الفكر الفلسفي وبداية تشكله في التاريخ الأقدم للحضارة الصينية
فئة : مقالات
الفكر الفلسفي وبداية تشكله في التاريخ الأقدم للحضارة الصينية
ملخص:
نحاول جاهدين أن نسلك أغوار البحث في التاريخ الأقدم للحضارات الإنسانية، والتنقيب على الشرارات الأولى لتشكل العقل البشري القادر على ممارسة فعل التفلسف، ولن نكتفي بمُسَلَّمة أن التفكير الفلسفي ما هو إلا معجزة يونانية كانت ساحة أثينا هي منبسط محايتته الذي نمت فيه هذه المعجزة - كما يُسميها المستشرقون من مؤرخي تاريخ الفلسفة -، فلكي لا تكون أحكامنا تجاه الرؤية الاستشراقية لبداية تأريخ الفكر الفلسفي مجرد أحكام مسبقة وجائرة تقوم على الرأي، ولكي لا تكون خالية من البحث في طيات التاريخ الأقدم للحضارات البشرية، أردنا أن نستهل بحثنا هذا بأقدم الحضارات وأعرقها، ولعل الحضارة الصينية القديمة هي المحطة الأجدر لِأن نضع عندها رحالنا، ولعل ما نسمعه عن الفلسفة الصينية عامة، والكونفيشيوسية على وجه الخصوص هو الدافع الذي جذبنا لأَن نتخذ هذه الحضارة نموذجًا للحضارات القديمة والسابقة للحضارة الإغريقية بفارق زمني شاسع، ولنا في البداية أن نتعرف عن السياق التاريخي لنشأة الفكر الفلسفي الصيني بشكلٍ عام وظهور الكونفيشيوسية وتاريخ تطور أفكارها الفلسفية والسياسية بشكل خاص.
مقدمة:
إن أول ما يثير غريزة فضولنا المعرفية قبل أن نسلط الضوء على فلسفةِ حضارةٍ ما، هو ذلك الحال الذي كانت عليه أوضاع ذلك المجتمع قديما، من قبل أن يرقى إلى مستواه الحضاري الراهن، وهذا ما قد أثار الفضول لدينا ونحن في صدد تسليطنا الضوء على الفلسفة الصينية، وجعلنا نطرح السؤال: كيف كانت أوضاع المجتمع الصيني قديما؟ وأي التحولات التي عرفها هذا المجتمع (على مستوياته الاقتصادية، السياسية والاجتماعية)، والتي شكلت مِفصل تحوله من مجتمعٍ فقيرٍ لا يكاد يفكر، إلى حضارةٍ قائمة على إنتاجاتِ عقولِ مفكرينَ مِنْ مواطنيها.
1- السياق التاريخي لنشأة الفكر الصيني: الاقتصاد محرك العقل (من معدن البرونز إلى اكتشاف الحديد)
تعود البدايات التاريخية لتشكل الصين إمبراطورية (أو كدولة بالمعنى الحديث للكلمة) إلى بداية الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث بدأ الحكم في الصين يظهر على شكل سُلطة هرمية استبدادية يتزعمها حاكم فردي، وكان نظام الحكم فيها وراثيًا، وكان الحاكم أو الملك حينها يجمع بين صفتي الملك وكبير الكهنة، وكان يعتبر المالك الوحيد للأرض، وتليه في التراتبية الاجتماعية الطبقة الإقطاعية ثم عامة الناس. في تلك الآونة، كانت الذهنية الدينية هي السائدة في البلاد، وكان قدماء الصينيون يعتقدون أن كل ما هو موجود في العالم هو موجود بتدبير وإرادة «السماء»، وكان الحاكم يعتبر في نظر الشعب «ابن السماء»، والصين نفسها كانت تسمى «كل ما تحت السماء»، وكان الإيمان بتأثير الأرواح على حياة الناس قائمًا، لذا كان تقديم القرابين والأضاحي شائعًا لاسترضاء هذه الأرواح.
كان الاقتصاد الصيني القديم يعتمد بالدرجة الأولى على الفلاحة والصناعة البرونزية، وكان الفلاحون يواجهون أزمات مالية في اقتناء أدوات فلاحية، نظرا لغلاء هذا المعدن، وكان المواطن الصيني الفلاح ينتظر لموسمين زراعيين أو ثلاثة حتى يتمكن من استعادة رأسماله الذي أنفقه في اقتناء الادوات الفلاحية، الأمر الذي جعل طبقة الشعب تستنزف كل طاقاتها البدنية في حقول الأرز والذُّرى...، حيث كانوا يقضون كل يومهم في الحقل من قَبل طلوع الشمس إلى غروبها لكسب قوتهم اليومي، وكان سد الجوع هو أكبر مشاكل عصرهم، الأمر الذي أدى إلى تقلص دائرة الفكر وامتداد الظلام الفكري الدامس، ووجد العقل الصيني القديم نفسه عاجزًا عن التفكير في ظل الإرهاق الجسدي الشديد، وهذا حال كل الشعوب الفقيرة اقتصاديا، حيث تغيب المشاكل الإنسانية الوجودية في حضرة المشاكل المعيشية البيولوجية الضرورية للبقاء على قيد الحياة، بالإضافة إلى الظروف الاستبدادية التي كان يعيشها الرجل الصيني في ظل وطأة الحكم الإقطاعي الذي كان يعامل الشعب معاملة الاغنام، يَحْلُبُ كل طاقاتهم دون أن يمدهم ولو بِحُفْنَةِ قمحٍ، في ضوء سلطة تمارس القهر بشتى صوره، وتتعامل مع الإنسان على أنه كل شيء إلا أنه إنسان.
في فترة لاحقة، وبالأخص ما بين القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد، شهدت الصين تطورات سريعة مختلفة مهمة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، حيث تطور أسلوب الإنتاج الزراعي البدائي السابق، وصارت تستخدم فيه وسائل وطرائق جديدة؛ وذلك بعد اكتشاف معدن الحديد الذي شكل نهاية العصر البرونزي للصين، وصارت الصناعة تعتمد عليه بالأساس، نظرا لشدة صلابته ورَخص ثمنه مقارنة مع البرونز...
هكذا وبعد اكتشاف معدن الحديد أصبح هو البديل الأفضل للبرونز، ووجدت فيه الصناعة ضالتها التي طالما بحثت عنها في ظل بطش الغلاء البرونزي ونُدرته، وكذلك وجد فيه الفلاحون الصينيون القدامى متنفسا لهم ولفلاحتهم التي طالما عانت من قلة الوسائل الزراعة، واستطاعت الفلاحة جنبا إلى جنب مع الصناعة أن تُحرك عجلة الاقتصاد بعد ركوض كبير، كما استطاع هذين القطاعين أن يحركا الاقتصاد، استطاع الاقتصاد أيضا أن ولدت معه منذ نعومة أظافرة، أصبح أمام مشاكل اجتماعية وسياسة أو بالأحرى مشاكل تخص وجوده الإنساني بالدرجة الأولى، ووضعه في المجتمع. أصبح للعقل الصيني متسعا من التفكير في قضايا جديدة، والرقي بالمجتمع الصيني إلى أعلى المراتب.
هكذا ساهم اكتشاف معدن الحديد في انتقال الحركة الفكرية في الصين القديمة من دائرة الفقر ومشكلة المَعيش، إلى دائرة الفكر ومشاكل الوجود الإنساني....، وإلى هنا فلا يمكنني المرور دون أن أترك بصمتي الشخصية بالقول إن الفكر الصيني قد نبت من الأرض مع الفلاحين الصينيين، وأن الفلاحة قد شكلت رحم المعاناة التي وُلد منها هذا الأخير، وأن جبابرة العقول عبر التاريخ لم يولدوا إلا من رحم المعاناة، غير أنهم استطاعوا الخروج من الأزمة أو على الأقل مهدوا الطريق للخروج منها.
وقد انعكست كل هذه التطورات على الثقافة والفكر في الصين القديمة، وأدت إلى بزوغ العديد من المدارس الفكرية والسياسية، التي اختلف وتنافس أساتذتها وحكمائها فيما بينهم، ولكن بشكل عام غلب الاهتمام بمسألة تحقيق النظام في المجتمع.
في الفترة الأقدم من تاريخ الصين، كان المعلمون أو الحكماء الصينيون الأوائل، يعتقدون أن العالم نشأ من الفوضى الأولية، وبفضل روحين هما اليين (المبدأ الأنثوي)، واليانغ (المبدأ الذكري)، اللذين قاما بتنظيم هذه الفوضى العديمة الشكل، وكونا العالم منها. لكن مع بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، صارت الأفكار تأخذ منحىً أكثر طبيعية، والأرواح السابقة التي كان ينظر إليها على أنها ذات تأثير على حياة الناس صارت تعتبر كقوى طبيعية، وتم افتراض وجود «جوهر أولي» من النوع الأثيري هو التشيه، وتحت تأثير اليين واليانغ على هذا الجوهر الأثيري تنشأ الجزيئات الأنثوية الكثيفة، والجزيئات الذكرية الخفيفة، التي تولّد العناصر الأولية الخمسة، وهي: الخشب (مو)، والنار (هيو)، والمعدن (جين)، والتراب (تو)، والماء (شوي)، ومن هذه العناصر تتكون كل الموجودات.
في العام 500 قبل الميلاد، بعد أن انتقلت الصين إلى ما يسمى بـ «فترة الربيع والخريف»، وهي فترة امتدت ما بين عام 771 إلى عام 476، ق. م {{ وفقًا لبعض الآراء منهم الباحث ومترجم السوري رسلان عامر /مقال: الفكر الصيني القديم وسؤال الفلسفة / بوابة: معنى الإلكترونية}} وتليها فترة الممالك المتحاربة التي قُسّمت فيها الصين إلى ممالك عديدة متصارعة في ما بينها، بدأت الفترة الذهبية للفلسفة الصينية، وتعرف هذه الفترة باسم «مدرسة»، حيث ظهرت العديد من المدارس الفكرية المختلفة والمتنافسة فيما بينها، كانت المدارسة الكونفيشيوسية هي الأكثر نفوذا في تاريخ الفكر الصيني، والتي كانت بقيادة الفيلسوف الصيني العظيم كونفوشيوس.
2- المدرسة الكونفوشيوسية وثنائية التربية وأخلاق ودورَهما الأساسي في بناء البنية البشرية الحادثة للتغيير والرافعة لازدهار المجتمع
لقد عانى المجتمع الصيني القديم لفترة طويلة من حكم إقطاعي مستبد، يسعى إلى السيطرة على كل الثروات، ويهدف إلى سحق الشعب وجعله دائمة في مرتبة دنيئةٍ فقيرة اقتصاديا وفكريا، وكان يستخدم كل الوسائل التي تمكنه من النجاح في نَبْذِ الشعب، ولعل هدم التعليم هي الوسيلة التي بموجبها يمكن هدم أي مجتمعٍ كان، وجعل الشعب يدور في دائرة الفقر والعبودية والطاعة العمياء للسلطة العليا.
كان المجتمع الصيني القديم على شكل ثلاث طبقات؛ الأولى: للحكام النبلاء الإقطاعيين، والثانية للشعب، وبين هاتين الطبقتين صراعٌ نُتج عنه طبقة ثالثة تسمى "التشيه": وهم جماعة من الأرستقراطيين الذين فقدوا مكانتهم الاجتماعية، وأصبحوا في بحث عن وسيلة ما تحفظ كرامتهم، وهم بمثابة تلك المركبة القادرة على الخروج من الأزمة وإحداث تغيير ثوري في المجتمع؛ وذلك بموجب موقعهم الوسطي بين طبقة النبلاء الحكام الإقطاعيين، وبين طبقة الشعب، فقربهم من الطبقة الحاكمة جعلهم من أكثر العارفين لأساليب سياستهم المستبدة. أما قربهم من الشعب، فجعلهم يشعرون بمعاناتهم وقهرهم الذي يعيشونه في ظل استبداد الحكام، الأمر الذي جعل من طبقة "التشيه" أن تهدف للإصلاح والتغيير.
من طبقة "التشيه" كان ينحدر الفيلسوف الصيني العظيم "كونفوشيوس"، (الذي ولد في ولاية "لو" في الصين حوالي عام 551 ق م، أرسى بتعاليمه مبادئ التفاعل الأخلاقي بين الأفراد، وركز من خلال هذه المبادئ على نموذج التعليم، توفي عام 479 ق م، بعد أن أسس مذهب الكونفيشوسية، وأصبح منهجا الإمبراطورية الصين).
يعتبر كونفيشيوس صاحب أول مدرسة في تاريخ الصين القديم، الذي تولى منصبا سياسيا كبيرا عام 501 ق م، وأصبح رئيس وُزراء دولة "لو" وكان نجاحه ساحقا، لدرجةِ أنْ شعرت الدول المجاورة بالذعر من ممارسته السياسية في قالبٍ من الديمقراطية والشفافية، فاتخذته هذه الدول عدوًّا لها، وقررت أن تُفسِد منصبه السياسي، فأرسلوا موكبا من الراقصات الجميلات إلى رئيس دولةِ "لو" التي كان يشتغل كونفوشيوس رئيسا لمجلس وزرائها، فافتتن بِهِنَّ وأهمل شؤون الدولة حتى استقال من وظيفته، فعلم كونفوشيوس أن لا يستطيع الشخص الواحد أن يكون مصلحا داخل مستنقعٍ من الفساد والمفسدين، فأصيب كونفوشيوس بأزمة بالغة، واعتزل الناس لفترة ليست بالقليلة، وراح يفكر في إيجاد وسيلة؛ إذ تمكنه من خلالها أن يحدث تغييرا جذريا في صفوف المجتمع، ويدفع به للإصلاح، فوجد نفسه بين حَلَّيْنِ: إما أن يصطدم بطريقة مباشرة مع السلطة، وإما أن يلجأ إلى أسلوب إعداد الشعب وتهيئته بالتدريج لتلقي قيم الحرية والديمقراطية.
بحكم قرب كونفوشيوس من الطبقة الحاكمة، عرف يقينا أن هذه الأخيرة تصاب بالسَعَر لمجرد أن تَشُمَّ رائحة التغيير في طابع من العنف، وعرف أن الرجل المصلح الواحد يبقى عاجزا أمام حشدٍ من المفسدين، الأمر الذي جعله يرفض الاصطدام المباشر مع السلطة، والذي جعله يتبنى فكرة اللجوء إلى أسلوب إعداد الشعب وتهيئته وغرس فيه قيم الإنسانية والأخلاق والحرية والديمقراطية ورفض العبودية، فلجأ إلى الاعتماد التدريجي للشعب، واعتمد في ذلك على أسلوب التربية حتى يكون التغيير من القاعدة، مؤمنا بفكرة: (إذا تربى الشعب على الحرية والديمقراطية وسائر قيم التقدم، نتج عن ذلك تغيير حتى في قمة الدولة نفسها)
إن السبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله تهذيب وتحفيز الشعب وتأسيس عادات المجتمع الصالح لا يكون إلا عن طريق التربية، فقطعة الحجر لا يمكن أن تصبح موضوعا فنيا إلا إذا نُقِشَ عليها، وكذلك الإنسان لا يمكن أن يعرف القيم الأخلاقية بدون تربية، علم كونفوشيوس يقينا أن الشعب الجاهل الذي يطيع الحاكم طاعة عمياء يستحيل أن يحدث تغيير للوضع الراهن. ولكي يتمكن كونفوشيوس من هدفه الأسمى الذي يكمن في إصلاح المجتمع، أدرك أن الدور الذي هو مكلف به لا يجعله معلما صاحب مدرسة خاصة يلقن للتلاميذ دروسا في مختلف العلوم وحسب، بل هو في المقام الأول مربٍّ ومصلح للشعب بأكمله.
بعد أن كان التعليم محصورًا على الطبقة الحاكمة المستبدة وأبنائها، وبعد استغلالهم لعدم الوعي المتفشي في المجتمع وغرسهم لقيم العبودية والرضوخ في عقول الشعب، ولا شك أن عدم الوعي لا يأتي إلا من الحرمان من التعليم، وهذا الحرمان ما اتخذته السلطة العليا ذريعةَ لها للسيطرة على المواطن، وجعل عنقه مربوطا بأغلال الاستبداد، جاء كونفوشيوس ليعيد ترتيب الأوراق المبعثرة في المجتمع الصيني الكادح، بعد أنْ عرف أنَّ ترتيبها لن يكون إلا بغرس قيم التربية والتعليم في صفوف المجتمع، وركز بالخصوص على فئة الشباب لكي يعمل على تطويرها وجعلها فئة فعالة لها آثارها في كل مناحي الحياة والمجتمع...
لذلك قد حدد كونفوشيوس طريقة للتربية مغايرة لتلك الطريقة التقليدية المألوفة، فهو لا يسعى إلى أن يضيف للمجتمع فئة أخرى حافظة للتراث الراشي القديم؛ فهي بذلك لن تكون إلا نسخة مطابقة للفئات الأخرى السابقة الحافظة للتراث والعاجزة عن التغيير، بل كان هدف كونفوشيوس التربوي يرتكز على أن يصنع فئة جديدة من الشباب تفكر بطريقة مختلفة، وتكون لهم القدرة على إحداث الثورة الحقة في صفوف المجتمع وخلق التغيير الجذري الذي يهدف إلى قلب النظام السياسي المستبد، ومن ثمة إصلاح المجتمع.
بالإضافة إلى ذلك، كان كونفوشيوس يهدف إلى يصنع عقولا جبارة ربما يكون لهم حظ أفضل في الوصول إلى السلطة وتولي الحكم، ومن ثمة يمكن أن يطبقوا تعاليمه ويعملوا على تحقيق حياة مثالية ومجتمع مثالي تتحقق في كل القيم الإنسانية التي طالما حلم بها كونفوشيوس.
من الصعب القول إن هناك طريقة نمطية واحدة للتربية وتصلح لكل المجتمعات؛ فكل مجتمع طريقته الخاصة في التربية التي تتماشى مع تنشئته الدينية والفكرية وسائر الظروف الاجتماعية، وبذلك فإن طرائق التربية اختلف وتطور باختلاف المجتمعات وتطورها، غير أنه على الرغم من اختلاف هذه الطرائق، إلا أن الهدف من التربية والتعليم يظل واحدا لا محالة؛ أي إن أغلب المربيين يؤكدون أن الهدف الأساسي من التربية هو صنع إنسان متكامل متصل بالمسائل الحياتية ومعضلاتها، وله القدرة على التفكير في حلها، أو بالأحرى الهدف الأسمى من التربية (بلغة ديكارت) هو تعزيز تلك القسمة الأعدل بين الناس، وجعلها أكثر نشاطا وتجاوبا مع محيطها. وبذلك لم تكن غاية كونفوشيوس من مجرد وضع أسلوب للتربية يصنع من الناس آلات تحفظ التراث المهترئ، وإنما يهدف إلى جعل العملية التعليمية نقطة ارتكاز والبدء لصنع الفرد المثالي الناسج لخيوط المجتمع الأمثل والمُحدث للتغير والعامل على تهذيب نفسه أولا والشعب ثانيا.
من أجل تحقيق الحياة المثالية ومن أجل الوصـــل إلى هذه التطورات وضع كونفوشيوس مجموعة من الشروط الجادة والجديدة التي بموجبها تتحقق غاية التعليم، منها:
أولا: شروط التعليم
أ: المساواة
إذا كنا اليوم نرى أن للتثقيف هذا القدر الكبير من الرسوخ في المجتمع الصيني الحديث، فالفضل في ذلك يعود للفيلسوف الصيني العظيم كونفوشيوس، الذي أكد على ضرورة العودة إلى فطرة الإنسان، واحترام حرية الجنس البشري، رافعا شعار الديمقراطية، هذا أهم ما أضافه كونفوشيوس داخل إطار مبدأ المساواة، إن إيمانه الشديد بهذا المبدأ هو ما شكل له الدافع لفلسفته الأخلاقية والسياسية، وبذلك يصبح الناس على حد سواء في نظر كونفوشيوس.
هكذا أصبح جميع الناس سواسية لهم نفس الحقوق في التربية والتعليم وفي سائر الأمور الاجتماعية ...، بمبدأ المساواة استطاع أن يلغي كل الفوارق الاجتماعية، واستطاع أن يحطم ذلك التسلسل الهرمي الذي كان متغلغلا في عقول الناس منذ القِدم، حيث أصبح بإمكان كل فرد - بعد جهده الطويل في الدراسة والتعلم والتأمل العقلي- أن يرقى بنفسه إلى أعلى المستويات الوظيفية والاجتماعية، ويصبح في أرقى الصور الإنسانية. هكذا، وطِبقا لمبدأ كونفوشيوس في المساواة، تصبح جميع الطبقات داخل المجتمع متساوية، لها نفس الحقوق ولها نفس الأهمية. إذا كان مبدأ المساواة واحد من أهم المبادئ الأساسية في فلسفة كونفوشيوس الأخلاقية والسياسية، فإن هناك مبدأ آخر يلمع في فلسفته، وهو مبدأ العدل، فأحيانا يُعامل الناس بالمساواة دون العدل، ويكون ذلك بمثابة ضربٍ للكرامة الإنسانية، وعدم الأخذ بعين الاعتبار للفوارق الإنسانية الجسمانية منها والعقلية، فما معنى أن يعامل أولئك الذين ولدوا في إعاقة نفس المعامل التي يُعامل بها أولئك الذين وُلدوا، وهم في كامل قواهم وتطلب منهم نفس الواجبات....، صحيح أن الناس يجب أن يكونوا سواسية من ناحية كونهم بشرا، رغم كل الاختلافات الكائنة بينهم، إلا أنهم ينبغي أن يُعاملوا بالعدل أيضا نظرا لتلك الفُروقات الموجودة بينهم ويخضع الجميع لمحكمة العدل.
ب: العلاقة بين الطبقة الاجتماعية والتعلم
لم تعد دعوة كونفوشيوس للمساواة بين كافة طبقات المجتمع مجرد نظرية وحسب، بل أصبح لها واقع ملموس داخل صفوف المجتمع، خصوصا أن حلقاته التعليمية كان يحضرها عامة الناس، من أدنى طبقة إلى أرقاها ...صحيح أن كونفوشيوس كان صاحب مدرسة خاصة بالتربية، وكان يتقاضى أجرا عن عملية التعليم، إلا أنه لم يرفض أي تلميذ عجز عن دفع نفقات المدرسة، ليحطم بذلك كل الفروقات الاجتماعية، ويضعها في قالب المساواة المعادلة. كانت حياة كونفوشيوس غاية في الصعوبة والتعقيد، فقد كان عليه أن يجمع بين تثقيف وتهذيب نفسه، وبين رعاية أمه العجوز والاشتغال على هدفه الأسمى الذي هو تثقيف الشعب والدعوة للتغيير، هكذا أصبح مثالا يقتدى به داخل المجتمع الصيني القديم، يقول كونفوشيوس: «لقد كنت في كنت في موقعٍ حقيرٍ عندما كنت صغيرا، وهذا ما يفسر لماذا أمتلك الكثير من المهارات في الكثير من الأشياء» بالإضافة إلى هذا، هناك الكثير من الطلبة الذين استطاعوا الرقي بأنفسهم والوصول إلى أعلى المراتب؛ وذلك بِكفاحهم الذي دفعهم إلى القمة، والذي لم يجعل منهم فريسة سهلة للظروف الاجتماعية....، وهكذا أصبح كونفوشيوس صاحب مدرسة مفتوحة أمام الجميع، وأصبح العلم شيئا يسيرا لأول مرة في تاريخ الصين القديمة، ورُفع في الصين شعارَ *التربية حق * متاح للجميع.
ج: الدافع الداخلي للتعلم
لقد كان من أهم الشروط التي وضعها كونفوشيوس لمن يريد الالتحاق بمدرسته أن يكون طلب التلميذ للعلم نابعا من رغبةٍ داخلية؛ أي أن تكون له إرادة هي من حركته ودفعته لهذا السلوك، فتعطش التلميذ للمعرفة ولهفته على العلم هو الشرط الذي لابد أن يكون متوفرا في التلميذ، والذي لا يمكن التنازل عنه أو الدخول إلى هذه المدرسة دون توفره، فعلى الرغم من إيمان كونفوشيوس بمبدأ المساواة إلا أنه لم يفتح باب مدرسته لكل من هب ودب، بل وضع لها شروطا بمثابة خطوط حمراء، ولا يقبل في مدرسته من ليس له الرغبة في التغيير والقدرة على التغيير؛ إذ نجده يقول: ((ليس هناك شيء أستطيع أن أفعل مع الرجل الذي لا يقول لنفسه دائما)): ماذا عليَّ أن أفعل؟
د: استمرارية التعلم
عرف كونفوشيوس أن تلك المبادئ التي غرسها في عقول تلامذته عن طريق التربية والتعليم قد ترفعهم إلى أعلى المراتب، وقد تجعلهم يحصلون على منصب سياسي كبير، ويصبحون من ذَوي السلطة، إلا أنه من الممكن جدا بعد بلوغ هذا الهدف أن يفقد التلميذ فطرته السليمة التي صنعها فيه المعلم؛ وذلك بتأثر المنصب عليه الذي ربما يجعله يقدم الكثير من التنازلات في سبيل استمرار سلطته، لذلك دعا كونفوشيوس إلى جعل استمرارية التعلم شرط من شروطه الأساسية للدخول إلى مدرسته؛ وذلك لكي لا يتخلى التلميذ - بعد توليه المنصب- عن الرسالة الأساسية التي لقنها له المعلم، وكي لا يصبح كالنار في الهشيم التي تحصد كل الأخضر واليابس، انتبه كونفوشيوس لهذه المعضلة قبل أن تحدث، وعرف مدى أهمية إعداد الفرد تربويا بشكل يجعله يتمسك تمسكا شديدا بقيمه، رغم كل إغراءات المنصب، وأدرك أن التعليم وحده غير كاف في أن يجعل الفرد كاملا، ولكن يمكن للإنسان أن يصبح كاملا وحكيما عن طريق متابعة الدراسة في كل زمان ومكان، وأن لا يجعل مسألة التعلم رهينة بفترة زمنية محددة، ولا يتم التخلي عنها فور تولي المنصب.
ثانيا: آداب المتعلم
بعد ما تحققت هذه الشروط في صفوف التلاميذ، رأى كونفوشيوس أنه لكي تتم عملية التعليم والتثقيف على أكمل وجه، يجب أن يلتزم التلميذ بآداب المتعلم أو آداب تلقي العلم، الغاية من التعلم حسب كونفوشيوس هي أن يكتسب المتعلم الخُلق القَويم...، ولكي يكون أهلاَ لهذا الخُلق، لابد أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه الآخرين، يقول كونفوشيوس: ((إن الرجلَ النبيلَ لا يريد أن تكون بطنه مملوءة، ولا يهتم أن يعيش في منزلٍ مريح، الرجل النبيل هو من يرافق من يملكون الطريق الصحيح لكي يكون على صواب في كل خطوة يخطوها، مثل هذا الرجل يمكن أن يوصف بأنه متلهف للتعلم).
هكذا أكد كونفوشيوس أن الرجل النبيل لا يهتم بمظاهر الحياة المادية، على الرغم من كونه يشق طريق العلم في سبيل تولي المنصب، غير أن غايته من توليه لهذا المنصب مبنية على نية الإصلاح لا على نية المصلحة الشخص. أما إذا لم يتمكن من الحصول على ذلك المنصب، رغم ما بلغه من الدرجات العالية في العلم، فهذا لا يزعجه أبدا؛ لأنه يعلم يقينا أنه يحمل غايته في ذاته، ولا يستمدها من أي منصبٍ كان.
إن كل ما على الرجل النبيل أن يهتم به ويقدسه هو القيم الأخلاقية الإنسانية، غير أن على الرغم من كون كونفوشيوس قد أعطى أهمية أقل للماديات، إلا أنه لم يرفع شعار الزهد والتصوف. إن ما كان يهدف إليه من وراء ذلك هو التقليل من حب الناس وتعلقهم الشديد بالمادة التي تزيح عنهم إنسانيتهم، مهملين بذلك الرغبة في الإصلاح والتطور.
صحيح أن الغنى والثروة من الأشياء التي يتمناها الإنسان، والفقر والمرض من الأشياء التي يكرهها، ولكن إذا لم يكن للإنسان ذلك الضابط الأخلاقي الذي يمنحه نوعا من التوازن في احتياجاته وسلوكياته، فإنه سيسعى إلى اكتساب هذه الماديات بأي طريقة كانت أخلاقية أو غير أخلاقية، وبالتالي ستضيع الفطرة الإنسانية، ويصبح هدف الإنسان الوحيد هو الحصول على المادة، ومثل هذا الإنسان غير قاد على الإصلاح ولا يستطيع حل أبسط مشكلة في المجتمع.
لعل ما كان سائدا في المجتمع الصيني القديم هو ما دفع كونفوشيوس إلى التطرق لهذا القول، فقد رأى صراعات عنيفة على السلطة، وأخرى أشدة وطأة من أجل الحصول على المال، وصراعات أخرى قد تكون داخل الأسرة الواحدة، الأمر الذي يدفع الأخ أن يقتل أخيه في سبيل الحصول على المنفعة، كل هذه الأوضاع المزرية ربما قد جعلت من كونفوشيوس أن يقف وقفة متأسّفٍ قائِلا: (ليس من السهل الحصول على الطالب الذي يستمر في الدراسة لثلاث سنوات دون أن يفكر في الراتب). كما تعد فضيلة التواضع وعدم التكبر من أهم الآداب للمتعلمين داخل المدرسة الكونفوشيوسية؛ فالغرور قد يؤدي بالفرد إلى تدمير نفسه والبقاء في ظلام الجهل طَوال حياته. أما التواضع، فيمنح للفرد المزيد من سماحة الخُلق والرغبة الدائمة في طلب النصيحة وتلقي العلم.
ومن هذه الآداب ظهرت أهمية كونفوشيوس كمعلم، وأهمية مدرسته كصانعة للفرد ذي الخلق القَويم والحافظة لفطرته السليمة، والتي توفر للفرد البيئة الاجتماعية الحيوية لاكتساب القيم الأخلاقية الانسانية التي قد تؤثر في الأبعاد المجتمعية السياسية منها، وتصبح أبعادا سياسية صالحة يحكمها حاكم كل ما يهمه الإصلاح.
ثالثا: المعلم المثالي
من الأمور الضرورية لنجاح مشروع كونفوشيوس التربوي أن يكون للتلاميذ معلم تتوفر فيه مجموعة من الخصال التي تؤهله لكي يلعب هذا الدور الكبير. إن أول ما على المعلم القيام به -وهو في طور بناء شخصيات عديدة من تلامذته- أن يقوم ببناء علاقة بينه وبين تلامذته على قدر كبير من القرابة المبنية على الانسجام والتوازن، حتى لا يشعر التلاميذ بالخوف والرهبة منه، وهذا من شأنه أن يسهم في إخراج كل طاقاتهم الذهنية. ويجب أن يكون هذا المعلم يتمتع بالأخلاق الفاضلة، فهو كالأب وسط الأسرة، إذا صَلَحَ صُلِحَت وإذا فَسَدَ فُسِدَت، وكالحاكم داخل الدولة إذا اهتم أزهرت وإذا أهمل انحطت.
ومن هنا يمكن القول إن علاقة الأستاذ بتلامذته هي علاقة مقدسة، فهو بالنسبة إليهم القدوة والنموذج، يتعامل معهم بسهولة وبساطة ويُحفزهم نحو الصواب.
إن المعلم المثالي هو الذي لا يتوقف على لهفة طلب العلم دائما يسعى إلى طلب المزيد من المعرفة، وقد أكد كونفوشيوس أن عمليتي التعليم والتعلم تحفز بعضها البعض؛ فالتدريس نصف التعلم، والمعلم هو تلميذ غير مكتفٍ بمعرفته الخاصة ويطمح في المزيد، ويسعى للقضاء بمعرفته على العادات السيئة التي اكتسبها تلامذته من بيئتهم، ويتدرج في تقديم المعلومات حسب طاقاتهم العقلية وأعمارهم، ويفتح لهم الطريق دون أن يجبرهم على السير، فإذا توفرت فيه كل هذه الشروط حينها سنسمي هذا الرجل بالمعلم الجيد.
يبدو أن كونفوشيوس كان يصف نفسه عندما تحدث عن صفات المعلم المثالي، فبشهادة تلامذته أنه كان غاية في التواضع، ورائعا في إيصال المعلومة إلى أذهانهم، ولم يبالغ يوما في إنجازاته الحضارية، الأمر الذي دفع تلميذه "منشيوسي" للقول: (منذ أن وجدت الكائنات البشرية، لم يوجد شخص على سطح الأرض يضاهي عظمة كونفوشيوس).
رابعا: منهج كونفوشيوس في التربية والتعليم
بعد أن حدد كونفوشيوس الغاية من التربية والتعليم، أعاد النظر في المنهج القديم فوجده منهجا عقيما، وكان هو السبب في كل الفساد والفوضى القائمة؛ فقد انتقد كونفوشيوس هذا المنهج الذي كان يُعلم الناس حفظ التراث دون الفهم، والخضوع والطاعة العمياء للسلطة العليا. وقف كونفوشيوس على حقيقة مفادها أن العملية التعليمية لا يمكن أن تأتي بنتائج حسنة إلا بمنهج جديد، لذلك وضع منهجا جديدا يهدف إلى تحقيق الكثير من الأشياء، على رأسها إبراز القيم الاجتماعية في شعور الفرد، بالإضافة إلى تحفيز المواهب الفردية للنمو؛ وذلك وفقا لأربع خطوات منهجية أساسية في منهجه التربوي:
1. الحوار القائم على الخطاب العقلي
إن ترويض الذهن وتدريبه على القيام بوظيفته على أكمل وجه من أهم الأمور التي ركز عليها كونفوشيوس في منهجه التربوي، فوجد أن من أفضل العمليات التي تحفز العقل على القيام بعمليتي التفكير والتأمل هي الحوار، تلك الطريقة التي على الرغم من بطء حركتها إلا أنها تعمل بشكل فعال على تربية أذهان التلاميذ، وتساعدهم على التعبير وإخراج ما يجول في خواطرهم من آراء وأفكار، كما أن الحوار يدعوهم للبحث والمعرفة من أجل تقوية وتعزيز مواقفهم والدفاع عن رهاناتهم في المناظرات والجدالات، وينمي لديهم حب الاستطلاع واكتشاف المجهول، ويمدهم بفن طرح السؤال...، وهكذا لا يكون الجو داخل الفصل الدراسي يعتمد على فقط على المعلم، بل كل من حظر فهو مشارك في الحوار والنقاش
2. الحوار والفروق الفردية
بعد أن لاحظ كونفوشيوس أن حلقاته التعليمية تظم مجموعة من طبقات المجتمع المختلفة من حيث الفروق الاجتماعية وظروف النشأة والقدرات الذهنية، فقد استطاع بمنهجه هذا أن يتجاوز مشكل التعامل مع هذه الفروقات الفردية، حيث أتاح له كمعلم إمكانية التعامل مع تلميذ بالمراعاة لمهاراته الخاصة وقوته الذهنية؛ وذلك بإخفاء مبدأ المساواة قليلا ليحل محله الاختلافات الجسمية للأفراد...، إن فكرته في التعامل في عملية التربية والتعليم بطرائق مختلفة حسب قدرات كل تلميذ تؤيد فكرة رفضه للتعليم التقليدي الذي يسعى إلى جعل كل الطلاب نُسخا متشابهة. إن هدف كونفوشيوس من منهجه التربوي أن يخلق من تلامذته رجالا قادرين ومؤهلين على تولي شؤون البلاد مهما كان ظروفهم الاجتماعية والجسمانية، فقد كانت سياسته التربوية تستهدف أكبر عدد من الطبائع المختلفة للشباب في حجرة الدرس؛ فمنهم المتهور ومنهم البطيء والمندفع والمتكاسل، ولذلك كان من المهم والضروري جدا استخدامه لمنهج الحوار لقراءة هذه الفروقات بين التلاميذ من أجل مراعاتها. ولعل ما يحققه مبدأ الحوار أيضا داخل نسقه التربوي الجديد أنه يشكل نوعا من العلاقة بين المعلم والتلميذ مختلفة عن تلك العلاقة التقليدية التي كانت مبنية على الخوف والرهبة.
3. دور العقل في استقصاء الأشياء
احتل العقل ومَلَكَة التأمل أهمية كبيرة عند كونفوشيوس؛ وذلك في إطار تربية ملكة الفرد المختلفة حتى تتحقق غاية التربية، ويقصد بالتربية العقلية أن يعتاد الفرد على تعقل الأشياء المختلفة من حوله حتى تتوفر له القدرة على الاتصال بالعالم الخارجي، وتكون له معرفة صحيحة وصادقة به؛ وذلك لكي يدرك جوهر تلك الأشياء، ولا يسمح بفكرة غير واضحة أن تتسلل إلى عقله، فالمتعلم يجب أن يفكر ويتأمل حتى تتم عملية التعلم، فالعلم ليس عملية سهلة. إنه يتطلب أكثر من مجرد قراءة وجمع أكبر كمية من المعلومات، فهو يتطلب الملاحظة والتأمل، وأن يمارس الطالب فعل التفكير فيما يتعلمه من معارف.
4. تربية الحواس
أكد كونفوشيوس على ضرورة القيام بتدريب الحواس على نحو واسع، حتى تصبح مؤهلة للمشاركة في إحراز المعرفة؛ فالحواس هي أبرز أبسط وسائلنا لإدراك ما يحيط بنا من الأشياء في العالم الخارجي، ولذلك يجب التعامل مع كل حاسة من حواس الإنسان على أن لها دورا إيجابيا يجب أن تقوم به على أكل وجه لتكتمل صورةَ حقيقةَ الأشياء المادية المحسوسة داخل الذهن. إن الحقيقة تكمن في الكثير من المعارف، والمعرفة الحقة تكمن في قدرة الإنسان على أن يميز بين خبراته الحسية، منها السمعية والبصرية وغيرها...، واختيار ما هو جيد في هذه الخبرات والالتزام به، ومعرفة ما هو فاسد واجتنابه، هذه هي المعرفة الحقة التي هي القاعدة الأساس للحقيقة، أو الخطوة الأولى التي عليها يُبنى اللاريب، ولذلك دعا كونفوشيوس تلامذته أن يستخدموا حواسهم على النحو المطلوب والوجه المكمول، وأن يكونوا حريصين على جعلها بعيدة كل البعد عن كل المؤثرات التي يمكن أن تعطلها أو تشوش عنها؛ فالفرد الذي يتصف بالحكمة – حسب كونفوشيوس- لا يخضع لهذه المؤثرات (كالخمر والسُكر وكل ما يهيب العقل....) التي قد تعيق رؤية الحقيقة وتلقي بالإنسان إلى الوقوع في الخطأ
خامسا: التراث بوصفه نقطة ارتكاز
على الرغم مما طالب به كونفوشيوس من إبداع وتجديد داخل منظومته التعليمية، إلا أنه ينكر وجود نقطة ارتكاز ثابتة تكون هي النواة، أو الهيولى التي بها يتكون عَرَضُ كل الإبداعات الجديدة، وجَعل من التراث القديم مادة أولى للإنتاجات الفكرية، بعد أن كان التراث قبل كونفوشيوس هو العنصر الوحيد للتعلم حتى إن تحول إلى كتب مقدسة لا تُمس ولا تُناقش، جاء كونفوشيوس ليُسقط عنها هذه القداسة، وجَعلها مادة مرنة بين أيدي تلاميذه، واتخذها نقطة البدء في حواره معهم، وآلة للتأمل والنظر العقلي. كان كونفوشيوس شديد الحب بالتراث الصيني القديم، ليس ذلك من حيث تقبله للتراث كما هو واعتباره مقدسا وغارقا في الدغمائية، بل من حيث كونه أرضية خصبة للعقل وممارسة فعل التعقل الذي يَستخرج الصالح ويدفع الطالح، وأيضا من حيث كونه يُستخدم كمرآة التي تعكس لنا الماضي بأخطائه وتَمُدَّنا برؤية الحاضر والمستقبل. وهذا لا يعني أبدا أن كونفوشيوس كان مجردَ ناقلٍ ومُقَلِّد، بل كان مبدعٌ ولم يقبل التراث كما هو، ودعا إلى ضرورة نفض الغبار عنه، ووضعه تحت مجهر الإبداع والتجديد، كما دعا إلى الحفاظ على الصالح فيه الذي يكمن في الفنون الخمسة التي حث كونفوشيوس على ضرورة حفظها، وهي: الطقوس، والموسيقى، والرماية، وسباق العربات، والتاريخ، والرياضة، وهي كلها من الموضوعات التي رأى فيها كونفوشيوس قيمة عملية عظيمة في تربية النفس وتهذيبها. لم يكن هدف كونفوشيوس التربوي مجرد بناء مدرسة تتناقض مع ما هو قائم، بل القضاء على الفساد الأخلاقي؛ وذلك من خلال صنع نوع معين من النظام الذي لا يأتي إلا بموجب غرس جملة من النواميس في عقول التلاميذ.
إذا كانت التربية وسيلة بارزة في تحقيق أنماط المجتمع المثالي، فإننا إذا وضعنا أفكار كونفوشيوس التعليمية تحت مِجهر التحليل يمكننا القول حينها أن نسق كونفوشيوس في التربية هو أوسع أبوابِ مدخله لأفكاره السياسية.
3- السياسة عند كونفيشيوس وشروط الحكم المثالي: الملك الفيلسوف / الوزير والشعب
إن الحديث عن السياسة عند كونفيشيوس هو حديث مقرونة أطرافه بالأخلاق والتربية بشكل يصعب التمييز بين ما هو أخلاقي تربوي وبين ما هو سياسي؛ فالحديث هنا عن الاخلاق والتربية هو الحديث عن السياسية، والحديث عن السياسية هو نفسه الحديث عن الأخلاق والتربية، ولعل ذلك يرجع إلى سبب رئيس: هو أن السياسة عند كونفيشيوس مبنية على الأخلاق، والأخلاق عنده مبنية على التربية، حيث لا يمكن لنا أن نمارس السياسة ونصلح بها المجتمع إذ لم نكن أخلاقيين، ولا يمكن أن نكون أخلاقيين؛ إذ لم نستمد هذه الأخلاق من التربية، كونفوشيوس لا يفصل بين هذه المجالات الثلاثة، فهي هذا: وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال عنده: هل للحكومة دور ضروري عند كونفيشيوس؟ وإذا كانت لها هذه الضرورية فمن أين تستمدها؟
للحكومة دور ضروري عند كونفيشيوس، وضرورتها هذه تستمدها من ضرورة اجتماع الجنس البشري الذي لا يمكن أن يتم بشكل مثالي إلا بوجود سلطة عليا تنظمه؛ فالذات الإنسانية هي كتلة من الرغبات، ولو أتيحت للإنسان الحرية المطلقة بدون وجود سلطة عليا تنظم هذه الرغبات، سيؤدي ذلك الى وضعٍ غابي فوضوي...
فمثلا الأسرة المستقرة هي أسرة منظمة، حيث يقوم نظامها هذا على طاعة الأبناء للآباء، وطاعة الزوجة للزوج، فإذا ذهب هذا النوع من الطاعة ذهب النظام وحلت مكانه الفوضى؛ فالأسرة باعتبارها - حسب كونفوشيوس- صورة مصغرة للمجتمع، فلما كان القضاء على الفوضى القائمة في المجتمع ضروريا، أصبح وجود الحكم ضروريا أيضا لضمان المزيد من الاستقرار، وهنا تكمن ضرورة الحكومة، وأصبح مفهوم الطاعة الذي أضفاه كونفوشيوس على الأسرة لم يعد فضيلة أخلاقية داخل الاسرة وحسب، بل أصبح يشمل كافة العلاقات الإنسانية؛ فإذا كان فضيلة الطاعة الأخلاقية أساس العلاقة المثالية بين الأخ الاصغر والأكبر، وبين الأبناء كافة والآباء، وبين الزوجة والزوج، فإن كونفوشيوس عمل على توسيع هذه الفضيلة لتصبح شاملة لكل العلاقات الإنسانية، سواء داخل الأسرة أو المجتمع ككل.
وهكذا، فإن فضيلة الطاعة لا تقف عند حد معين، بل تَسري في كافة العلاقات الإنسانية داخل التجمع البشري، بدءا من علاقة الابن بوالديه إلى علاقته بالحاكم، فاعتبارنا أن الأسرة صورة مصغرة للمجتمع، فإذا نجحت فضيلة الطاعة في تحقيق الاستقرار داخل الأسرة، فهذا معناه أنها فعالة لِأَن تحقق الاستقرار داخل المجتمع البشري كافة. ولكن، لكي تكون فضيلة الطاعة فعالة في أن تحقق الاستقرار داخل الأسرة، وتنظم تلك العلاقة الكائنة بين الآباء والأبناء، ولكي تحقق النظام داخل المجتمع أيضا يجب أن تكون علاقة الشعب مع الحاكم مبنية على فضيلة الطاعة، ويجب على الحاكم أن يحب هذا الشعب كما يحب الآباء أبناءهم، ويقف موقف الشفقة على هذا الشعب كما يشفق الآباء على الأبناء، وإلا ستنقلب الطاعة من كونها فضيلة إلى رذيلة.
إن الشعب عدد كبير من المواطنين ذَوي الآراء المختلفة، واختلاف هذه الآراء هي أحد أهم أسباب اندلاع الفوضى داخل المجتمع، ولاجتناب هذه الفوضى يجب أن تكون الولاية للحاكم الواحد الذي له أن ينظم كل آراء الشعب المختلفة، ويصوغها في رأي واحد يخدم المصلحة العامة للشعب، ويكون في قالبِ الديمقراطية؛ أو بالأحرى يجوز لنا القول إن طاعة الشعب للحاكم هي طاعة تأخذ مشروعيتها من ديمقراطية الحاكم، فإذا كان الحاكم همه هو الاستقرار وخدمة المصلحة العامة للشعب والقضاء على الفوضى، ويعطف على شعبه كما يعطف الأب على الابن، فهنا يجب طاعته من قِبل شعبه كما وُجب على الأبناء طاعة آبائهم، لكي تكون فضيلة الطاعة الأخلاقية هي أحد أهم الخيوط العريضة للحكم المثالي الضامن للاستقرار، يرى كونفوشيوس أن للحكم المثالي شروط ضرورية، ولابد منها لكي تحافظ الطاعة على كونها فضيلة دون أن تكون رذيلة، وهي:
أولا: شروط الحكم المثالي: (الملك الفيلسوف)
إن الرجل الذي يمكن أن يكسب ثقة العامة، ويتخذونه حاكمَا لهم، ويتمكن من الحصول على سلطة عليا، هو الذي يتمتع بالأساس بصفات أخلاقية متميزة تجعل له الأولوية على سائر أفراد المجتمع. إذا تمكن الإنسان من إصلاح نفسه -وهي أكثر الأمور صعوبة- فما الصعاب التي ستواجه هذا الشخص في أن يشارك في الحكم!
بمعنى إذا تمكن الإنسان من تهذيب نفسه وتحقيق أعلى درجات السمو الأخلاقي في حياته، فإنه لن يضمن استمرار سلطته وقيادة شعبه وحسب، بل ستستمر سلطته في كل الاتجاهات، يقول كونفوشيوس في هذا الصدد: (اجعل مبدأك يقودك لأن تفعل أفضل ما في وسعك للآخرين، وعندئذ ستكون جديرا بالثقة، كن فاضلا في كل ما تقوله وتفعله ووجه نفسك تجاه الصواب عندئذ ستغني من شأن إنسانيتك ومن شأن الفضيلة).
لقد سعى كونفوشيوس لتحديد أسمى القيم الإنسانية الأخلاقية، كما أنه أكد على وجود ما سماه بواجبات الإنسان السبعة، وهي: أن يكون الإنسان عطوفا وهو أب، أن يكون مطيعا وهو ابن، أن يكون رفيقا وهو أخ أكبر، وأن يكون محتَرَما لغيره وهو أخ أصغر، وأن يكون وفيا وهو زوج، وأن يكون خيرا وهو حاكما، وأن يتصرف بولاء وهو وزيرا.
فإذا استطاع الفرد أن يكون حي الضمير، وجديرا بالثقة، ومحتَرَما، سوف يحقق تقدما رائعا دون عوائق حتى إذا كان في أرض البرابرة، وبهذا القول يؤكد كونفوشيوس أن الفضيلة هي أساس نجاح الحاكم، وأن تفاني الحاكم في رعاية شعبه يعود إلى حسن خلقه وفضيلته؛ إذ يجب على الحاكم فيما يرى كونفوشيوس أن يتصف بكل ما هو أخلاقي فاضل، من ولاءٍ ووفاءٍ بالعهد وذكاء وذي عزم وعدم تغليب رغبتِهِ على حرز مصلحته الخاصة، وأن يكون ذا إيثارٍ وتضحية.
لعل هذه المسألة المرتبطة بخصائص الحاكم المثالي أبرز ما يوضح لنا مدى ارتباط الجانب السياسي لدى كونفوشيوس بالجانب الأخلاقي (كما قد سبق لنا التوضيح في الفصل السابق)، يقول كونفوشيوس: (إنه من الغباء أن يفكر المرء في الحكم دون أن يكون قد أحرز الفضائل الأخلاقية؛ لأنه سيكون كذلك الشخص الذي يتسلق الشجرة ليصطاد السمكة).
كما أكد كونفوشيوس أيضا في مشروعه الإصلاحي أن على الفرد ألا يتوقف عن التعلم حتى لو وصل إلى السلطة وأصبح حاكما، بل يجب عليه أن يُداوم تثقيف ذاته، وإصلاح نفسه باستمرار، وعليه أن يراقب سلوكه، ويدرك هَفَوَاتِهِ قبل أن تدرك العامة أخطاءَهُ، فإذا أَصلح الحاكم نفسه أصلحه الرعيةَ لا محالة. إن أخطاء الرجلَ النبيلَ تشبه كسوف الشمس وخسوف القمر، فإنه عندما يُخطئ العالم كله يرى خطأه، وعندما يفعل الصواب يرى العالم كله صوابه.
رفض كونفوشيوس مبدأ وراثة العرش، مؤكدا أن مجرد الإرث لا يمنح للشعب حاكما مؤهلا؛ فالأهلية على الورق ما هي إلا على الورق، ولا تعني أبدا الانتماء لروح الإصلاح، بل يجب اختيار الحاكم على أساس أنه مؤهلا لتولي الحكم، لا على أساس كونه ولي العهد، وبذلك فإن إدخال مبدأ الوراثة يعني القبول بوراثة الأخطاء السالفة وتقديسها، وهذا المبدأ لا يصلح للإصلاح والتغيير، ولتجنب هذا المبدأ وضع كونفوشيوس شرط اختيار الحاكم وفقا لكفاءاته وأهليته والتزامه بالنقاط التسع التي وضعها كونفوشيوس، حتى يحقق الحلم الكبير في وجود حكومة مثالية، وهي:
1- تنظيم سلوكه الشخصي
2- احترامه للرجال الموهوبين
3- اظهاره لعاطفته تجاه شعبه وأسرته
4- إظهار الاحترام لوزراء الدولة الجادين
5- إظهار نفسه كأب للشعب
6- تشجيع العلوم
7- المشاركة في اهتمامات موظفي الدولة ومحاولة الإنصات لهم وإسعادهم
8- اظهار المودة للغرباء
9- الاهتمام بسعادة أمراء الإمبراطورية
ثانيا: الوزير ودورَه في السلطة
إن المكانة التي أعطاها كونفوشيوس لمفهوم الوزير لم تجعل منه مجرد عنصر من العناصر المكملة للنسق الحكومي، وإنما هو الحل البديل لأزمة النظام القائم في عصره، وهو الرجل الثاني بعد الحاكم، الذي يحمل على عاتقه مهمة تولي شؤون الدولة ودفعَها للإصلاح، حتى إذا كان للدولة حاكم فاسد، فإنها ستستمر في الطريق الصحيح بفضل وجود الوزير الصالح، والعكس أيضا إذا كان للدولة حاكم صالح، فإنها ستسير إلى الهاوية بموجب وجود وزير فاسد.
ومن ثم، فإن الوزير هو الواسط بين الحاكم والشعب، لذلك كان من الأمور الملحة والضرورية المهمة وجود وزراء صالحين وفاسدين.
إن من الخصائص التي يمكن أن تتوفر في الوزير الصالح، والتي بموجبها سيتحقق النفع للدولة هي نفس الخصائص التي حث عنها نسق كونفوشيوس التربوي؛ إذ هي نفسها التي حث عنها كونفوشيوس تلامذتها ليصبحوا رجالا نُبَلاء. وهنا تكمن غاية غرسه لمبدأ الفضيلة في عقول تلامذته؛ إذ يعتبر أن الحكم لابد أن يكون في أيدي هؤلاء الممارسين للفضيلة باستمرار حتى تنتشر ممارستها داخل المجتمع كافة، وأن تكون علاقة الوزير بالحاكم مبنية على الطاعة الأخلاقية الفضيلة التي يقف عليها نسق كونفوشيوس السياسي التربوي، وأن لا يخدعه حتى لا يكون واسط فاسد بين الشعب وحاكمه، إلا أن هذه الطاعة لا ينبغي أن تكون طاعة عمياء، حتى لا تتحول كما ذكرنا سابقا من كونها فضيلة وتصبح رذيلة، فإذا رأى الوزير أن الحاكم إنزاح عن الصواب، فعليه أن يعمل جاهدا على استمرار الوطن في طريقه الصحيح، كما عليه أن يعمل على استعادة خطوات الحاكم إلى طريق الحق؛ فالحكومة الصالحة تنمو سريعَا بوجود وزراء صالحين كما ينمو النبات في الأرض الصالحة. هنا يكمن دور الوزير في السلطة.
ثالثا: الشعب مصدر السلطة
إن اعتبار الشعب كمصدر سلطة عند كونفيشيوس لم يكن بالمعنى المعاصر المستخدم في عصرنا الحديث، وإنما مفهوم آخر أكثر تميزا، فإذا كان مشروع كونفوشيوس التربوي يهدف إلى تعميم التعليم على كافة الشعب، واختيار الموظفين الموفين من بين صفوف التلاميذ الذين أحرزوا على درجات مهمة داخل المنظومة التربوية، وخروج الوزراء من صفوة هؤلاء الموظفين، فهذا معناه أن الشعب هو مصدر السلطة، الوزراء الذين سيتم اختيارهم لتولي هذا المنصب هم في الأصل من طبقة الموظفين، والتي هي في المقام الأول من عامة الشعب.
لقد اتجه نسق كونفوشيوس التربوي نحو تربية كافة أفراد المجتمع دون أي تفرقة، وكذلك من أجل أن ترقى العامة إلى معرفة ما لها من حقوق حتى لا يُخفى عليها ظلم الحاكم إذا أظلم، وأن تدرك ما عليها من واجبات حتى لا يخفى عليها صواب الحاكم إذا أصاب.
إن الشعب ذو مكانة عظيمة جدا، بل أكبر من مكانة الحاكم ومن أهمية الأرض بإنتاجاتها التي لا تقاس...، فالشعب هو الهيولى التي بموجبها تشكلت كل أعراض المجتمع، وإن إجماع عامة الشعب هو الموجب الذي قد يعطي للحاكم السلطة في أن يجلس على كرسي العرش، وهو الموجب الذي قد يزيل عنه هذه السلطة...، ليعود مجرد فرد من المجتمع كما كان سابقا.
خاتمة
في الاعتقاد القديم للحضارة الصينية القديمة كان يُنظر للحاكم على أساس كونه ابن السماء، وكان يُنظر لسلطته على أنها هبة من السماء لا أحد يستطيع أن يسلبها منه وإذ كان ظالما، وكان هذا الاعتقاد تتخذه الأسرة الحاكمة ذريعة لها لضمان استمرارية حكمها الوراثي، ولِثاما تخفي من ورائه استبدادها للشعب. وعلى النقيض من ذلك سعى كونفوشيوس على دحض هذه النظرة، وعمل على إزاحة مفهوم السماء من تعاليمه، ولا نقصد بذلك أنه ينكر وجودها أو وجود الجانب الروحي (الديني) في حياة الإنسان، وإنما عمل في فلسفته السياسية على تأسيس نسق سياسي أخلاقي يقوم على الفضيلة، ومجرد من كل عنصر ميتافيزيقي.
هكذا حتى أصبحت الصين اليوم واحدة من الدول الكبرى في العالم المعاصر، وهي اليوم مرشحة صناعيًا واقتصاديًا لأن تغدو القوة العالمية الأكبر على هذين الصعيدين خلال العقود القليلة القادمة، ولعل الفكر الكونفيشوسي كان خطوة مهمة من الخطوات التي خطاها هذا المجتمع، ليصبح في هذه الصورة التي نراها اليوم.
المراجع:
كتاب: فلسفة الأخلاق والسياسة: المدينة الفاضلة عند كونفيشيوس /هالة أبو الفتوح أحمد.