الفلسفة والتقنية المعاصرة

فئة :  ترجمات

الفلسفة والتقنية المعاصرة

الفلسفة والتقنية المعاصرة([1])

أولاً

إن أصل الفلسفة هو إشكالية البحث عن الحقيقة. ويشمل هذا التساؤل النقدي لظروف العيش، وبشكل عام البيئة المعيشية (مثلما فعل إدموند هوسرل بالمنهج الفينومينولوجي). وبما أن البيئة المعيشية الملموسة لا تُعطى بطريقة شبه «طبيعية» فقط، بل إنها تُشكل باستمرار من طرف البشر، فإن الفلسفة هي في الأساس أيضاً تأمل للتكنولوجيا -بوصفها الطريقة الخاصة التي يتعامل بها البشر مع «العالم» بمعنى الـمُعطى الطبيعي.

من خلال الممارسة/العمل -أي التشكيل المستمر للمعطى الطبيعي- لا توجد بالنسبة إلى الإنسان «طبيعة في حد ذاتها»، بل الطبيعة فقط كبيئة معيشية. والإنسان ليس طبيعة خالصة، لكنه كائن ثقافي باستمرار. أفهم «الثقافة» شخصياً بالمعنى الاشتقاقي الأصلي للكلمة، المشتق من الفعل كولير colere: كزراعة أو صيانة أو استخدام الأرض (الطبيعة) لغرض الحفاظ على الحياة والرفع من مستواها. بهذا المعنى، فإن فلسفة التكنولوجيا هي التفكير في أصل الطبيعة وفي عواقب وهدف استخدام وتغيير الإنسان لها؛ أي فيما يتعلق بفهم الإنسان للواقع في حد ذاته. وسأحاول فيما يأتي شرح ذلك باستخدام بعض الإشكاليات المختارة كأمثلة على ذلك.

تتعلق الجوانب المركزية للتفكير الفلسفي هنا بمجالات نظرية المعرفة، الأنطولوجيا والأخلاق والفلسفة الاجتماعية والثقافية. وللنتائج الأنثروبولوجية للتكنولوجيا هنا أهمية حاسمة أيضاً. يشكل تطوير التكنولوجيا الحديثة تحدّياً خاصّاً للفلسفة، طالما أن الإجراء التقني لم يعد يمثل تدخلات في البيئة الطبيعية أو إعادة تشكيلها للأغراض الإنسانية فقط، ولكن أيضاً -وبوصفها تقنية طبية واجتماعية وتكنولوجيا معلومات- تؤثر بشكل مباشر على الأصالة/النزاهة الجسدية والنفسية للأشخاص.

إن الوعي والتفصيل الدقيق للترابط/التداخل بين الناس والعالم (المشكل من جديد من طرفه) أمر حاسم للفهم والنقد الفلسفيين للتكنولوجيا، وهو تبادل تأثير/تفاعل يكتسب، مع تطور التكنولوجيا الحديثة (بمعنى الأمثلة المذكورة أعلاه)، تعقيداً جديداً بالكامل من جهتين:

- مع التقدم التقني السريع يتم التغيير المستمر لحدود ما يمكن عمله. ولتدخل الإنسان في البيئة الطبيعية تأثير على الإنسان بنفسه، وتغيير فهمه للواقع أو موقفه من الحياة في مواجهة محدوديته/فنائه.

- للتلاعب التقني بالجسد (أي التكوين المادي للإنسان، بما في ذلك الدماغ) من طرف الطب الحديث، والتأثير الأكثر دقة على الإدراك ومعالجة المعلومات للفرد، باستخدام المعلومات والتقنيات الاجتماعية الجديدة، تأثير مباشر على هوية الشخص وتمثل الذات الاجتماعية للفرد. وهذا ينطبق بشكل خاص على تحديد الشخص لذاته (الاستقلال الذاتي)، وبالتالي على تنظيم المجتمع أيضاً (أي السياسة، وعلى وجه التحديد الديمقراطية).

ثانياً

* نظرية المعرفة

تطرح الإشكاليات الفلسفية المركزية نفسها، فيما يتعلق بالتكنولوجيا، في شكل جديد ومعدل تماماً. وأرجع هنا إلى الجوانب التي سبق ذكرها في شكل التساؤلات الملموسة التالية:

- هل التكنولوجيا التي تم تطويرها بمساعدة التجارب العلمية توسع أفق المعرفة لدينا ليس فقط فيما يتعلق بالبيئة المادية (اليومية)، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالواقع كما هو؟

- هل تصبح الأسئلة الميتافيزيقية التقليدية حول أصل وجودنا زائدة عن الحاجة بسبب التبصر في قوانين الطبيعة والإتقان التقني الذي أتاحه هذا، للظواهر الطبيعية التي لم يكن من الممكن السيطرة عليها من قبل؟

- هل تعني التكنولوجيا تقدّماً بمعنى «إزالة الغموض Entmystifizierung» عن الواقع؟ وهل تجعل الإنسان بهذا المعنى «أكثر عقلانية»؟

- أم إن كل شيء ينتهي بالرجوع إلى قبل ما تم تحقيقه مع عصر التنوير؛ أي إلى لاعقلانية جديدة لجنون القوة التكنولوجية (لأن المرء يعتقد أن الواقع على هذا النحو يكون تحت السيطرة)؟ وهذا هو ما صاغه هايدغر بمصطلح «الرف» «Ge-stell» في نقده للتكنولوجيا.

* الأنطولوجيا/علم الوجود أو الميتافيزيقيا: ألا تؤدي التشكيلات الجديدة للكائنات التي يستطيع الإنسان أن يخلقها بمساعدة التكنولوجيا، والتي يكاد يسمم نفسه بها (كما تثبت "أيديولوجية التقدم" في القرن العشرين) مباشرة إلى عالم وهمي، يعطي الناس وهم الأمن (الوجودي) في واقع يُنتجه نفسه ذاتياً تقريباً، لكن في الحقيقة لا يغير شيئاً بشأن نهائيته (Kontingenz)؟

* الأخلاق: طبقاً لأي معايير يقوم الناس بإعادة تشكيل الطبيعة واستخدام قوانينها؟ والقضايا الرئيسة هنا هي التأثيرات على البيئة -خاصة فيما يتعلق بخطر التدمير طويل الأمد لأساس الحياة (مثال: الاحتباس الحراري). يتعلق الأمر بعبارة دقيقة بمسألة المسؤولية عند استخدام تقنيات معينة ضارة للغاية بالبيئة، مثل التكنولوجيا النووية، والتي لا يمكن تشغيلها إلا بجهد تقني هائل، حيث يتم تجنب الضرر الإشعاعي على المدى القصير والطويل.

ويتعلق الأمر قبل كل شيء، إذا نظرنا إلى الأشياء بروية، بعدم إمكانية ضمان أنه لا يزال من الممكن تخزين النفايات المشعة بأمان بعد آلاف السنين -نصف عمر بعض النظائر Isotope -. ولا يوجد مكان في العالم يمكن فيه الحفاظ على الاستقرار السياسي لفترة طويلة. ويتطلب هذا تحليلاً للتكلفة والعائد يتجاوز الانتهازية البراغماتية. ولا يجب أن يتم تخزين هذه النفايات بشكل مستقل عن الاعتبارات الأخلاقية. إضافة إلى هذا، يجب أيضاً توضيح أهداف التكنولوجيا النووية من وجهة نظر أخلاقية: ما هي المخاطر وما الهدف الذي يبرر المخاطرة فيما يخص حماية الحياة، بوصفها القيمة العليا؟

وبهذا الصدد، يجب تقييم استخدام التكنولوجيا النووية، على سبيل المثال لتوليد الطاقة ولأهداف طبية، لكن السؤال الأخلاقي الأكثر حساسية هو استخدام هذه التكنولوجيا لصنع أسلحة دمار شامل. هل يُسمح للعلماء العمل على تطوير تقنية يمكن أن يؤدي تطبيقها إلى انقراض البشرية؟ فما لا يتطابق مع العقل الجماعي للإنسانية والشعور بالمسؤولية السياسة هو صرف مبالغ هائلة من المال لتطوير هذه التكنولوجيا منذ الحرب العالمية الثانية، وهو مال كان من الممكن استخدامه للتنمية الاقتصادية والقضاء على الفقر. من وجهة نظر أخلاقية، يتعلق الأمر في نهاية المطاف، أيضاً بالتلاعب بالإنسان من خلال التكنولوجيا، خاصة في مجالات الطب والهندسة الوراثية. ويمس هذا مسائل كرامة الإنسان وهوية الشخص. إن التدخلات في الجينوم، و«القتل الرحيم»، والأشكال الاصطناعية للإنجاب أو «تكاثر» البشر، وزرع الأعضاء (مع إزالة الأعضاء مسبقاً) إلخ، هي تقنيات يجب التشكيك فيها أخلاقياً([2]). مبدئياً، لا تعني إمكانية عمل شيء ما أبداً تبرير تحقيقه منذ البداية.

* الأنثروبولوجيا: يتعلق الأمر بعواقب التشكيل التقني للعالم على فهم الإنسان لذاته، ولكن قبل كل شيء فهمه للطبيعة البشرية. ويتعلق السؤال الذي يطرح نفسه هنا بتداعيات الظروف البيئية على الإنسان، وهي ظروف غيرها الإنسان بنفسه. إذا كان يُنظر إلى الطبيعة في المقام الأول كشيء يجب معالجته أو استخدامه حصرياً للأغراض البشرية (كما وصف هايدغر هذا في نقده للتكنولوجيا)، فإن هذه الطبيعة تفقد أصالتها/أصلها Ursprünglichkeit. إلى حد ما، يخرج الإنسان من وضع ترسخه في الطبيعة، إلى وضع يُحوله بشكل متزايد إلى كائن مصطنع لا يمكنه البقاء إلا في ظل ظروف بيئية محددة للغاية يشكلها ويتحكم فيها بنفسه. لم تعد الطبيعة بالنسبة إلى الإنسان، سوى «كائن» و«متضاد Gegenbegriff».

* الفلسفة الاجتماعية والثقافية: يتعلق الأمر هنا بالتغيير في التنظيم الاجتماعي وتنظيم الدولة من خلال كل من التكنولوجيا الآلية ونظريتها الاجتماعية. ونظراً للتطور السريع لقطاع تكنولوجيا المعلومات بأكمله في القرن الحادي والعشرين، فإن خطر السيطرة الكاملة التي يوفرها هذان المجالان تجلب معها خطر التآكل التدريجي لعمليات صنع القرار الديمقراطي، وعلى وجه الخصوص مشكلة «المواطن الشفاف» الذي لم يعد قادراً على حماية خصوصيته في عصر الرقمنة، سواء تجاه السياسة أو فيما يخص المصالح الاقتصادية القوية والمتنوعة. يجب عدم الاستهانة باستخدام تقنيات اجتماعية معينة، مثل تلك التي طورها علم النفس الإعلاني، بغرض التلاعب بسلوك المستهلك، وكذلك بالرأي العام بشكل عام، في تأثيرها على النظام السياسي. ومنذ قرن من الزمان، صاغ عالم الاجتماع الأمريكي والتر ليبمان Walter Lippmann مصطلح «صنع الموافقة manufacture of consent» (حرفياً: إنتاج اتفاق، أي في الواقع: دعاية). وتتضح المشكلة حالياً بشكل خاص في الآثار الإشكالية لتطبيقات تكنولوجيا المعلومات فيما يسمى «الوسائط الاجتماعية الجديدة» على العلاقات الشخصية، والتماسك الاجتماعي وحماية الخصوصية (ضروريان في دولة دستورية). وتفتح هذه التقنيات الجديدة الباب والبوابة Tür und Tor أمام الانتهاكات السياسية. وقد وصف ياسين عدنان المشكلة ببراعة في روايته «المغرب الساخن Hot Maroc» في عدد كبير من دراسات الحالة الدقيقة.

ومع ذلك، يجب أيضاً مراعاة تأثيرات تكنولوجيا المعلومات على الخطاب Diskurs بين الثقافات والتبادل العالمي للمعلومات. لقد طمست التكنولوجيا جميع الحدود الجغرافية والوطنية في هذا الصدد. من وجهة نظر ثقافية فلسفية، يجب التساؤل عما إذا كان هذا التطور يؤدي بالفعل إلى مزيد من التنوع، كما يعتقد الكثيرون -أو ما إذا كان يتم إنشاء ديناميكية نحو التوحيد الجديد Uniformität في النهاية؛ لأن تكنولوجيا المعلومات يمكنها تضخيم أي اتجاه بشكل كبير (وكمثال على ذلك هناك استعمال فيسبوك وتويتر) وهناك أيضاً نوع من التشويه للمنافسة بين الدول التي لديها بنية تحتية أفضل لتكنولوجيا المعلومات وتكون أكثر كفاءة في استخدام هذه التكنولوجيا من غيرها ويكون بالإمكان أن تزيد بشكل حاسم من تفوقها السياسي، باستخدام هذه التقنية (التي تشمل الوسائط الإلكترونية السابقة، والفضائيات، وما إلى ذلك) لفرض ثقافتها، وأيديولوجيتها، ونظرتها للعالم، وطريقة حياتها بسهولة أكبر على العالم بأسره، أكثر مما كان عليه الحال في عصر ما قبل تكنولوجيا المعلومات. لربما نشهد حالياً شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار الثقافي بعد نهاية العصر الاستعماري. علاوة على ذلك، ينبغي أيضاً التحقيق في العلاقة البنيوية بين التكنولوجيا والعولمة، طالما أن الأخيرة ربما تكون ممكنة فقط من خلال الأولى. (يتعلق الأمر بشكل خاص بتأثيرات الضرب (يتعلق الأمر بشكل خاص بتأثيرات الضرب في تفاعل تكنولوجيا النقل والاتصالات.) في تفاعل تكنولوجيا النقل والاتصالات.)

ثالثاً

أخيراً، كلمة عن الاتجاه الفائق المعاصرة نحو «تأليه Apotheose» التكنولوجيا بمعنى ما يُعرف في الولايات المتحدة بـــ«التفرد singularity» التكنولوجي. يتعلق الأمر بموضوع يتم العمل عليه في الولايات المتحدة الأمريكية (كاليفورنيا) فيما يسمى «جامعة التفرد» شارك في تأسيسها غوغل وناسا (أحد المؤيدين الرئيسيين هو المخترع والمستقبلي راي كورزويل رئيس التطوير التقني في غوغل).

تبدو الرؤية أو التكهن بمستقبل تكنولوجيا المعلومات فيما يتعلق بتقنية النانو على وجه الخصوص مليئة بالمغامرة؛ إذ يُعتقد بإمكانية تطوير برامج كمبيوتر قادرة على توليد ما يسمى بـــ«الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence / AI»، يتجاوز بكثير ذكاء الإنسان (القدرات الإدراكية الإنسانية، ويقال إن المرء يريد التغلب على الحدود بين الإنسان والكمبيوتر ويُعتقد أنه بهذه الطريقة يمكنه تغيير الحضارة الإنسانية بشكل جذري.)

لكن يبقى سؤال فلسفي أساسي دون إجابة: ماذا تعني القدرة «المعرفية» حتى؟ ففي مجال الذكاء الإنساني، يعد هذا بالتأكيد أكثر من مجرد معالجة للمعلومات، بغض النظر عن مدى «السرعة الفلكية» التي قد تكون عليها هذه المعالجة. يتضمن الذكاء التفكير (التأمل الذاتي بالمعنى الكانطي) -وبالتالي القدرة على التصرف بشكل أخلاقي. بالنسبة لي يبدو محيّراً كيف يمكن لمضاعفة سرعة «الحوسبة/الحساب Rechnen» (أي معالجة المعلومات) -حتى بمعدل أسي exponentiel يتجاوز القدرة الإنسانية- أن يُنتج أو يزيد شيئاً ما مثل الروح (كما يسمح الوعي الذاتي بذلك). يمكن للروبوتات -مثل ما يسمى بالحواسيب الفائقة-، كما تم إثباته عدة مرات في لعبة الشطرنج (على سبيل المثال بواسطة كمبيوتر IBM «Deep Blue»، 1997)، «التفوق» -والقضاء على الملك في اللعبة- لكنها أساساً لا تستطيع وعي ذاتها، وبالتالي لا تتحمل أية مسؤولية عن أفعالها، بل تشتغل فقط طبقا لبرمجتها، كما أوضح إيلون ماسك Elon Musk ذلك أيضاً، يكمن الخطر على الإنسان تحديداً في فقدان السيطرة على العمليات التي يُنتجها بنفسه، وهي عمليات تصبح إلى حد ما تلقائية -لأن الإنسان ببساطة يفقد مسار التفاعلات المعقدة بشكل متزايد ولا يمكنه رد الفعل بسرعة كافية. إنها بالضبط المشكلة التي تناولها غوته -وتوقعها- منذ أكثر من قرنين في قصيدة الساحر المبتدئ Ballade vom Zauberlehrling (1797): «الأرواح التي استدعيتها / لا يمكنني التخلص منها الآن».

يشمل مفهوم التفرد التكنولوجي أيضاً الحلم القديم للاندماج بين الإنسان والآلة، وحتى خلق نوع من «الإنسان الخارق Übermensch» الذي ينجو من الموت. أُشَخِّص/أرى هنا سذاجة ميتافيزيقية غريبة. إن الفكرة القائلة إن الإنسان يمكنه «مسح scannen» محتوى وعيه وتخزينه في جهاز كمبيوتر (أو شريحة Chip)، وبالتالي تأمين حياة «أبدية» لنفسه كفرد واع -كإنسان آلي لديه وعي، بصفته «الإنسان الافتراضي»-، هي فكرة ساذجة للغاية؛ ليس فقط من الناحية الفلسفية، بل أيضاً، إلى حد ما، جسديّاً.

هكذا يصبح الإيمان بالتكنولوجيا بديلاً عن الدين. إن حلم الحياة الأبدية، الذي تضمنه على ما يبدو تكنولوجيا الكمبيوتر المعاصرة، يُهدم عندما يتعرض لنقد فلسفي رصين: إن «الخلود» لا يعني مجرد استمرارية زمنية إلى ما لا نهاية ad infinitum. كما أوضحنا سابقاً، تم استبعاد هذا من البداية بالنسبة إلى البيانات المخزنة في شريحة ما؛ لأن «بقاءها» يتطلب استمرارية فيزيائية، وللأرض والنظام الشمسي أو المجرة وما إلى ذلك أيضاً تاريخ انتهاء الصلاحية. إن الخلود يعني الوجود خارج الزمن. وتخزين البيانات المعتمد على الإعداد المادي الملموس -إذا ولّد الوعي، وهو ما أشك فيه- لا يمكن أبداً نقل الوجود الإنساني إلى بُعد يتجاوز الزمن.

لن يتغير أي شيء من كل هذا إذا كان ينبغي، كما يأمل إيلون ماسك Elon Musk، أن تكون البشرية قادرة ليس فقط على مغادرة الأرض، بل وأيضاً على مغادرة نظامنا الشمسي([3]). إن الوقت/الزمن بمعنى التدفق المادي غير المحدود لا يصبح أبداً خلوداً. من حيث المبدأ -فيما يتعلق بحقيقة الزوال- لا فرق بين ثانية واحدة ومليار سنة. إن الخلود Ewigkeit ليس استمرارية Fortdauer اعتباطية، بل هو خلود/انعدام/غياب الوقت Zeitlosigkeit.

تتجلى رؤية التفرد التكنولوجي في إرادية Voluntarismus غير مقيدة وغير عقلانية للجنس البشري، محكوم عليها حتماً بالفشل باعتبارها دافعاً للتأليه الذاتي. تحولت فكرة نيتشه عن «الإنسان الخارق Übermenschen» في النهاية إلى وهم خطير يقود إلى الهاوية الميتافيزيقية. تتمثل مهمة الفلسفة في رفع مرآة أمام أيديولوجيي/منظري التكنولوجيا، وتوضيح أن الإنسان -بغض النظر عن مدى رغبته في ذلك- لا يمكنه أبداً التغلب على الواقع بهذه الطريقة. وبقدر ما كان الإنسان قادراً على استخدام قوانين الوجود (قوانين الطبيعة) لتحقيق أهدافه -ولا يمكن هنا بأي حال من الأحوال التنبأ بنهاية التطور («التقدم»)- فإنه غير قادر أبداً على التغلب على الاختلاف الأنطولوجي/ الوجودي. إن الكينونة -الواقع الأصلي فيما وراء المكان والزمان- بعيدة المنال عن التكنولوجيا الملموسة. وبهذا المعنى، فإن «التواضع الميتافيزيقي» مطلوب على الرغم من كل هذا الإيمان بالتقدم، وبالخصوص عندما تنجح «قفزة كمزمية» في التطور من مستوى تكنولوجي إلى مستوى أعلى، كما يبدو عليه الحال بلا شك مع تكنولوجيا الكمبيوتر في طريقها إلى الذكاء الاصطناعي. يجب ألا يقع إنسان الحضارة التقنية في شكل جديد من اللاعقلانية -الخرافات Aberglauben- التي تعيده إلى ما وراء إنجازات النزعة الإنسانية/الإنسية Humanismus. وهذا بالضبط هو ما يهدد النوع البشري إذا كان يعتقد بأنه يمكن أن يفلت من محدوديته -وبالتالي من قوانين الطبيعة- بمساعدة التكنولوجيا، وحتى تجاوزها/التغلب عليها.

إن «الغطرسة الميتافيزيقية» التي نشأت من محدودية الإنسان وكبته لهذه الأخيرة -مع جنون القوة الذي يغذيه التقدم التقني السريع- يحمل في طياته في النهاية خطر تدمير الإنسان لذاته، ليس فقط فيما يتعلق بالاستخدام التقني للطاقة النووية بالخصوص.

([1]) محاضرة بجامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1 يونيو/حزيران 2022

([2]) Köchler (Hrsg.), Transplantationsmedizin und personale Identität: Medizinische, ethische, rechtliche und theologische Aspekte der Organverpflanzung. Frankfurt a. M. etc.: Peter Lang, 2001

([3]) بالنسبة إلى الجوانب الكوسمولوجية والأنثروبولوجية راجع كوكلر

Köchler, “The Relation between Man and World,” in: Anna-Teresa Tymieniecka und Attila Grandpierre (Hrsg.), Astronomy and Civilization in the New Enlightenment – Passions of the Skies. Analecta Husserliana, Bd. 107. Dordrecht/Heidelberg/London/New York: Springer, 2011, S. 37-46