الفكر المقلد

فئة :  مقالات

الفكر المقلد

الفكر المقلد

الفكر من سمته الانتشار، فهو ينشر تقليدا واتباعا، أو ينتشر إبداعا وتجديدا. فمن طبيعة الأفكار أنها تنتقل من أمة إلى أخرى ومن مجال إلى مجال آخر، ومن زمن قديم إلى زمن حديث فالفكر بطبيعته يتصف بالكونية والعالمية، كما يتصف بالامتداد عبر الزمن؛ فالفكر اليوناني حاضر بيننا اليوم بشكل من الأشكال، فرغم بعد المسافة الزمنية يمكن للقارئ اليوم أن يسترجع أفكار أفلاطون (427 ق.م / 347 ق.م) وأرسطو (384 ق.م / 322 ق.م)...ويستحضرها وفق سياقه الثقافي والاجتماعي ويستثمرها في تعزيز ملكة التفكير والنظر في حل مختلف قضايا وإشكالات واقعه الذي يعيشه. وبهذا المعنى، ففكر كل من أفلاطون وأرسطو، فكر متعدد ومتنوع من جهة الاسترجاع والقراءة، وفكر واحد من جهة النصوص والمتون التي تركها هؤلاء.

ليس هناك أيّ مشكلة ما دام الأمر يتعلق باستثمار استرجاع مختلف الأفكار والتصورات التي قال بها كل من أفلاطون وأرسطو. المشكلة تبدأ عندما يدخل البعض في دوامة تكرار المضامين والشروح دون إضافة ودون قدرة على الاستيعاب والتجاوز. ما يجري في التعاطي مع فكر كل أفلاطون وأرسطو يجري في التعاطي مع فكر فلاسفة آخرين في الثقافة الإسلامية أو الثقافة الغربية. هنا من يكرر مضامين فلسفة ديكارت (-1650م) وهناك من يكرر مضامين فلسفة سبينوزا (-1677م) وهناك من يكرر مضامين فلسفة هايدغر (-1976م)، وهناك من يكرر مضامين نصوص ميشال فوكو (-1984م)...إن شئنا أن نقيم وضع التعاطي مع الفلسفة في كثير من المنتديات والملتقيات العلمية في العالم العربي، فجزء كبير منها غارق في استرجاع مختلف تلك المضامين، وربط بعضها بالبعض الآخر، والتحيز لهذا المضمون على حساب مضمون آخر، والتعلق بهذا المتن على حساب متن آخر، فمن البديهي أن تجد جمهور المشاركين في ندوة ما أو مؤتمر ما من المؤتمرات التي اعتنت بقضية من قضايا الفلسفة، منقسمين من خلال مداخلاتهم بين من يكرر أفكار وطروحات نيتشه، وبين من يكرر طروحات وأفكار كانت...إلى درجة أن البعض لا يحتمل نقد أفكار ذلك الفيلسوف أو تلك المدرسة...المشكلة هنا لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما تتعلق بتجاهل مختلف السياقات المعرفية والزمانية والمكانية؛ فالعناية بمختلف المضامين أمر في غاية الأهمية...ولكن هل من المعقول أن نقبل عن ذلك، ونحن لا نراعي طبيعة الواقع والسياق والمحيط الثقافي والاجتماعي للعالم العربي؟ هل من المعقول أن نقوم بذلك، ونحن لا نستحضر السياق المعرفي والاجتماعي والثقافي الذي كتب فيه ديكارت أو سبينوزا أو نيتشه نصوصهم؟ ما هو الثابت والمتحول في مختلف تلك النصوص؟

لا نقصد هنا أن العالم العربي يخلو من الإبداع الفلسفي، وأنه يخلو من مختلف المبادرات الجادة ذات الوعي بأسئلة المحلي والكوني، بل نقصد مختلف الاتجاهات، وهي كثيرة مع الأسف تتعاطى مع التفكير الفلسفي بمنطق تكرار المضامين، وإسقاطها على سياقات مختلفة دون استيعابها واجتراح مفاهيم معاصرة تراعي مطلب ما هو محلي والوعي بما هو كوني.

في أواسط القرن العشرين انتشرت في العالم العربي الكثير من الكتب والكراسات، التي تختزل الفلسفة في الاتجاهات والمناهج ذات النزعة الماركسية، في قراءة التاريخ والتعطي مع قضايا الدين والدولة والمجتمع، إلى درجة صارت الفلسفة وأهلها داخل قبضة مفاهيم معا بد المادية الجدلية والصراع الطبلي ونفي النفي والبنية الفوقية والبنية التحتية...كان الفكر الفلسفي في العالم العربي يكرر مختلف مضامين الفلسفة الماركسية، سواء من جهة التبشير كأفق يتجه نحوه التاريخ، أو بنقاشها من جهة تفنيدها وتجاوزها إلى أفكار بديلة. صحيح أنه نقاش عالمي في تلك اللحظة بين المعادل المعرفي للمعسكر الشرقي المتمثل في الفكر الفلسفي الاشتراكي، والمعادل المعرفي للمعسكر الغربي المتمثل في الفكر الليبيرالي. والسؤال هنا هل ذوي الفلسفة خاضوا ذلك النقاش من زاوية الوعي والتحليل والاستيعاب والتجاوز، أم إنهم خاضوا تلك المرحلة بتكرار مختلف المضامين، الجواب نستشفه في العقد الأخير من القرن العشرين بعد انهيار المعسكر الشرقي. لقد اختفت مختلف الكتابات والكراسات التي كتبها كثير من المثقفين العرب في تلك المرحلة، منهم من هو محسوب على حقل الفلسفة، ومنهم من هو محسوب على حقول معرفية أخرى. وهذا يعني أن هؤلاء كانوا يفكرون من خلال أسئلة الآخر، وليس من خلال أسئلتهم الحقيقية والواقعية التي تقتضي استثمار مختلف الأفكار والمقاربات بهدف بسط فكر يميزهم عن غيرهم. ومن الأمر الغريب أن بعض هؤلاء المثقفين قد انتقل من الضفة الفكرية التي كان فيها ممجدا للفلسفة الماركسية، إلى ضفة أخرى، بشكل سريع وبدون مقدمات، لقد اختار هؤلاء مجددا أن ينخرطوا في أسئلة أخرى، ليست في الأصل أسئلتهم وأسئلة محيطهم الحضاري والثقافي الذي ينتمون إليه. باختصار التفكير من خلال تكرار المضامين لا يترتب عنه بناء فكر فلسفي مستقل يعي بالذات وبالآخر، يستثمر إمكانيات الذات وقدراتها وإمكانية الآخر وقدراته، بدل ذوبان الذات وغرقها في مضامين الآخر. والآخر هنا ممكن أن يكون آخرا ينتمي الى تاريخ الذات وماضيها.

في الوقت ذاته الذي نجد فيه الكثير من المختصين في الفلسفة غارقين في مضامين متون الفلسفة الغربية، نجد فيه نخبة أخرى غارقة في مضامين مختلف مجالات المعرفة في الثقافة الإسلامية في مجال الفقه وأصول الفقه وعلم الكلام...لا يملون من تكرار مضامين نصوص الشافي والغزالي وابن تيمية...لا يملون من تكرار الطبري وابن كثير والفخر الرازي وابن عطية في مجال تفسير القرآن...لا أحد له الاستعداد أن يتخلّى عن شيء من تلك المضامين والمتون...وجه الاختلاف أن كل فئة وجماعة واتجاه يختار ما يحلو له من المضامين، وهي كثيرة ومتعددة وغنية ولها ثراء معرفي، يمضي ذوو النزعة السلفية إلى ما يخدم اتجاههم ومواقفهم وتصوراتهم للعقيدة، ويستحضرون مختلف المتون التي تقوي وجهة نظرهم، ويمضي ذوي النزعة الصوفية في اتجاه آخر يحضر معه تراث متسع يقوي وجهة نظرهم، ويمضي آخرون في اتجاهات مختلفة...الكثير من هؤلاء لا يهم سياق مختلف النصوص والمعرف التي يكررها، لا شأن له بالسياق الثقافي والمعرفي والسياسي التي كتبت فيه تلك النصوص...كل ما يهمه أن يحفظها ويتوسل بها ومن خلالها للتفاعل مع واقع ومحيطه. فمثلا الكثير من الناس يستحضرون مختلف وجهات نظر الشافي أو ابن تيمية إلى درجة أن هناك من يعود إلى فتاوى ابن تيمية ليكرر مضمونها على هذه الواقعة أو تلك بلغة العصر، والذي زاد الطينة بلة أن مختلف وسائل الإعلام ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ساهمت في انتظار مختلف المضامين المتداولة في مدونات التفسير والفقه والأصول... وظهر لدينا علماء كل همهم هو الاتكاء على مختلف المتون بتكرارها، لا بفهمها واستيعابها وتجاوزها...هذا ما عليه الوضع العام.

لا نقصد أن واقعنا اليوم يخلو من مقاربات واجتهادات جادة تعي مختلف النصوص وفق سياقاتها التاريخية والمعرفية... وقد أنتجت نصوصا أخرى تستجب لمقتضيات وعينا الراهن.

واقع التفكير في العالم العربي منحصر في اتجاهين؛ الأول: اتجاه متون الفلسفة الغربية، والتجربة الغربية، لا بهدف نقدها وكشف عيوبها، وهذا أمر نادر، ولكن باتباعها وتكرارها، إلى درجة أنك تجد من هو نيتشه أكثر من نيتشه نفسه، أو من سارتر أكثر من سارتر نفسه...الغريب في العالم العربي أننا صرنا لا نعرف الكثير عن مختلف تراث وثقافات العالم مثل ما كانوا أجدادنا، لقد اختزلنا العالم في أوروبا، ونحن اليوم لا نعرف أشياء كثيرة عن الثقافة الصينية والفلسفة الصينية، وعن الثقافة اليابانية والثقافة الهندية ومختلف الثقافات عبر العالم، وهي مشكلة تجعل مصادر التفكير لدينا محدودة الاتجاه، ومحدودة الاستفادة، وتختزل أسئلتنا الفكرية والمعرفية في التفاعل مع جانب واحد من العالم وليس مع العالم.

الثاني: اتجاه متون المعرفة في مختلف مجالات الثقافة الإسلامية، وهو اتجاه تمت معالجته تحت سؤال كيف نتعامل مع التراث؟

نحن في أمس الحاجة لمعرفة مختلف الثقافات عبر العالم، ونقتبس من كتاب فراس السواح "فصول من الفلسفة الصينية" قوله: "تختلف الفلسفة الصينية عن الفلسفة اليونانية وربيبتها العربية في طريقة الفلاسفة الصينيين في التعبير عن أنفسهم؛ ففي مقابل النص المُطَّرد الذي يستخدم الجدل والبرهان وينتقل من المقدِّمات إلى نتائجها، عند الفيلسوف اليوناني، فإن الفيلسوف الصيني يعمد إلى صياغة أقوالٍ موجزةٍ بكلماتٍ قليلة"[1] وقوله: "الدور الذي لعبته الفلسفة في الثقافة الصينية يُعادل الدَّور الذي لعبه الدين في الثقافة الأوروبية والشرق أوسطية، ولعل هذا ما دفع البعض إلى اعتبار الكونفوشية (وهي الفلسفة الأكثر تأثيرًا على الثقافة الصينية) دينًا، ولكن الكونفوشية في واقع الحال ليست دينًا، شأنها في ذلك شأن فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو حتى أفلوطين الإسكندري الذي كانت الإلهيات محور تفكيره".[2]

[1] فراس السواح، فصول من الفلسفة الصينية، مؤسسة هنداوي، ط.1، 2022م، ص.18

[2] ص.19