الفنّ كأفق تيوصوفي
فئة : مقالات
الفنّ كأفق تيوصوفي([1])
مقدّمة:
إنّ وجود الإنسان في العالم يؤدّي إلى بناء رؤية لهذا العالم من خلال تأمّلاته. والغرض هو معرفة وجوده ومكانته في هذا العالم، ويتطلّب هذا عقلنة للعالم من أجل رصد نظامه. إلّا أنّ بناء هذه الرؤية ليس تأمّلاً عقليّاً فقط، بل يستدعي ذلك تعدّداً في منافذ المعرفة، ومن بينها المخيّلة، وذلك من أجل فهم "الحقل الرمزي" كمكوّن من مكوّنات الوجود الإنساني والممثل في الأقاويل التالية: القول الديني، والفنّ، واللغة... كحقول أساسيّة في صياغة رؤية للعالم ومعرفة بالوجود؛ فما المحرّك لهذه المعرفة الخاصّة بالعالم والوجود؟ هل الغرض هو معرفة المرئي والمشخّص، أم أنّ محرّك ذلك هو العالم، أم ما وراءه -اللّامرئي-؟
إنّ هذا اللّامرئي بخفائه يشكّل مصدر قلق وخوف بالنسبة إلى الإنسان، وما العودة إلى الفنّ إلّا لإعطاء شكل لما لا شكل له، بالعمل على تجسيده حسيّاً. ولهذا فالأديان في حاجة إلى صورة لتقريب حقائقها. وكما يرى "ريجيس دوبري (Regis Debray) أنّه يمكن أن توجد صورة بدون دين، ولا وجود لدين بدون صورة"[2].
فبالصورة يمكن تقريب الخفيّ أو إعطاء هيئة لما لا هيئة له، أي للمقدّس، والغريب، والعجيب. وأصل هذا هو كون الصورة طريقاً لاستعادة الغائب. وهذا ما فتح مجالاً وأفقاً للفنّ؛ وبالتالي لفعل التخيّل أو الخيال المبدع، فإذا كان "هيغل" يرجع تجربة العمل الأستيطيقي (علم الجمال) إلى العقل وقوّته الأداتيّة، فإنّ التجارب الفنيّة تبرز أنّ للخيال المبدع وظيفة أساسيّة في عمليّة التحويل والبناء: إنّه إبداع لموضوع قابل للإنصات، والكلام، والمشاهدة. ومن أهمّ الاستفهامات المرتبطة بالتجربة الفنيّة هي: هل العمل الإبداعي هو فعل متحرّر من الالتزامات اليوميّة والوضعيّات الاجتماعيّة، أم أنّه خاضع لها؟ فإذا كان العمل الفنّي مرتبطاً بمرامٍ ومطالب وغايات، أي بقصديّة معيّنة، فإنّ الفنّان يكون حاملاً لوعي بعالمه الداخلي والخارجي، وهل بهذا الوعي تتحدّد حريّة الفنّان، أم أنّ الحرّيّة مجرّد وهم؟ وهل العمل الفنّي يتطلّب تصوّراً حكمويّاً للوجود، وبالتالي للحياة؟ وهل الحرّيّة الفعليّة هي أن يتحوّل الإنسان إلى فنّان حياة؟
تعتبر الحكمة أساس الحكم، فبها يتمّ ضبط الأشياء وتقييدها، أي وضع حدود بين المعارف، وذلك بالتمييز بين معناها المجمل والمفصّل
1- البُعد الحِكموي للفنّ
يحدّد "ريجيس دوبري"، «ظهور الفنّ من خلال الرغبة في الحفاظ على صورة للغائب، وبالتالي الميت. ونتج عن هذا ممارسة طقسيّة خاصّة بالثقافة الجنائزيّة التي أدّت إلى الاعتقاد بحياة الصورة الضامنة لحضور الغائب، أو ما يسمّيه "الولادة بالموت"»[3]. وهذه البداية تمثلت في تجسيد الإنسان لوجوده، بوضع تماثيل لأشخاص وآلهة وعظماء، وبعد ذلك تبلور البُعد التجميلي أو تزيين الموضوعات المنحوتة.
والقوّة الإبداعيّة لهذه الأعمال تمثلت في الرغبة لإيجاد صورة حسيّة لما هو غائب، ومتعالٍ، ومخفي، لأنّ هذا الفعل التجسيدي هو إظهار للشعور الروحي لدى الإنسان بأسلوب جمالي، وهو رغبة في فصل الوجود الإنساني عن الحيوان. اتّخذ هذا المكوّن الجمالي للموضوعات بُعداً تأمّليّاً، قائماً على الشعور والإحساس بوجود الأشياء، وقيمتها، ومرتبتها. وهذا ما بلور الأفق الحكموي للحقيقة، والوجود، والذات، فما الذي يجعل من التأمّل أفقاً حكمويّاً؟ وما الحكمة؟
إنّ الحكمة الإنسانيّة ذات مصدر إلهي، وصاحبها يكون عارفاً بالقوى المدبّرة للكون. فصاحبها، حسب لغة "ابن عربي"، عارف بالخزانة والمخزون، وبالعلامة وصاحبها، وكما يقول "أوشو" (Osho): «من خلال التأمّل الباطني تنشأ الحكمة، ويبدأ المرء يفهم حقيقة المعاناة، وحقيقة النشوء، وحقيقة التوقف، وحقيقة الطريق»[4].
بالتأمّل يتمّ تحقيق تجربة الشعور كممارسة نيّرة للعلاقات الإنسانيّة. ولا يكون التأمّل بنّاء إلّا بالاطلاع على معاناة الآخر، وممارسة العطاء. وهذا هو المعنى الأنواري -الحكموي- للوجود وفنّ العيش، الذي به يتمّ التمييز بين المسالك المؤدّية وغير المؤدّية.
يعرّف "ابن عربي" الحكمة قائلاً[5]:
إنّ الحكيــم مرتّب الأشيـــــاء في أعين الأكوان والأسماء
يجري مع العلم القديم بحكمه في الحكمة المزدانة الغرّاء
فتراه يعطي كــلّ شيء خلقه في حــالة السّراء والضّراء
وعن العوارض لا يزال منزّهاً في بدء ما تهوى من الأشياء
لكنّه المعصــوم فــــي أفعالــه في كلّ ما يجري من الأهواء
إنّ الحكمة هي فنٌّ تنظيمي، كوضع الأشياء في مواضعها وترتيبها. والحكيم هو صاحب عطاء بمرتبته الكونيّة، لأنّه منزّه عن العوارض والأهواء، أي عن الظاهر والسائد والمشترك: فالحكيم يرى الأشياء منظّمة في الواقع على شاكلة التنظيم الكوني. ولهذا تتميّز الحكمة بسموّها عن المعارف الأخرى، يبرز "ابن عربي" هذا السموّ قائلاً[6]: «اعلم ـ أيّدك الله ـ أنّ الحكمة علم بمعلوم خاص، وهي صفة تحكم ويحكم بها، ولا يحكم عليها. واسم الفاعل منها حكيم، فلها الحكم، واسم الفاعل من الحكم الذي هو أثرها حاكم وحكم. وبهذا سمّي الرسن الذي يُحكم به الفرس، فكلّ علم له هذا النعت فهو الحكمة، والأشياء المحكوم عليها بكذا تطلب بذاتها، واستعدادها ما يحتاج إليه، فلا يعطيها ذلك إلّا من نعته الحكمة واسمه الحكيم».
تعتبر الحكمة أساس الحكم، فبها يتمّ ضبط الأشياء وتقييدها، أي وضع حدود بين المعارف، وذلك بالتمييز بين معناها المجمل والمفصّل، من أجل الجمع بينهما في الوقت ذاته. بتعلّم كيفيّة رؤية المفصّل مجملاً، والمجمل مفصّلاً. ولهذا فالحكيم هو صاحب عطاء وتدبير، ومعرفته أسمى المعارف وأعلاها، وهي فنّ تدبير الأمور، ووضع الأشياء في مواضعها.
إنّ الأفق الحكموي للفنّ يثير تلك العلاقة المرآويّة بين الذات والعالم، لبيان منزلة الحقيقة؛ هل هي قابلة لأن ترتسم في مرآة الذات، أم أنّها تتجاوز ذلك إلى ما وراءها؟
تتحدّد مرآة الذات بوعي صاحبها، فهي لا تتجاوز ما هو ملتصق بعظمها، أي بمظهرها الخارجي، إلى خفائها المطويّ وراء الظاهر. ويحدّد "ابن عربي" هذه العلاقة المرآويّة للحقيقة من خلال المقابلة بين عمل الحكيم وعمل الفنّان: فهل عمل الحكيم يتضمّن عمل الفنّان، باتّساع أفقه ومرآته؟ هل هذه المرآة أقوى على استقبال التجلّيات والتحوّلات الوجوديّة الأفضل والأجمل؟
يستعيد "الشيخ الأكبر" حكاية الحكيم الذي أراد أن يبيّن للمك مقام أهل الحكمة مقارنة بأهل التصوير والتشكيل، تقول الحكاية: «فاشتغل صاحب التصوير الحسن بالصور نفسها على أبدع نظام وأحسن إتقان، واشتغل الحكيم بجلاء الحائط الذي يقابل موضع الصور، وبينهما ستر معلّق مسدَل. فلمّا فرغ كلّ واحد من شغله وأحكم صنعته فيما ذهب إليه، جاء الملك فوقف على ما صوّره صاحب الصور، فرأى صوراً بديعة يبهر العقول حسن نظمها وبديع نقشها، ونظر إلى تلك الأصبغة في حسن تلك الصنعة، فرأى أمراً هاله منظره، ونظر إلى ما صنع الآخر من صقالة ذلك الوجه، فلم يرَ شيئاً، فقال له: أيّها الملك صنعتي ألطف من صنعته، وحكمتي أغمض من حكمته. ارفع الستر بيني وبينه، حتى ترى في الحالة الواحدة صنعتي وصنعته. فرفع الستر، فانتقش في ذلك الجسم الصقيل جميع ما صوّره هذا الآخر بألطف صورة، ممّا هو ذلك في نفسه، فتعجّب الملك، ثمّ إنّ الملك رأى صورة نفسه وصورة الصاقل في ذلك الجسم، فتعجّب، وقال كيف يكون هكذا؟ فقال: أيّها الملك، ضربته لك مثلاً لنفسك مع صور العالم، إذا أنت صقلت مرآة لنفسك مع صور العالم، إذا أنت صقلت مرآة نفسك بالرياضات والمجاهدات حتى تزكو، وأزلت عنها صدأ الطبيعة، وقابلت بمرآة ذاتك صور العالم، انتقش فيها جميع ما في العالم كلّه. وإلى هذا الحدّ ينتهي صاحب النظر وأتباع الرسل. وهذه الحضرة الجامعة لهما، ويزيد التابع على صاحب النظر بأمور لم تنتقش في العالم جملة واحدة من حيث ذلك الوجه الذي لله في كلّ ممكن محدث ممّا لا ينحصر، ولا ينضبط، ولا يتصوّر، يمتاز به هذا التابع من صاحب النظر»[7].
تشكّل هذه المقابلة بين صاحب الحكمة والمصوّر مسلكاً لبيان قوّة الأفق الحكموي في بناء المرآة المجلوّة، القابلة لكلّ صورة، وللمظاهر الظاهرة في لا نهائيتها. وأمّا مرآة المصوّر، فلا تتّسع إلّا لمشهد معيّن، فهي إثبات وتأكيد على وجه واحد للحقيقة؛ فالفنّان حسب هذا السياق السابق هو صاحب إتقان وحسن، ولكنّ صنعة الحكيم أتمّ، وأكمل، وأكثر اتّساعاً، والغرض هو جعل صور العالم دالّة على ما وراء المرآة الظاهرة، أي على خفائها، ممّا يجعل من صورة الفنّان حجاباً للحقيقة بالرغم من جماليتها. لهذا فالأفق التيوصوفي هو استعادة للخفاء المطوي وراء المظاهر الظاهرة، من أجل تقريب الحقيقة المجلوّة خارج صدأ الطبيعة، وضيق الذات الرائية: فهل هذا الأفق الحكموي هو استعادة للصورة وحياتها؟ أليس المبحوث عنه جماليّاً هو لهذه الحياة السارية والممتدّة في الكلّ، أي في كلّ الموجودات والكائنات؟ وهل الافتتان بهذا البُعد الحيوي، هو الأفق المشترك بين المواقف الحكمويّة للفنّ؟ وهل هذا يتطلّب معرفة بفنّ العيش؟
2- الفنّ الصوفي وبوذيّة ـ زن.
تنطلق البوذيّة من مبدأ أساسي هو: أنّ كلّ الناس ليسوا علماء، ولكنّهم كلّهم فنّانون، إلّا أنّ فنّهم ليس على شاكلة أهل الاختصاص، بل هم "فنّانو حياة"، وهذا البُعد الحيوي يولد مع الإنسان. إلّا أنّ الإشكال يرجع إلى كونهم لم يدركوا هذه الحقيقة الكامنة في لا وعي كلّ واحد منهم. أي أنّ الأمر يتعلّق بابتعادهم عن إدراك ما هو خفي في الوجود الإنساني. وهذا علّة السقوط في حالات مرضيّة مثل العصاب. يقول "سوزوكي" (Suzuki) في كتابه "التصوّف البوذي والتحليل النفسي" عن هذه الوضعيّة: «إنّهم حالما يدركون هذه الحقيقة الواقعة، سوف يبرؤون من العصاب أو الذهان أو غيره من الأسماء التي يطلقونها على مشكلتهم»[8].
إنّ تحوّل الإنسان إلى فنّان الحياة هو بإيجاد مسلك أو طريق الشعور، وذلك بتعلّم كيفيّات إدراك الخفاء المحجوب في ذواتنا. وفنّان الحياة يتميّز عن صاحب الاختصاص بطريقة الاستعمال. فالفنّان يحتاج إلى أدوات للكتابة والرسم والصباغة والتلوين. أمّا فنّان الحياة، فكلّ شيء في ذاته وما عليه إلّا إيقاظه؛ فكيف تتمّ هذه اليقظة؟ هل هي يقظة الحواس؟ وما دلالة مفهوم التأمّل كفنٍّ للعيش، واللقاء، والتواصل...؟
يقول "بوذا" (Boudha) عن أصحاب هذه اليقظة، معرّفاً إيّاهم:
«ذوو الفكر يجهدون
هم لا ينامون في البيت
ومثل البجعات التي غادرت بحيرتها
يغادرون المنزل والبيت»[9].
إنّ أهل الفكر، على الطريقة الحِكمويّة، هم أهل شعور، هم فنّانو الحياة، بإبداعهم لمكان وجودهم، المخالف للمكان المألوف والاعتيادي، وبالتالي الهندسي، لأنّهم أصحاب طريق. وهذا ما يجعلهم متحرّرين من المكان الاعتيادي وعلاقتهم به، هي رابطة عبور -سفر الأنبياء-. فهم مثل البجعات في ترحالها، ومعرفة هؤلاء هي بمعرفة طريقهم. ويضيف "بوذا" قائلاً:
"أولئك يصعب أن يفهم طريقهم،
مثل ما يصعب أن يفهم طريق الطيور في السماء"[10].
إنّ قوة المكان هي بحمولته المقدّسة، أي بالحضور المستمرّ للمتعالي في المحايث، ويسمّيه "بوذا" بـ "مكان الابتهاج": إنّها الأمكنة الأكثر ابتعاداً، وتبدو فارغة لكنّها ملأى بما يسمّيه "بوذا": "ذاك الذي لم يولد بعد"، أي الذي لم يتكلّم بعد، والمتأمّل -الصامت- أليس هذا هو فنّان الحياة؟ فما دوره في إيقاظ سرّ الوجود وحقيقته، وحقيقة الحياة؟ أليس هو السرّ ذاته؟ فإذا كانت اليقظة تستدعي تأمّلاً، فهل هذا المسار هو تدرّب على الحريّة والتحرّر؟
ما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ جاذبيّة المكان هي بحضور المقدّس، والمتعالي، والسامي. أي باتّساع المكان لما هو أقوى وأفضل وأجمل وأحسن. ومصدر سموّ المكان هو بحضور أهل الذوق، وأصحاب المعرفة الحكمويّة.
يقول "بوذا": «الحكماء هم محرّرون من العالم المزيّف.
يقظة الحكيم تنير العالم.
الحكماء لا مكان لهم: الحكماء يؤخذ بأيديهم خارج هذا العالم عندما يقهرون جيوش الغواية»[11].
إنّ قوّة المكان تحوّله إلى مرتبة سامية في الوجود، فهو مانح لأصحابه سلطة تدبيريّة، فبه أو من خلاله يتمّ التواصل بالمناظر العلويّة. وهذا ما يجعل من فنّاني الحياة محرّرين من العالم الظاهري، ومن غواية الكثيف، والارتباط بالشفّاف.
إنّ الأفق البوذي بمطالبه الحِكمويّة هو دعوة للتحرّر والانفلات من عقال العالم، بأن يتحوّل الشخص إلى مسافر في الأمكنة مثل الريح أو الطيور، وذلك للخروج من عمى العالم وإدراك خفائه، وكما يرى "بوذا" أنّ:
«العالم أعمى
وقلّة من يبصرون.
مثل الطيور أفلتت من الشبكة.
قلّة تبلغ الجنّة.
البجعات تتبع طريق الشمس،
وتصير طيران المعجزة في السماء»[12].
إنّ معرفة الحكيم هي بحث عن الماوراء لإدراك الحقيقة، على طريقة الطيور المحلّقة في السماء والموجّهة بنور الشمس، أو الاستنارة الكونيّة كمنطلق لليقظة المستمرّة. وهؤلاء يُنعتون "بأصحاب التجلّي"، أي أصحاب الجمال والجلال وبالتالي الكمال، كما هو الأمر في التيوصوفيا الإسلاميّة: فهل هذا ما يجعل من أصحاب الذوق ذوي مكانة كونيّة وبالتالي أحراراً؟
«حتى الآلهة تغبط اليقظين
- المنقطعين إلى التأمل
- ذوي الحكمة
- الذين ينعمون في سلام التجلّي»[13].
فهل البُعد الجمالي للوجود يستدعي بناء ونشر دين التجلّيات الحقاني، والموصل لأصحابه بما يسمّيه "بوذا" بـ "سلام التجلّي"، أو "حضرة السلامة" بلغة "ابن عربي"؟ إنّ القوّة الذوقيّة لليقظين هي بإدراك تقلّبات الوجود وثباته في الوقت ذاته؛ ذلك هو التأمّل أو فعل التنوير كإخراج للذات من ضيقها إلى اتساعها، من وجودها المحدود إلى المطلق، أي بأن تحقق حرّيتها، وذلك بقدرتها على الجمع بين الوعي واللّاوعي كما يرى "جوستاف يونج"، وهذا يستدعي تصوّراً للجسد مخالفاً للمعنى الاعتيادي. يقول "سوزوكي": «إنّ الجسد الفيزيقي الذي نملكه جميعاً هو المادّة، شأنه شأن قماش الرسّام، وخشب النحّات، أو حجرة أو صلصالة، أو كمان الموسيقي أو نايه، والحبال الصوتيّة لدى المغني، وكلّ ما هو متّصل بالجسد، كالأيدي، والأقدام، والجذع والرأس، والأعصاب، والخلايا، والأفكار، والمشاعر، والأحاسيس -وفي الحقيقة كلّ ما يساهم في تشكيل الشخصيّة بأكملها- هو في آنٍ واحد كلّ من المادّة والأدوات التي يحوّل بها الشخص عبقريته الإبداعيّة إلى نتاج وإلى سلوك وإلى كلّ أشكال الفعل، وفي الحقيقة إلى حياة الذات»[14].
إنّ ما تسعى البوذيّة إلى إيقاظه هو البُعد الحيوي في الوجود، أي حياة الذات، وذلك بأن تشعر بأنّها حيّة، من أجل إيقاظ الجسد وتحويله من معناه الكثيف إلى شفّاف ولطيف؛ إنّه جسد المشاعر، والأحاسيس القابل للتعبير بالأفعال لا بالأقوال، بالإشارة لا بالعبارة، وهو الذي يتحوّل إلى شخص يقظ، بشعوره بالحرّيّة، وذلك بتحرّره من كلّ ما يعيق سيادته على نفسه، أي من تلك المظاهر الطارئة والملتصقة بالوعي وحده دون الالتفات إلى خفائه أو اللّاوعي، فما الذي يجعل من الشخص فنّان الحياة؟ هل بسيادته على نفسه وذاته؟ وهل هذا يتطلّب تحويل الذات من ضيقها إلى اتساعها، وبالتالي إطلاقها -مطلقة-؟
إنّ انفتاح الذات وخروجها من صورتها الضيّقة إلى المطلقة هو تحوّلها من الذات الفرديّة إلى الكونيّة، بانمحاء الأولى والبقاء على الثانية. وهذا مشروط بالشعور بوجود الآخر، وأعلاه الشعور بوجود الله، كأعلى مستويات تذوّق الكمال عبر الحبّ: «فأن تحبّ الله، يعني أن تكون بلا ذات، وأن تكون بلا عقل، أن تصبح رجلاً ميتاً، وأن تتحرّر من دوافع الوعي المقيّدة»[15].
إنّ الحرّيّة هي أصل الإبداع واليقظة، التحرّر من كلّ المعارف المسبقة، والاعتقادات الثابتة، والإيديولوجيّات المصطنعة. وذلك بالعودة أو الالتفات إلى ما وراء الذات، وإلى خفائها الممثل في اللّاوعي. فإذا كان الوعي عبارة عن معارف سطحيّة وظاهريّة، فإنّ اللّاوعي، هو امتلاء باطني، وهذا مصدر عظمة الذات: إنّه الأفق التيوصوفي الذي يحوّل الحياة إلى تجربة فنيّة، قابلة للتذوّق والشعور: فما الموضوعات الفنيّة التي من خلالها يَتمّ بناء فنٍّ تيوصوفي؟ هل هذه الأشكال الفنيّة ذات البّعد الصوفي بإمكانها إظهار الخفاء المعتم للذات البشريّة؟ وهل من خلال هذه الموضوعات يمكن الإطلالة على الأعماق السريّة للوجود، والخزانة والمخزون بلغة "الشيخ الأكبر"؟
3- الفنّ الصوفي والأشكال الدائريّة
في معالجته للوضع البشري يرى "ميشال مافيزولي" (Michel Maffesoli) أنّنا نحتاج إلى مهمّة جماليّة للفكر، من خلالها يمكن إخراج الإنسانيّة من أزمتها، يقول: «إذا كان من مهمّة ينبغي على الفكر الاضطلاع بها، فهي بالضبط الإسهام والمشاركة في إخراج عالم أفضل إلى حيّز الوجود، حيث يصير واقعاً ملموساً. لا أقصد هنا الواقع المادّي المبتذل الاقتصادي والتجاري، واقعَ البداهات، بل واقعاً أكثر شموليّة»[16].
فما هذا الواقع الخفي وراء واقع البداهات؟ فإذا كان واقع البداهات ممتلئاً بالمعطى الذي ينعت بواقع التسويق، فإنّ الواقع الخفي ممثل في الحياة الخاصّة للأفراد والجماعات، وهي الحياة الممثلة في عالم الأشواق. وهذا الأخير بجذوره اللّاعقليّة يسمّيه "مافيزولي" بـ «الكسموس الداخلي اللصيق بكلّ إنسيّة»[17].
إنّ الكسموس الداخلي هو تلك الروح الجماعيّة، أو ما يسمّيه "يونج" (Yung) بـ "اللّاوعي الجمعي". وهذا الكسموس الداخلي، هو ما شكّل مرجعيّة للتصوّف في الفهم والمعرفة؛ إنّه العالم الباطني الذي يحرّك أصحاب الأشواق والأذواق، برموزه وإشاراته، لا عالم المفاهيم والقضايا، بل عالم يسمّيه "مافيزولي" بـ "الحلم ـ التفكير".
لقد وجد "كارل غوستاف يونج" طريقاً للإطلالة على هذا الكسموس الداخلي من خلال الدور الجمالي ـ الفنّي للأشكال الدائريّة في حكمة الشرق، وبالخصوص مع بوذيّة ـ زن. وتعتبر الأشكال الدائريّة أو "ماندالا" (Mandala)[18] نوعاً من الفنّ الصّوفي. وقد عمل "يونج" على تحليل هذه الممارسة من منظور سيكولوجي، يعمل من خلاله على إعادة تنظيم رابطة الوعي باللّاوعي، والخيالي بالعقلي، والثقافي بالتاريخي، وبالتالي الأنا في علاقته بخفائه. وهذا الأفق هو إعادة تنظيم لعلاقة التضادّ، أو الأشياء في علاقتها بهويّتها، وكذلك الواقع: فهل هذا الأخير في داخل الذات أم خارجها؟ وهل في هذا الداخل تنمحي الثنائيّات والتقابلات الضديّة؟ ألا تعمل الأشكال الدائريّة على محو هذا التضادّ، واستبداله بالوحدة داخل المركز الواحد، كعمق وأساس بدون قرار؟
يُعتبر فنّ الأشكال الدائريّة، حسب "كارل غوستاف يونج"، مناسبة لاستعادة تجربة الخلق الأوّليّة التي تقوم بعزل المتضادّات عن الوحدة، أي تجسيد ظهور الكثرة عن الواحد. وهذا العزل هو بداية الاختلاف والتعدّد وإنشاء الدوائر، وهو أيضاً مناسبة لممارسة تجربة التأمّل كطريق لتمثل الوحدة في علاقتها بالكثرة أي بالمحيط. لأنّ هناك علاقة جدليّة بين الضدّين، الوحدة والكثرة، والتأمّل الصوفي يتّجه نحو التطابق من أجل تتبّع حركيّة التحوّل الوجودي من الأنا الفردي إلى الأنا المتعالي. وهو تحوّل يتمّ في المركز من أجل إبعاد الوهم المسيطر على الأنا الفردي. وهذا في دلالته تحقيق للنظام والاستقرار، لأنّ قوّة هذه الأفعال هي بتجسيدها وتشكيلها لما هو خفي ومستور.
إنّ الحرّيّة هي أصل الإبداع واليقظة، التحرّر من كلّ المعارف المسبقة، والاعتقادات الثابتة، والإيديولوجيّات المصطنعة
وفي الثقافة الشرقيّة، تشكّل تجربة الدوائر تعبيراً عن ممارسة طقسيّة ـ تعبديّة[19]، لأنّ رموز هذه الأشكال ذات قصديّة، والمحدّدة في الاستفادة الممكنة لفعل الخلق الجديد والمتجدّد (Création perpétuelle)، حيث هناك إمكانيّة للإطلالة على خفاء المركز. وهذا ما يسمّيه "يونج" بـ "اللّاشعور الجمعي"؛ فهو أصل الصور الأوّليّة والمثالات. فكلّ المعتقدات والرموز، التي تشكّل صلب الأنا والذات، تتحدّد دلالتها لا بالصور الظاهريّة، لكن بالمعاني الخفيّة والمعبّر عنها رمزيّاً. والدلالة في هذا السياق هي خليط واجتماع بين معانٍ متناسلة جامعة بين الوحدة والكثرة، بين العمق والسطح، كما هي الأشكال الدائريّة مكوَّنة من مركز ومحيط، من نقطة وخطوط. ويتحوّل المعنى في هذا الأفق إلى فعل كيميائي ومجال لالتقاء المتضادّات.
إنّ "الماندالا" (Mandala) الأكثر ميلاً للتفريق هي الأقوى على استعادة الخلق الأوّلي، وبمكوّنها الفنّي هي تجسيد للحالات السيكولوجيّة، كما يرى "يونج" لدى الأطفال بين ثماني سنوات وإحدى عشرة سنة، الذين يعانون من طلاق أبويهم، أو لدى الراشدين الذين يعانون من "العصاب"، ويواجهون وضعاً متناقضاً، ولدى أصحاب "السكيزوفرينا"، الذين تكون لديهم صورة مقلوبة عن العالم[20].
إنّ الشكل الدائري المنظّم يعكس اللّانظام النفسي، أي الحالة السيكولوجيّة لصاحب الأثر (العمل). وما وُضع المركز في الدائرة إلّا من أجل استعادة النظام الممكن بينه وبين المحيط -التوازن-. وهذا الوضع يتعلّق بما يسمّيه "يونج" بـ "محاولة الشفاء الذاتي للطبيعة"[21].
إنّ الشفاء الذاتي للطبيعة يستدعي تحقيقاً للوحدة، أي لنموذج تتآلف فيه الكثرة وتتوحّد، يقول "يونج": «ما تعنيه السيكولوجيا تحت اسم النموذج ليس شيئاً إلّا مظهراً صوريّاً للغريزة، وللظهور المألوف والمعطى مسبقاً»[22].
إنّ النموذج الفني -الإبداعي-، هو تمثل خيالي محدّد حسب طبيعة الشخص، وقوّته التأمّليّة: فما الآفاق التأمّليّة لهذا البناء الإبداعي الممثل في العودة إلى الوراء، وإلى المركز ـ الأساس؟ ألا يتطلّب هذا ممارسة طقسيّة لخلق التوازن النفسي أو تصالحاً بين المتضادّين، والمتنازعين؟ وهل هذا التوافق هو الداعي إلى التآلف والوحدة، هو وصل للشخص بالحياة؟
إنّ التأمّل بمعناه الجمالي، المؤسّس على تجربة "ماندالا"، هو بحث عن طريق ومسلك لمحو التضادّ. لأنّ البقاء على التقابل الضدّي هو سيطرة لطرف على الآخر، إمّا سيطرة الوعي أو اللّاوعي، وهذا في نظر "يونج" علّة اللّاتوازن النفسي، أو حالات العصاب (Névrose) كأصل للّاتوافق مع الواقع، لأنّ المرض في نظر "يونج" هو «تمرّد كامل للّاوعي على الوعي»[23].
يتّخذ "يونج" من فكرة التصالح بين الوعي واللّاوعي، بين الخفاء والظهور، أفقاً لفهم بنية الشخص، والوضع البشري عامّة، لأنّ مشاكل الأفراد النفسيّة لا يتمّ حلّها في نظره بل تجاوزها. ولهذا فالاشتغال على الأشكال الدائريّة -ماندالا- هو من أجل تخطّي العوائق النفسيّة، أو عوائق الطاقة الكامنة في الطبيعة البشريّة، إنّه تحرّر ممّا يسميه "بوذا" "كبت الحب": فهل تحقيق المعاني التيوصوفيّة للحياة والوجود هي طريق التحرّر من الكبت عبر ممارسة الفنّ الصّوفي؟ ألا يشترط هذا التحرّر إيقاظاً للطاقة الكامنة في الذات البشريّة؟
إنّ التحرّر من أنواع الكبت هو ما به يتمّ إيقاظ الطاقة الإبداعيّة الكامنة في الطبيعة البشريّة. وفي ثقافة الشرق هناك تمارين روحيّة لمواجهة هذه العوائق، مثل "اليوغا"، و"فنّ الماندالا". والحرّيّة بهذا المعنى الإبداعي، هي ترك الأشياء تحدث بتلقائيّة دون عوائق نفسيّة، لأنّه بهذه الممارسات الطقسيّة يتمّ العمل على خلق تلاؤم كوني. يقول "يونج": «فإنّ اتحاد الأضدّاد على مستوى عالٍ من الوعي ليس شيئاً عقليّاً، ولا هو مسألة إرادة، إنّه سيرورة تطوّر نفسيّة تعبّر عن نفسها بالرموز»[24].
يُعتبر أعلى مستويات التوافق والانسجام في تجربة "ماندالا" مسلكاً للجمع بين الوعي والحياة. وأقوى أشكال هذا التحقق هو موضوع "الزهرة". وهذه الأخيرة بمعناها الجمالي رامزة للنور، أي لما ينمو ويظهر، ويتفتّح نحو الأعلى، إنّه ذلك النور المنبثق من الأعماق المظلمة، حيث التخفي والتحجّب أو الماوراء، "ارجعوا وراءكم، فالتمسوا نوراً"[25]، فهل العودة إلى الماوراء هي معرفة بحياة الموضوع، أو تمثل للحياة كسريان وتجلٍّ، وهل هذا ما استدعى العودة إلى اللّاوعي من أجل انكشاف الجمال في كماله المخفي؟
إنّ قوّة "اللّاوعي" لدى "زن" ليس بالمعنى الفرويدي، إنّه ما فوق علمي، إنّه وقفة، وتخطٍّ للصورة الظاهرة، كما دعا الحكيم في الحكاية السابقة الملك لمدّ نظره إلى ما وراء صورة المصوّر. يقول "سوزوكي": «فزن يقتضي أن نتوقف ونتأمّل في ذواتنا، ونرى إن كانت الأشياء على ما يرام قبل أن نستسلم دون قيد أو شرط لسيطرة العلم على كامل حقل النشاطات الإنسانيّة»[26].
تشكّل العودة إلى الماوراء معرفة ذوقيّة بالموضوع، وانكشاف له من الداخل، واطلاع على أساسه: إنّها عودة إلى "ما وراء مركز الضياء والظلال" كما يسمّيها "ابن عربي"، حيث النقطة أصل كلّ شيء. وهذا معنى التوحّد بالموضوع، كتجسيد للحقائق الكونيّة بمنظور مثير وخلّاب، بل أكثر جماليّة، يقول "سوزوكي": «أن تدخل في الموضوع ذاته، كما هو في الداخل، أن تعرف الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهطل المطر، وحيث يتمّ ذلك فإنّ الزهرة تكلّمني، وأعرف كلّ أسرارها، وكلّ مباهجها، وكلّ آلامها، أي كلّ حياتها النابضة في داخلها، وليس ذلك وحسب، فإلى جانب معرفتي الزهرة أعرف كلّ أسرار الكون الذي ينطوي على أسرار ذاتي الخاصّة التي كانت إلى الآن قد تملّصت من ملاحقتي لها. ذلك أنّني كنت قد قسّمت نفسي إلى ثنائيّة المُلاحِق والمُلاحَق، الموضوع والظلّ. فلا عجب إذاً أنّني لم أفلح أبداً في التقاط ذاتي، وكم كانت هذه اللعبة مضنية»[27]!
بالعودة إلى الخفاء المطوّي وراء المظاهر يتمّ إعادة بناء علاقة الذات بالموضوع، لأنّ من مهامّ الأفق التيوصوفي هو انمحاء الثنائيّة، واستبدالها بالوحدة الصميميّة، التي تجعل من الموضوع المدروس مناسبة لمعرفة الكون، وبالتالي الذات. وهذا معنى العودة إلى الوراء، حيث هناك إمكانيّة لتفتّح الخارج على الداخل، والظاهر على الباطن بمعرفة الحياة السارية في الموضوع. وهي الحياة ذاتها الممتدّة في الكون وفي كلّ الأشياء، والمشترك بين هذه الموجودات هو الميل إلى التدوير، بحثاً عن الكمال المأمول كمطلب رئيس لكلّ الممارسات الذوقيّة والفنيّة.
خاتمة:
إنّ قوّة الجمع بين الوعي والحياة هي علّة التحرّر من العوائق النفسيّة والوجوديّة، ومناسبة للإبداع من أجل إبعاد الوعي البشري عن الوهم، واستبداله بالتأمّل بعيداً عن المعاناة والألم. وطريق هذا هو تحويل الفنّ إلى ممارسة طقسيّة، والشخص إلى فنّان حياة. لأنّ المعاناة ناتجة عن الوجود الزماني في العالم، بينما صاحب الإبداع، والمتحرّر من "كبت الحب"، والحامل للطاقة التلقائيّة، هو صاحب أفق تيوصوفي دائم الاتصال باللّازماني. والغاية من هذا كما يرى "ميرسيا إلياد" (Mircea Eliade): «ليس امتلاك الحقيقة، بل الفناء، كبحث عن الحريّة المطلقة»[28].
إنّ الأفق التيوصوفي للفنّ هو عودة إلى الحياة بخفائها النيّر. وهذا الأخير يجعل من رجل الفنّ ذلك الشخص الذي يستعيد طفولته باستمرار، أي وجوده الأوّلي المتجدّد.
[1]- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 14.
[2]- دوبري، (ريجيس)، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشرق، 2002، ص 20.
[3]- المرجع السابق، ص 31.
[4]- أوشو، التسامح رؤية جديدة تزهر الحياة، ترجمة د. علي حداد.
[5]- ابن عربي، الفتوحات المكيّة، دار صادر، بيروت، دون تاريخ، المجلّد 2، ص 269.
[6]- نفسه.
[7]- المرجع السابق، ص ص 278- 279.
[8]- سوزوكي، د. ت، التصوّف البوذي والتحليل النفسي، ترجمة ثائر ديب، ص 36.
المواقف الخاصّة بالفنّ في حكمة الشرق تعطي أهميّة قصوى للّاوعي في مقابل الوعي، وذلك من أجل توحيدهما مع إعطاء أهمّية وأولويّة للّاوعي والخفاء والداخل. أمّا التصوّر السائد في فلسفات الحداثة، فهو التأكيد على أهميّة الوعي وبالتالي الذات الفاعلة. والموقفان يعكسان تصوّرين لمفهوم الذات؛ فالموقف الحكموي هو تضخيم للذات بإعطائها طابعاً كونيّاً عبر الخيال، أمّا الحداثي، فقد عمل على حصرها في قوى العقل ومقولاته. وقد واجه هذا الإشكال في معالجته لإشكاليّة الجمال، الذي أكّد على أهميّة مفهوم الرائع، والذي يلتقي ومفهوم الجليل في الثقافة الإسلاميّة: فالرائع (le sublime) هو إفراط في الجمال، وهو ما يتجاوز الخيال والعقل. إلّا أّنّ "كانط" عمل على حصره وربطه بالذات الإنسانيّة. لأنّ هذه الأخيرة هي المشرع الوحيد لقيم تخصّ الإنسانيّة، سواء أكانت قيماً أخلاقيّة أم سياسيّة، أم دينيّة. والسؤال الذي تثيره صاحبة كتاب "الفنّ يخرج عن طوره"، هو: كيف يمكن أن نواجه بالفنّ كارثيّة التقنية، لأنّها تخرجنا من فضاء الرائع إلى المريع والمخيف، والمهدّد للوجود الإنساني؟ لهذا فالعودة إلى الرائع اليوم هي من أجل الافتتان بالجميل والمثير، والذي من خلاله يمكن أن نعطي معنى للحياة، لأنّ الرائع يشترط الحرّيّة، أمّا الاستبداد، فهو انحسار لفنّ الرائع. المسكيني، أم الزين بنشيخة، الفنّ يخرج عن طوره، جداول، ط1، 2011، ص 20.
-[9] الداما بادا، كتاب بوذا المقدّس، ترجمة سعدي يوسف، دار التكوين، دمشق، ص 4.
لهذا الاسم دلالة دينيّة واجتماعيّة: الداما تعني الشرع، العدالة، الطاعة، الحقيقة. بادا تعني: السبيل، الخطوة، القدم، الأساس، أمّا نعت (Zazen) فيعني: (Za) (الجلوس)، (Zen) (تأمّل). الجلوس للتأمّل من أجل العودة إلى الأساس أو الأصل، وجماليّة هذه اللحظة هي بالجلوس قرب المعلم -الشيخ-.
[10]- المرجع السابق، ص 34.
[11]- المرجع السابق، ص 59.
مفهوم الابتهاج مرتبط بتجربة العشق، قد يأتي هذا الابتهاج نتيجة عشقنا وتوحّدنا بأمكنة معيّنة، أو أزمنة خاصّة أو أشخاص استثنائيين. ويعبّر جلال الدين الرومي عن قوّة الابتهاج وجماليته المثيرة قائلاً:
لو أنّ روح العاشق تحدّث لأضرم النار في هذا العالم
ولجعل هذا العالم، الذي لا أصل له كالذرات، عالية سافلة
ولغدا العالم كله بحراً ولغدا البحر عدماً من الهيبة
ولما بقي آدم، ولا الإنسانيّة لو ضرب نفسه بآدم
ولما بقي قوسٌ ولا قزح ولا خمرة، ولا قدح
ولما بقي ابتهاج، ولا فرح ولا جُرح يُداوى بالمرهم
تدين (عطاء الله)، بحثاً عن الشمس من قونية إلى دمشق (جلال الدين الرومي وشيخه شمس تبريزي)، المكتب الفنّي للترجمة والنشر، لبنان، ص 352.
[12]- الداما بادا، كتاب بوذا المقدّس، ص 60.
لقد شكّل مفهوم الحريّة مكانة مركزيّة في الأدبيّات الدينيّة والفلسفيّة، ومعناه الفنّي ارتبط بالذوق، والقدرة على قبول الآخر، وذلك بإدراك جماليّة العالم.
ويعتبر "كانط"، في نظر صاحبة كتاب "الفنّ يخرج عن طوره"، أهمّ من بلور هذا الأفق الأستيطيقي للحريّة بتأكيده على إيجاد ما يوحّد البشر من أجل تدبير الغيريّة والكونيّة. لهذا فالأستيطيقا هي:
1- مضادّة للمنفعة، وبحث عمّا هو جميل.
2- تدرّب على الحريّة السياسيّة.
3- تحرّر من الوصاية، ومن قصور العوام.
عبر التحرّر والذوق يمكن إدراك مقام المواطنة في العالم بعيداً عن الأنانيّة، أي بأن نتعامل مع العالم لا بوصفنا أوصياء عليه، بل مجرّد مواطنين فيه. والمواطن الكوني هو من يقبل التعدّد كطريقة للتفكير والعيش. وذلك من أجل تحويل العالم إلى موضوعات ومشاهد جماليّة.
[13]- الداما بادا، كتاب بوذا المقدّس، ص 63.
[14]- سوزوكي، د. ت. التصوّف البوذي والتحليل النفسي، ص 37.
[15]- المرجع السابق، ص 38.
[16]- مافيزولي (م)، الحلّ والترحال، ترجمة عبد الله زارو، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص 10.
[17]- المرجع السابق، ص 12.
[18]- Yung (C.G), A propos de la symbolique des mandalas, in psychologie et orientalisme, trad, Paul Kasseler, Josette Rigal et Rainer, Rochlitz, Albin, Michel, 1984.P. 68.
يستعيد "يونج" تصوّر هنري زيمر (Henri Zimmer)، صاحب كتاب "الشكل الفنّي واليوغا"، بالتأكيد على العلاقة الموجودة بين المعمار الديني واليوغا. انطلاقاً من الأطروحة التالية: لا شيء في العقل لم يكن قبل في عالم المعنى: فالفكر أو الخلق الهنديّان يعملان على الظهور في العالم المحسوس، دون الاعتماد على آليّات العقل أو الاستدلال. وذلك من أجل بيان كون ميتافيزيقي خفي، عبر وجوه غريبة، تظهر في العالم المحسوس من طرف راقصات "الكاتاكالي" (Katakali). وهو سائد في الهند الجنوبيّة. يقول "يونج": «فهم لا يعتمدون على حركة واحدة طبيعيّة، كلّ الحركات هي ما فوق إنسانيّة، فهم لا يمشون كباقي الناس، بل ينزلقون، لا يفكّرون برؤوسهم بل بأيديهم». ص 221.
إنّ الغرض من هذا الطقس اليوجي هو التحكّم بالجسد للوصول إلى حالة اللّاوعي أو النرڤانا. وهؤلاء هم أصحاب أيدٍ بلغة "ابن عربي"، لا أصحاب وجوه، لأنّ حركات أيديهم هي فعل تأمّلي، وكأنّهم يستعيدون الخلق الأوّلي.
[19]- I Bid. P. 80.
[20]- I Bid, 103.
[21]- I Bid, 104.
[22]- I Bid.
[23]- يونج (ك. غ) سرّ الزهرة الذهبيّة، القوى الروحيّة وعلم النفس التحليلي، ترجمة: عدنان حسن، دار الحوار. ص 151.
[24]- المرجع السابق، 138.
[25]- القرآن الكريم، سورة الحديد، الآية 13.
[26]- سوزوكي، د. ت. التصوّف البوذي والتحليل النفسي، ص 29.
[27]- المرجع السابق، ص 31.
[28]- Eliade (M), Yoga, end, Payot, 1998, P, 16.