الفلسفة بين الكونية والقومية؛ ناصف نصار منتقدًا طه عبد الرحمن
فئة : مقالات
الفلسفة بين الكونية والقومية؛
ناصف نصار منتقدًا طه عبد الرحمن
نروم في هذا المقال معالجة إشكالية الفلسفة بين الكونية والقومية، من خلال تقديم تصور المفكر المغربي طه عبد الرحمن لهذه الإشكالية ومقابلته بعد ذلك بتصور المفكر اللبناني ناصف نصار، الذي يقدم جملة من الانتقادات والاعتراضات على الأفكار التي عبر عنها طه عبر الرحمن، ولاسيما في كتابه "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي". وقد سمح لنا الاستئناس بأفكار هذين المفكرين البارزين في الساحة الفلسفية العربية المعاصرة، أن ننتهي في خاتمة المقال إلى تقديم تصورنا الخاص لعلاقة الكوني بالخصوصي في أي إنتاج فكري فلسفي، سواء كان ينتمي إلى المجال التداولي الفلسفي العربي أو باقي المجالات التداولية الفلسفية المغايرة.
أولا- تصور طه عبد الرحمن القائل بالطابع القومي للفلسفة
يتخذ مفهوم الكونية، حسب طه عبد الرحمن، معنيين رئيسين في تاريخ الفلسفة؛ أحدهما هو الذي نجده في الفلسفة اليونانية، حيث يرادف مفهوم الكونية معنى "الكلية" في مقابل "الجزئية"، حيث إن الكلي هنا هو ما ينطبق على جميع أفراد النوع الإنساني. أما المعنى الثاني لمفهوم الكونية، فهو ذلك الذي نجده في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، حيث يتخذ مفهوم الكونية معنى "العالمية"؛ أي إن ما هو كوني فهو عالمي ينطبق على جميع الشعوب والأمم. من هنا، يرى طه عبد الرحمن أن مفهوم الكونية يتخذ في "الطور اليوناني" معنى أنطولوجيا وكيانيا، بينما يتخذ في "الطور الأوروبي" معنى جغرافيا وسياسيا.
يقدم الفيلسوف طه عبد الرحمن مجموعة من الاعتراضات على الأطروحة المتعلقة بكونية الفلسفة، ليثبت على العكس من ذلك اتصاف الفلسفة بالمحلية والخصوصية والقومية. يتمثل الاعتراض الأول في ارتباط الإنتاج الفلسفي بالإطار التاريخي والمرجعية الاجتماعية التي ترعرع في أحضانهما. ويتمثل الاعتراض الثاني في ارتباط المضمون الفلسفي بالشكل اللغوي الذي يلبسه ويتشكل من خلاله. وهذا الأمر يفضي إلى نتيجة مفادها؛ أنه مادامت اللغة العربية تتميز بصورها البلاغية وأساليبها التعبيرية الخاصة بها، والتي تميزها عن غيرها من اللغات، فإن المنتوج الفكري والفلسفي العربي لا بد أن يتأثر بخصائص هذه اللغة، ويكون بالتالي متميزا عن غيره من الإنتاجات الفكرية والفلسفية المكتوبة بألسن ولغات مغايرة. لهذا السبب ذهب الأستاذ طه إلى أنه «حتى لو قدرنا أن الفيلسوف يحصل في ذهنه معاني كونية، فلا يمكن أن تكون كونيتها كونية مجردة، نظرا لأن استحضار هذه المعاني في ذهنه لا يتحقق إلا بواسطة اللسان الخاص الذي استبطن بنياته وقواعده؛ والراجح أن هذه البنيات والقواعد الخاصة المضمرة في نفسه تقف حائلا بينه وبين الكونية المجردة».[1]
أما الاعتراض الثالث، فيتمثل في وجود اختلاف بين الفلاسفة، في ما يخص المناهج والنظريات المرتبطة باتجاهاتهم ومذاهبهم الفكرية، مما يجعل الممارسة الفكرية للواحد منهم متميزة عن الآخرين. وإذا تقرر ذلك بالنسبة إلى الفرد الواحد، داخل الأمة الواحدة، فيلزم أن ينطبق بالأولى على الأمة الواحدة في مقارنتها بباقي الأمم، فتكون لها فلسفتها الخاصة بها والمميزة لها عن باقي أمم وشعوب العالم. كما يقدم طه عبد الرحمن اعتراضا رابعا على دعوى كونية الفلسفة، يتعلق بما سماه بالتصنيف القومي للفلسفة؛ حيث نتحدث عن "الفلسفة اليونانية" و"الفلسفة الفرنسية" و"الفلسفة الإنجليزية"، ونميز كل واحدة منهما بخصائص فكرية ومنهجية معينة.
وينبغي التنبيه هنا، إلى أن قول طه بالطابع القومي للفلسفة لا يتعارض عنده مع مفهوم "الكونية الفلسفية"؛ وذلك لاعتبارين رئيسين: «أولا، لأن "الخصوصية الفلسفية" هي مهد "الكونية الفلسفية"؛ وبيان ذلك أن الفيلسوف ينشئ فكرا فلسفيا يستمده من مجال تداولي خاص، وينشئه بقيم معينة ولغايات مخصوصة، ولكنه يرتقي بهذا الفكر إلى رتبة تجعل تلك القيم أو الغايات أو المجال التداولي الذي انطلق منه مفتوحا على القيم والمجالات الأخرى (...) ثانيا؛ لأن "الخصوصية" هي جسد "الكونية"؛ وتوضيح ذلك أن المعاني الكونية لا يسعها، في صوغها ونقلها، إلا أن تلبس لباس الخصوصية؛ أي إنها تتكلم لغة مخصوصة وتنطق في مجتمع خاص وتستخدم لغايات مخصوصة؛ فلا بد من لباس خصوصي للمعاني الكونية، أو، بكلمة أخرى، الكونية هي عبارة عن معان تلبس لباس الخصوصيات المختلفة».[2] من هنا، لا يمكن الحديث عن مشترك فلسفي إنساني أو عن فلسفة كونية إلا إذا كانت هذه الكونية حصيلة فلسفات قومية مختلفة ومتنوعة. فالقول بالكونية لا يعني أبدا طمس وإلغاء الخصوصية؛ «فحقيقة الأمر أن الفلسفة لا تصدر إلا عن فيلسوف له موقع خاص في مجتمع خاص بقيم خاصة وبغايات خاصة».[3] ولهذا، لا توجد كونية بدون خصوصية، ومادام هناك عدة لغات تحمل معاني وقيم مختلفة، فإن الحوار والتواصل بينها يكون على أساس هذا الاختلاف، «مما يعني أن الخصوصية هي الطريق إلى الكونية».[4]
يرى طه أن العقل ليس واحدا لدى جميع الشعوب وفي كل العصور، بل هو مختلف ومتعدد؛ فبالرغم من اشتراك الناس في العقل، فإنهم يستخدمونه بطرائق متباينة ومختلفة. كما أن العقل ليس ذاتا، وإنما هو فعالية، وهذا ما يجعله يمارس وظائفه بطرائق مختلفة. ولهذا، فالعقول البشرية المختلفة في وظائفها وطرائقها وفعالياتها، لا تنتج فلسفة واحدة بل فلسفات متغايرة. وإذا كان بالإمكان حصول اشتراك في الفلسفة؛ أي وجود عقول فلسفية مختلفة تفكر في قضايا وإشكالات واحدة ومشتركة، فإن طه عبد الرحمن يرى أن «هذا الاشتراك في الفلسفة لا يلزم عنه بالضرورة وجود جملة من الصفات الفكرية المحددة التي تشترك فيها كل الفلسفات على نحو واحد».[5] فقد يحدث أن توجد عناصر مشتركة بين بعض التيارات أو المذاهب الفلسفية، لكن ذلك لا يكون موجودا بينها جميعا.
لهذا يشكك طه عبد الرحمن في القول بالكونية الكلية للفلسفة، ويقول على العكس من ذلك بجزئيتها. ومن هذا المنطلق، فإن الفلسفة اليونانية ليست فلسفة كونية، بل هي فلسفة قومية ترتبط بالسياق التاريخي والثقافي الخاص بالحضارة الإغريقية القديمة. وقد اعتقد العرب القدماء في كونية الفلسفة اليونانية لسببين رئيسين: الأول منهما يتمثل في أن العرب تعرفوا على الفلسفة مندمجة مع العلم، ولهذا فهم أسقطوا كونية المعارف العلمية الدقيقة من رياضيات وطبيعة وفلك وغيرها على الفلسفة، لتصبح عندهم كونية مادام أنها أم العلوم. أما السبب الثاني، فيعود إلى البناء النظري للفلسفة، الذي هو بناء عقلي استدلالي وبرهاني، ولهذا فقد عمم المتفلسفة العرب كونية العلوم البرهانية على أنواع الخطاب الفلسفي جميعها، فاعتبروا أن الفلسفة ذات طابع كوني وعام.
يعترض طه عبد الرحمن على ما سماه بالكونية السياسية للفلسفة، حيث يرفض الفكرة القائلة إن الفلسفة أوروبية في جوهرها، والتي عبر عنها الفيلسوف مارتن هيدغر بقوله: «إن عبارة "فلسفة غربية أوروبية" التي تتردد على الألسن هي، على الحقيقة، تحصيل حاصل».[6] من هنا، فانطلاق الأوروبيين من هذه الفكرة، هو الذي سيمثل حسب المنظور الطهائي مرتكزا للقوى السياسية الإمبريالية من أجل استعمار الشعوب الأخرى وبسط سيطرتها عليها، باعتبارها أمما غير متحضرة وغير قادرة على إنتاج الفكر الفلسفي العقلاني الأنواري.
ويقدم طه اعتراضا آخر على الكونية السياسية للفلسفة، يتمثل في اعتقاد الألمان أنهم يمثلون الأصالة الفلسفية الأوروبية أكثر من غيرهم، مما جعل الكونية السياسية للفلسفة تضيق من مستوى الأوروبية إلى مستوى الألمانية. كما يعترض المفكر طه على التوظيف السياسي للفلسفة من قبل القومية اليهودية، وتوجيهها لخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية، مما خلق فضاء فلسفيا يهوديا عالميا مسيطرا أدى إلى تهويد الفلسفة عامة، وليس تهويد الفلسفة الألمانية فحسب. ولم ينج من هذا التيار اليهودي المهيمن، في نظره، سوى ثلة من الفلاسفة تم التضييق عليهم، أو اتهموا بمعاداتهم للسامية.
إذا كان طه عبد الرحمن يرفض القول بالطابع الكوني للفلسفة الغربية، سواء كانت يونانية قديمة أو أوروبية حديثة ومعاصرة؛ وذلك من منطلق أن لها طابعا خصوصيا وقوميا مثلها مثل آدابهم وأساطيرهم وعاداتهم وتقاليدهم، فإنه يفعل ذلك لكي لا يقبل أن تصبح تلك الفلسفة الأوروبية مسيطرة ومهيمنة على باقي الشعوب الأخرى، إذ نجده ينادي بحق العرب والمسلمين في إنتاج فلسفتهم القومية الخاصة، المتناسبة مع مقومات مجالهم التداولي اللغوية والمعرفية والعقدية، شأنهم في ذلك شأن باقي الأمم الأخرى.
ثانيا- نقد ناصف نصار لتصور طه عبد الرحمن
انشغل ناصيف نصار بإشكالية العلاقة بين الكونية والخصوصية في جانبها الفلسفي، وما تثيره من أسئلة تتعلق بأشكال التواصل الممكنة بين المتفلسف العربي وباقي الفلاسفة الذين ينتمون إلى مجالات تداولية أخرى. وإذا كان نصار يقول بكونية الخطاب الفلسفي، فإنه مع ذلك يقر بأن هذه الكونية لا تلغي الخصوصية الفلسفية المرتبطة بمقومات المجال التداولي الخاصة، والتي تتحدد عنده بوحدة اللسان والوضعية السياسية والوضعية الحضارية. ولذلك، يعتبر أن الاختلاف شرط للتواصل، وهو ما يعني أن الفيلسوف العربي مطالب بالتواصل مع باقي الفلاسفة على أساس تأكيد اختلافه واستقلاله الفكري من جهة، وعلى أساس مشاركته في ما هو كوني من جهة أخرى. وأهم اختلاف يمكن للمتفلسف العربي تجسيده مع فلاسفة الغرب هو الاختلاف في اللسان أولا، ثم يأتي بعده الاختلاف السياسي والاختلاف الحضاري؛ ذلك أن «الفلسفة تؤكد كونيتها عبر خصوصيات الألسنة التي تتكلمها».[7] وهذا التعدد في الألسنة المعبرة عن الفلسفات التداولية المختلفة هو مصدر إغناء للكونية الفلسفية. ولهذا، نجد ناصيف نصار يتحدث عن مبدأ شراكة يحكم أشكال التواصل القائمة بين مختلف المجالات التداولية للفلسفة، وبموجب هذا المبدأ يتعين على الفيلسوف العربي أن يلبي دعوة الشراكة للمساهمة في ما هو كوني، على أساس أنه «شريك كامل الحقوق والواجبات في كونية الفلسفة».[8] وهو ما يعني أنه مطالب بالدفاع عن هويته وخصوصيته التاريخية والثقافية، في تعامله مع باقي الشركاء، في إطار من الأخذ والعطاء والاحترام المتبادل.
لكن هذا التعاون والتواصل الذي يقيمه الفيلسوف العربي انطلاقا من مجاله التداولي الخاص مع فلاسفة ينتمون إلى مجالات تداولية مغايرة، لا يخلو من مقاومة وجهاد من أجل التخلص من التبعية وتحقيق الاستقلال الفلسفي. وفي إطار اهتمامه بتواصل من هذا النوع، اتخذ ناصيف نصار كتاب "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" لطه عبد الرحمن كمثال لكي يمارس عليه تحليله النقدي، ويحاور من خلاله أطروحة طه في هذا الكتاب، والمتمثلة في قوله بالطابع القومي للفلسفة، وسعيه إلى إبطال الدعوى القائلة بكونيتها. وسيقف نصار عند طبيعة الحجج التي قدمها طه لإنكار القول بكونية الفلسفة، لكي يحاول أن يعترض عليها ويكشف عما يكتنف تلك الحجج من مغالطات وتناقضات.
يعترض ناصيف نصار على طه عبد الرحمن في مقابلته بين التاريخية والكونية، حيث إن تاريخية الفكر الفلسفي تنفي عنه خاصية الكونية في نظر طه عبد الرحمن. وهذا ما لا يقبله نصار؛ لأنه يرى أننا نرتكب مغالطة حينما نعارض بين تاريخية الفلسفة وكونيتها؛ ذلك أن تاريخيتها لا تنفي كونيتها، لأن الفلسفة ليست معلولة بشكل آلي لعلة هي الظروف التاريخية التي نشأت فيها، مادامت لها القدرة على اختراق العصور والمجتمعات والاتجاه نحو الماهية الإنسانية ونحو الوجود بإطلاق. فرغم الاختلاف الحاصل بين الفلسفات والمذاهب الفلسفية بفعل العوامل المختلفة، إلا أنها «تخاطب الناس جميعا بموضوعها ومقاربتها له (...) وبهذا المعنى، لا قيمة لإنكار كونيتها إلا على سبيل المصارعة، ردًّا على من ينكر خصوصيتها، أو خوفا من الحقائق التي تحملها في كونيتها».[9]
ويعترض نصار أيضا على طه في قول هذا الأخير بقومية الفلسفة انطلاقا من ارتباطها بخصائص اللسان البنيوية والدلالية والبيانية، وهو ما يعني من هذا المنظور نفي الطابع الكوني عنها. وبموجب هذا الاعتراض، يعتقد نصار أنه لا يمكن تسييج الفكر الفلسفي داخل أسوار الألسن واللغات، وإلا لما تحدثنا سوى عن فلسفة واحدة داخل اللسان الواحد، والواقع يثبت عكس ذلك، أي أنه داخل اللسان الواحد تتعدد المشارب الفكرية والمذاهب الفلسفية. كما لا يمكن ربط الفلسفة باللسان وإلا كنا أمام فلسفات متعددة بتعدد الألسن، وهذا ما لا تثبته الشواهد التاريخية، مما يعني أن اللسان «لا ينطوي على نظرة فلسفية معينة، في حد ذاته».[10] كما يرفض نصار فكرة طه عبد الرحمن القائلة بقومية الفلسفة وأن لكل أمة فلسفتها الخاصة بها؛ لأن «الفلسفات لا تتعدد على هذا النحو من الاختصاص بين الأمم، إذ لا وجود لفلسفة خاصة بكل أمة، لا من جهة اللسان ولا من جهة التجربة التاريخية».[11] وفي الوقت الذي يقول فيه طه بقومية الفلسفة، ويعتبر أن هذه القومية هي المنطلق إلى الكونية، نجد نصار بخلاف ذلك يعتقد أن القومية تشتغل تحت سقف الكونية وتتأطر انطلاقا منها، ولذلك فالفلسفة في نظر هذا الأخير لا تصوغ إشكالاتها ولا تبني مفاهيمها ونظرياتها انطلاقا من المنطق الفكري والعقدي للمجال التداولي القومي، بل تطرحها وتؤسسها انطلاقا من منطق العقل الفلسفي الذي يخترق العصور التاريخية والمجالات القومية جميعها.
ينبغي الإشارة إلى أن قول نصار بكونية الفلسفة لا يعني قوله إن الفلسفة واحدة، إذ إن العقل الفلسفي حرّ في الابتكار والإبداع، مما يترتب عنه التنوع والاختلاف بين الفلاسفة والتيارات الفلسفية، لكن مع ذلك، فإن هذا الإبداع والاختلاف يتمان في إطار وحدة العقل الفلسفي من جهة، ويتمان في خضم تناول معرفة فلسفية ذات طابع كوني من جهة أخرى. ولهذا، سيظل العقل الفلسفي دوما يناقش قضايا كونية تتعلق بإشكالات وجودية ومعرفية وقيمية، من قبيل الأسئلة المتعلقة بالمطلق والمصير والحق والعدالة والديمقراطية والجمال وغيرها. من هنا، فتعدد الفلسفات لا ينفي حسب نصار إمكانية القول بكونية الفلسفة. وهو ما يعني أن الاختلاف الفلسفي يحدث في إطار الدائرة الكونية الفلسفية، ولا ينحصر في إطار السياجات القومية والعقائدية المنغلقة.
يدعو طه عبد الرحمن إلى إنشاء فلسفة قومية عربية حية، تتأسس على مجموع القيم الراسخة في المجال التداولي الإسلامي العربي. ولذلك، فهو يدعو المتفلسف العربي إلى مقاومة المفاهيم والنظريات الفلسفية المنقولة انطلاقا من الدفاع عن القيم السائدة في مجاله التداولي الخاص. لكن ناصف نصار يرى أن هذه المقاومة الدفاعية تطرح «على المتفلسف العربي مهمة مستحيلة؛ لأن المتفلسف العربي اليوم لا يتكون وعيه ولا يشتد ساعده إلا بمقدار ما يستمد من الفضاء الفلسفي العالمي طرق تفكيره».[12] كما يرى نصار أن طه لا يتجلى كفيلسوف باحث عن الحقيقة شأنه شأن الفلاسفة المنتمين إلى الفضاء الفلسفي العام، بل يظهر كفيلسوف يمتلك حقيقة خارجة عن هذا الفضاء الأخير، هي تلك المتجسدة في القيم السائدة في المجال التداولي العربي، ويسعى انطلاقا منها إلى محاكمة المفاهيم والأفكار الرائجة في المجال الفلسفي الكوني. وإذا كان المعيار الذي يشترطه طه للقبول بالمفاهيم الفلسفية المنقولة هو معيار الفائدة للمجال التداولي العربي، فإن نصار يعترض على ذلك بالقول إن «مسألة صحة المفاهيم الفلسفية مستقلة في ذاتها عن مسألة الفائدة»[13]، مادام أن هذه الصحة هي صحة صورية ومنطقية وليست مادية ووجودية. هكذا، يصبح الوعي الفلسفي العربي بموجب معيار الفائدة هذا مكبلا بجملة القيم التي تأخذ بها الأمة الإسلامية العربية، مع العلم أنه ينبغي في نظر نصار إخضاع هذه القيم للنقد والفحص والمساءلة، إذ إنها ليست معصومة عن ذلك. فكما نحن مطالبون بنقد المفاهيم والقيم السائدة في المجالات التداولية الأخرى، فإنه علينا أيضا أن نمارس النقد على المفاهيم والقيم السائدة في مجالنا التداولي الخاص، و«بهذا النقد المزدوج، وبه وحده، ينفتح أمامه [المتفلسف العربي] باب التواصل الفلسفي الحقيقي المؤدي إلى الاستقلال الحقيقي والإبداع الحقيقي».[14]
يسعى ناصيف نصار إلى الكشف عن التناقض الحاصل في موقف طه عبد الرحمن من مفهوم الكونية. ويتجلى ذلك في رفض طه لكونية الفلسفة وقوله في الآن نفسه بكونية إسلامية عربية. فهذه الفلسفة الأخيرة تستمد كونيتها من القيم المتعالية المنبثة في القرآن كوحي منزل، لكنها أيضا تستمد خصوصيتها من اللسان العربي، مما يعني الجمع بين الكونية والخصوصية على هذا الصعيد. وإذا كانت الرؤية الإيمانية الإسلامية تجمع بين البعد الكوني الديني والبعد الخصوصي اللغوي العربي، فإنه يمكن بالمثل للرؤية العقلانية أن تجمع بينهما أيضا. من هنا، «فالخطاب الفلسفي موجه إلى الناس كلهم، كالخطاب الإسلامي، من دون أن ينكر ارتباطه بالخصوصية اللسانية. وكما يتعدد الخطاب الفلسفي مذاهب ومدارس، يتعدد الخطاب الإيماني أديانا، والخطاب الديني مذاهب (...) وهذا يعني أن إنشاء خطاب فلسفي عربي أصيل لا يقتضي إطلاقا إنكار كونية الفلسفة».[15] فالتفلسف عامة، سواء تم داخل المجال التداولي العربي أو داخل غيره من المجالات التداولية الأخرى، لا يمكن أن يتم إلا في إطار الجدلية القائمة بين ما هو كوني وما هو خصوصي. ولهذا، لا ينبغي للمتفلسف العربي أن يرفض هذا النوع من الجدلية بحجة المحافظة على العقيدة أو الأصالة، حتى لا يحكم على نفسه بالجمود والانغلاق. فالتواصل الفلسفي مع الآخرين يقتضي من المتفلسف العربي المساهمة في الكونية انطلاقا من الخصوصية، وذلك عن طريق التسلح بالنقد المزدوج البناء والخلاق، نقد الذات ونقد الآخر.
على سبيل الختم
يبدو لنا أنه بالرغم من أن الفلسفة تتلون فعلا بتلوينات تتعلق بالسياقات التاريخية والاجتماعية واللغوية، وتختلف باختلاف الفلاسفة والأمم، إلا أن هذا لا ينفي عنها جانبا من طابعها الكوني؛ ذلك أنه بقدر ما هناك قضايا وإشكالات خاصة بكل عصر أو مجتمع، فهناك أيضا قضايا وإشكالات عامة طرحت في كل العصور، وفي كل السياقات التداولية والثقافية المختلفة، ولا تزال تطرح إلى حد الآن، مما يجعل كل فيلسوف وكل ثقافة تقدم مقاربات وأجوبة خاصة عنها. فإشكالات فلسفية من قبيل البحث عن ماهية النفس، أو أساس الصداقة، أو البحث عن السعادة، أو تحديد مصادر المعرفة وكيفية إنتاجها، أو التفكير في الموت والمصير...إلخ، هي ولا شك إشكالات أرقت العقل الفلسفي في مختلف السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية، وهو ما من شأنه أن يسمح بخلق حوار "كوني" وعام بين الفلاسفة حولها، إذ سيقدم ولا شك كل واحد منهم مقاربات وأجوبة تختلف باختلاف قناعاته الثقافية ومنطلقاته الفكرية والإيديولوجية، المرتبطة بهذا القدر أو ذاك بالمرجعية الثقافية التي ينتمي إليها.
من هنا، نعتقد أن الطابع الكوني والطابع القومي حاضران معا في أية ممارسة فلسفية، وما الاختلاف الحاصل بيم طه ونصار سوى أن الأول يمنح الأولوية للخصوصية كمنطلق للمساهمة في الكونية، في حين يمنح الثاني الأولوية للكونية التي تؤطر الفكر المحلي دون أن تلغي خصوصيته، وكلاهما يدعوان إلى الحوار والتواصل بين الفلسفات المنتمية إلى المجالات التداولية المختلفة. فلا يمكن للمرء أن يتفلسف بدون أن يطلع على ما أنتجه الآخرون في الحضارات والعصور الأخرى، وهذا الاطلاع يجعله يقف عند قضايا إنسانية عامة لا يمكنه أن لا ينشغل بها في ممارسته الفكرية، كما لا يمكنه في الآن نفس أن يفكر فيها مثلما فكر فيها الآخرون، بل لا بد أن يدلي بوجهة نظره الخاصة فيها، طبقا لرؤيته الشخصية المتناسبة مع مزاجه أو ثقافته أو المذهب الذي ينتمي إليه. لهذا، نجد نوعا من الحضور المزدوج لما هو كوني وما هو قومي في أي تفلسف ممكن؛ فنحن نطلع على تجارب الآخرين التي يحتفظ لنا بها تاريخ الفلسفة، فنهضمها ونفكر فيها وبواسطتها في القضايا المرتبطة بوضعنا الثقافي والاجتماعي الخاص، كما تمكننا أيضا تجربتنا الثقافية الخاصة من المساهمة في الكونية والعالمية، عن طريق إبداع مفاهيم وأفكار ونظريات متفردة ومتميزة، ومرتبطة سواء بقضايا إنسانية عامة، كقضايا الحرية والعدالة والموت والصداقة والسعادة وغيرها، أو بقضايا خاصة بثقافتنا.
ولعل الطابع الكوني للفلسفة ناجم من جهة عن وحدة الطبيعة البشرية؛ إذ بالرغم من اختلاف العقول والثقافات، فإن وحدة النوع البشري تجعل الإنسان حيثما كان أمام إشكالات واحدة ومتشابهة تطرح نفسها عليه، ولا يمكنه أن يغض الطرف عنها، كما تجعله يصوغ قواعد ومبادئ عقلية ومنطقية تصبح متداولة ومشتركة بين كل العقول المنتمية إلى سياقات ثقافية متباينة. كما أنه ناجم، من جهة أخرى، عن التثاقف أو التفاعل المكثف الذي حصل بين الثقافات العالمية المختلفة، منذ العصور الحديثة إلى الآن؛ حيث أصبحت العقول المختلفة تفكر في هذا المشترك الإنساني العام، والذي يتشكل من قضايا كونية مطروحة على كل من يعيش في هذه "القرية الصغيرة" التي هي هذا العالم الشاسع نفسه. لكن من حق كل طرف، بطبيعة الحال، أن يفكر في تلك القضايا العامة انطلاقا من مرجعيته الثقافية الخاصة، وعن طريق التحاور مع الأطراف الأخرى، وفقا لقواعد عقلية وضوابط أخلاقية، سواء كانت تلك الأطراف تنتمي إلى ثقافته المحلية أو تنتمي إلى ثقافات أخرى مغايرة.
[1] طه عبد الرحمن، سؤال العمل؛ بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، ص.44
[2] طه عبد الرحمن، الحوار أفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، بيروت، 2014م، ص ص.117-118
[3] المصدر السابق، ص.117
[4] المصدر السابق، ص.12.
[5] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2009، ص.56
[6] - Heidegger, was ist das-die philosophie ? Pfullingen, p.13.ذكر هذا المرجع في الصفحة 59 من كتاب طه عبد الرحمن؛ الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المشار إليه سابقا.
[7] ناصيف نصار، التواصل الفلسفي والمجال التداولي، مجلة المستقبل العربي، العدد 347، السنة الثلاثون، يناير 2008م، ص.16
[8] المرجع السابق، ص.18
[9] المرجع السابق، ص.22
[10] المرجع السابق، ص.23
[11] نفس المرجع والصفحة.
[12] المرجع السابق، ص.28
[13] المرجع السابق، ص.29
[14] نفس المرجع والصفحة.
[15] المرجع السابق، ص.31