الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليهودية
فئة : ترجمات
الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليهودية
ستيفن هارفي*
ترجمة: أشرف منصور
بدايات الفلسفة اليهودية الوسيطة
يبدأ أعم تحقيب للفلسفة الوسيطة بعامة، وللفلسفة اليهودية الوسيطة بخاصة، مع فيلون** في القرن الأول الميلادي، وينتهي بسبينوزا (1632 - 1677) في القرن السابع عشر. وهذا هو التحقيب الذي اشتهر ابتداءً من هاري ولفسون، الذي وضعه قائلاً:
نَصِفُ هذه الحقبة بالوسيطة؛ لأنها وقعت بين فلسفة لا تعرف النص المقدس [الفلسفة اليونانية] وفلسفة حاولت تحرير نفسها من هذا النص المقدس [الفلسفة الحديثة]، وبالتالي فإن الفلسفة الوسيطة هي تاريخ فلسفة فيلون([1]).
وكان ولفسون محقاً من جهةٍ ما. فقد كانت إشكاليات فيلون واهتماماته هي نفسها التي شغلت فلاسفة العصور الوسطى([2]). وفي حين يفيدنا وصف فلسفة فيلون على أنها شكَّلت «أسس الفلسفة الدينية في اليهودية والمسيحية والإسلام»، إلا أن تاريخ الفلسفة الوسيطة لا يبدأ إلا بعد قرون عديدة من فيلون، ولا تبدأ الفلسفة اليهودية خاصة إلا بعد ألف سنة كاملة من بعده. ولا يعود رفض الباحثين وضع بداية الفلسفة اليهودية الوسيطة بفيلون إلى مجرد عدم ارتياحهم من انتمائه للقرن الأول الميلادي، فالأمر الأهم هو أنه إذا بدأنا تحقيب الفلسفة اليهودية الوسيطة بفيلون؛ فلن يكون هناك اتصال مباشر بينه وبين فلاسفة اليهود الوسيطيين. فمن فيلون إلى القرن التاسع؛ ليست هناك نصوص يمكن اعتبارها «فلسفة يهودية»([3]). وعلاوة على ذلك، فرغم حديث ولفسون عن معاودة ظهور الأفكار الفيلونية في الفلسفة الإسلامية واليهودية التالية؛ إلا أن أعمال فيلون لم تترجم إلى العربية أو العبرية، وبذلك لم تمارس تأثيراً مباشراً على الفلاسفة اليهود حتى عصر النهضة. ولكل هذه الاعتبارات؛ فمن المفضَّل تحديد بداية الفلسفة اليهودية الوسيطة من القرن التاسع وأوائل القرن العاشر -وهو الوقت نفسه في بدأت فيه الفلسفة الإسلامية- مع شخصيات مثل داود الـمُقَمَّص Dawud al-Muqammas (أوائل القرن التاسع)، وإسحق الإسرائيلي (ت. 955)، وسعديا جاؤون [سعيد بن يوسف الفيومي] (882-942).
ولم تكن مصادفة أن ظهرت الفلسفة في وقت واحد في الإسلام واليهودية وفي المنطقة نفسها. إذ يمكن عزو اهتمام اليهود على حين فجأة بالفلسفة إلى حركات الترجمة في القرنين التاسع والعاشر، والتي تمركزت في بغداد، وترجمت أعمالاً فلسفية وعلمية يونانية عديدة إلى العربية؛ وإلى صعود علم الكلام المعتزلي في عصر المأمون في الثلث الأول من القرن التاسع في بغداد؛ وإلى تأثير الكندي أول فلاسفة الإسلام في النصف الأول من القرن التاسع في بغداد كذلك. وعلى سبيل المثال، كان المقمَّص متكلِّماً جاءت أفكاره مطابقة للمعتزلة المعاصرين له؛ وكان إسحق الإسرائيلي أفلاطونياً محدثاً وتأثَّر مباشرة أو بطريق غير مباشر بالكندي([4])، أما سعيد بن يوسف الفيومي؛ فقد كان مفكِّراً تلفيقياً، رغم أنه يدين بفكره للبناء الفكري للمعتزلة وحججهم، إذ يكشف كتابه «كتاب الأمانات والاعتقادات» عن معرفته بتعاليم طائفة كبيرة من المدارس الفلسفية والكلامية.
السُبُل المتفرقة للفلسفات الإسلامية واليهودية
وباختصار؛ فإن العوامل التي أدت إلى نشأة الفلسفة في الإسلام هي نفسها التي أدت إلى تجدد اهتمام اليهود بها [بعد فيلون]. ومن ثم كتب شلومو باينز Shlomo Pines أحد أهم الباحثين في الفلسفة اليهودية في القرن الماضي يقول:
من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر تقريباً شارك الفكر الفلسفي والكلامي اليهودي في تطور الفلسفة وعلم الكلام الإسلامي، وكشف في حدود ضيِّقة عن اتصال خاص بين المفكرين اليهود. ولم يكن الفلاسفة اليهود يفضِّلون نصوصاً فلسفية كتبها يهود على نصوص فلسفية كتبها مسلمون([5]).
من الصحيح أن الفلسفة ظهرت في العصر الوسيط لدى اليهود والمسلمين معاً، وأن الفكر الفلسفي والكلامي اليهودي شارك في تطور الفلسفة وعلم الكلام الإسلامي، إلا أنه من الخطأ افتراض أنهما شاركا سبلاً متوازية من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر، فقد كان تاريخ كل منهما مختلفاً عن الآخر تماماً. وهذا ما يتَّضح من عرضنا التالي السريع لهذين التاريخين.
بدأت الفلسفة الإسلامية في القرن التاسع مع الكندي «فيلسوف العرب»، وقد كان كاتباً شهيراً وغزير الإنتاج. وبعد الكندي؛ انتشرت الفلسفة في الإسلام في اتجاهات مختلفة، ووجدت الكثير من المدارس الفلسفية الإسلامية في تعاليم أفلوطين خاصة الكتاب المسمى «أثولوجيا أرسطوطاليس» مفتاحاً لتنظير تعاليمها اللاهوتية. ويمكننا أن نذكر في هذا السياق الإسماعيليين وتبنِّيهم للتعاليم الأفلاطونية المحدثة وتوسيعها. وقد اتضح لدى الباحثين في الآونة الأخيرة الدور المركزي الذي أداَّه الكندي في تطور الفلسفة الإسلامية، من خلال كتاباته ذاتها ومن الأعمال العلمية والفلسفية اليونانية الكثيرة التي تُرْجِمَت له ولمجلسه، ومن خلال جهوده في إضفاء الشرعية على التعاليم الفلسفية للقدماء في السياق الإسلامي([6]). لكن رغم تأثيره الذي لا شك فيه؛ إلا أنه كثيراً ما يُهْمَل في قوائم أسماء فلاسفة الإسلام في العصر الوسيط([7]). كان الفارابي (870 - 950) هو الذي اعْتُرِفَ به كأول فيلسوف إسلامي متفرِّد. وكان هو الذي أسس تراث الفلسفة الإسلامية المؤسسة في الدراسة المنظمة للمنطق والعلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة الأرسطي، وكان يدين لأفلاطون في مسائل الفلسفة السياسية. ورغم أن الكندي كان يعرف أعمال أرسطو إلا أنه لم يكن أرسطياً، ورغم أن أعمال الفارابي تكشف عن ملامح أفلاطونية محدثة؛ إلا أنه لم يكن أفلاطونياً محدثاً([8]). وقد اتبع الفارابي كل من ابن سينا في الشرق، وابن باجة وابن طفيل وابن رشد في الأندلس في القرن الثاني عشر. ولا شك في وجود اختلافات كثيرة بين هؤلاء، لكنهم ينتمون كلُّهم إلى التراث الفلسفي الذي أسسه الفارابي. وفي حين أنه ليس من الدقة الحديث عن موت الفلسفة في الإسلام بموت ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر، إلا أن لهذا القول شيئاً من الوجاهة. فبموت ابن رشد انتهى تراث الفلسفة الإسلامية الذي افتتحه الفارابي، أو على الأقل تعرض للإجهاض. ولن يعطي الفلاسفة المتأخرون في الإسلام للمنطق الأرسطي الأهمية التي يستحقها، ولن يولوا اهتماماً بالدراسة النظامية لعلم الطبيعة الأرسطي، وسيمزجون فلسفاتهم بجرعات كبيرة من التصوف أو التعليم المستور.
تبدأ الفلسفة اليهودية الوسيطة كما رأينا في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر مع إسحق الإسرئيلي، وبعده بقليل مع سعيد الفيومي([9])، وكانا مختلفين عن بعضهما تماماً. كان إسحق الإسرائيلي أفلاطونياً محدثاً، مديناً بالكثير للكندي، وكان كما أشار هوسيك Husik «لا يستشهد بأي كتابات يهودية وليس في أعماله أي شيء يشير إلى ديانته أو إلى محاولة للتوفيق بين الفلسفة والديانة اليهودية»([10]). وعلى العكس منه أصر سعيد الفيومي على البرهنة على صحة العقائد اللاهوتية اليهودية بالعقل، وضعف الحجج التي تطعن في صحتها وتهافتها؛ ويشرح موقفه قائلاً:
اعلم أرشدك الله يا أيها الناظر في هذا الكتاب أنَّا إنما نبحث وننظر في أمور ديننا لمعنيين، أحدهما ليصح عندنا بالفعل ما علمنا من أنبياء الله بالعلم، والثاني لنرد على من يطعن علينا في شيء من أمور ديننا...([11])
وهكذا فالفلسفة عند سعيد الفيومي خادمة للدين، لكن البرهان العقلي يفيد الحق في ذاته في الوقت نفسه. وتعاليم العقل بالإضافة إلى أنها مصدرالحق بجانب الدين، فهي تؤدي بذاتها إلى التوافق مع اليهودية. وعندما ننظر في هذه الحجة فلن يتطرق الشك في اعتقاداتنا عندما تتبرهن بالعقل.
وتستمر هذه النظرة للعقل باعتباره داعماً للعقيدة الدينية حتى لدى المشككين في قدرة العقل مثل يهوذا اللاوي Judah Halevi (1075 - 1141) في كتابه «الحجة والدليل في نصر الدين الذليل» [المعروف بالكتاب الخزري Kuzari]، الذي يقول: «أعوذ بالله أن يأتي الشرع بما يدفع عياناً أو برهاناً»([12]). وبذلك اتجه يهود مثل سعيد الفيومي للفلسفة لتدعيم الإيمان اليهودي، في حين اتجه آخرون مثل إسحق الإسرائيلي للفلسفة من أجل المعرفة فقط. وبصرف النظر عن دوافعهم، فالمثير للاهتمام أن ولا واحد من فلاسفتهم أو متكلميهم حتى النصف الثاني من القرن الثاني عشر تأثر أو أظهر اهتماماً بالفارابي أو ابن سينا أو ابن باجة أو أي من فلاسفة التراث الإسلامي من مدرسة الفارابي. ورغم أن كتاب يهوذا اللاوي «الخزري» (1140) هو في جانب منه نقد للتوجه الأرسطي الذي اتضح لدى فلاسفة الإسلام([13])، فمن الصعب علينا معرفة الدافع لهذا النقد. وكما أوضح باينز، يعتمد اللاوي في تصويره لأفكار الفلاسفة على ابن باجة وابن سينا([14])، لكن من هم أولئك الفلاسفة اليهود في عصر اللاوي الذين تأثروا بفلاسفة الإسلام أو حتى قرأوا لهم [بحيث يكون نقد اللاوي رداً عليهم؟]. كان إبراهيم بن عزرا صديقاً ليهوذا اللاوي ويصغره في السن، والمؤكد أنه تأثر بابن سينا، خاصة في معالجته لعلم الله بالجزئيات، وتمييزه بين واجب الوجود وممكن الوجود، لكنه استثناء ولا يمكن تصنيفه على أنه ينتمي لخط الفارابي. وبالمثل فإن الفلاسفة اليهود الآخرين في إسبانيا في ذلك العصر وأهمهم سليمان بن جبيرول Solomon ibn Gabirol (1021 - 1058 أو 1070) كانوا أفلاطونيين محدثين ولم يُظْهِروا اهتماماً كثيراً بالفلسفة [المشائية]. لكن كل ذلك تغير مع ابراهيم بن داود (1110 - 1180)، فهو كما يخبرنا هوسيك «الأول من بين الفلاسفة اليهود الذي أظهر معرفة وثيقة بأعمال أرسطو وقام بجهود حثيثة للتوفيق بين النسق الأرسطي واليهودية»([15]). وقد أثبت الباحثون مؤخراً قدر ما يدين به ابن داود للفارابي، وابن سينا على وجه الخصوص([16])، لكن سرعان ما غطى عليه موسى بن ميمون (1138 - 1204) باعتباره الفيلسوف الأهم في التراث الفلسفي السائر على خطى الفارابي*، وهو أشهر وأكبر مفكر يهودي في العصر الوسيط؛ فأعماله الفلسفية متجذرة في تعاليم الفارابي وابن سينا وابن باجة.
=
وبعد موسى بن ميمون حلت العبرية محل العربية باعتبارها لغة الكتابة الفلسفية لدى اليهود. فقد تُرجِمَت أعمال فلاسفة الإسلام إلى العبرية، وصارت أرسطية ابن ميمون وابن رشد هي السائدة لدى فلاسفة القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ولم يكن أغلب فلاسفة هذه الفترة يسعون إلى أصالة خاصة بهم، بل سعوا لشرح وتفسير وتوسيع التعاليم الحقة للفلسفة والعلم. وكان الاستثناء الأهم هو جيرسونيدس Gersonides [ليفي بن جرشوم] (1288 - 1344) الذي ركز في كتابه «حروب الإله» Wars of the Lord على تلك المسائل [في اللاهوت اليهودي] التي اعتقد أنها لم تُعالج بالقدر الفلسفي والصحيح([17]). وقد استهدف ابن ميمون في الأساس**، وهو الفيلسوف الذي أعجب به كثيراً، لكنه اعتقد أن الكثير من أفكاره لم يكن مؤسساً على مبادئ فلسفية دقيقة، بل في أحيان كثيرة على «اعتبارات لاهوتية»([18]). والاستثناء الأهم التالي هو حسداي كريسكاس Hasdai Crescas (ت. حوالي 1411)؛ الذي انتقد ابن ميمون الذي كان يهاجمه بشدة لكونه «ضل بكلام الفلاسفة»([19]). كان نقد كريسكاس الفلسفي للعلم الأرسطي/ الميموني مؤسَّساً على مبادئ العلم الأرسطي ذاته. وبذلك كان جوهر المشروع الفلسفي اليهودي بعد ابن ميمون يقبل أرسطو وفلاسفة الإسلام كسلطة معتمَدة ومعترَف بها [باعتبارها تمثيلاً للفلسفة ذاتها]. وفي حين كانت هناك تيارات أفلاطونية محدثة في الفلسفة اليهودية بعد ابن ميمون، إلا أنها كانت هامشية وذات أثر ضعيف، ومن ثم لن نركِّز عليها هنا([20]). ولم تَمُت الفلسفة لدى اليهود بعد ذلك، لكنها ضعفت وحسب، إلى أن جاء سبينوزا وافتتح عصراً جديداً [للفلسفة اليهودية] في القرن السابع عشر.
يدلنا العرض التاريخي السابق على أن الفلسفة ورغم بدايتها في وقت واحد في الإسلام واليهودية؛ إلا أنها تطورت في اتجاهات مختلفة وبسرعات متباينة في مجتمعات الديانتين. يبدأ التراث الأرسطي في الإسلام مع الفارابي في النصف الأول من القرن العاشر، ويستمر مع ابن سينا في الشرق، وينتقل إلى إسبانيا في أوائل القرن الثاني عشر مع ابن باجة، وينتهي بوفاة ابن رشد في 1198. لكن لم يظهر ذلك التراث الأرسطي في اليهودية إلا مع ابن داود وابن ميمون في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وحتى ذلك الوقت؛ كانت الفلسفة اليهودية مؤسسة على علم الكلام والأفلاطونية المحدثة. وكان ابن رشد وابن ميمون معاصرين، وكان ابن رشد هو الممثِّل الأكبر والأخير للتراث الأرسطي في الإسلام، ويبرز ابن ميمون بين اليهود على أنه الأرسطي الأهم فيهم. وسيصير ابن رشد وابن ميمون السلطتين الفلسفيتين المعتمدتين لدى اليهود في القرون التالية عليهما؛ وستكون هذه القرون هي التي سيظهر فيها أثر الترجمات العبرية لأعمال فلاسفة الإسلام على الفكر اليهودي الوسيط. وفيما يلي سأُمَثِّل لهذا الأثر ببعض الأمثلة المختارة.
كيف أثر فلاسفة الإسلام في الفلسفة العبرية؟*
مارس علم الكلام الإسلامي والفلسفة الإسلامية كما رأينا تأثيراً مباشراً في الفكر اليهودي المعاصر لهما. كما رأينا أنه في حين أثر المعتزلة والأفلاطونيون المحدثون على معاصريهم اليهود، فقد تجاهل اليهود الفارابي ومدرسته حتى القرن الثاني عشر. وفي ضوء ذلك؛ كيف لنا أن نفسر الأثر الطاغي لفلاسفة الإسلام على الفلسفة العبرية بعد ابن ميمون؟
والإجابة عن هذا السؤال نجدها لدى ابن ميمون ذاته. فقد اعترف به اليهود مباشرة باعتباره أهم مفكِّري عصره، فقد أسهب في شرح وتوظيف أرسطية فلاسفة الإسلام في كتابه «دلالة الحائرين». والحقيقة أن أهم وثيقة نتعرَّف منها على أثر فلاسفة الإسلام في الفكر العبري ما بعد ابن ميمون؛ هي رسالة ابن ميمون لتلميذه صمويل بن طيبون Samuel ibn Tibbon، التي يوصي فيها بالفلاسفة الذين يجب على اليهود دراستهم، والفلاسفة الذين عليهم تجاهلهم. والملفت للنظر في هذا الجزء من الرسالة؛ أن ابن ميمون لا يوصي فيها بأي فيلسوف يهودي ولا بأي عمل أفلاطوني محدث. فأرسطو هو الفيلسوف الأهم في نظره، لكنه حسب رأيه لا يمكن فهمه إلا بشروح الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وابن رشد. وبجانب أرسطو؛ يحتفظ ابن ميمون بتقدير عالٍ لفلاسفة الإسلام. فكل ما كتبه الفارابي في نظره «ذخيرة للباحث»، وكُتُبُ ابن سينا نافعة وتستحق القراءة والبحث؛ وإن لم تكن على قدر أهمية كتب الفارابي، وكان ابن باجة في نظره فيلسوفاً قديراً واضح العبارة والأسلوب. وقد حدَّد ابن ميمون في خطابه الفلاسفة الذين على اليهود أن يترجموا أعمالهم من العربية إلى العبرية([21]). وصارت نصوص فلاسفة الإسلام المترجمة للعبرية وفق هذه التوصية هي وحدها المتاحة لليهود بعد ابن ميمون، خاصة الذين لم يعرفوا العربية منهم، ومنها انتقل التأثير الفلسفي الإسلامي إلى كل يهود العصور الوسطى المتأخرة وعصر النهضة. فعلى سبيل المثال: لم تُترجَم أعمال أرسطو للعبرية إلا سريعاً وعلى فترات متفرقة، في حين صارت شروح ابن رشد الستة والثلاثين على أرسطو هدفاً لمشاريع منظَّمة ومتواصلة في الترجمة على [مدى ثلاثة قرون متصلة، من الثالث عشر إلى الخامس عشر]. وبذلك درس الفلاسفة اليهود بعد ابن ميمون الفلسفة الأرسطية من شروح ابن رشد([22]).
أثر التعاليم السياسية لفلاسفة الإسلام
صارت أهمية الفلسفة السياسية في مذاهب فلاسفة الإسلام محل تقدير الآن. كان ليو شتراوس أول باحث حديث يُقِرُّ بأن الفارابي «قدَّم الفلسفة كلها في إطار سياسي»([23]). أما محسن مهدي، وهو الباحث الرائد في مجال الفلسفة السياسية الإسلامية الوسيطة وفي فلسفة الفارابي على وجه الخصوص، فقد عرض وشرح في أعمال كثيرة طبيعةَ الفلسفة السياسية الأفلاطونية التي أسَّسها الفاربي. فوفقاً لمهدي؛ قام الفارابي «بإبراز تيمة العلاقة بين الفلسفة والسياسية، في سياق سيطر عليه سؤال العلاقة بين الفلسفة والدين»([24]). تُركِّز الفلسفة السياسية لدى فلاسفة الإسلام على موضوعات مثل السعادة الحقَّة والكمال الأقصى للإنسان، وكيفية تدبير المرء لذاته وحياته للتحصُّل على هذه الغاية. وبالتالي تهتم مثل هذه الفلسفة بالأدوار المختلفة التي يؤديها الدين في حياة المجتمع وفي تحصيل السعادة الإنسانية. وقد كتب فلاسفة الإسلام أعمالهم باعتبارهم مسلمين يعيشون في مجتمع مسلم، ولذلك توجهوا لتكييف تعاليم أفلاطون السياسية لتناسب مجتمعاتهم الدينية. فكيف أثَّرت معالجاتهم في فكرهم السياسي للعلاقة بين الدين والفلسفة في الفكر اليهودي الوسيط؟
يظهر تأثير التعاليم السياسية لفلسفة الإسلام على نحو واضح في فكر موسى بن ميمون([25]). ويتجسد هذا التأثير في مناقشاته للغاية من الشريعة، والفروق بين الشريعة الإلهية والقانون البشري، وطبيعة الكمال الإنساني، وطبيعة النبوة، والعلاقة بين النبي والفيلسوف، ودور النبي في النظام السياسي للمدينة الفاضلة، والمدى الذي يكون عليه الإنسان حيواناً سياسياً.
ومن المحتمل أن يكون ابن ميمون متأثِّراً على نحو مباشر أو غير مباشر بأفلاطون أو بمختصرات جالينوس والأفلاطونيين المحدثين لمحاورات أفلاطون، لكن المؤكَّد أن الأثر الأساسي عليه جاء من الفارابي، وبدرجة أقل من ابن سينا وابن باجة. وبعد موسى بن ميمون، وعندما صارت اللغة السائدة للفلسفة لدى اليهود في الغرب هي العبرية؛ لم يكن اليهود الذين لا يعرفون العربية أو اللاتينية على اطلاع مباشر بأعمال أفلاطون أو مختصرات محاوراته. والنص الأفلاطوني الوحيد الذي تُرجم إلى العبرية كان «الضروري في السياسة: مختصر سياسة أفلاطون» لابن رشد، والذي ترجمه صمويل بن يهوذا المرسيلي Samuel ben Judah of Marseilles سنة 1320، وبذلك كان أحد أواخر أعمال ابن رشد التي تُرْجِمَت إلى العبرية. وكتب صمويل يقول: إنه حتى إتمامه لترجمته؛ «لم يُترجَم أي عمل في هذا العلم [السياسي] أو وقع في يدنا، سواء كان للفيلسوف [أرسطو] أو لأي أحد آخر، سوى كتاب "مبادئ الموجودات" [المعروف بالسياسة المدنية] للفارابي»([26]). وفي حين لا يُعَدُّ هذا القول دقيقاً تماماً([27])، إلا أنه يُعبِّر عن صمويل نفسه باعتباره دارساً للفلسفة من البورفنس في أوائل القرن الرابع عشر. وبذلك فإن قارئ العبرية لم يكن في حوزته أعمال أفلاطون السياسية وحسب، بل كان اطلاعه محدوداً للغاية على الأعمال السياسية لفلاسفة الإسلام. وطالما كان استنتاجنا هذا صحيحاً؛ فهو يعني أن فلاسفة الإسلام لم يمارسوا تأثيراً في مجال الفلسفة السياسية على اليهود إلا من خلال نصٍّ وحيد للفارابي وبصورة غير مباشرة عن طريق «دلالة الحائرين» لابن ميمون. وعلى سبيل المثال: تأثَّر نسيم المرسيلي Nissim of Marseilles الذي كان نشطاً في الربع الأول من القرن الرابع عشر بـ«السياسة المدنية» للفارابي في مناقشته لحاجة المجتمع الإنساني إلى حاكم فاضل ولصفات هذا الحاكم، وتأثَّر كذلك بـ«إحصاء العلوم» للفارابي في مقاربته للعلاقة بين الدين والفلسفة، وفي الفلسفة؛ تأثَّر بـ«تلخيص الحاس والمحسوس» لابن رشد في مناقشته للنبوة، لكن فوق كل ذلك؛ تأثَّر بـ«دلالة الحائرين»([28]). وبعد عقود من ترجمة صمويل؛ ظهرت ترجمات جديدة للأعمال السياسية للفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد، وكُتِبَت شروح عبرية على الكثير منها، لكن ظلَّ «دلالة الحائرين» هو المعبَر الأساسي الذي انتقلت منه التعاليم السياسية لفلاسفة الإسلام إلى اليهود. وكان الحال مختلفاً تماماً في مجالات أخرى مثل المنطق والعلم الطبيعي وعلم النفس والميتافيزيقا، حيث تُرْجِمَت أعمال كثيرة في هذه الفروع وكانت مشهورة وهدفاً لشروح مطوَّلة، ومارست تأثيراً مباشراً ومتواصلاً.
فن الكتابة لدى فلاسفة الإسلام وأثره في أتباعهم من اليهود
لم يقتصر أثر التعاليم السياسية لفلاسفة الإسلام في ابن ميمون خاصةً والفكر السياسي اليهودي عامَّةً على معالجة بعض الموضوعات السياسية، بل تعدَّى ذلك إلى التأثير في طريقة الكتابة في هذه الموضوعات*. كتب ابن سينا يقول: «فما كلٌّ بِمُيَسَّر له في الحكمة الإلهية، ولا إنسان يصلح له أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامة، بل يجب أن لا يُرَخَّص في تعرض شيء من ذلك، بل يجب أن يُعرِّفَهم جلال الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم [العامة] جليلة وعظيمة»([29]). وفي سياق مماثل؛ يتحدث موسى بن ميمون عن «أسرار التوراة وسر أسرارها»، والحاجة إلى إخفائها عن الجمهور. وهو يشرح غرضه في مقدمة «دلالة الحائرين» قائلاً: «...إذ غرضي أن تكون الحقائق تلوح منها [مقالة الدلالة]، ثم تخفى حتى لا يقاوم الغرض الإلهي الذي لا يمكن مقاومته، الذي جعل الحقائق الخصيصة بإدراكه خفيَّة عن جمهور الناس...»([30]). ويدعم ابن ميمون رأيه بقوله: إن حكماء اليهود الذين حازوا على العلم الحق بالله؛ تكلَّموا مع العامة بالأمثال والألغاز كلما أرادوا إيصال شيء من هذا العلم إليهم([31]). وهو يشرح في مقدمة كتابه منهجه في الكتابة المستورة ويعطي إشارات لقارئه النبيه لفهم المعاني التي أخفاها في كتابه عن قصد. وهو يذكر في الجزء الأول من الكتاب أن الآراء الصادقة المتعلقة بأسرار وألغاز التوراة:
كذلك هذه الآراء الصحيحة ما أُخْفِيَت وأُلْغِزَت وتَحَيَّل كل عالم في تعليمها بغير تصريح، بكل وجه من التحيُّل، من أجل كونها فيها باطنة سوء، أو من أجل كونها هادَّة لقواعد الشريعة كما يظن الجُهَّال الذين زعموا أنهم وصلوا درجة النظر، بل أخفيت لقصور العقول في الابتداء عن قبولها ولُوِّح بها ليعلمها الكامل، ولذلك تتسمَّى «أسرار وغوامض التوراة»، كما نُبَيِّن، وهذا هو السبب في كون التوراة «تكلمت على لسان بني آدم» على ما بَيَّنا. وذلك لكونها مُعَرَّضة ليبتدئ بها ويتعلمها الصبيان والنسوان وكافة الناس، وليس في قدرتهم فهم الأمور على حقيقتها، فلذلك اقتصر بهم على التقليد في كل رأي صحيح يؤثر تصديقه، وفي كل تصور على ما يُسدِّد الذهن نحو وجوده، لا على حقيقة ماهيته([32]).
وبعبارة أخرى؛ يرغب ابن ميمون في طمأنة قارئه إذا كان من العامَّة، ذاهباً إلى أن التوراة والحكماء وهو نفسه لم يستخدموا أسلوباً مستوراً في التعليم بسبب بطلان وفساد هذا التعليم نفسه وهدِّه لقواعد العقائد، بل لاختلاف أذهان الناس في الفهم. فالبعض منهم يقدر على فهم أسرار التوراة كما هي في حقيقتها، في حين لا يقدر البعض الآخر على الفهم إلا من خلال القصص والتمثيل الخيالي. والحقائق هي في النهاية واحدة، لكنها تصل إلى مختلف الناس بطرق مختلفة. ويُطمئِن ابن ميمون قارئه بأن الحقائق التي سوف يكشف عنها في كتابه ليست كاملة: «ولا تظن أن تلك الأسرار العظيمة معلومة إلى غايتها ونهايتها عن أحد منَّا»([33]).
إن تمييز ابن ميمون بين قُرَّائِه من دارسي الفلسفة من جهة والعامة من جهة أخرى؛ يعكس مقاربة فلاسفة الإسلام لثنائية الخاصة والعامة. فعلى سبيل المثال؛ كتب الفارابي في «تحصيل السعادة»:
... الأمم وأهل المدن منهم من هو خاصة، ومنهم من هو عامة. والعامة هم الذين يقتصرون، أو الذين سبيلهم أن يُقْتَصَر بهم في معلوماتهم النظرية على ما يوجبه بادئ الرأي المشترك. والخاصة هم الذين ليس يقتصرون [في شيء من معلوماتهم النظرية على ما يوجبه بادئ الرأي المشترك]، بل يعتقدون ما يعتقدونه ويعلمون ما يعلمونه عن مقدمات تعقبت غاية التعقُّب([34]).
كان هذا التمييز بين النخبة والجمهور [العامة والخاصة] سائداً لدى كل فلاسفة الإسلام، وهو السبب في لجوئهم إلى الأسلوب المستور في الكتابة esotericism. لكن لا يعني هذا اتِّفاق الفلاسفة على إطلاق قدرة العقل لدى الخاصة أو على محدودية القدرات العقلية لدى العامة، والحقيقة أنه لم يكن هناك موقف سائد بينهم. كانت مسألة حدود المعرفة البشرية عند ابن ميمون وفلاسفة الإسلام هدفاً لدراسات عديدة هامة في العقود الأخيرة([35]). أما عن القدرات المعرفية للعامة؛ فقد اتفق فلاسفة الإسلام على أن العامة لا تستطيع فهم الأشياء على حقيقتها بالبرهان. أما خلافهم؛ فهو حول القدر الذي في قدرتهم فهمه. فعلى سبيل المثال: ذهب ابن ميمون إلى أنه من الممكن تعليمهم أن الله بغير جسم، في حين قال ابن رشد: إن الاعتقاد في لاجسمية الله ليس مناسباً للجمهور([36]).
والمفارقة هنا هي أن ابن ميمون في تشديده على الكتابة المستورة؛ كان يتبع أسلوباً مستوراً. فهل من الصحيح أن الفلاسفة والحكماء يخفون تعاليمهم لا «من أجل كونها فيها باطنة سوء، أو من أجل كونها هادَّة لقواعد الشريعة»؟ بعد قرن كامل من وفاة ابن ميمون؛ كتب إسحق البلاغ في كتابه «تدقيق آراء الفلاسفة» Tiqqun ha-De‘ot؛ أن ابن ميمون قد صرح بحدوث العالم في مقابل القِدَم، لكنه يتساءل عمَّا إذا كان هذا هو موقف ابن ميمون الحقيقي، أم أنه كان يتخفَّى؟ ويختلف الباحثون الآن حول هذه النقطة، لكن يقترح البلاغ أن ابن ميمون قد وجد أن الأسلم هو «عدم التصريح للعامة بما أخفتهُ عنهم التوراة»([37])، ويشرح البلاغ رأيه قائلاً إنه في عصر ابن ميمون «كانت نظرية قِدَم العالم غريبة عن أفهام جمهور العامة، بحيث اعتقدوا أن قبولها ينطوي على إنكار التوراة كلها»([38]). وبعبارات أخرى؛ اضطرَّ بن ميمون للتصريح بنظرية خلق العالم التي يصعب البرهنة عليها عقلاً؛ لأن العامة في عصره لن يطيقوا نظرية قِدَم العالم؛ لأنها تهدم الشريعة في نظرهم [والتي اعتقدوا أنها قائمة على فكرة الحدوث والخلق من العدم]. وفي السياق نفسه؛ أكَّد ليفي بن جرشوم [جرسونيدس] على أن ابن ميمون كان مدفوعاً في بعض تعاليمه باعتبارات لاهوتية [كلامية]. ويقول في ذلك:
يبدو لنا أن موقف ابن ميمون في العلم الإلهي ليس مؤسَّساً على أي مبادئ فلسفية [عقلية برهانية]، فرؤيته تتعارض مع العقل كما سأوضح. ويبدو أن الاعتبارات اللاهوتية وحدها هي التي دفعته لذلك([39]).
نظر بن جرشوم إلى الكثير من آراء ابن ميمون على أنها ظاهرية لإخفاء مذهب مستور، وهي آراء لا تصمد أمام البرهان العقلي. وما دفع ابن ميمون لذلك في نظر بن جرشوم؛ اعتقاده أن هذه الآراء هادمة لإيمان العامة. ومعنى هذا أن البلاغ وبن جرشوم اعتقدا في أن ابن ميمون صرَّح بتعاليم مشهورة وخاطئة عقلاً في الوقت نفسه لحماية أسرار التوراة ولحماية إيمان العامة([40]).
كان يمكن لابن ميمون أن يُجيب عن هذه الاتهامات بقوله: إن أسرار التوراة يجب إخفاؤها، لا لأنها تهدم إيمان العامة، بل لأنها ليست في قدرة العامة على الفهم؛ ما يؤدي بهم إلى الشك. وهذا ما يؤدي بنا إلى طرح سؤال عن الفرق بين معرفة شيء ما على حقيقته وقبول شيء ما بسلطة التراث. وفي عبارة أخرى: ما الفرق بين معرفة النخبة وإيمان العامة؟ تناول الفارابي مثل هذه الأسئلة في «تحصيل السعادة»، وهو كتابه الأهم في العلاقة بين الفلسفة والدين، حيث يقول: إن الفلسفة سابقة على الملة بالزمان، وأن الملة محاكية بالأمثال والرموز لما في الفلسفة معروفاً بالعقل: «وكل ما تعطيه الفلسفة من هذه معقولاً أو متصوراً؛ فإن الملة تعطيه متخيَّلاً»([41]). فوفقاً للفارابي؛ لا تقتصر مهمة الفيسلوف على تعلُّم العلوم ومعرفة حقائق الأشياء وتحصيل السعادة التامة، بل كذلك توظيف حكمته وحصافته لخير العامة الذين لا يفهمون إلا بالمتخيلات. يقول الفارابي عن الفيلسوف الكامل على الإطلاق إنه «هو الذي حصلت له الفضائل النظرية أولاً، ثم العملية ببصيرة يقينية. ثم أن تكون له قدرة على إيجادها جميعاً في الأمم والمدن بالوجه والمقدار الممكنين في كل واحد منهم»([42]). فوحده الذي أدرك الحقائق كما هي عليه في حقيقتها يستطيع نقلها للآخرين. وكما يلاحظ محسن مهدي؛ فإن الفارابي يلحق بالفيلسوف مهام كانت دائماً ما تُلحق بالنبي واضع الشرع([43]). وبذلك يصف الفارابي في كتابه نشوء الدين الطبيعي الذي يأتي به الفيلسوف ويؤسس ديناً للجمهور بطريقة عقلية طبيعية؛ بمعرفته ومخيلته، لا بالوحي. لكن هناك خلاف بين الباحثين حول ما إذا كان ابن ميمون قد نظر إلى العلاقة بين الديانة اليهودية والفلسفة بهذه الطريقة الفارابية، لكن لا شك أن أقوال الفارابي في «تحصيل السعادة» قد أثَّرت في فكره بعمق.
والمثير أن «تحصيل السعادة» وكذلك «فلسفة أفلاطون» و«فلسفة أرسطوطاليس» لم تُترجم إلى العبرية، رغم تقدير اليهود للفارابي وأهميَّة الموضوعات التي طرحها فيها. كتب شيم طوب بن فالاقيرا في منتصف القرن الثالث عشر تلخيصاً بالعبرية لهذه الكتب الثلاثة في كتابه «رأس الحكمة» Reshit Hokhma، لكنه لم يصرِّح بأن تلخيصه هو لهذه الكتب، بل قال: إنه تلخيص «لكتب أرسطو والفلاسفة المشائين»([44]). وبالنظر إلى التأثير البالغ لتلخيص فالاقيرا للفارابي؛ فيمكننا التعرف على مدى تأثير فلاسفة الإسلام في الفكر العبري الوسيط، حتى دون وعي من مفكِّري اليهود بالمصدر الفلسفي الإسلامي لهذه الأفكار. وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن تلخيص فالاقيرا يدلُّنا على الطريقة التي تأثَّر بها مثل هذا المفكر اليهودي الشهير ذي القرَّاء الكثيرين من القرن الثالث عشر بفلاسفة الإسلام، وكيفية تقديم تعاليمهم لقُرَّائِه اليهود([45]).
كان فالاقيرا وحده من بين كل فلاسفة اليهود في العصر الوسيط هو من اهتمَّ بأعمال الفارابي في العلاقة بين الفلسفة والدين، خاصة كتب الفارابي الثلاثة السابق ذكرها، بالإضافة إلى فصول «كتاب الحروف» المتعلِّقة بتلك العلاقة؛ والتي ترجمها إلى العبرية. والملاحظ أنه حذف من تلخيصه أكثر المواضع حساسية، مثل ذلك النص الذي أوردناه من «تحصيل السعادة». ففي هذه المواضع؛ يُقرُّ الفارابي أن الفلسفة كافية وحدها للسعادة الإنسانية الحقَّة والكمال الأقصى للإنسان، وأن الدين مُحاكٍ للفلسفة، وهو يفيد في تعليم العامَّة وقيادتها، لكنه لا يسهم في الكمال العقلي للفيلسوف. فلم يكن فالاقيرا قادراً على التصريح بهذه الآراء، ولا بأن الملَّة الصادقة محاكية للفلسفة الصادقة وتأتي بعد الفلسفة بالزمان*، وتمسَّك بالقول: إن الفلسفة لازمة لسعادة الإنسان، لكنها لا تكفي.
ظاهرة «شرح الشرح»: ليفي بن جرشوم ومدرسته
وكما رأينا؛ فقد كانت الأعمال الأساسية لفلاسفة الإسلام في فروع المنطق والعلم الطبيعي وعلم النفس وما بعد الطبيعة وشروحاتهم على أعمال أرسطو؛ مُترجَمة للعبرية ومشهورة لدى اليهود، وبذلك كان تأثيرها واضحاً ومباشراً. وكان أرسطو هو «الفيلسوف»، لكن تعرَّف اليهود عليه من شروح ابن رشد بصفة أساسية. فبعد انتهاء قالونيموس بن قالونيموس من ترجمة جوامعه وتلاخيصه في العلم الطبيعي مباشرة، مُتيحاً بذلك دراسة متعمِّقة ومفصَّلة للعلم والفلسفة الأرسطية بالعبرية، ظهر نوع أدبي جديد مع شروح ليفي بن جرشوم على شروح ابن رشد (والتي كتبها بين 1321 و1324). كانت شروح بن جرشوم على شروح ابن رشد هي الأشهر في هذا الصنف الأدبي، لكن كتب زملاؤه وتلاميذه شروحاً مماثلة في السنوات التالية([46]). تعاملت شروحات الشروحات هذه supercommentaries مع شروح ابن رشد بنفس طريقة تعامُل ابن رشد مع نصوص أرسطو، لكن مع فارق هام، وهو أن شروح ابن رشد كان يمكن قراءتها في استقلال عن النص الأرسطي، في حين لم يكن ذلك ممكناً مع شروحات اليهود على شروحات ابن رشد([47])، فقد كان المقصود منها مثل شروحات التوراة والتلمود أن تُقرأ مع الأصل الذي تشرحه.
ويُقِرُّ بن جرشوم بوضوح أن هدفه في شروحه على جوامع ابن رشد هو «تفسير مقصود ابن رشد في جوامعه لكتب أرسطو في العلم الطبيعي·، فرغم وضوح أغلب عباراته؛ إلا أن بعض المواضع لم يشرحها بما فيه الكفاية»([48]). أما هدفه الذي يعلنه في مقدِّمته لشروحه على تلاخيص العلم الطبيعي؛ فهو أكثر طموحاً:
في المواضع التي لا يتَّفق فيها رأينا مع رأي أرسطو؛ سندافع عن رأينا ونفنِّد رأي أرسطو... هذا بالإضافة إلى النفع العائد من هذه الشروح على الدارسين لمساعدتهم في فهم بعض الصعوبات([49]).
لكن لا يجب علينا فهم هذه التصريحات بالنوايا على أنها تعني قبول بن جرشوم بجوامع ابن رشد دون نقد. فقد أوضحت جيسي ناشباوم Jesse Mashbaum كيف رفض بن جرشوم آراء أرسطو وابن رشد معاً في فعل التعقُّل البشري في شرحه لـ«جوامع كتاب النفس»، تلك الآراء الواضحة في «جوامع» و«تلخيص النفس» معاً([50]). وقد أسهمت روث جلازنر أكثر من أي باحث آخر في إثراء فهمنا لبن جرشوم وتقديره باعتباره شارحاً أصيلاً وجريئاً لأرسطو وابن رشد، وكانت كثيراً ما تستشهد بمواضع من شروحه على جوامع وتلاخيص ابن رشد لكتب العلم الطبيعي لإثبات رفضه للكثير من التعاليم الأرسطية الأساسية في هذا العلم، مثل معالجة الحركة الطبيعية والحركة القسرية([51]). لكن لا يجب على هذه الدراسات في رفض بن جرشوم لبعض آراء أرسطو وابن رشد أن تجعلنا نغفل عن الحقيقة الواضحة البسيطة أن بن جرشوم كان مفكِّراً أرسطياً يُعْلي من قدر شروح ابن رشد كثيراً. فعلى سبيل المثال: درس تشارلز مانيكين Charles Manekin شروحات بن جرشوم على شروحات ابن رشد على الأورجانون الأرسطي، وكشف عن أهميته باعتباره ناقداً كفؤاً لجوانب من المنطق الأرسطي، ولاحظ أن بن جرشوم «يشكر ابن رشد على أداء دوره كشارح لأرسطو بحماس شديد، ذلك الدور الذي تمثَّل في الكشف عن الأغراض الحقيقية لأرسطو، لا تشويهها من أجل تفنيدها»([52]).
لقد درس المفكرون الأرسطيون اليهود في العصور الوسطى العلمَ الأرسطي من خلال شروح ابن رشد، ونظروا إليه على أنه «الشارح». وفي حين أثنى ابن رشد كثيراً على أرسطو ونظر إليه على أن العلم اكتمل على يديه، ونظر إلى مهمته هو على أنها بسط وشرح ما توصَّل إليه أرسطو من الحق (وتصحيح يسير مرهف لبعض هفواته في حالة الضرورة القصوى)، فإن شرَّاح ابن رشد مثل بن جرشوم، ورغم تقديرهم العالي لأرسطو وشارحه، كانوا أقل دوجماطيقية في قبول أفكاره وأقل تردُّداً في نقدها([53]).
تضاؤل أثر فلاسفة الإسلام في الفكر اليهودي
يتَّضح أثر فكر فلاسفة الإسلام في الفكر اليهودي بعد ابن ميمون في مجالات عديدة: 1) دراسة العلم والفلسفة بالترتيب الصناعي، المتضمِّن البدء بتملك الصناعة المنطقية، ثم دراسة العلم الطبيعي بترتيب أرسطو لكتب هذا العلم*، بعد الفراغ من كل ذلك دراسة علم ما بعد الطبيعة؛ 2) دراسة كتب أرسطو في المنطق والعلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة من شروح ابن رشد عليها؛ 3) أثر أفلاطون في مسائل الفلسفة السياسية، حيث كَيَّف الفارابي آراءَه لتناسب المجتمعات الدينية وتبعه في ذلك ابن رشد؛ 4) أسلوب حذر في الكتابة يراعي اختلاف قدرات الناس في الفهم وقصور البعض منهم في المعرفة العقلية [عامة الجمهور]؛ 5) مناقشات لاهوتية-فلسفية متعلِّقة بوجود الله وصفاته وعلمه بالجزئيات، والخلق والنبوة والعناية الإلهية وحرية الإرادة والأخلاق وخلود النفس وسعادة الإنسان وكماله الأقصى.
سيكون من الخطأ البالغ تخيُّل أن المفكرين اليهود تعلموا العلم والفلسفة من فلاسفة الإسلام دون أن يتأثروا بالمناقشات اللاهوتية الدائرة فيما بينهم. فالحقيقة أن أولئك اليهود الذين اتَّبعوا توصية ابن ميمون ودرسوا العلم والفلسفة من شروح ابن رشد، كان عليهم مواجهة الكثير من أفكاره اللاهوتية [الراديكالية] المتضمَّنة في شروحه. فقد احترموا علمه وفلسفته، لكنهم تعاملوا مع أفكاره اللاهوتية الفلسفية بحذر. ولذلك فلم يكن غريباً على الرباي حسداي كريسكاس أن يؤلِّف كتابه «نور الرب» Light of the Lord الذي هو جزء من جهوده لتدعيم إيمان الجماعات اليهودية في إسبانيا، بعد المذابح البشعة وعمليات التنصير القسري الواسعة التي تعرَّضت لها في 1391، ويبدأه بنقد رائد للتعاليم الأساسية للعلم الطبيعي الأرسطي/ الرشدي. ففي نظره؛ كان هذا العلم تحديداً هو الذي أدَّى إلى إيمان الآخذين به بإله غير شخصي impersonal God وقِدَم العالم مع نفي إمكان المعجزات، وهو عالم ليس به مكان لخلود الفرد وسعادته في حياة آخرة. وفي نظر كريسكاس: لا ملامة على العقل، بل على «ضعف مقدِّمات» العلم الأرسطي/ الرشدي و«فساد براهينه واعْوِجاج حججه»([54]). وفي دفاع كريسكاس عن الديانة اليهودية ضد هذا العلم؛ يقوم بمثل ما قام به الغزالي من قبله ويوظف معرفته الواسعة بفلسفة أرسطو وفلاسفة الإسلام. وكان كريسكاس يستهدف اللعب بقواعد لعبتهم وتفنيد حججهم باستخدام منطقهم، وهو المنطق الأرسطي ذاته. ويمكن لنا أن نرى في ذلك مطابقة مذهلة مع الغزالي. كان الغزالي هو دارس الفلسفة الوحيد في الإسلام الذي قدَّم نقده للفلسفة بعرض منفصل، واضح ودقيق للنظريات الفلسفية التي سينقدها*. وبالمثل فقد كان كريسكاس هو المفكِّر اليهودي الوحيد في العصور الوسطى الذي قدَّم لنقده للفلسفة الأرسطية بعرض منفصل، واضح ودقيق وشامل لهذه الفلسفة. وكان كريسكاس يقدِّم حجج العلم الأرسطي/ الرشدي باهتمام ودقة شديدة قبل أن يقدِّم نقدَه لها. لكن نقده لهذا العلم -مع أفكاره الثورية في اللامتناهي والمكان والخلاء والحركة والزمان والمادة والصورة- لم يكن ناجحاً في وقته، حتى مع خصوم الفلسفة الرشدية. فقد استمر اليهود في دراسة شروح ابن رشد على أرسطو في القرن الخامس عشر، لكن ربما يرجع الفضل لكريسكاس في تبوُّؤ العلم السينوي الذي عرضه الغزالي في «مقاصد الفلاسفة» لمكانة عليا عند اليهود([55]) من بعد كريسكاس*. وعلاوة على ذلك؛ صار علماء اليهود أكثر تعرُّضاً لتأثير المقاربات الجديدة للإسكولائيين اللاتين. وفي نفس ذلك الوقت [القرنان الخامس عشر والسادس عشر] انزوت تدريجياً ثم تلاشت التعاليم اللاهوتية الراديكالية المتأثِّرة بفلاسفة الإسلام وما صاحبها من مذاهب مستورة، والتي كانت العلامة البارزة للأرسطية اليهودية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. لقد ظل اليهود يقرأون فلاسفة الإسلام في هذه الفترة، لكن مع منتصف القرن الخامس عشر؛ لم يعد من الممكن الحديث عن أثر طاغٍ لهم مثلما كان الحال مع القرون السابقة.
* Steven Harvey، أستاذ الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليهودية الوسيطة بجامعة بار إيلان، إسرائيل. أجرى العديد من الدراسات في شروح ابن رشد على أرسطو، وفي أثر فلاسفة الإسلام في الفكر اليهودي. من مؤلفاته:
Falaquera’s Epistle of the Debate: An Introduction to Jewish Philosophy. Harvard University Center for Jewish Studies. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1987; Edited. The Medieval Hebrew Encyclopedias of Science and Philosophy. Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 2000.
** فيلون السكندري Philo of Alexandria (20 ق.م – 50م)، فيلسوف يهودي أفلاطوني، أول من حاول التوفيق بين الدين والفلسفة ومارس التأويل المجازي للتوراة كي يثبت احتواءها على الحقائق التي تكشف عنها الفلسفة. ويعتقد الكثير من الباحثين أن مفهومه عن اللوجوس Logos أثَّر في المسيحية.
([1]) H. A. Wolfson, Philo: Foundations of Religious Philosophy in Judaism, Christianity, and Islam, 2 vols. (Cambridge, MA: 1947), vol. II, 459
([2]) لاحظ على سبيل المثال وصف ولفسون لما سمَّاه «النزعة التوفيقية التي سيطرت على فلاسفة العصور الوسطى وشكلت ملمحاً مشتركاً لكل الفلاسفة المسيحيين والمسلمين واليهود» Philo, vol. II, 446–55.
([3]) يخلو التراث الحاخامي القديم من المناقشات الفلسفية، انظر S. Lieberman, “How Much Greek in Jewish Palestine,” in A. Altmann (ed.),Biblical and Other Studies (Cambridge, MA: 1962), 130، الذي يُقِرُّ أن «المصطلحات الفلسفية اليونانية غائبة تماماً عن الأدبيات الحاخامية القديمة كلها». انظر أيضاً، Wolfson, Philo, vol. I, 91–2, and W. Z. Harvey, “Rabbinic Attitudes toward Philosophy,” inH. J. Blumberg and B. Braude (eds.), “Open Thou Mine Eyes”: Essays on Aggadah and Judaica Presented to Rabbi William G. Braude on his Eightieth Birthday (Hoboken, NJ: 1992), 83–101. ويصل وارن زئيف هارفي لنتيجة مفادها أن «رجال الدين اليهود نظروا إلى الفلسفة على أنها غريبة عن اهتماماتهم. فلم يستخدموا مصطلحاتها، ولم يكتبوا إجابات نسقية عن أسئلة فلسفية». قارن مع نوفاك Novak, “The Talmud as a Source for Philosophical Reflection,” in Frank and Leaman [234], 62–80. لكن المؤكد أن النصوص العبرية القديمة مثل «سفر الخلق» Sefer Yesira تحتوي على تأملات لاهوتية وكوزمولوجية.
([4]) حول تأثير الكندي في إسحق الإسرائيلي، انظر، A. Altmann and S.M. Stern, Isaac Israeli: A Neoplatonic Philosopher of the Early Tenth Century (Oxford: 1958), esp. 27–31, 37–9, 42–5, 68–70, 143–5, 186, 210.
([5]) S. Pines, “Jewish Philosophy,” in P. Edwards (ed.), The Encyclopedia of Philosophy (New York: 1967), vol. IV, 262–3.
([6]) انظر على سبيل المثال، Endress [67]، والفصل الثاني من هذا الكتاب.
([7]) فالغزالي يتجاهل الكندي في «تهافت الفلاسفة»، ويفرد اهتمامه بالفارابي وابن سينا، ولا يذكره ابن طفيل في مقدمته لرسالته «حي بن يقظان»؛ ولا يرشحه موسى بن ميمون لتلميذه ابن طيبون (انظر لاحقاً)؛ ويستبعده ابن خلدون من قائمته بأهم فلاسفة الإسلام (انظر Ibn Khaldun, The Muqaddimah, trans. F. Rosenthal [Princeton: 1967], vol. III, 116).
([8]) انظر Mahdi [190], esp. 1–3. [الترجمة العربية ص]، ولنظرة مختلفة للفارابي انظر M. Fakhry, Al-Farabı: Founder of Islamic Neoplatonism (Oxford: 2002).
([9]) لن أتعرض للمُقَمَّص في هذا العرض السريع لأنه كما أشرت يختلف عن المتكلمين الذين تأثر بهم اليهود.
([11]) Saadia Gaon, The Book of Beliefs and Opinions, trans. S. Rosenblatt (New Haven, CT: 1948), 27–8.
[الأصل العربي، سعيد بن يوسف الفيومي، كتاب الأمانات والاعتقادات، تحقيق س. لانداور، لايدن، بريل، 1880، ص22. (المترجم)].
([12]) Judah Halevi, Kuzari, trans. H. Hirschfeld (New York: 1964), I.67.54; cf. I.89.62
[الأصل العربي، يهودا بن شموئيل هليفي، الحجة والدليل في نصر الدين الذليل، نقله إلى الخط العربي ليلى ابراهيم أبو المجد، إشراف ومراجعة حسن حنفي وأحمد هويدي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014، ص142. (المترجم)].
([13]) استخدمت مصطلح «الفلاسفة» falasifa للإشارة إلى مفكري التراث الفلسفي الذي بدأه الفارابي.
([14]) انظر S. Pines, “Shi‘iteTerms and Conceptions in Judah Halevi’s Kuzari,” Jerusalem Studies in Arabic and Islam 2 (1980), 210–19. يحاجج باينز بأن المذهب الفلسفي الذي يقدمه اللاوي في الجزء الأول من كتابه مقام على فلسفة ابن باجة، في حين أن المذهب الذي ينقده في الجزء الخامس هو مذهب ابن سينا. ويقترح أنه «في الفترة الطويلة الفاصلة بين كتابته للجزء الأول وكتابته للجزء الخامس تعرض لتأثير ابن سينا» (216). ويضيف باينز أن اللاوي «قد أعجب للغاية بابن سينا» وأنه ربما حاول رغم نقده لابن سينا أن يكيف أفكاره مع «الإطار الفكري الجديد الذي اكتشفه» اللاوي (219). للمزيد انظر، D. Lobel, Between Mysticism and Philosophy: Sufi Language of Religious Experience in Judahha-Levi’s “Kuzari” (Albany, NY: 2000), 170–1.
([16]) T. A. M. Fontaine, In Defence of Judaism: Abraham Ibn Daud (Assen: 1990), and A. Eran, Me-Emuna Tamma le-Emuna Rama (Tel-Aviv: 1998).
* انظر في ذلك دراستي، أشرف حسن منصور، أثر الفارابي وابن رشد في صياغة موسى بن ميمون للأصول الثلاثة عشر للديانة اليهودية. مجلة ألباب، العدد 6، صيف 2015.
([17]) Gersonides, Wars of the Lord, trans. S. Feldman, 3 vols. (Philadelphia: 1984–99), introduction, vol. I, 93.
** أثبتُّ أثرَ ابن رشد في ليفي بن جرشوم في دراستين، أوضحتُ فيهما أنه لم يكن يرد على ابن ميمون فقط، بل على ابن رشد في الأساس: نظرية ليفي بن جرشوم في خلود النفس وأصولها الرشدية. مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية. العدد 69، 2012؛ نظرية ليفي بن جرشوم في خلق العالم في ضوء فلسفة ابن رشد. مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، العدد 76، 2015
([19]) Hasdai Crescas, Or Hashem (Light of the Lord), introduction, trans. In W. Harvey, “Hasdai Crescas’s Critique of the Theory of the Acquired Intellect” (Ph.D. diss., Columbia University, 1973), 363
[انظر الترجمة الإنجليزية الكاملة: Ḥasdai Crescas, Light of the Lord (Or Hashem). Translated with Introduction and Notes by Roslyn Weiss. (Oxford: Oxford University Press, 2018). (المترجم)].
([20]) حول معالجة تيارات الأفلاطونية المحدثة في هذه الفترة، انظر D. Schwartz, Yashan be-Qanqan Hadash (Jerusalem: 1996)
* انظر في ذلك، أحمد شحلان، ابن رشد والفكر العبري الوسيط: فعل الثقافة العربية الإسلامية في الفكر العبري اليهودي. جزآن، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 1999.
([21]) انظر Harvey [235؛ وحول نشرات الرسالة انظر ص51، هامش 1.
([22]) حول حركة الترجمة من العربية إلى العبرية لأعمال فلاسفة الإسلام وتأثير شروح ابن رشد، انظر مقالي المنشور في Frank and Leaman [234.
([23]) L. Strauss, Persecution and the Art of Writing (Glencoe, IL: 1952), 9
([25]) وهو التأثير الذي حظي باهتمام بالغ من الباحثين على مدى الخمسين سنة الأخيرة.
([26]) Translated by L. V. Berman in his “Greek into Hebrew: Samuel ben Judah of Marseilles, Fourteenth-Century Philosopher and Translator,” in A. Altmann (ed.), Jewish Medieval and Renaissance Studies (Cambridge, MA: 1967), 309–10
وفي السنة التالية مباشرة أتاح صمويل لقراء العبرية «الأخلاق النيقوماخية» لأرسطو من خلال ترجمته لمختصر ابن رشد لهذا الكتاب. ويقول كاتب سيرته لورنس بيرمان Lawrence Berman إن صمويل بترجمته لهذين العملين الأساسيين قد «أدخل في برنامج التعليم الفلسفي العبري فرعاً علمياً جديداً» (ص 302).
[قام الأستاذ أحمد شحلان بترجمة «الضروري في السياسة: جوامع سياسة أفلاطون» و«تلخيص أخلاق أرسطو» من الترجمة العبرية التي أعدَّها صمويل المرسيلي. (المترجم)].
([27]) فعلى سبيل المثال؛ قام قلونيموس بن قلونيموس بترجمة «إحصاء العلوم» للفارابي سنة 1314، كما ترجم شيم طوب بن فالاقيرا فقرات كثيرة من الأعمال السياسية لفلاسفة الإسلام.
[انظر في ذلك، أحمد شحلان، ابن رشد والفكر العبري الوسيط، ص505. (المترجم)].
([28]) Nissim of Marseilles, Ma‘ase Nissim, ed. H. Kreisel (Jerusalem: 2000), author’s introduction, 8–30, and ch. 4, 70–1
* انظر في ذلك كتابي، العقل والوحي: منهج التأويل بين ابن رشد وموسى بن ميمون وسبينوزا. رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2014.
([29]) Avicenna [88], X.2, trans. M. E. Marmura, in Lerner and Mahdi [189], 100–1. وتكاد نفس الصياغة تتكرر في كتاب «النجاة» في الموضع الموازي لموضع العبارة في إلهيات الشفاء.
[ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، سبق ذكره، ص443. (المترجم)].
([30]) Maimonides, Guide of the Perplexed, trans. S. Pines (Chicago: 1963), I, introduction, 6–7
[موسى بن ميمون: دلالة الحائرين. عارضه بأصوله العربية والعبرية د. حسين أتاي. مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة الثانية، 2008، ص7. (المترجم)].
([31]) Guide, I, introduction, 8
[موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، ص9. (المترجم)].
([32]) Guide I.33, 71[دلالة الحائرين، ص73]،
وبالمثل يقول في موضع آخر من الجزء الأول: «... يلزمنا نحن معشر المتشرعين ألا نصرح بشيء يعزب على الجمهور فهمه، أو يُخَيَّل لهم حقيقة الأمر خلاف الأمر المراد به». I.17, 43 [دلالة الحائرين، ص45].
([33]) Guide I, introduction, 7.[دلالة الحائرين، ص7]
([34]) Al-Farabı, Attainment of Happiness, trans. M. Mahdi, in Alfarabi’s Philosophy of Plato and Aristotle (rev. edn., Ithaca, NY: 1969), sec. 50, 41
[الفارابي، تحصيل السعادة، قدم له وبَوَّبه وشرحه، علي بوملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1995، ص83 – 84. (المترجم)].
([35]) كانت الدراسة الرائدة في هذا المجال والتي اتبعتها كل الدراسات التالية هي، S. Pines, “The Limitations of Human Knowledge according to Al-Farabi, ibn Bajja, and Maimonides,” in I. Twersky (ed.), Studies in Medieval Jewish History and Literature (Cambridge, MA: 1979), 82–109.
([36]) Cf. the selections in I. Twersky, A Maimonides Reader (New York: 1972), 44–5, 246–8, 251, 265, 286, 418, withAverroes,Kitab al-kashf ‘an manahij al-adilla, trans. I.Najjar, Faith and Reason in Islam: Averroes’ Exposition of Religious Arguments (Oxford: 2001), 51–2, 56–62, 75–7
[ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. تحقيق مصطفى حفني، مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى 1998، ص138، 145. انظر أيضاً، أشرف منصور، أثر الفارابي وابن رشد في صياغة موسى بن ميمون للأصول الثلاثة عشر للديانة اليهودية، ألباب، العدد 6، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2015. (المترجم)]
([37]) Cited in Sirat [239], 241
([39]) Gersonides, Wars of the Lord, III.3, vol. II, 107.
([40]) لم تكن آراء بن جرشوم بأقل جرأة وراديكالية من مذهب ابن ميمون المستور، لكنه يعد القارئ في كتابه أنه سيكتب بأسلوب واضح ومباشر بقدر طاقته «دون تلوين خَطَابي أو لغة غامضة» [مثل التي استخدمها ابن ميمون]، لأن صعوبة الموضوعات التي تناولها في كتابه كافية لصرف نظر العامة عنها، (Wars of the Lord, introduction, vol. I, 101). وعلى العكس منه يقول كريسكاس: «ليس في العلم الطبيعي ولا في علم ما بعد الطبيعة ما يستدعي السرية والتخفي، حاشى لله، فهي لا تحوي أي تجديف أو هدم لديننا الإلهي وليس في التوراة تعاليم يمكن النظر إليها على أنها مستورة»
(cited inS. Pines, “Scholasticism after Thomas Aquinas and the Teachings of Hasdai Crescas and his Predecessors,” Proceedings of the Israel Academy of Sciences and Humanities 1, no. 10 [1967], 51 n. 99).
([41]) Al-Farabi, Attainment of Happiness, sec. 55, 44–5
[الفارابي، تحصيل السعادة، ص89. (المترجم)].
[الفارابي، تحصيل السعادة، ص88. (المترجم)].
([43]) Mahdi, Philosophy of Plato and Aristotle, introduction, 7
([44]) Reshit Hokhma (Berlin: 1902), 61.
([45]) انظر دراستي، Falaquera’s Alfarabi: An Example of the Judaization of the Islamic Falasifah,Trumah 12 (2002), 97–112
* حول تحليل الفارابي للعلاقة بين الفلسفة والملة وكونها أسبق على الملة في الزمان وفي العقل معاً، انظر، أشرف حسن منصور، النشأة التاريخية للدين عند الفارابي وابن رشد، مجلة الفكر العربي المعاصر، مجلد 35، عدد 166، 167، 2015
([46]) انظر في ذلك، R. Glasner, “Levi ben Gershom and the Study of Ibn Rushd in the Fourteenth Century,” Jewish Quarterly Review 86 (1995), 51–90. أوضحت جلازنر أن بن جرشوم لم يضع أولى الشروح على شروح ابن رشد وحسب، بل إن أغلب شروح القرن الرابع عشر كانت من إعداد تلاميذه الذين درسوا شروح ابن رشد تحت إشرافه.
([47]) حول هذه النقطة، انظر، J. Mashbaum, “Chapters 9–12 of Gersonides’ Supercommentary on Averroes’ Epitome of the ‘De Anima’: The Internal Senses” (Ph.D. diss., Brandeis University, 1981), lxv–lxvi
([48]) Gersonides, Commentary on Averroes’ Epitome of the “Physics,” London, Jew’s College MS. Bet Hamidrash 43, fol. 126r.
([49]) Gersonides, Commentary on Averroes’ Middle Commentary on the “Physics,” Paris MS. Biblioth`eque nationale h´eb. 964, fol. 1v.
لم يظهر مدى نقد بن جرشوم للعلم الأرسطي إلا في الآونة الأخيرة. وللتمثيل بذلك انظر، R. Glasner, “Gersonides’ Theory of Natural Motion,” Early Science and Medicine 1 (1996), 151–203, and “Gersonides on Simple and Composite Movements,” Studies in History and Philosophy of Science 28 (1997), 545–84. See, in general, Glasner’s “On the Writings of Gersonides’ Philosophical Commentaries,” in Les m´ethodes de travail de Gersonide et lemaniement du savoir chez les Scolastiques, ed. C. Sirat (Paris: 2003), 90–103, esp. 98–101.
([50]) Mashbaum, “Gersonides’ Supercommentary,” xxxviiiff. لكن تذكر ناشباوم أن بن جرشوم "لم يخرج كثيراً عن رأي ابن رشد في معالجته للحواس الباطنة بل اتبعه لكن مع قليل من التحفظ، وتقتصر تعليقاته [في هذه النقطة] على مجرد شرح للنص الرشدي (liii).
([51]) انظر الدراسات المذكورة في الهامش رقم 49 أعلاه.
([52]) C. Manekin, “Preliminary Observations on Gersonides’ Logical Writings,” Proceedings of the American Academy for Jewish Research 52 (1985), 94
([53]) وذلك رغم قول جلازنر إن بن جرشوم «لا يقدم أفكاره الجديدة [في الحركة الطبيعية] بطريقة نسقية، ولا يحاجج أرسطو أو ابن رشد. ولا تظهر أفكاره الجديدة هذه إلا وسط عمله التأويلي الاحترافي الدقيق» Glasner, “Theory of Natural Motion,” 151
* أي: البدء بكتاب «الطبيعة» ثم «النفس» ثم «السماء والعالم» ثم «الحاس والمحسوس».
([54]) Crescas, Light of the Lord, introduction, 363–6
* يقصد المؤلف كتاب الغزالي «مقاصد الفلاسفة» الذي وضعه لعرض النظريات الفلسفية التي سينقدها في «تهافت الفلاسفة». والمفارقة مع كتاب «مقاصد الفلاسفة» أنه تُرِجم إلى العبرية في القرن الرابع عشر على أساس أنه عرض لآراء الفلاسفة لا تمهيداً لنقدهم، وأثر في المفكرين اليهود في العصور الوسطى وحتى عصر النهضة باعتباره كتاباً فلسفياً وكان أحد أهم مصادر اليهود في التعرف على الفلسفة.
([55]) See W. Z. Harvey and S. Harvey, “Rabbi Hasdai Crescas’s Attitude toward al-Ghazalı” [Hebrew], in N. Ilan (ed.), The Intertwined Worlds of Islam: Essays in Memory of Hava Lazarus-Yafeh (Jerusalem: 2002), 191–210
* كان «مقاصد الفلاسفة» عرضاً لفلسفة ابن سينا تحديداً، تمهيداً للرد عليه في «تهافت الفلاسفة»، ولم يكن هدف الغزالي منه تقديم فلسفة ابن سينا في ذاتها، لكن هكذا أخذه اليهود وأدى لديهم إلى انتشار فلسفة ابن سينا، حتى أحدث ما يمكن أن نسميه «سينوية يهودية» موازية للرشدية اليهودية في القرن الخامس عشر، وهو مصير غريب وعجيب لكتاب أحدث أثراً غير متوقع وغير مقصود من مؤلفه؛ يبدو أن كتاب «المقاصد» أخطأ مقاصده.