الفهم الثقافي الذاتي والتعايش شروط حوار جذري بين الثقافات


فئة :  ترجمات

الفهم الثقافي الذاتي والتعايش شروط حوار جذري بين الثقافات

الفهم الثقافي الذاتي والتعايش

شروط حوار جذري بين الثقافات([1])

يوجد في أساس كل سلوك علائقي شيء لا يكون موضع تساؤل، فهم ذاتي غير قابل للنقاش. والمقصود هنا هي السلوكيات الأيديولوجية والمعيارية الأساسية، التي تعطي طابعاً خاصّاً لحياة الفرد والتصور الثقافي الجماعي. ومن الضروري وعي هذا الفهم الذاتي؛ لأنه يمثل تشكيل هذا الفهم بالكامل؛ ذلك أن الوعي الذاتي الـمُفَكَّر فيه هو الوعي الذاتي الكامل. وعلى هذا الأساس فقط، يكون الحوار بين الثقافات ممكناً.

كما هو الأمر عليه في الوعي الذاتي، فإن الفهم الذاتي -كأساس واع للعمل الثقافي في المعنى العام، حيث يكون التبرير الأيديولوجي متضمناً- لا يكون ممكناً إلا في البروز أو الظهور أمام «الآخر» (يعني أشكال تحقق ثقافي أخرى). وكل علاقة هي في الحقيقة ظهور أمام الآخر. فالإقرار بالوجود الذاتي/الخاص والتأويل الذاتي لمبادئ السلوك في المعنى العام، لا يكون ممكناً في مضمونه إلا بمقارنته وإظهاره في ميادين أخرى. وبتنوع/تعدد العلاقات، يصبح الفهم الذاتي متطورا أكثر. وبهذا يحصل على أهمية نظرية.

يكون للفهم الذاتي لدائرة ثقافية ما أو لحقبة تاريخية ما أساسين دائماً: أساس معياري وآخر وصفي. وغالباً ما يتضمن ميولاً للتحقيق التطبيقي والدعاية لفرض الذات للثقافة الخاصة -في تجاوز للإقرار البسيط لــ «إننا هكذا»- والوعي الإيديولوجي لمبادئ السلوك. وينطبق هذا على الأفراد كما ينطبق على الأمم. وتحدد السياسة العالمية إلى حد كبير مبادئ السلوك هذه.

يكون الفهم الثقافي الذاتي، المؤسس على التأويل غير المفكر فيه كأفق عام، حيث تستقر الظواهر الفردية، دائما ذا أبعاد كثيرة، يمكن دراستها بالرجوع وأخذ موقف من التراث الديني والثقافي والإشكاليات العرقية الأساسية والمشاكل الناتجة عن التحول المجتمعي بسبب التقنية إلخ.

يتمظهر هذا الفهم الذاتي كفهم ذاتي في جمل عامة معينة، تعد تأسيساً للتطبيق الفعلي (كـ «مبدأ إنجاز Leistung»)، في تأثير متبادل مع تقديم النفس، الذي يطابق نوعاً معيناً من الفهم الذاتي، ويؤثر تقديم النفس هذا على هذا الفهم ويشكله. ونجد تطبيقاً لهذا النوع من القانون في الاتصالات الثقافية الدولية.

كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن الفهم الذاتي («الفهم الخاص») لا يكون ممكناً إلا بـ: «فهم الغريب/الأجنبي». ونجد هنا تبعية متبادلة حقيقية، لا يكون الواحد ممكناً دون الآخر. وفقط في الظهور أمام الآخر، يعني ما لَسْتُهُ بذاتي (في الحالة الواقعية لثقافة أجنبية ما)، يمكن أن أفهم ذاتي وأجدها كلّياً (يمكن لثقافة أن تفهم ذاتها كلية)، ويكون بإمكاني كذلك فهم ما هو خصوصي/خاص في موقفي وتنظيمه في علاقته التاريخية والإثنولوجية/العرقية مثلاً، حيث إن الاهتمام بثقافات أجنبية هو الشرط النسقي الداخلي لفهم ذاتي مُفَكَّرٌ فيه/بوعي، يكون في الواقع مسؤولا -في الاتصالات الدولية-.

لا يمكن لفهم ذاتي كامل ومسؤول أن يقوم -ويعتبر هذا الأمر جد مهم نظرياً وتطبيقياً- إلا بالخروج من التأثير التاريخي للشرط العلائقي، يعني بــ «مواجهة» أنسقة وتقاليد ثقافية، لا تنتمي للأفق التاريخي الذاتي. لا يتحقق دياليكتيك وجهة النظر الثقافية الذاتية إلا بتفجير الدائرة التأويلية التي تثقل الكاهل، والتي تكمن في كون المرء لا يفهم إلا في إطار ما تركه السابق عليه ودمجه دون وعي في فهمه الذاتي اليومي. من جهة، يكون البقاء داخل التأثير التاريخي الذاتي «التقاء بالذات» فقط. ومن جهة أخرى، يتم الاستغناء عن أساسها بالظهور أمام الآخر، والرجوع إلى ثقافات تكون خارج العلاقة التاريخية المؤثرة، حيث يعيش الإنسان.

انطلاقاً من هذا تكون هناك نتائج مهمة في ميدان التربية، إذا لم يكن المرء يريد أخذ هذه المسؤولية دون وعي ودون تفكير في الهالة الأسطورية التاريخية الناتجة عن الفهم الذاتي. من هنا، من الأهمية بمكان إعادة التفكير من جديد في تصور تربية «إنسية/إنسانية». يكون على مضامين التكوين العامة الـمُقَدّمَة عدم الرجوع إلى أفق الفهم الذاتي الناتج عن «الإرث» الخاص فقط. لا يحق للتربية/للتكوين أن تبقى في إطار العلاقات التاريخية المأثرة فقط. يجب عليها، وهذا في مصلحتها، إذا كانت تريد تلقين وتشجيع فهم شامل ونقدي لموقفها، إدخال تأويل الثقافات الأجنبية في مقررات تعليمها. لا يخدم التلقين التقليدي للأسس التاريخية لثقافة ما نقد الفهم الذاتي في شيء. ويكمن شرط الفهم الذاتي في فهم ما لا ينتمي إلى «الذات» الخاصة في المعنى العام (الإرث الخاص مثلا)، بل في الفهم الذي يحدد الفهم الذاتي.

في مثل هذه الأهداف، والتي يكون تحقيقها البيداغوجي على مستوى عالمي مساهمة إضافية في تفاهم الشعوب وبناء وعي جماعي (شكل من أشكال الفهم الذاتي الكوني)، يُطرح بالضرورة سؤال مبدئي، يتمثل في التساؤل حول مدى وجود تشابه في الأسس العامة بين التراث الثقافي المختلف والتمظهرات الثقافية الحالية، التي قد تؤسس الفهم الذاتي للإنسان الحالي في إشكاليات أساسية بعينها.

تعد هذه الإشكالية حالياً مهمة جدّاً في ميدان الأخلاق، وهي إشكالية التعايش الأيديولوجي، وفي آخر المطاف التعايش السياسي لأنظمة مختلفة. ويبدو أن الأسس المبدئية، كما عُبر عنها في منظومة الأمم المتحدة، تعكس هذا النوع من الفهم الذاتي العام في الميدان المعياري، دون المس بمضمون الأيديولوجيات المختلفة. لكن هناك تمييز لابد من القيام به: هناك معايير أخلاقية من «الدرجة الأولى» («المعايير المادية»)، وأخرى «من الدرجة الثانية»، حيث يُعبر عن شروط التحقيق الحر للمعايير الأولية في نظام متعدد على أساس الاعتراف المتبادل بفضاء حرية فردي («المعايير الشكلية»، انظر في هذا الإطار البحوث النظرية لكيلسن). أما فيما يتعلق بمعايير الدرجة الثانية، فإنه من المهم، من أجل الحفاظ على اختلاف المعايير المادية، الوصول إلى وحدة معينة، لكن لا تتضمن معايير الدرجة الثانية هذه أي مضمون حول الأيديولوجيات والتقاليد والمعايير المحسوبة عليها. وينطبق هذا على الدول ذات سيادة (الدساتير الديمقراطية/ تنظيم الحياة بين الأفراد)، كما ينطبق على العلاقات بين الأفراد الذين يتمتعون بحماية دولية (اتفاقية الأمم المتحدة). ولا تتأسس المعايير الموصوفة هنا على فهم المعنى بطريقة سليمة وانطلاقاً من الـمُعَاشِ، لكنها مؤسسة على التفكير في التحقيق الحر لفهم المعنى، الذي يكون مطابقاً لأسس سياسية أساسية (الدساتير). ويعد الحصول على تطابق في الميدان المادي صعباً جدّاً، إذا أخذنا مثال فهم التحقيق الذاتي الاجتماعي المناسب للإنسان في النظامين الماركسي والنظام الرأسمالي، لكن يعتبر هذا في نفس الوقت موضوعاً جوهرياً لفلسفة وأنثربولوجية ثقافة عالمية، تحاول الوصول إلى «الخصوصيات الجوهرية» للنشاط الثقافي للإنسان، وكذا الوصول إلى التحكم في العالم من طرف هذا الإنسان.

على الرغم من أنه قد لا يكون ممكناً الوصول بالفعل -باستثناء الميدان الشكلي من الدرجة الثانية- إلى اتفاق كوني للفهم الذاتي، فإن مثل هذا التحديد المبدئي والتحاليل المقارنة، قد تكون مساهمة مهمة في الحوار الأيديولوجي، ومن تم في «الأنسنة»، القابعة في التفكير في حدود الموقف الذاتي. ويعدّ هذا التفكير شرطاً ضرورياً للقضاء على السلوكيات العدوانية، بقلع مبرراتها الأيديولوجية. ويساهم الابتعاد، ولربما أيضاً الاستهزاء والشك في الموقف الشخصي الذاتي، في التعرف على الخاصيات الخاصة لهذه السلوكيات وكيفية مساهمتها في التقويم «الموضوعي» لموقف ما اتجاه الآخر (كشكل ثقافي مغاير مثلاً). يكون الفهم الذاتي المعطى مسبقاً، والذي لم يوضع موضع تساؤل بعد، ضرورياً، لكي يكون الدخول إلى مستوى الفكر المقارن ممكناً. ولا يعني هذا بأنه بالإمكان السكوت عن هذا «المعطى القبلي»؛ لأنه شرط ضروري. فغالباً ما يسيء فرط الاحترام «الخاص/الذاتي» إلى الفهم الكامل للفرضيات الذاتية.

بهذا يظهر مفهوم التقدم تحت ضوء آخر بالضرورة: إذا لم يَقِسْ المرء «تقدم» (درجة تقدم) أمة ما طبقاَ لمعايير اقتصادية، بل طبقا للطبائع الثقافية، فإن الحكم الافتراضي لا يكون ممكناً تقريباً، إلا إذا مُست القيم الأساسية الشكلية المشتركة. إذا كان من الممكن التحديد الكامل للموقف الشخصي، انطلاقاً من إدخال موقف أجنبي/خارجي، فلابد من الاعتراف للميادين الثقافية الفردية بخاصية كَيْفية qualitativ «الاستقلال الذاتي»، وبفضل هذا لا تنتهي بالصب في الفهم الثقافي الذاتي، ولا تُقَوَّمُ إلا من طرف هذا الأخير. وبهذا قد يُضَيِّعُ المرء كلّ إمكانية لتكسير الحلقة المفرغة للتأكيد الذاتي المستمر. ولا يمكن تطبيق مفهوم «التقدم» على هذا المستوى إلا بطريقة نسقية، حيث يوضح المرء إلى أي حد يمكن لثقافة ما تحقيق الأهداف التي حددتها هي نفسها، عن طريق أشكال تعبير خاصة. وإلى أي حد يمكن تحقيق الإمكانيات الخلاقة الموجودة في هذه الثقافة. لا يمكن إذن الحديث عن مفهوم «التقدم» تأويلياً إلا في إطار «تاريخ مؤثر». وخارج هذا الميدان لا وجود لمعايير مقارنة متعالية موضوعية.

بما أن الفهم الثقافي الذاتي لأمة ما يتشكل بتأثير متبادل مع التراث التقليدي المتعالي، فإن محاولة تحديد موقف ثقافة ما هو دائما مساهمة في الحوار الكوني. وهكذا لا تكون الاختلافات سببا لتقديم النفس بطريقة متعصبة، لكن شرطا لفهم عميق للموقف الذاتي، وهذه إشارة إلى إمكانية الالتقاء بجانب جديد للتحقيق الثقافي الذاتي. ويتضمن هذا القضاء على السلوك العدواني. علاوة على ذلك يعتبر مساهمة لا يستهان بها في سياسة سلم عالمية.

([1]) Originaltext des an der Universität Innsbruck im Rahmen des Seminares „Wissenschaft und Besinnung – Theorie und Praxis“ im Jahre 1972 gehaltenen Vortrages. Zuerst veröffentlicht in Hans Köchler (Hrsg.), Philosophie und Politik. Dokumentation eines interdisziplinären Seminars. (Veröffentlichungen der Arbeitsgemeinschaft für Wissenschaft und Politik an der Universität Innsbruck, Bd. III.) Innsbruck: Arbeitsgemeinschaft für Wissenschaft und Politik, 1973, S. 75-78

كررت هذه المحاضرة جامعة عبد المالك السعدي. مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، يوم الثلاثاء 5 فبراير/شباط 2013