الفيلسوف التوحيدي من غربة العصر إلى محنة الكفر
فئة : مقالات
الفيلسوف التوحيدي من غربة العصر إلى محنة الكفر
كثير منا يعرف القرن الرابع الهجري بأنه عصر الضعف، من أفول الحضارة العربية الإسلامية وقليل منا يعرف أنه عصر إبداع وفكر، ازدهار علمي وثقافي، أدب وشعر، علوم طبيعية ورياضية، كيميائية وفلكية، فلسفية وعقلية، فصنوف المعرفة كثيرة ومشارب العقيدة قوية، حلقات التصوف والعرفان متنوعة، ومدارس الفقه متواجدة، مزدهرة، والفلسفة تحررت من سلطة علم الكلام وشقت طريقها نحو بناء الإنسان، فراح معظم الفرق الإسلامية، من دينية وسياسية، يدرسون الحكمة اللوغوسية ويبحثون فيها عما يشحذ هممهم ويدعم نظرياتهم، فظهرت جماعة إخوان الصفا وخلان الوفاء، كما بزغ فجر البيروني وأستاذه ابن عراق، وابن جلجل الطبيب الأندلسي وشيخ الأدباء أبو حيان التوحيدي، فكان التفكير في الحقيقة مرتبطاً بالمعنى، وبعبارة أصدق ارتبط التنظير للمعرفة والعلم والعقل والاستدلال بالتنظير للمعنى (المجاز، التشبيه، الرمز، الظاهر، الباطن) وقد شكل التأويل اختياراً معرفياً تجاه البيان القرآني، تجاه السنة، وإزاء التيارات الفلسفية الشائعة من فيثاغورسية إلى أفلاطونية ثم أفلاطونية محدثة فكيف أثرت هذه التيارات الفلسفية على فكر التوحيدي؟
وإلى أي مدى استطاع أبو حيان أن يبدع نسقًا فكرياً معرفياً في عصره؟ ثم ما قيمة هذا النسق الفكري المعرفي بين غربة العصر ومحنة الكفر؟
التوحيدي شمولية الفكر في غربة العصر:
حينما غضب التوحيدي وحرق كل كتبه، أدرك يقينا لا مكانة لفكره في عصره، ولا أهمية لإبداعه المتنوع المشارب من علم الكلام إلى الفلسفة، الأدب والشعر، الفقه والذوق، النقد والحجج العقلي، نظرية الجمال والنظرة الثاقبة للحياة، حتى نعته العديد من أدباء عصره بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، لكن ما قيمة هذا النعت؟
إذ مشكلة غربة الفكر في عصره التي أصبح كاتب "الإمتاع والمؤانسة" يصبح معها ويمسي، كسرت نفسه وحيرت عقله وانفطر لها قلبه في قيامه وقعوده طيلة يومه، عبر التوحيدي بنفسه عن حاله قائلا: «لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص».[1]
فالقرن العاشر الميلادي يوضح للتوحيدي الناظر المتوسم والعاقل المُتَبَيِّن، غربة روحه الفكرية بين أناس شعارهم المال ودثارهم ما يغدق عليهم الخلفاء والأمراء من عطايا وهدايا، والتوحيدي الذي لجأ منذ مطلع شبابه إلى مهنة الوراقة، ينسخ الكتب تلقاء الدكان، لقاء أجر زهيد، فغُمِرَ المسكين في غياهب دكاكين الوراقين لا يبارحها، فما داع صيته وما انتشر فكره بين أدباء وعلماء عصره، هذه العزلة في دكاكين الوراقين سبب من أسباب نبوغه وتنوع معلوماته، فاتسعت ذاكرته وقويت حافظته فطلق العزلة في الدكان وسارع إلى مجالس ذكر الرحمن، يغزو مجالس العلماء والأدباء والمفكرين ويواظب على حلقات التدريس، فما غادر أبو حيان علما من العلوم صغيره وكبيره، دقيقه وجليله إلا أحصاه في ذاكرته الواسعة التخزين «وهو إلى جانب ذلك كان شغوفاً بكل علم متتبعاً كل ثقافة، حتى غدا موسوعياً واسع الأفق خصب الخيال فيلسوفاً مع الفلاسفة، متكلماً مع المتكلمين، لغوياً مع اللغويين ومتصوفاً مع المتصوفة، ثم إنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، محقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء، فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة، كثير التحصيل للعلوم واسع الدراية والرواية، لذلك كان من الطبيعي أن تكثر مؤلفاته وتتنوع موضوعاتها.»[2]
ما قيمة نعت صاحب "الهوامل والشوامل" بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؟
إذ ما أشدّ غربة الفكر وطأة ! تلك التي يشعر بها الكاتب بين معاصريه، فلا هو مقرب من الحكام يَغْدِقون عليه بالعطاء ولا هو بثقافته الواسعة ونظرته للحياة الثاقبة وفكره الشمولي يقترب منه الناس يتدارسون كتبه ويدرسون إبداعه المتنوع المشارب، التوحيدي مات غريبًا، جفاه قارئًا حبيبًا، ما لبث المسكين أن أحرق ما لديه من مصنفات، تاركًا لنا بعض المؤلفات مثل: رسالة الصديق، الرد على ابن جني في شعر المتنبي، الإمتاع والمؤانسة، معبرا عن حال غربة فكره في العصر الذي وجد فيه «بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له في الحق نصيب...يا هذا !..الغريب الذي لا اسم له فيذكر، ولا رسم له فيشُهر، ولا طي له فينشر، ولا عذر له فيعذر، ولا ذنب له فيغفر، ولا عيب عنده فيسُتَر؛ هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه؛ وأغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قُرْبه...»[3]
الفيلسوف التوحيدي ومحنة الكفر:
أبو حيان علومه غزيرة ومعارفه كثيرة، لم يقتصر على شيوخ بغداد، بل رحل إلى البصرة نهر الشرب العذب يَطعَمْهُ، يَغْتَرفَ منه غِرافُ العلم والحكمة، العرفان والتصوف حتى أُطلق عليه لقب الجاحظ الثاني، ما مدى أهمية وصف؟
إذ عَده ابن الجوزي من الزنادقة الثلاثة الكبار، وهذه أول محنة كفر يتهم بها العارف بالله التوحيدي وقد كتب في الليلة العشرين «وقال النبي (ص): ((لا يزداد الأمر إلاّ صُعوبة، ولا الناسُ إلاّ اتباعَ هَوى، حتى تقومَ الساعةُ على شرارِ النّاس)).
وقال أيضاً: ((بدأَ الإسلامُ غريباً، وسيعود كما بدأَ غريباً، فطوبى للغُرَباء من أُمَّتِي)).
وقلت لابن الجلاء الزاهد بمكة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة: ما صفة هذا الغريب؟ فقال لي: يا بُني هو الذي يَفِر من مدينة إلى مدينة، ومن قُلّةٍ إلى قُلّة؛ ومن بلد إلى بلد ومن بَرّ إلى بحر، ومن بحر إلى بر، حتى يَسْلَم، وأنى له بالسلامة مع هذه النيران التي قد طافَتْ بالشرق والغرب...»[4]
فعلى أي أساس يا ابن الجوزي شيدت بناء كفر التوحيدي؟
والمحنة الثانية لتكفيره مع أبي الحسين بن فارس، الكاتب الأديب، اللغوي الفيلسوف، المتوفي سنة 390 هجرية، كتب عن التوحيدي «كان أبو حيان قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل. ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدخله ويخفيه من سوء الاعتقاد، فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعدائه ونفق عليهم بزخرفة وإفكه، ثم عثروا منه على قبيح دخلته، وسوء عقيدته، وما يبطنه من الإلحاد...»[5]
لكن هذه المرة بأمر من الصاحب وبتحريك منه، حقداً على التوحيدي، فملأ أفواه الحاقدين من الأدباء والفلاسفة بطعامه، وأيديهم بعطاياه، وأرسلهم على أبي حيان ينالون منه ومن دينه، وكان الفيلسوف بن فارس أول من باع ضميره وشحذ لسانه وجرد قلمه يتطاول على فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ويلصق به تهمة الإلحاد والكفر ويسعى جاهداً لتشهير والإشهار، الدعاية والإعلام ومحاربة فكر التوحيدي بالكفر «كذلك لم يخلُ عصرنا من محنة التكفير فتخطف شبح الإرهاب الشهيد سعيد حسين مروة سنة 1989 نتيجة سؤاله حول التراث الإسلامي في مشروعه الضخم "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وتراثنا كيف نعرفه؟
كما اعتبر ناصر حامد أبو زيد زنديقاً مرتدّاً ومحمد أركون كافراً، نتيجة تساؤلهما حول الخطاب الديني وطرح سؤال النقد الابستيمي لهذا الخطاب. الدور اليوم على يوسف الصديق صاحب مؤلف "هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها" وفي القراءة الواعية من طرف المفكر يوسف الصديق التدبر؛ وفي التدبر إثارة السؤال وفي السؤال خلخلة الخطاب الديني المحاط بترسانة دوغمائية فقهية، بعيدة عن سبر الأغوار».[6]
قائمة المصادر والمراجع:
- أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، المكتبة العصرية، طبعة أولى سنة 2011، صيدا بيروت لبنان.
- أبو حيان التوحيدي: المقابسات، محقق ومشروح بقلم حسن السندولي، طبعة ثانية سنة 1992، دار سعاد الصباح، الكويت.
- زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، طبعة تاسعة سنة 1993، دار الشروق، القاهرة – مصر.
- الدكتور زكريا إبراهيم: أبو حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، الدار المصرية للتأليف والترجمة، دون طبعة ودون تاريخ، مصر.
- رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، طبعة أولى سبتمبر 2021، أدليس بلزمة للنشر والترجمة، باتنة- الجزائر.
[1] أبو حين التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص 16
[2] الدكتور زكريا إبراهيم: أبو حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، ص: 42 _ 45
[3] زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، ص ص: 101 _ 102
[4] أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص: 208
[5] أبو حيان التوحيدي: المقابسات، ص: 5.
[6] رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، ص: 29.