القرآن بين القداسة والوحي (قراءة في كتاب الوحي والقرآن والنّبوّة)
فئة : قراءات في كتب
صدر هذا الكتاب عن دار الطليعة للطّباعة والنّشر، بيروت، ط1، 1999م.
الجزء الأوّل من الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أجزاء موسومة بـ "في السيرة النبويّة"، والجزء الثّاني بعنوان (مدخل إلى تاريخيّة الدّعوة المحمّديّة بمكّة، صدر عام 2007م)، أمّا الجزء الثّالث؛ فهو بعنوان (مسيرة محمّد في المدينة، وصدر عام 2015).
عدد صفحات هذا الكتاب "الوحي والقرآن والنّبوّة" 145 صفحة، مقسَّمة إلى: مقدّمة، وثمانية فصول، وخاتمة تحتوي هوامش وتعليقات المؤلّف؛
المقدّمة: تمتد من ص7 - 15.
الفصل الأوّل: جاء تحت عنوان (القرآن ككتاب مقدس)، ويمتدّ من ص 15 - 25.
الفصل الثّاني: يندرج تحت عنوان (الرؤيا والوحي في المنام)، ويمتدّ من ص 25 - 32.
الفصل الثّالث: عنوانه (قصّة الغار ولماذا اختلِقت)، ويمتدّ من ص 33 - 46.
الفصل الرّابع: جاء بعنوان (التّجلي وانطلاق الوحي)، يمتدّ من ص 47 - 58.
الفصل الخامس: موسوم بـ (الله وجبريل)، يمتدّ من ص 59 - 66.
الفصل السّادس: يحمل عنوان (الرّؤى والوحي في التّقليد الدّينيّ)، يمتدّ من ص67 - 82.
الفصل السّابع: جاء تحت عنوان (النّبوّة والجنون)، يمتدّ من ص 83 - 100.
الفصل الثّامن والأخير: عنوانه (قوّة النّبوّة)، يمتدّ من ص101 - 109.
الخاتمة: اشتملت على هوامش وتعليقات، من ص 110 - 145.
يتناول المؤلّف في المقدّمة خطّته ومنهجه العامّ الّذي سوف يسير عليه في تناول موضوعات الكتاب، ويشير إلى اعتماده على القرآن كمصدر أساسيّ في مشروعه في السّيرة النّبويّة، وعدم اعتماده علي التّاريخ المقارن للأديان، كما يتبني منهج وأسلوب الدّقّة وجزالة الخطاب، وابتعاده عن الأسلوب الوهّاج المشوب بالضّبابيّة، ويؤكّد على حقيقة مهمّة؛ هي أن هذا الكتاب "الوحي والقرآن والنّبوّة"، وما يتبعه من أجزاء أخرى يمثّل كتابًا علميًّا لا دراسة فلسفيّة، كما يشير إلى أنّه سوف يعتمد علي المعرفة واستنباط منهج عقلانيّ– تفهميّ في معالجة الموضوعات، وهذا المنهج لم يجده عند المسلمين القدماء من أهل السّير والتّاريخ، ولا عند المسلمين المعاصرين([1]).
ويلفت المؤلّف الانتباه - في مقدّمة الكتاب - إلى أنّ النّبي ﷺ لعب دورًا استثنائيًّا وفريدًا في بلورة الإسلام وتشكيله، كما أكّد على أنّ الوحي والقرآن والنّبوّة هي أصل كلّ شيء، وتمثّل العمود الفقريّ للحضارة الإسلاميّة علي مرّ الزّمن التّاريخيّ، ويري أنّ الصّيغة التّأكيديّة في القرآن، وعدّه كتاب الله المنزَّل بكلّيّته خلافَا للكتب الأخرى، والحفاظ عليه من الشّوائب، وإصرار النّبيّ في حياته على حقيقة الوحي، كلّ هذا أعطى الإسلام قوّة داخليّة كبيرة([2]).
ثمّ يتطرّق المؤلّف إلى تحليل فصول الكتاب؛ ويبدأ بالفصل الأوّل: الّذي يحمل عنوان (القرآن ككتاب مقدّس)، ويشير إلى أن كلمة (الوحي) ذكرت في العديد من آيات القرآن، وتُستخدم - في الغالب الأعمّ - لوصف ماهيّة الخطاب القرآنيّ وعلاقة الله بالنّبيّ محمّد، ويرى ضرورة تمييز عبارة وحي عن عبارات أخرى وردت في القرآن، مثل: كلمة (تنزيل) فهناك الوحي الذي لا يندرج في الفضاء، وهناك التنزيل الذي يرمز إلى الفضائيّ - الزّمنيّ من الأعلى إلى الأسفل، أمّا المفاهيم الأخرى، مثل: كتاب– حكمة - ذكر؛ فتهدف - من وجهة نظره - إلى وصف القرآن في علاقته بالماضيّ التّوحيديّ أو البشر المعاصرين والآتين([3]).
ويؤكّد المؤلّف على أنّ مفهوم القرآن أكثر أهميّة، ومع ذلك يصعب تفسيره، ثمّ يعقد مقارنة مهمّة بين القرآن والكتب المقدّسة الأخرى، أو الكتاب المقدّس، الّذي يحتوي التّراث اليهوديّ والمسيحيّ، المشيرة إلى فكرة المكتوب في صحف، بينما القرآن يشير إلى ما هو شفويّ (يتلى)، كما أنّ مفهوم الكتاب في اللغة العربية يعبّر عن الكتاب والمكتوب، ويتوصّل إلى نتيجة مفاداها؛ أنّ القرآن نتيجة الوحي ومضمونه، والقرآن كمعان وألفاظ من هذا العالم مندرجة في الفضائي –الزّمنيّ يُدرَك بالإدراك الحسّيّ والذّهنيّ، ليس إلّا نسخة من الأصل الإلهيّ (الأركتيب/ Archetype)، وليس هو الوحي بذاته؛ إذ إنّ الوحي هو العمليّة الّتي بُلِّغ بها الرّسول([4]).
ويلفت المؤلّف انتباهنا إلى حقيقة مهمّة؛ هي أنّ القرآن يمثّل المصدر التّاريخيّ الصّحيح لوصف الوحي وعلاقته بالنّبيّ، كما يرمز القرآن إلى ماهيّة الوحي والظروف التي أعلمت ببدئه وتواصله، ويرى أنّ القرآن كتاب مقدّس بالمعنى الدّقيق للكلمة؛ سواء آمن بألوهيّته الإنسان– المسلمون وغيرهم أم لم يؤمن، وعدّه يمثّل تراثًا دينيًا يدخل في سلسلة الكتب المقدّسة المعتمدة على علاقة بالإله؛ أي على وحي([5]).
من هنا، يتوصّل المؤلّف إلى أنّ القرآن يمثّل كتاب مقدّس بالمعنى الدقيق لكلمة مقدّس، ويؤكّد على أنّ مفهوم الكتاب المقدّس أوسع من مفهوم الكتاب الموحَى به Revel))، وأنّنا لو قارنا القرآن بالكتب المقدّسة الأخرى؛ لوجدنا أنّه الوحيد الذي عدّ نفسه وعدّته العقيدة الإسلاميّة كلامًا منبثقًا كليًّا عن الله - في الشّكل والمضمون - وهذا لا نجده في الأديان الأخرى، وفي معرض بيان أهميّة القرآن ومنزلته وعلو مكانته ككتاب مقدّس، يرى المؤلّف أنّ القرآن ينظر إلى التّوراة والإنجيل ككتابين منزّلين، لكن لا يدري - من وجهة نظره - هل كان ذلك على شكلية القرآن ذاته أم لا؟ ويشير إلى أنّ القرآن وحده هو الكتاب بامتياز؛ لأنّه آخر الكتب المنزّلة، وهو المهيمن على التّوراة والإنجيل، ثمّ يواصل المؤلّف تأكيده علي قداسة القرآن، ويرى أنّه أساس في الإسلام؛ إذ أُقيمت به من جديد العلاقة بين الله والإنسان، فما محمّد إلّا إنسان كالآخرين، غير مكتسب لصفة إلهيّة، ولا للقدرة على تعطيل مسار سنة الله؛ أي الطبيعة بأية معجزة في العالم، لكنّ الله أرسله بشيرًا ونذيرًا عن طريق الوحيّ القرآنيّ([6]).
ثمّ يواصل المؤلّف سيره في تحليل موضوعات الكتاب، ويصل إلى الفصل الثاني الذي يحمل عنوان (الرّؤيا والوحي في المنام)، ويشير إلى حقيقة مهمّة؛ هي أنّ القرآن يتكلّم عن ذاته، وعن الوحي، كما يكشف لنا عن لحظة التجلي، ويؤكّد أنّ القرآن يشهد أنّ النّبيّ تأتيه رؤىً ويصدّقها الله مثل قوله: {لقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: الآية 26]، ثمّ يشير إلى معنى كلمة الرّؤيا في المعاجم اللّغويّة، وأنّها تدلّ علي ما يجري للنّائم في نومه، ثمّ يعرج على رؤيا يوسف وكيف أن القرآن يذكر الرؤيا ولا يعرفها، ويشير إلى أن القرآن ميّز بين الرّؤيا المكتسبة لمعنى خفيّ يتوجّب كشفه، وبين الحلم العادي، ويلفت الانتباه إلى أن رؤى النّبيّ في القرآن وفي السيرة لا ترمز إلى معنى خفيّ يؤوّل كاللّغز؛ بل واقعيّة حقيقيّة كما في اليقظة، سواء على صعيد الحاضر أو المستقبل([7]).
و يرى أنّ رؤية النّبيّ تكون صادقة لأنّ الله وراءها، كما أنّ الرّؤية في القرآن هي حقيقة أرقى من حقيقة اليقظة العاديّة؛ إذ تلمس حقائق عالية، وهذا - بالخصوص - يجري على الأنبياء اعتمادًا على تدخّل الإله، ويشير إلى أن الرؤيا، وإن اختلفت تمامًا عن الرؤية بالعين وبالحواس، فقد تجري في اليقظة بالنّسبة إلى الرّائي والنّبيّ والمتصوّفة، ويرى أنّ الآية في سورة الإسراء واضحة بمعنى الرّؤية بالحلم أو القلب {لِنُرِيَهُ مِنْآيَاتِنَآ}، ثمّ إنّ الإسراء تمّ بالرؤية الحقيقية في النوم بتدخّل من الله، لا من الجسم([8]).
ثمّ يصل المؤلّف إلى المحطة الثّالثة من الكتاب الّذي يمثّل - من وجهة نظري - أهمّ فصول الكتاب؛ لأنّه أثار لغطًا وجدلًا كبيرًا من جانب المؤلّف، ويمثّل - من وجهة نظري - صدمة كبيرة للقرّاء بما جاء فيه من آراء، الفصل يحمل عنوان (قصّة الغار ولماذا اختُلقت)، ويندهش المؤلّف ويتعجّب من أنّ القرآن لم يشير - البتّة - إلى قصّة غار حراء وما جري فيه، ويرفض حادثة الغار، ولا يعترف بها، رغم إمكانيّة حدوثها، وأنّها ليست مستحيلة من وجهة نظره لتواتر المصادر، ومع ذلك يرفضها؛ لأنّ لحظة التّلاقي والتّجلي والوحي حصلت - كما وردت في سورتَي النّجم والتّكوير - بوضوح مفصّل (وهذا تناقض - من وجهة نظري - وقع فيه المؤلّف؛ كيف ينكر حادثة الغار ويقبلها في نفس الوقت)، ويرى أنّ ابن إسحاق يذكر رؤيا حراء، ثمّ يدعمها برؤية أخرى للملك في الأفق كي لا يتضارب مع القرآن، في حين أن القرآن يذكر رؤيتين فقط لا علاقة لهما بأيّ غار([9])، ثمّ يعدّد ما تشير إليه حادثة غار حراء، وما تحتويه من دلائل، أهمّها: أنّ النّبيّ كان - قبل البعثة - يبحث عن العزلة كغيره من الحنفاء، وهذا مشكوك فيه من وجهة نظر المؤلّف، وحجّته في ذلك؛ أنّنا لا نعرف شيئًا عن فترة ما قبل البعثة (وأنا اختلف معه في ذلك؛ لأنّ فترة ما قبل البعثة أشار إليها القرآن أحيانًا، وذكرتها كتب السّيرة والتّاريخ)، ويرى المؤلّف أنّ قصّة غار حراء اعتمدت - بصورة أساسيّة - على رواية أنّ أوّل ما نزل من القرآن؛ هو المقطع الأوّل من سورة (العلق)، وتؤوّل الرّواية الكلمة بمعنى قراءة النص، والمقصود - كما يري (جعيط) - بالآية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}: هو التّبشير الشّفويّ بما سيكون القرآن وتلاوته، ولعلّ قصّة الغار اعتمدت علي تأويل الآيتين لتذكر ما ذكرت، لكنّها تتناقض عندئذ؛ إذ تعدّ محمّد لا يحسن القراءة([10]).
أمّا الفصل الرّابع الذي يحمل عنوان (التّجلّي وانطلاق الوحي): يشير المؤلّف فيه إلى وصف الرّسول الّذي جاء من عند الله بالقرآن، وأنّ هذا الشّخص الميتافزيقىّ ليس الله ذاته؛ إنّما هو المبعوث منه، وأن محمّد رآه، ولقد أشار القرآن إلى أوصاف هذا الوحي الذي نزل من عند الله في سورة النّجم: {فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ}، ويرى المؤلّف أنّ هذا المقطع أساسيّ وجوهريّ؛ لأنّه يبيّن بوضوح لحظة تجلّي المخارق لمحمّد؛ الّتي تلتها فورًا لحظة الوحي، ثمّ تتلوها رؤية ثانية، ويستخلص نتيجة مفادها: أنّ الوحي، وإن كان مصدره الله، فالنّاقل له هو مبعوث الله، كما ورد في سورة التكوير، ويستطرد المؤلّف بقوله: "إنّه من اللّافت للنّظر: أنّ القرآن - هنا - يستعمل عبارة (قول) {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}"([11]).
ثمّ يجذّر ويؤصّل المؤلّف لكلمة الوحي، ويرى أنّها تشير إلى الإلهام الدّاخليّ؛ إذ يبدو الوحي كرسالة داخل النّفس، أو أمر بدون وعي من المتلقّي، وهدف جوهريّ - من وراء ذلك - أنّ الله يمسك بالأنفس والأفكار، لكنّه لا يتكلّم فيها - هو ذاته - بالصّوت المتموضع في الزّمان والمكان، وينطلق المؤلّف من حقيقة: هي أنّه من المستحيل أن يكون الله في ذاته قد تجلّى للنّبيّ، ويرى أن كلّ منطق القرآن ضدّ فكرة تجلّي الله ذاته، ويثبت عدّة أمور في التّجلّي منها:
1 - رأي محمّد (جبر - آيل)؛ أي قوّة الله بالعبريّة؛ لذا نعت بذي قوّة وشديد القوى.
2 - هذه الرّؤية ليست من الخيال؛ إذ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، وفعل (رأى) يرجع إلى محمّد وليس إلى الفؤاد، ويؤكّد المؤلّف على حقيقة مهمّة هي: لئن كانت الرّؤية إمبريقيّة تجريبيّة كرؤية شيء خارجيّ بالبصر والعقل والإدراك؛ فهي - مع ذلك - ليست بالرّؤية الموضوعيّة؛ حيث فيها لا يقدّم الموضوع ذاته لكلّ النّاس؛ بل خاصّة بالنّبي، فهي ليست رؤية عادية، وإن جرت في اليقظة وبكامل الوعي([12])، من هنا؛ فإنّ محمّد - من وجهة نظر - المؤلّف يكون من أصحاب الرّؤى (visionaries).
أمّا الفصل الخامس الّذي جاء بعنوان (الله وجبريل): يرى في هذا الفصل أن الشّخص المتجلّي للنّبيّ هو الرّسول الكريم الموصوف في سورة التكوير، وهو ذو قوّة، ويلمح المؤلّف إلى أنّ هذا الكيان لا يمكن أن نسمّيه ملكًا، وأنّ المفسّرين - من وجهه نظره - لم ينتبهوا إلى أن هذا الوصف هو ترجمة عربية لاسم جبريل، وللاسم العبري جبرائيل، ويشير إلى تميّز وتفوّق جبريل وميكال علي سائر الملائكة، وأنّ دليل هذا التّميّز والتّفوّق؛ هو ذكر القرآن لهما صراحة باسمهما، ويشير إلى حقيقة مهمّة هي عندما يصف جبريل بأنه شديد القوّة؛ فهو منبثق عن الله، أو هو الله في مظهر قوّته، وهو ينعت بالرّوح الأمين، وكذلك بالرّوح القدس، وكلّ ما هو قدسيّ في التوراة والقرآن يتعلّق بالذّات الإلهيّة، ويرى المؤلّف أنّ الرّوح القدس هي جزء من روح الله الكلّيّة، اكتسب هويّة مع البقاء، وهو الرّوح الأمين المبلّغ ليس الله لكن من الله, وهي قوّة الله على الأرض يدمّر بها الأمم الكافرة([13]).
ويلخّص المؤلّف رؤيا النّبيّ - حسب سورة النّجم - هي رؤيا لجبرائيل، قوة الله وروحه.
أمّا الفصل السّادس الذي بعنوان (الرّؤى والوحي في التّقليد الدّينيّ): يرى من خلاله المؤلّف أنّ رؤية النّبي لروح الله هي تجربة ذاتية، وحقيقة واقعيّة في الوقت نفسه، إلّا أنّها تعلو على عقل الإنسان العادي، كذلك الأمر فيما يخصّ الوحي الذي هو علاقة ذاتيّة بين الله والنّبي، سواء كان بالأصوات أو بالإلقاء في القلب، سواء كان باللفظ أو المعنى، والقرآن يشهد أنه كان بهما معًا، ويشير المؤلّف إلى أن الرّؤيا والوحي يشبّهان تحارب بني إسرائيل بالمعنى التامّ للكلمة، وكان هولاء الأنبياء فعلًا، وفي بعض الأحيان؛ يرون (يهوه) ذاته فيكلّمهم، وفي بعض الأحيان يوحي إليهم، ويرى أنّ المقارنة التي يعقدها ماكس فيبر بين محمد والأنبياء تكمن في صيغة التّجلّي والوحي؛ أي في صنف ونوع العلاقة مع الماورائي([14]).
ويؤكّد علي أنّ محمّد ﷺ كان موحًى إليه من قبل الله، ويتكلّم باسم الله؛ أي فعلًا نبيًّا انخطافيًّا أو استلابيًّا (Extatique)، في فترة الوحي القصيرة، وعندما كان يتحدّث إلى المجتمع باسم الله فكلامه تلاوة هادئة؛ أي أنّ هناك انفصامًا بين لحظة الوحي حين تستولي عليه القوّة الإلهيّة في شكل روح الله، وبين لحظة الإلقاء والدّعوة، ثمّ يقارن بين الحالات المصاحبة للرؤيا والوحي عند الأنبياء السّابقين وعند محمّد، ويرى أنّها كانت أكثر تحضّرًا عند محمّد ممّا جرى عليه الأمر لدى الأنبياء في نوباتهم العصبيّة؛ لأنّ كلّ ما يمسّ نفس محمّد كان يجري داخل الضمير، فلا يبرهن عليه بأيّ اضطراب خارجيّ([15])، يؤكّد المؤلّف - من هنا - على أنّ النّبيّ كان يوحى إليه من قبل الله عن طريق الوحي.
أمّا الفصل السّابع الذي يحمل عنوان (النّبوّة والجنون): يرى المؤلّف فيه أنّ المقصد الأساسيّ من رمي محمّد واتّهامه بالجنون والكهانة والسّحر؛ هو رفض الوحي، وأنه يوحى إليه من الله، ومع ذلك، يشير المؤلف إلى أن وصف محمد بالجنون يمثّل تصديق النّبيّ في كونه يتلقّى وحيًا وعلمًا بالغيب، ويسمع أمورًا غريبة، وهي نقيض الافتراء؛ حيث يكون النبي في هذه الصورة هو الّذي أبدع القرآن بوعي منه، ويشير المؤلّف إلى حقيقة مهمّة جدًّا؛ هي أن الجنون في القرآن لا يعني الاختلاط العقليّ وذهاب العقل والتمييز؛ بل المقصود منه أنّ محمد مسكون من الجنّ، أو تابع لهم([16]).
ثمّ يتتبّع المؤلّف جذور كلمة (جينيوس) في اللّغات، ويرى أنّها مأخوذة من اللّاتينية التي كانت تعني الإله، ثمّ تطوّر معناها في اللغات اللاتينية لتعني القوّة الإلهاميّة لدى الشّاعر والفنّان، ثمّ يوضّح حقيقة الجنّ وطبيعتهم في القرآن، فهم يتجاورون مع الإنسان في الأرض وفي الحشر يوم القيامة، ويؤكّد على حقيقة مهمّة؛ هي أنّه ليس بالضّرورة أن يكون الجنّ قويّ شرير، ويستشهد بالآية (11): {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}، ويستنتج نتيجة مهمّة؛ هي أنّ النّبيّ ليس مجنونًا؛ إنما أخضع الله الجنّ لمنطق الوحي والقرآن والنّبوة؛ فالنّبوّة ترقي عليهم بكثير؛ لأنّها من عند الله، ويشير إلى أنّ النّبيّ لم يرَ الجنّ، حتّى في سورة الجنّ ما رآهم، ولا سمعهم، إنّما أوحي إليه أنّهم قالوا ما قالوا، فعلاقتهم بالبشر تكون سمعيّة([17]).
ثمّ يقارن المؤلّف بين الوسوسة كشيءٍ متكرّر غير منتظمة، وبين الجنون كشيءٍ آخر مختلف، يمتلك الفكر كلّيًّا من طرف كيان الجان، وهنا تنشأ إشكاليّة كبيرة - كما يرى المؤلّف - هل كان القرشيّون يتصوّرون أنّ الجان بمقدوره أن يدخل العقل ويملي عليه كلامه ويعلّمه الغيب، أي تلاوة النّبيّ للقرآن؟ الإجابة: إنّ العرب كانوا يعدّون - حسب شاهد القرآن - الاختلاج الصرعيّ لمن يتخبّط هو بفعل الجنّ ومسّهم، لكنّ القرآن ينسب ذلك إلى الشيطان؛ إذ يقول القرآن: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، ثمّ يميّز المؤلّف بين الشّياطين والجنّ؛ فالشّيطان مفهوم قرآنيّ توحيديّ، فهو كيان خطير واضح الوجود، أمّا الجنّ؛ فهي قوى خارقة شريرة تتلاعب بالإنسان وتؤثّر عليه نفسيًّا وجسديًّا([18]).
أمّا الفصل الثّامن والأخير الّذي جاء تحت عنوان (قوّة النّبيّ)؛ فيستعرض فيه المؤلّف قوّة النّبيّ من تمسّكه بالدّين وثقته في الله، ثم يشير إلى أن قوّة النّبيّ تكمن في عدّة عناصر، منها:
1 - هو يتلقّى الوحي بلهفة ومحبّة ويأتمر به؛ إذ إنّ الوحي تعليم وأمر آمر.
2 - صبر النّبيّ في فترات الوحي، وشدّة وطأتها على النّفس، وصبره على الأذى.
3 - النّبيّ كان قويًّا بقوّة قناعاته، ويؤمن بالرّعاية الإلهيّة لشخصه، ويقرّ المؤلّف بأنّ القرآن شهد على قوّة النّبيّ المزاجيّة بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ويرى أنّ النّبيّ ليس قويًّا بمفعول قوّته الدّاخليّة فقط، لكنّه تقدّس لقرابته وقربه من الله، والنّبيّ قويّ - أيضًا - لأنّه بنى الضّمير الإنسانيّ، ومن ثمّ الحضارة والثّقافة والأخلاق([19]).
كما أنّ النّبيّ أسهم بقوّة في إحداث قفزة كبيرة في مسار الإنسانيّة؛ فهو من الهداة القليلين في حياة الإنسانية، ومن هنا تتأكّد قوته المعنويّة الّتي ساهم فيها في رقي البشريّة.
في الخاتمة: يعرض المؤلّف بعض التعريفات، منها: مصطلح أو مفهوم الكتاب، وأنّه يشير إلى القرآن، وأنّه ليس ما هو مكتوب ماديًّا فقط؛ بل الكلمة تعبّر عن الأصل الإلهيّ؛ أي عن الصّفة القدسيّة، كما أشار إلى كلمة الوحي وكيف أنّها تدل على الإلهام والكلام الخفيّ، وكل ما ألقيته إلى غيرك، بالتالي؛ لا توجد أصوات خارجيّة، كما أنّ النّبيّ يشعر بالغيريّة؛ أي غيرية هذا الملقى إليه، فالوحي يتحوّل إلى قرآن عن طريق إلقاء الوحي الكلام من الله إلى النبيّ، ثمّ يتحوّل الوحي إلى قرآن؛ أي موجود موضوعيّ يُسمع ويُفهم.
[1]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، دار الطليعة للطباعة والنّشر، بيروت، ج 1، ط 1، 1999م، ص 7.
[2]- المرجع السّابق، ص 11.
[3]- المرجع السّابق، ص 18.
[4]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 19.
[5]- ابن هشام، السّيرة النّبويّة، دار الفكر، 2001، ص 152.
[6]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 20. انظر أيضًا: الأب موريس بورما نس، الوحي الإلهيّ ومشاكله في نظر الفكر المسيحيّ، ضمن كتاب الملتقي الإسلامي المسيحي الثاني، المطبعة الرسمية للجمهورية التّونسية، 1980م، ص 334.
[7]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 29.
[8]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 30.
[9]- المرجع السّابق، ص 32.
[10]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 39.
[11]- المرجع السّابق، ص 45.
[12]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 57.
[13]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 64.
[14]- المرجع السّابق، ص 67.
[15]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 68.
[16]- المرجع السابق، ص 85.
[17]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 87. انظر أيضًا: أحمد المشرفي، النّبوّة في الأديان، المركز القومي البيداغوجي، تونس، ط 1، 1999، ص 137.
[18]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 92.
[19]- هشام جعيط، الوحي والقرآن والنّبوّة، ص 104.