الفلسفة وسياسة الرّياسة عند الفارابي: من يكون رئيس المدينة الفاضلة؟
فئة : أبحاث محكمة
الفلسفة وسياسة الرّياسة عند الفارابي:
من يكون رئيس المدينة الفاضلة؟
- تتمة-
1) القول في المدينة الفاضلة: أصنافها ومراتبها:
إذا عدنا إلى النّصوص الفلسفيّة الفارابيّة، نجدها حتما مفعمة بهذه المسائل. وحسبنا دليلا عمّا نزعم هاهنا، ما طالعنا به المعلّم الثاني في كتاب: "فصول منتزعة"، بقوله: "المدينة الفاضلة أجزاؤها خمسة: الأفاضل وذوو الألسنة والمقدرون والمجاهدون والماليّون"([1]). بهذا المعنى، فإنّ المدينة الفاضلة عند أبي نصر تتشكّل من خمسة مراتبة متكاملة ومنظمة تبعا لحاجات الاجتماع الإنساني وضرورة الحياة والعيش العام. وبمستطاعنا تفصيل القول في هذه المراتب الخمس على النّحو التالي:
* الأفاضل: والمقصود بهم "الحكماء والمتعقّلون، وذوو الآراء في الأمور العظام"([2]). على نحو ما علمنا الفارابي؛ فالأفاضل هم الذين بلغوا القمّة في الفضيلة، وهم عند أبي نصر الحكماء أساسا. إذا علمنا أنّ الحكمة تنسب إلى الفلاسفة والأنبياء. وهؤلاء قد بلغوا في ترقيهم المعرفي والأخلاقي الكمال الأخير. وهم تبعا ذلك أصحاب القرار في الأمور المهمّة التي تخصّ المدينة الفاضلة وأهلها.
* حملة الدين وذوو الألسنة: وهم "الخطباء والبلغاء والشعراء والملحنون والكتّاب ومن يجري مجراهم وكان في عدادهم"([3]).
فإذا فهمنا أنّ "حملة الدّين"([4]) عند الفارابي: هم من توكل لهم مهمّة حفظ الدّين وشرائعه ونواميسه التي على عامّة النّاس أو "الجمهور" بلغة الفارابي إتباعها. فإنّ أصحاب الألسنة بحسب التحديد الفارابي هم الخطباء والشعراء والكتاب؛ أي الذين لهم مواهب مختلفة وقدرة فائقة على استخدام اللّغة في سياقات متنوّعة مكتوبة كانت أم ملفوظة.
* المقدّرون: وهم عند الفارابي: "الحسّاب والمهندسون والأطبّاء والمنجّمون ومن يجري مجراهم"([5]). فالمقدرون إذن هم جملة الإطارات والكفاءات المتخصّصة في أنواع التقدير والتكميم المتعلّقة بمجالات متعدّدة في هذه المدينة الفاضلة شأن المجال الاقتصادي والاجتماعي إلخ...
* المجاهدون: وهم: "المقاتلة والحفظة ومن جرى مجراهم وعدّ فيهم"([6]) بحسب التصوّر الفارابي. بالتالي، فإنّ المجاهدين هم أهل الحرب والقتال وحماة المدينة من كلّ المخاطر الداخليّة أو الخارجيّة حفظا للنظام العام في المدينة ودعما للأمن ومظاهر السّلم فيها؛ وذلك إمّا بدفع الأعداء الذين بإمكانهم تهديد وجودها المادي (وجود المدينة)، أو من الدّاخل بمحاسبة ومعاقبة كلّ من ينحرف عن النظام الفاضل السّائد داخلها، والذي يسير على هديه الكلّ.
* يحتلّ هذه المرتبة الماليّون: "هم مكتسبو الأموال في المدينة مثل الفلاحين والرّعاة والباعة ومن جرى مجراهم"([7]). نلاحظ أنّ أصحاب هذه المرتبة الخامسة والأخيرة يشكلون دعامة اقتصاد المدينة الفاضلة من تجار وباعة وفلاحين يعملون في الأرض ومهمتهم كسب المال الذي تحتاجه المدينة لاستمرار وجودها المادي.
ما نلاحظه من خلال هذا التصنيف الذي قام به الفارابي لمراتب المدينة الفاضلة وأجزاؤها، هو اعتماد فيلسوفنا ترتيبا تفاضليّا هرميّا يخصّ مختلف الطبقات المشكّلة لهيكليّة المدينة وديمومتها. دون أن يعدم ذلك الطابع التكاملي والترابط المتين بين تلك المراتب المتنوّعة دعما لوحدة المدينة؛ فكلّ مرتبة تكمّل الأخرى وتكتمل بها.
للاطلاع على تفاصيل البحث كــامــلا
[1] فصول منتزعة، فصل 57، ص. 65
فصل 60، ص. 67 وما بعدها. راجع حول مراتب أهل المدينة كما لخصها الفارابي عن أفلاطون، تلخيص نواميس أفلاطون، ص. 68-69. أنظر أيضا: حمّو، (محمد آيت): الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، ص. 175-187
[2] فصول منتزعة، ص.65
[3] فصول منتزعة، ص. 65
[4] يرى أبو نصر في سياق حديثه عن الفقهاء، أنّ الفقيه في منظوره أقل علما بالحقائق الإلهيّة العقليّة من الفيلسوف. فالفقيه: "يتشبّه بالمتعقّل". وليس متعقلا حقيقيّا. لمزيد التوسّع، انظر: كتاب الحروف، ص.133
[5] فصول منتزعة، فصل 57، ص.65
* نلفت الانتباه أنّ استخدام الفارابي للمنجمين يعني بهم علماء الفلك لا المنجمين الذين يدعون العلم بالغيب بالنظر في حركات الأفلاك والكواكب؛ ذلك أنّ أبا نصر لا يقبل بصحّة التنجيم الذي يدّعي أصحابه العلم بالغيب وتوضيح أحداث المستقبل بملاحظة حركات الأفلاك والنجوم. انظر رسالته: «فيما يصحّ ولا يصحّ من أحكام النّجوم "ضمن المجموع، ص. 70 وما يليها.
- يتعرض الفارابي إلى "علم النّجوم" بالدّراسة والتحليل ضمن كتاب: "إحصاء العلوم". راجع الفصل الثالث: في علم التعاليم، ص ص. 28 -29
[6] فصول منتزعة، فصل 57، ص.65. يستخدم الفارابي تسمية: "حفظة المدينة"، وهم الجنود وأطواف الليل والمحاربون. راجع النواميس، ص. 70. قارن: حفظة الناموس: وهم الحكام والواعظون والمدبرون وأهل الرأي. م. ن، ص. 70
[7] فصول منتزعة، ص ص. 65 – 66