والذي يحيلنا مباشرةً إلى الحملات الإمبريالية.سقطت كل أقنعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على شوارع بغداد وأفغانستان ولبنان وسوريا وليبيا، وبرزت لغة القمع والقتل الممنهج على الدين والهوية والمذهبية، تحت شعار الفوضى الخلاقة؛ فكانت هذه الأخيرة، هي العنوان الأبرز الذي لعب عليه الاحتلال، قديما وحديثاً، لتحقيق مآربه في قراءة تاريخية لهذا التباين الثقافي، السني الشيعي من جهة، والإسلامي المسيحي من جهة أخرى.
لم يكن هذا الأمر ليحدث بهذه الخطورة، لولا وجود تربة خصبة قابلة لأن يجد هذا الخطاب المذهبي الطائفي الإقصائي ضالته فيها، لعل أهمها ثقل الموروث الديني ذو النزعة التفريقية المعبرة عن عقل رفض الاختلاف السياسي والفكري، وصبغه بقدسية الدين،امتدت إلى مجموعة من الروايات نسِبت إلى الرسول محمد، عجَّت بها كتب الرواية بمختلف مستوياتها، وبنيت عليها مواقف وسياسات وأفكار لا زالت تلقي بظلالها على تاريخنا المعاصر، بالرغم من هذا التطور الحاصل في بنية مجموعة من العلوم التاريخية واللغوية والسياسية.
لم تكن هذه النزعة السياسية المعاصرة المحكومة والمدعومة من وسائل إعلام مختلفة، والتي كان ميثاقها الشرفي هو الفتنة المذهبية، لتجد أذنا صاغية، لولا هذه البنية الفكرية المؤسسة للعقل المتدين في شكله المعاصر؛ فأزمة هذا العقل تظهر حينما يأخذ من مساره مسار الشمولية؛ بمعنى أن يصبح هذا التدين مستوعبًا لمناحي الحياة، وقامعًا للأفكار والتوجّهات المختلفة، تحت مسميات عدة، غالباً ما تكون طائفية أو مذهبية من جهة. ومن جهة أخرى، فإن المعطى الآخر في هذه الأزمة هو ما يمكن أن نصطلح عليه بأزمة البنيات المؤسسة؛ فلا شك أن أي تصورٍ ديني تكون له قاعدة تمده بالتصورات والأفكار، وغالبًا ما تكون هذه القاعدة، إمّا نصوصًامقدّسة، وإمّا قواعد وأصول وعلوم يتمّ البناء عليها في العملية الدينية؛ فإذا كانت هذه القواعد الحاضنة للتديّن منفتحة على الآخر بكلّ تجلياته، ومستعدة للتعاون معه في الأفق الإنساني الرّحب، فلن يكون هناك أي إشكالٍ؛ أما إذا كانت حاملة لمشروع لا إنساني، بأنْ كانت تحتضن في طيّاتها عناصر الإقصاء الثقافي والديني والعنصري، فستُسبّب الخراب لنفسها ولغيرها، كما هو مشاهد في عالم اليوم.
1- العقل السنّي وعقدة الافتراق:
تحدثنا سابقاً عن أزمة البنيات المؤسسة للفكر، بصفتها أحد العوامل الأساسية المحركة لهذه اللعبة، وسيزداد الأمر وضوحاً ونحن نتناول حديثاً ظل على مدار طويلٍ مثاراً للجدل في مضمونه ومقاصده ودواعيه، إذا ما نظرنا إلى حجم الخطورة التي يمكن أن تتأسس على متنه، باعتباره مثاراً للاختلاف أيضاً من طرف نقاد الحديث قديماً وحديثاً. تتعدد روايات هذا الحديث بتعدد رواته وأهدافهم، وتكشف وحدها مدى التخبط الحاصل في متنه، والمنبئ بحجم الهوة التي تؤصل لها مثل هذه القواعد، بقبولها التناقض الصارخ، والدفاع عن مشروعية ثقافة التفرق والعنصرية الإقصائية، فتقول في بعضها: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار". وفي بعض الروايات: "ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة، وليس على ثلاث وسبعين: "إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلكت سبعون فرقة، وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، يهلك إحدى وسبعون، ويخلص فرقة"، والبعض الآخر يفضل عدم التحديد بعد السبعين لتجنب الوقوع في المأزق: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة".
هذا عن جانب التحديد العددي المتناقض، سواء بالنسبة لمن سمتهم الرواية أهل الكتاب أو اليهود والنصارى أو بني إسرائيل، أو بالنسبة لافتراق هذه الأمة. أما عن تحديد هذه الفرقة الناجية، فكانت الروايات تقدم الفرقة أو الملة بمدلولات مختلفة، تكشف المُدارسة عن الخلفيات السياسية لظهورها في ظروف متأخرة عن العصر النبوي، كمفهوم الجماعة وغير ذلك: "قالوا: يا رسول الله ما تلك الفرقة؟ قال: فرقة الجماعة"، وفي بعض الروايات تفسر الجماعة بقوله: "ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما أنا عليه وأصحابي"؛ فظهور مفاهيم الجماعة وغيرها، له ملابساتهالتاريخية إبان العصر الأموي والصراعات التاريخية المرتبطة بتلك الحقبة، ولم يكن رواة الأحاديث إلا تعبيراً عن هذا الواقع السياسي الذي ما زال يحمل لنا الكثير من إشكالاته المختلفة في التفريق بين الإنسان من التوجه الواحد، وحاول كل فريق من الفرق المختصمة سياسياً أن يجد لهشرعية دينية منبثقة من النصوص المقدسة، لكسب العطف واسترضاء الثقافة العامة لدى أوساط شعبية رأت في الفكر الديني السائد، تحت ضغط العامل السياسي، مخرجا للانتصار لهذا الاتجاه أو ذاك، لهذا كانت الجماعة أو الفرقة الناجية في الفكر السني هي ما وصفته الرواية: "ما أنا عليه وأصحابي"، وبما أن الصحابة عدول داخل هذا النسق الفكري الديني، حسب منظورهم للعدالة، فإن النجاة ليست محاباة ولا تفريقا عنصريا، بل هي ميزة وتشريف إلهي ناتج عن السير وراء سبيل الرسول وأصحابه، وكأن واضعي هذه الروايات تناسوا أن رسول الله والصحابة جزء من مسيرة إنسانية، لا تنفك عن الخطأ تحت تأثير الواقع بمختلف تلاوينه: "قل إنما أنا بشر مثلكم"؛ ومسيرة الصحابة، كما يروي لنا التاريخ، هي مسيرة أي إنسان قديماً وحديثاً، دون أن تكون لنا خلفيات عن هذا أو ذاك، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعلينا أيضا ما اكتسبنا، دون الخوض في جدل عقيم سيعزز المذهبية بدل أن يضيق من خطورة هذا الواقع المرير.
وكما قلت سابقا، فلولا هذه التربة الخصبة لعقل مستعد سلفاً أن يصير متمذهباً متحيزاً على مسبقاته الدينية والفكرية، لما لعبت السياسة ومنظروها لعبتها في تفريق الشعوب على أساس عرقي مذهبي، كما هو الحال بالنسبة للعراق أو لبنان أو سوريا، أو أي بلد آخر وضع على لائحة الشر، حسب نظرة أمريكا لهذه المعسكرات؛ فقد قالوا قديماً: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"؛ فالمسألة متعلقة بالوقت، والسلسلة آتية لا محالة، ولا ينبئك مثل حقائق الواقع المعاصر.
وللأسف الشديد، يجد هذا الخطاب حاضناً له في عقل سني شيعي روائي، مع الاختلاف بين الفكرين، باعتماده قواعد تعتمد مقاربة دينية احتكارية للنص الديني، لا تخضع لضوابط علمية بقدر ما تخضع لمنطق الشرعية المكتسبة أساساً من المؤسسة السياسية، المتجلية في التواطؤ المكشوف بين ما هو ديني وسياسي، والثقافة الروائية التي أنتجتها هذه العلوم هي أحد أهم الأدلة على صدق أو بطلان ما سنقوله؛ فالإنسانية رشدت واكتمل بلوغ عقلها، ولن تحتاج مجدَّداً إلى من سيملأ عقلها بثقافة الرواية بكل تجلياتها، لأن ظروف العصر قد تغيرت، والمناخ الذي احتضن هذه العلوم قد أصبح آيلاً للسقوط إن لم نقل قد سقط بالفعل، نتيجة الهوة الحضارية التي أسقطت فيها هذه العلوم الركب الإسلامي وحضارته.
2- السياسة وحدود الحرية:
لم يعد يستطيع الإنسان، في عالم اليوم تحديداً، أن يؤسس له موقفاً أو فكرة بعيداً عن تأثيرات السياسة بمختلف مستوياتها، خاصة الإعلامية التي أصبحت سلاحاً موجها ضد المستضعفين في الأرض وحماية للمتكبرين؛ فالناظر في الوقائع المختلفة، وتشابك الأحداث السياسية في مختلف البقاع، يرى بأن القتلة والمجرمين هم صناع ثقافة السلام، والمرسلين من الرب لتحقيق الحريات العامة، وأن المستضعفين في الأرض هم رأس الإجرام ومحاور الشر الإنساني، كما أن الحرية لم يعد لها حدود؛ فالخيانة حرية، والقتل حرية، والتآمر حرية، واستلاب الأرض والعباد حرية، واحتلال واستغلال الخيرات حرية. وما ذلك، مما يناقض كل ما سبق ذكره، إلا التخلف والتمذهب والطائفية، حسب رؤية هذا العالم الذي يسير نحو نهايته بنهاية القيم الدافعة بعجلته نحو المطلق.