الفكر المقاصدي عند محمد رشيد رضا
فئة : قراءات في كتب
كتاب "الفكر المقاصدي عند محمد رشيد رضا" لصاحبته الدكتورة منوبة برهاني ظهرت طبعته الأولى خلال سنة 2010 عن دار ابن حزم ببيروت- لبنان. وصاحبة هذا الكتاب أستاذة جزائرية، وقد قدّمته في الأصل لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، تخصص الفقه والأصول، ضمن كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية بجامعة باتنة في الجزائر. وقد قدم هذا الكتاب الأستاذ الدكتور مسعود بن موسى فلوسي بوصفه أستاذا مشرفا على هذا البحث.
يشتمل هذا الكتاب على 452 صفحة وتتوزّع مباحثه على ثلاثة أبواب:
الباب 1: التعريف برشيد رضا وبعلم المقاصد
ويحتوي هذا الباب على ثلاثة فصول خصص الفصل الأول لحياة رشيد رضا وآثاره، واتسم بطابع تاريخي توثيقي تقليدي يتطرق إلى نسب رضا ونشأته وطلبه للعلم ونشاطه في الإصلاح وشيوخه وآثاره في التفسير وعلوم القرآن والفقه والتاريخ وأصول الدين وفي الإصلاح ثم يختم الفصل بثناء العلماء المعاصرين له والمحدثين عليه، والواضح أن الصبغة التمجيدية تطبع هذه المباحث لأنها تخلو من أية مواقف ناقدة له فهل أحرز رضا إعجاب الجميع؟ ألم يتهم بالتراجع عن الإرث الإصلاحي الجريء لأستاذه محمد عبده بعد موته؟
وفي الفصل الثاني الموسوم بـ "موقع رشيد رضا في مسار الفكر المقاصدي" خاضت الباحثة في ما سمته مدخلا لفقه المقاصد عرّفت فيه بالمقاصد لغة واصطلاحا وسعت إلى جمع عدة تعريفات لها صاغها علماء قدامى ومحدثون لتخلص إلى تعريف رشيد رضا لها بقوله: "هي تحري العدل المطلق العام والمساواة في الحقوق والشهادات والأحكام وتقرير المصالح ودرء المفاسد ومراعاة العرف بشرطه ودرء الحدود بالشبهات وكون الضرورات تبيح المحظورات"1، واستنتجت الباحثة بعد استعراض عدة أقوال لرضا حول المقاصد أنه يستخدم عبارات المنافع والمصالح والغايات والمواعظ والحكم والمقاصد بمعنى واحد، وأن دلالة المقاصد عنده هي المعاني التي أرادها الله لعباده في معاشهم ومعادهم لكن الباحثة لم تسع إلى بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين تعريف رضا للمقاصد وتعريفات القدامى والمحدثين لها.
بينت إثر ذلك أهمية المقاصد متوقفة عند نقاط معينة لهذه الأهمية تتمثل في:
1- التأكيد على كمال الشريعة وأحكامها
2- زيادة الإيمان وترسيخه في النفوس
3- معرفة دلالات النصوص وفهمها
4- إزالة الاختلاف والتقليل من حدته
انتقلت صاحبة الكتاب إلى مطلب ثان في هذا الفصل كان مداره على نشأة المقاصد وتطورها فقسمته إلى جملة من المباحث أولها: المقاصد في القرآن الكريم، وثانيها المقاصد في السنة النبوية وثالثها المقاصد في عصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين.
من الجلي أن الباحثة تقتفي أثر كثير من الدارسين الذين سعوا إلى تأصيل مصطلحات كثيرة في الفكر الإسلامي ونسبتها إلى عصر السلف الصالح لترسخ مشروعيتها الدينية ومع ذلك تقر الباحثة بأن المقاصد مارسها التابعون دون ذكر لها وأن التسمية لم تعرف إلا على يد الحكيم الترمذي الذي وضع كتابا بعنوان "الصلاة ومقاصدها". وهذا الكتاب حَقَّقه الأستاذ حسني نصر زيدان، ونشر بمصر بدار الكتاب العربي.
نظرت بعد ذلك في تطور المقاصد حتى الشيخ رشيد رضا متوقفة عند الجويني والغزالي والرازي والآمدي والعز بن عبد السلام والقرافي وابن تيمية وغيرهم.
تطرقت في الفصل الثالث إلى روافد الفكر المقاصدي عند رشيد رضا مبينة تأثره بأعلام المقاصد القدامى وفي مقدمتهم أبو إسحاق الشاطبي، وقد أبدى رضا إعجابه بكتابي الشاطبي "الموافقات" و"الاعتصام" قائلا: "هما الكتابان اللّذان لم يسبق لمثلهما سابق، ولم يلحق غباره فيهما لاحق"2.
يتّضح من خلال هذا القول ومن خلال أقوال أخرى أنّ ما استرعى انتباه رشيد رضا في هذين الكتابين بشكل خاص نزعتهما التجديدية والإصلاحية يقول: "لولا أنّ هذا الكتاب –الاعتصام- ألّف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، وكان المصنف بهذا الكتاب وبـــصنوه كتاب "الموافقات" الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضا. من أعظم المجدّدين في الإسلام: فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمان بن خلدون: كل منهما جاء بما لم يُسبق إلى مثله. ولم تنتفع الأمّة - كما كان يجب بعلمه"3.
ولعلّ أحد المحاور الأساسية التي شدّت إليها رشيد رضا في كتاب "الاعتصام" بحثه الدائر على المصالح المرسلة والاستحسان باعتبارهما من أصول مذهبي مالك وأبي حنيفة. فإنّ من خلال هذه الأصلين يتجلّى اتساع الشرع لمصالح الناس لكل زمان ومكان في نظر رشيد رضا4.
وتأثر رشيد رضا إضافة إلى تأثره بالشاطبي بفكر ابن تيمية وإشاراته المقاصدية لذلك كثيرا ما كان يستند إلى كتبه وفتاواه للاستدلال على بناء الأحكام الشرعية على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد5. وكان ابن قيم الجوزية ممّن أثروا في فكر رشيد رضا المقاصدي. يؤكّد هذا ما قاله: "وقد رأيت بحثا نفيسا في هذا الموضوع للإمام الحافظ الفقيه ابن القيم في كتابه "أعلام الموقعين" أحببت أن أنشره في "المنار" ليعلم الناس أنّ ديننا دين مقاصد عالية ومصالح تقوم بها المنفعة لا دين ألفاظ تبتدع ثمّ تُتّبع"6.
لا شكّ أنّ رشيد رضا في تجديده الفكر المقاصدي لم يستند فحسب إلى سلط مرجعية قديمة لها باع في هذا المجال بل استند أيضا إلى أعلام معاصرين له في مقدّمتهم أستاذه محمّد عبده.
وهذا ما جعله يشيد بكفاءة هذا الأستاذ العلمية قائلا: "وأمّا العلوم الشرعية فقد كان فيها إماما مجتهدا... وناهيك بفهمه في القرآن ووقوفه على أصول الشريعة وحكمها وأسرارها وقوة حجته في إثبات عقائدها ودفع الشبهات عنها وتطبيق أحكامها على مصالح البشر"7. ويتجلى من خلال هذا القول تنويه صاحبه ببراعة محمّد عبده إن في مستوى الفهم النظري لحكم الشريعة وأسرارها وإن على صعيد التطبيق العملي للأحكام الشرعية على المصالح الإنسانية.
ولم يكن رشيد رضا - مع ذلك - عالة على أستاذه في اجتهاده المقاصدي بل سعى إلى التميز عنه. وهو ما برز خاصة بعد وفاة عبده. ويرى بعض الباحثين في هذا الصدد أن نقطة الخلاف بين الرجلين اهتمام عبده بكتاب "الموافقات" للشاطبي في مقابل اهتمام رشيد رضا بكتاب "الاعتصام" للشاطبي الذي يركّز في كتابه الأوّل على مقاصد الشريعة غير أنّه يعتني أساسا في الكتاب الثاني بمبحث الهوية الذاتية والخاصّة للمؤمن وضرورة التمايز عن المشركين وأهل الكتاب على حد سواء8.
ولا يعني هذا إهمال رشيد رضا فقه المصلحة فقد ظلّ "يذكر المصلحة في الاستدلال استنادا إلى آراء الفقيهين الحنبليين ابن تيمية وابن قيّم الجوزية. وليس إلى آراء الشاطبي كما فعل شيخه محمّد عبده. والفرق واضح بين الطريقتين. فالشاطبي يعتبر المصلحة أصلا تشريعيا أو لنقل دليلا بين الأدلة الشرعية بينما يعتبرها فقهاء الحنابلة والمالكية القدامى دليلا فرعيا أو استثنائيا"9.
اهتمت الباحثة في الباب الثاني بالجانب النظري للمقاصد عند رشيد رضا، وقد تطرّقت في هذا السياق إلى مسألة المقاصد العامّة للتشريع الإسلامي عنده وحصرتها في خمسة مقاصد هي: العدل والمساواة وجلب المصالح ودرء المفاسد ومراعاة العرف. ودرء الحدود بالشبهات. ودوران المعاملات على اتباع الفضائل واجتناب الرذائل.
و ذهب رشيد رضا في مقصد العدل والمساواة إلى عدم وجود عدل مطلق ولا مساواة إلاّ في الإسلام. يقول: "وإنّما نصرّح بكلّ قوّة بأنّ العدل العام المطلق لم يوجد إلاّ في الإسلام"10. ويقول في موضع آخر: "أمّا المساواة فهي لم توجد على حقيقتها وإطلاقها وعمومها إلاّ في الإسلام كما تدلّ على ذلك النصوص والأعمال. وتشهد به تواريخ القرون والأجيال"11.
وأوضحت الكاتبة أنّها جمعت بين العدل والمساواة في هذا المقصد لأنّ العدل في اللّغة يعني التسوية. وحديث رشيد رضا عن العدل كان دائما مقرونا بالمساواة.
إنّ معرفة أهمية العدل والمساواة وعلاقتهما بالمقاصد جعلت الكاتبة تسوق بعضا من أقوال رشيد رضا إن في مستوى تعريفه للعدل وأنّه المقصود الأوّل للتشريع وإن على صعيد تأكيده على وجوب العدل والمساواة في الأحكام والأعمال.
وقد اقتصرت الكاتبة على عرض مواقف رشيد رضا ومجاراة نزعته التمجيدية ولم تكلّف نفسها اتخاذ أي موقف نقدي من آرائه التي لا تتطابق مع الواقع التاريخي في كثير من الأحيان. فعندما يعتبر رشيد رضا أنّ العدل المطلق والمساواة لا توجد إلاّ في الإسلام هل ينطبق هذا الرأي على حكم كثير من الخلفاء والأمراء الذين اتّسم حكمهم بالجور والاستبداد؟
ركّزت صاحبة الكتاب إثر ذلك على مقصد آخر من المقاصد العامّة للتشريع الإسلامي عند رشيد رضا هو مراعاة العرف. وتطرّقت إلى مفهوم العرف عنده وحجيته ومجالاته وعلاقته بالمقاصد. يقول رضا في هذا السياق: "فالأمور الدينية موقوفة على النص. وأمّا الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات وغيرها من المعاملات الدنيوية فالأصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع في تحليل حرام أو تحريم حلال"12.
ينحصر مجال العرف إذن في مجال المعاملات ولا دخل له بحقل العقائد والعبادات. وقدّم رشيد رضا أمثلة على مجالات العرف كمراعاة الكفاءة بين الزوجين والحقوق العامّة بينهما. وقد اعتبر أنّ "مسألة مراعاة الكفاءة بين الزوجين عرف معروف بين العرب. وغيرهم من الأمم ولا سيما الملوك والأمراء... والمدار في مسألة الكفاءة على العرف"13. ولم تكلّف الكاتبة نفسها مؤونة أيّ نقد لهذا الرأي ذلك أنّ مراعاة مبدأ الكفاءة يؤدي أحيانا إلى التعارض مع بعض القواعد التي يحث عليها الشرع فإنّ مراعاة الكفاءة في المال مثلا قد تؤدي إلى تغييب مقياس التقوى في اختيار الرجل شريكة حياته.
بحثت بعد ذلك في المقاصد الخاصة عند رضا وهي مقاصد العقائد والأخلاق ومقاصد العبادات والمعاملات والعقوبات ومقاصد الاجتماع والإصلاح.
وفي الباب الثالث الموسوم بالجانب التطبيقي للمقاصد –نظرية المصلحة عند رشيد رضا – خصصت الفصل الأول لجلب المصالح ودرء المفاسد باعتبارهما أساسا للتشريع وقد تضمن هذا الفصل مباحث نظرية تجاوزت الأربعين صفحة في حين لم تتعدّ الأمثلة التطبيقية العشر صفحات غير أنها بدت أكثر جرأة في هذه النماذج خاصة في مسألة تعدد الزوجات ذلك أنها نقدته واعتبرت مفاسده أعظم من مزاياه في العصر الحاضر لكنها مع ذلك لم تدع إلى منعه مطلقا وإنما صرحت أنه إن ثبت أن التعدد غير مضر بالفرد ولا بالمجتمع الإسلامي يمكن إقراره.
إن هذا الكتاب على أهميته يجدر مطالعته بعين فاحصة متيقظة لأنه في كثير من الأحيان لا يتجاوز تكرار المواقف المعروفة والمحافظة التي لا تصدم ما هو سائد لدى الباحثين التقليديين.
1 رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1420هـ / 1990م، 11/ 236
2 مجلة المنار، المجلّد 30، الجزء 10، ص 771
3 المرجع نفسه، المجلّد 17، الجزء 10، ص 745
4 المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
5 انظر منوبة برهاني، الفكر المقاصدي عند محمّد رشيد رضا، ط4، بيروت/ دار ابن حزم، 2010، ص 118
6 مجلة المنار، المجلد 5، الجزء 6، ص 210
7 مجلة المنار، المجلد 8، الجزء 14، ص 521
8 رضوان السيد، سياسات الإسلام، المعاصر، مراجعات ومتابعات، ط 1، بيروت، دار الكتاب العربي، 1997، ص 42
9 رضوان السيد: بحث ألقاه ضمن ملتقى التحديث والتجديد في عصر النهضة، انعقد في كلية الآداب بلبنان في الذكرى المائوية الأولى لتأسيس مجلة المنار: تحرير محمّد رضوان حسن، بيروت، المكتب العالمي للطباعة والنشر، 1998، ص 25
10 مجلة المنار: المجلّد 24، الجزء 4، ص 257
11 المرجع نفسه: المجلد 17، الجزء 11، ص 868
12 رشيد رضا: تفسير المنار، 6/ 201
13 المصدر نفسه، 2/ 325