الفلسفة والإيديولوجيا
فئة : مقالات
هذا الموضوع أشبع درساً وكتابة وتمحيصاً. والظاهر أن لا جدوى من العودة إليه. لكن، إن سلمنا بأن طرفي المقارنة هنا قد تعرضا، وربما ما زالا يتعرضان، لتأويلات مختلفة متحولة ومتباينة، فربما استدعى الأمر إعادة النظر في المقارنة ذاتها، والعلاقة التي تربط الفلسفة بالإيديولوجيا.
لوقت غير قصير، ظل مفهوم الإيديولوجيا رهين تأويل معين كان يتخذ مرجعية له بالأساس ما جاء في مخطوط "الإيديولوجية الألمانية"، وقلما كان هذا التأويل يولي اهتماماً للكتابات اللاحقة لهذا المخطوط الذي خط كما نعلم سنة 1845، وظل، على حد تعبير إنغلز، عرضة لقضم الفئران، تلك الكتابات التي ظهرت سواء في الأدبيات الماركسية ذاتها، أو في غيرها، والتي اعترفت للأفكار بدورها في التاريخ فأعادت للبنية الفوقية أهميتها وفعاليتها، بل أعادت النظر في تحديد مفهوم الإيديولوجيا ذاته.
فضلاً عن ذلك، لا بد أن نشير هنا، وفي إطار الحديث عن تحول مفهوم الإيديويلوجيا، إلى المنزلة "الضعيفة" التي اتخذها المفهوم عند بعض كبار المفكرين المعاصرين.
هذا عن الطرف الثاني من الزوج، الأمر عينه يمكن أن يقال عن تحديد مفهوم الفلسفة الذي عرف اليوم، هو كذلك، تحولاً جوهرياً جعل البعض يرى أن الفلسفة لا موضوع لها، وأنها مجرد استراتيجية تروم تقويض الميتافيزيقا وتفكيك أزواجها.
على ضوء التحولات التي عرفها "المفهومان" إذاً، لنحاول أن نعيد النظر في العلاقة الممكنة بينهما. لكن لا بد أن نتوقف قبل ذلك عند أهم تلك التحولات، ولنبدأ بمفهوم الإيديولوجيا.
يدعو البعض إلى تجاوز التحديد الذي جاء في مخطوط "الإيديولوجيا الألمانية" والتفتح على الكتابات اللاحقة، إلا أنه يقتصر على ما جاء في رسائل ماركس وإنغلز من إعادة اعتبار للعوامل الإيديولوجية ودورها في التاريخ الإنساني، حيث أسندا للأشكال الحقوقيّة والنظريات السياسية والفلسفية والعقائد الدينية دوراً معيّناً، وإن لم يكن الدور الحاسم، فما يُسمّى بالعقيدة الإيديولوجيّة، كما يقول إنغلز، يؤثر في البناء التحتي ويمكنه ضمن حدود معيّنة أن يعدّله.
لا يخفى أن هذا التوقف عند الملاحظات المختلفة لإنغلز لم تعمل في النهاية على إعادة النظر الجذرية في المفهوم، صحيح أنها أدخلت عليه بعض التنقيح، إلا أن الأهم هو أنها لم تعمل على إعادة النظر في الأسس الفلسفية التي يقوم عليها، والتي تتمركز أساساً حول ما تعطيه الفلسفة التقليدية من دور أساس للذات المفكرة.
كان لازماً، والحالة هذه، ليس الاكتفاء بتنقيح المفهوم أو العمل على توسيعه، وإنما تجاوز الموقف الماركسي التقليدي في كليته، أو على الأقل إعادة تأويله، والانفتاح على ما عرفه المفهوم عند بعض الماركسيين المجريين، ولوكاتش على الخصوص، ثم عند غرامشي وبالأخص عند ألتوسير.
لا أعتقد أن بإمكان المرء أن يتحدث اليوم عن الإيديولوجيا، وخصوصاً ليقارنها بالفلسفة، مغفلاً الإسهام الألتوسيري. لقد ظلت الإيديولوجيا حتى عند ماركس نفسه مرتبطة بنظرية ما عن الوعي، ومشدودة أساساً إلى نظرية المصالح، وإلى مفهوم معين عن الحقيقة. يمكننا أن نجمل كل ذلك بقولنا إنها ظلت مرتبطة بميتافيزيقا الذاتية وبإبستيمولوجيا لا تحيد كثيراً عن العقلانية التقليدية، بل تستمد منها أسسها. فهي إذاً إبستمولوجيا ترتكز حول الكوجيطو وتعتمد المباشرة في إدراك المعاني، وتجعل من الذات المفكرة سند الوجود.
يكفي الرجوع في هذا الصدد إلى الكتاب المهم الذي جمع فيه لوي ألتوسير مجموعة من المقالات تحت عنوان: "دفاعاً عن ماركس"، حيث أوضح المفكر الفرنسي منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، أن التمثلات الإيديولوجية لا علاقة لها بالوعي، وأنها "موضوعات ثقافية تدرك وتقبل وتعانى وتعاش، فتفعل فعلها في البشر عبر مسلسل يفلت من أيديهم". استعمال كلمة موضوع هنا هو محاولة من الفيلسوف الفرنسي أن يبيّن أن الإيديولوجية لا تسكن الأدمغة، وإنما هي، على حد تعبيره، مستوى من مستويات التشكيلة الاجتماعية. فالوهم الإيديولوجي ليس كامناً في التمثلات، وإنما في العلاقة التي تربط تلك التمثلات بالعلائق التي تربط الناس فيما بينهم. فالإيديولوجية علاقة بالعلائق، إنها ليست علاقة بسيطة، وإنما علاقة مركبة، علاقة بعلاقة، علاقة من الدرجة الثانية على حد تعبير آلتوسير نفسه.
فحتى إن قرّبنا الإيديولوجية من مفهوم اللاشعور، فهي لن تكون لا شعور ذات سيكولوجية. ليس اللاشعور منطقة معتمة تسكن أدمغتنا. اللاشعور هنا هو الفجوة أو الانفلات الذي توجد فيه التشكيلة الاجتماعية بالنسبة لذاتها. اللاشعور هو هروب التشكيلة الاجتماعية عن ذاتها. ذلك أن العلائق الاجتماعية لا تعاش في مباشرتها، وإنما تعاش مبتعدة عن ذاتها. بلغة نيتشه إنها تعاش ملونة مؤوٌلة مغَلفة؛ أي أنها لا تعطى في تلقائيتها. هذا الابتعاد أوالانفلات، الذي لا يتوقف كثيراً على ما لدى الأعضاء الفاعلين في المجتمع من وعي به، هو ما يمكن أن نطلق عليه الوهم الإيديولوجي، وهو وهم لا يفترض بالضرورة، وكما اعتقد فوكو، حقيقة تقابله، ولا ذاتا تحمله، ولا مادة توجد "تحته"، لأنه ليس إلا التشكيلة الاجتماعية في انفصالها عن ذاتها، فكأن له وجوداً موضوعياً، إنه "موضوعات".
ثم إن الآلية الإيديولوجية لا تقف عند الدفاع عن مصالح، ولا تقتصر على القلب والتغليف، وإنما تخلق الوحدة وتتصيد الاختلاف. لا يمكننا أن ندرك الآلية الإيديولوجية إن نحن بقينا تحت قهر "نظرية المصالح". لذا يقول ألتوسير إن لهذه الآلية دوراً مهما من حيث هي "الإسمنت ا لذي يشد أواصر المجتمع" ويجعل التناقض انسجاماً والاختلاف تطابقاً والتعدد وحدة.
على هذا النحو، فالآلية الإيديولوجية آلية فعالة. إنها ليست مرآة عاكسة منفعلة، تعكس الواقع الاجتماعي وما يتفاعل فيه، وإنما هي عامل محدد، وفعالية نشطة، ومقاومة مستميتة. الإيديولوجية قدرة جبارة على التلون والتقنع، وقدرة خارقة على التلوين والتقنيع وخلق الأوهام.
من هذه الوجهة، يظهر التعارض العميق بين الآلية الإيديولوجية وما يقوم فكراً مضاداً لها، وبمقارنة هاتين الآليتين فحسب يمكن أن نتبين أهمية الفلسفة. ذلك أن لكل من هاتين الآليتين أهدافاً يرمي إليها، وطريقة ينهجها، ومفاهيم يوظفها. فإذا كان همّ الإيديولوجيّ هو خلق الوحدات وتوليد التطابق وإقامة عائلات فكرية ورسم تيارات ونظرات إلى العالم، فإن سعي الفلسفي هو توليد الفروق، والوقوف عند النقاط التي قد تفجر كلية متراصة، ليكشف أنها فضائح تخرق القانون وتشذ عن القواعد. إن كان هم الإيديولوجي هو خلق التطابق، فإن مسعى الفلسفي هو توليد الاختلاف.
فإذا كانت استراتيجية الفلسفة استراتيجية تفكيكية مقوضة، فما ذلك إلا مقابل الإيديولوجيا البناءة الموحدة. فلا تقويض من غير بناء، ولا تفكيك من غير التحام، ولا تعدد من غير وحدة، ولا فروق من غير هويات.