القرآن بين شرطية التاريخ ولوازم التعالي : قراءة في كتاب "القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية"
فئة : قراءات في كتب
مدخل:
الكتاب في اتجاهه العام؛ يطرح إشكالية مهمة تتصل بالعلاقة بين الوحي الإلهي والتاريخ، ومراحل الصلة بين الوحي في تجلياته المتنوعة، وكل المشكلات النفسية والاجتماعية والأنثربولوجية التي تمثل الإنسان في رحلته الوجودية، منذ آدم عليه السلام، وصولا إلى مرحلة الظهور الكلي.
تعرض الفيلسوف السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد (2004م) في هذا الكتاب ضمن مدخل وتقديم وفصول ثلاثة وخاتمة، إلى أهم الإجابات التي تتضمنها فلسفته، المتمحورة حول الجمع بين القراءتين، وجدل الغيب والإنسان والطبيعة، وإسلامية المعرفة، والظهور الكلي للمنهج السلمي ودين الهدى والكافة، وشِرعة التخفيف والرحمة وحاكمية الكتاب. تعرض للمدارس الوضعانية والتاريخانية الشكلانية المادية التي تصر على عدم جدوى الروح والمتعاليات ابتداء. وأيضا كون المنتوج الثقافي الإنساني محكوم بملابسات زمانية وبيئية واجتماعية ونفسية وأنثربولوجية، إذ لا يمكن أن تقارب المعطيات المعرفية وما يحفها، إلا ضمن إطار المشروطية ومحكومية الارتهان لضغط التاريخ وعوامله المتنوعة التي تنعكس على الوعي بعد أن تنتجه ابتداء، فتوحي له بمضامينه وأحكامه، ويضعه ضمن أفقه الصلب الذي لا يمكن الإفلات منه.
يشرع محقق الكتاب ومقدمه، الدكتور محمد العاني؛ في عرض الإشكالية العامة التي تحكم الصلة بين الإيمان والمعرفة، وبينهما واللغة، وبينهما والواقع، وكيف تظهر أزمة العلاقة بين المتعالي والتاريخي ضمن جدل الإيمان والمعرفة، فإذا انطلقنا من أن الإيمان بالمتعالي والوحي بوصفهما متجاوزين للواقع إيمانا، فإن المعرفة تفرض علينا أبدية الحاجة للغة، وما تمارسه الخيرة على الوعي من شرط. فيؤدى الحال إلى نوع من الارتهان الدائم، لها سياقاتها ورمزها، والناظم العام الذي أنتجت داخله وحواليه، والتي تتحول إلى منتج مقابل له.
مثّل الدكتور محمد العاني إلى المعالجة السالفة، بمنهج المرحوم نصر حامد أبو زيد (2010م) حالما أقر بالمصدر التاريخاني للنص، بنية ومضمونا، رغم الحاجة إلى القول بتعاليه؛ فالمصدر الميتافيزيقي وارد، لكن من غير إسقاط للاعتبار التاريخي في تشكيل المعرفة الحافة به.
نجد في المقابل؛ المنزع السلفي المهدر للاعتبار التاريخي، حيث تؤبد الفهم والوحي في زمكان بعينه؛ أي رهن الدلالة في ظرف تاريخي بذاته، بحسبانه التجلي المطلق والنهائي للوحي، من غير مراعاة التبدلات التي تطرأ على الواقع والحياة معا، وهذا يضعنا ضمن استقطاب حاد بين اتجاهين يقاربان الوحي.
ولأن الوحي بنى صدقيته على المعجزة في زمن ما، فإن القرآن أكد على تجاوزه للمعجزة كمعطى يؤسس عليه، خاصة وأن المعرفة العلمية الموضوعية تطورت، ولم تعد تقنع بالطريقة الإيمانية المألوفة، ما وضعنا ضمن مستوى آخر من إشكالية الصلة بين الفكر والواقع، إن من ناحية الذات المنتجة للمعرفة بوصفها محيطة بالمعنى تطابقا، وإن من جهة إشكالية الذات القارئة المحاولة للارتباط بالنص، باعتبارها متكلمة باسم الإله المنزل للنص، سبحانه، ما يخلق إشكالية التأويل المتكثر، قبال المتصلب في التفسير الواحد، كترجمة للمراد الإلهي.
ويواصل المحقق بيان كيفية معالجة حاج حمد للإشكالية، بإسقاطها على الصحوة الدينية، ومحاولتها لحل الإشكالية، لكن دائما في مقاربات تقليدية، رغم المحاولات الليبرالية أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين. لذا نبه على أهمية إشارات حاج حمد، إلى ضرورة مراعاة منجزات المعرفة العلمية والفلسفية، وصلاحية المنهجية المعرفية القرآنية، مع تشبيك ملكات الوعي الثلاث (السمع، البصر، الفؤاد)، فيتحقق تقديم دليل موضوعي عن صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، من خلال فهم بنية القرآن وخصائصه([1]) والانفتاح على المناهج المعرفية الحديثة، والعمل على تجاوز السقف الثقافي للسلف، لأنه استنفد غرضه وأجاب عن إشكالياته.
في مقدمة الكتاب، يشير مؤلفه إلى الهدف الأصلي الذي يربط كل أعماله السابقة والتالية، وهو ترشيد الصحوة الإسلامية، ووضعها على خط إكمال شرطها المعرفي الذي تفتقده، ولأنها لا تزال لم تنتبه إلى هذا الأساس، فإنها من الوجهة التاريخية تراوح مكانها، ولم تغادر عهود الصبيانية والمزاجية والعاطفية في التعاطي مع الآخر، وأيضا في تناول مصادرها المعرفية، خاصة القرآن. ومن الأسباب التي جعلتها كذلك، انخراطها في العراك السياسي والتنظيمي والحركي، ظنا منها أنه شرط التحرك التاريخي والانطلاق الحضاري، في حين أن جذر الحلول يكمن في الجانب الفكري الذي ينبغي استكماله وفورا، حتى تبلغ مرحلة الظهور الكلي للدين الإسلامي، كحتمية تاريخية كونية، لا من جهة الاستلاب اللاهوتي للواقع ومصادرة له، بل لأن الله سبحانه قدوعد، لكن هل يجد الوعد حملة يؤدونه ويفون بنهايته، وهنا تكمن مشكلة الترشيد والتجديد معا.
مشكلة ناشئة عن ذهول الحركات الأصولية عن منطق التاريخ والواقع، وأيضا كونها سوات بين الصحوة وبين العودة الجزئية إلى الذات في الشكل الماضوي المتعجل، غير القادر على تحويل الاجتهاد من فورة فردية وشخصية، إلى عملية جامعية مؤسساتية، هدفها الفهم، لا تكرار ما قاله الماضون استجابة لمشكلات زمانهم، فنجدنا أمام فئة تكرر نفسها في غيرها، وغيرها في نفسها، عجزا عن الدفع بملاك الاجتهاد عندها إلى نهايته، وهو الفهم وعدته، لكن المشكلة "...في الكيفية الاسترجاعية التقليدية الماضوية لهذا الإسلام بأسلوب تتحكم فيه وبه مقومات العقلية الراهنة المتسمة بقصور الوعي بأكثر من عقلية الماضي التي كانت اجتهادية في حاضرها السالف بالنسبة لنا"([2]) وبذلك، نجدها تتراوح مكانها بين شكلين من الممارسة يعريانها في الأخير ويظهرانها أقل بكثير من الصبيانية التي أشرنا إليها آنفا، فلا استعادت الماضي بشروطه، حيث يستحيل، ولا تمثلت الحداثة ضمن شروطها التاريخية، لعدم انخراطها في الجدل التاريخي للوقائع والظروف، والتركيبات والبنيات التي أدت إليها كحالة مركبة غير مبتسرة.
لذا من اللازم سوق الصحوة إلى معنى، أنها البديل، لكل التيارات التي فشلت في تحقيق النقلة النوعية والتاريخية لكل العرب والمسلمين؛ فاليلبرالي تعاطى بشكلانية مع مؤسسات الحداثة، ما قاده إلى فوضى عارمة في كل شيء، رغم نجاحاته النسبية، لصدود الجماعة التاريخية عن مطمحه، ووفائها المستميت لأطر الحياة القبلية والطائفية والمذهبية المنغلقة، ففوتت عليها وعليه، فرصة التفكيك القادر على تحقيق حالة مدنية، تسمح لها في النهاية من تأسيس تقاليد تتيح اللحاق بنمط الحداثة في غير مشكلاته، خاصة لتوفر المؤطر القيمي الذي يحرزها عن الوقوف في مفارقاتها. ومن أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها للمثقفين الثوري اليساري، والليبرالي، اعتمداها على تكرار مقولات خارجية لا تنم عن تحولات عميقة في صميم التجربة التاريخية العربية، وأيضا لم يستكملا الشرط الفلسفي لعملية التحول، فيقدران على تكوين حداثة عربية ضمن شروطها وقوالبها، من غير انضغاط في اتجاه اختيار القوالب الغربية بحذافيرها.
فكما كانت المشكلة الأولى في الذهول هي الشروط، فإن الثانية تنكب عن المناهج الحديثة التي تمنح فرصة القطيعة المعرفية الجوهرية التي تحتاجها الصحوة لتكمل مسيرتها التاريخية، وتمثل العلة في أنها تتعاطى بمناهج تقليدية مكررة، مع حوادث ووقائع متجددة؛ أي لم يحدث التحول على مستوى المنهج، فالفهم، فالوعي...ففرق بين أن ننظر جميعا إلى الشمس الواحدة، من حيث ما هي؟ وبين أنظارنا نحن بالعين المجردة، أو بالتلسكوب، أو الأقمار الصناعية...كذا الوعي ومناهجه؛ فالمشكلة لا تتمثل في القضايا بمقدار ما تظهر في المناهج الدارسة؛ فهي أزمة مركبة أجهضت مشاريع اليلبراليين والثوريين والإسلاميين على حد سواء؛ فالأوائل، لأنهم قاربوا مجتمعاتهم بأدوات لم تساير منظوماتهم المعنوية وعوائدهم؛ والآخرين، لأنهم وجدوا أنفسهم في مصادمة مع قيم الدين المعنوية والروحية، إذ لم يميزوا بين الدين كثرة للتسديد الإلهي وحاكمية الكتاب، وبين ركام البداوة وتأثيراتها على الفهم الأصولي واستنتاجاته. وعندما تبلغ الحاجة بالمجتمعات التقليدية مرحلة الرغبة الملحة في التحول، عند ذاك قد يتحول الفشل نجاحا. لكن هل محكوم على الصحوة بالفشل الدائم؟
يكون الجواب نعم، إذا استمرت الصحوة في تنكب التفوقات النوعية التي أحرزتها الحداثة وتوابعها، لأن مشكلة الصحوة مع مجتمعاتها غير ما عاناه الليبرالي والثوري، لمخالفتهما الابتدائية للتركيبة النفسية والقيمية للمجتمعات العربية. الصحوة تعبر "..بصفتها عودة إلى الذات ...عن مشروعية فكرية وتاريخية في تكوين الأمة؛ فلا عودة إلى الذات خارج الإسلام، باعتباره الجذر المكون للوجود العربي منذ أن أعاد الإسلام صياغة الحضارات المختلفة والأعراق المتباينة في وحدة عضوية شاملة ما بين المحيط والخليج كأول تأسيس لإطار عالمي اتسع ليشمل الآخرين. فالصحوة تعبير عن مشروعية العودة العربية إلى ذاتها الإسلامية التي أسستها ثقافيا واجتماعيا وبلورتها وجودا"([3]) فالمهمة التاريخية لطلائع الصحوة هي استعادة التوجه العالمي الذي ينفتح على كل التجارب الكثيرة والمختلفة، من غير إحداث لعمليات تحويل جذرية تلغي الخصوصيات، وقد كان لتجربة الإسلام الحضارية الإثبات المكين على مقدرته للتجاوب مع المختلفات لصهرها في إطار تنوع منسجم يبقي الثقافات الأخرى، كما يدفع بها إلى منظومات متشاكلة من أعراق وديانات ومعتقدات ومذاهب...والوجه الحضاري الذي يبرز في كل مكان متقارب. أما إذا دفعت الصحوة الأشكال التاريخية للاختلاف إلى الانمحاء بدعوى التوحيد، فهي تخالف قيمة العالمية المحافظة على المنفرد، من جهة ما يدل على التنوع.
إن الذهان التقليدي في الغالب متوجس من المختلف، ويحسبه تهديدا دائما للذات، في حين أن قراءة تاريخية ثرية له، تنقله إلى نمط التعاطي الإيجابي الذي يتيح على إدراك الذات في الآخر، والعكس، وهكذا عمل القرآن في منهجية التصديق والهيمنة، حال يسترجع، فيصدق ثم يهيمن. وإذا شرعت الصحوة في استعادة الرؤية المركبة، فإنها ستتمكن في الأخير من تجاوز التوجهات العدمية القائمة على القطائع الجذرية والكلية مع التراث من غير أخذ أهميته الثقافية في الحسبان، وعند ذاك يقدر المجتهد المستوعب للدرس التراثي ومتاحات المعرفة الحديثة، من خلق فضاء التشارك الفعال في استعادة نقاط القوة في تراث الأمة، وبذلك يتمكن الجميع من تكوين نظرة متسالمة إزاء الماضي ومدخلية الدين في تشكيل الوعي الحضاري العام، وكذا مقدرته على بناء حضارة فعالة ومنتجة. "إن القضية في النهاية هي تنمية قدرات الأمة باتجاه المستقبل من خلال تفاعلات الحاضر وفي إطار المكون الإسلامي، وهذا ما يؤدي إلى تفهمنا لجدل الواقع"([4]) فكما تخطت المحاولات الحداثية العربية جدل الواقع الحداثي الأوروبي، كذا يمكن أن الصحوة في تجاهل الحداثة كمدخل مساعد، ثم في المقابل يمكن الذهول عن هذا الجدل حال يتم التعاطي مع الواقع بعيدا عن المكون الديني، بوصفه من المكونات الصميمية له، إن لم يكن هو صدى لما تراكم عبر التاريخ منه، طبعا بضرورة التمييز بين الدين والتدين، حتى تتفادى إشكاليات منهجية ونظرية كبيرة.
تتميز المسيرة الأوروبية في جدل الديني والمعرفي بمرارة شديدة، أفضت إلى فصام العلمانية وتشقيقها للحياة إلى أشطار، والبعض في نطاق الأمة ممن يرغب في التجاوز بها، يكرر الخطأ التاريخي عينه، لما يعتقد أن التعاكس بين التطور وحضور الدين أبدي، فكما تقدم أولئك للقطيعة مع الدين، كذا يستوجب الوضع عندنا إحداث القطيعة الكلية عينها. لذا على الصحوة أن تبحث عن مسلك رشيد في التجاوب مع مكونات العالم في ماضيه وحاضره.
ثم يردف الكاتب بتساؤلات مكينة حول طبيعة الإسلام الذي ينبغي أن تعتمده الصحوة الرشيدة، أيقوم على المعنى الاستردادي المكرر أم على الدلالة الإبداعية المجددة فعلا؟ أيكون بمنهجية علمية موضوعية تدفع بمقدرات الإنسانية إلى الانبثاق، أم أنه يؤبد الحلول بتأبيد الإجابات الماضوية؟ أتستحضر تلك التجارب الواقع أم تلغيه؟ أين يظهر موقفها الفكري المكين من أزمات العصر ومشكلاته، هل تملك هذه الصحوات إجابات ناضجة بالرأي المتوازن والحكم السديد؟ هي كلها أسئلة اختبر بها فيلسوفنا مبلغ اطلاع وسعة النظر عند التجربة التاريخية المنعوتة بالصحة، وعمد إلى استفزازها لتكشف عن وجهها المعرفي لتستدرك فواتا عميقا أخذ يتكرس لتخلفها، وأخذ يضيق إذا انتهجت الإسلام برؤية المنهجية المعرفية القرآنية، الجامعة بين التعالي في لوزامه، والتاريخ في مشروطيته.
أولا- المرجعية القرآنية وتقصيرات الصحوة، أو نحو استعادة راشدة للقرآن:
ما درجت الأدبيات المؤرخة للحراك الثقافي والسياسي أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، على تسميته بالصحوة أو الحركات الإسلامية، أو الأصولية الإسلامية، أو الإسلاموية، كله ينطبق على جماعة أو جماعات تاريخية، هدفها الأسمى تعويض غياب الخلافة الإسلامية عن وظيفتها التاريخية، وتعرضت لدراسات شتى تصنفها بناء على الولاءات الأيديولوجية أو السياسية أو الحزبية وما إلى ذلك، إضافة إلى أفراد بارزين نعتوا فيما بعد بالدعاة والدعاة الجدد، وتوزعوا جميعا بين الحزبيين، والحركيين، والجهاديين...وأغلبهم شباب أو هكذا صورتهم الدراسات، وينتمون إلى الطبقات الدنيا، وعلى أقصى تقدير الوسطى، وباعثهم جميعا الاستعادة الاستردادية، اللهم من نشط من عقال الربقة التنظيمية، واقتفى المعنى العلمي المنهجي، فإنه خال للدين دورا تاريخيا تقدميا، باستثناء من جعلها هي بدورها مظهرا لأزمة التحديث وفشله الذريع، كما يحب محمد أركون (2010م) غالبا أن يقرر. لكن السؤال المركزي حسب الكتاب: إلى أين تتجه هذه الصحوة بتلويناتها المختلفة، هل إلى الماضي أم إلى المستقبل؟ هل تسترجع الماضي لتمضي قدما، أم تستعيده، لأنها تظن أنه النهاية التي كانت في البداية؟
يرى حاج حمد أن العودة إلى الماضي يجب أن تفيد بالضرورة الرجوع إلى القرآن، من حيث هو المرجعية الإلهية الكونية المعادلة في وعيها الموضوعي للوجود وحركته؛ فقد أقر الكتاب التماثل الأنطولوجي بين كل الكون، وكل القرآن، (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) سورة الحجر, آية 87. وبذا يكون للكتاب حضوره البناء في صناعة الوعي المتأهب ليستعيد الماضي الحي، ويتفادى تكرار التجارب الخاطئة التي أورثت الفوات التاريخي في العالم، أو على الأقل بين الغرب والعالم الإسلامي، وهنا تظهر إشكالية تأصيل الحداثة، وتحديث الأصالة، بين عملية اللحاق الحقيقي بقصد تطوير الثقافة، والطلاء البراني الخارجي الذي لا يحدث سوى فرقا شكليا، وهنا يقر حاج حمد، كما أقر قبله المفكر الجزائري مالك بن نبي (1973م) فرق بين من ينتج الحضارة ويبنيها، ومن يستوردها شكليا ويعتقد أنه يملكها. "إن عملية صناعة الحضارة، وليس استيراد منجزاتها، هي التي تصنع التحول الفكري والاجتماعي؛ فنوعية أدوات الإنتاج والشغل والتشغيل والتحكم في الطبيعة، إنما تعكس حالات فكرية معينة، والفرق النوعي شاسع بين ثقافة تنتج المحراث اليدوي في مجتمع زراعي وثقافة تنتج المحراث في مجتمع صناعي ثم تطلق القمر الصناعي".([5])
فالمسألة مركبة، لا تختص وحسب بعملية مباشَرة نقل معطيات تكنولوجية من فضاء لآخر، بل هي حالة تاريخية مركبة ومعقدة تماما، تتسم بالاتصال بين النواحي الحياتية لجماعة تاريخية ما، خاصة في منوالها الفكري وطريقتها المنهجية في مقاربة العالم والنظر، والوعي الذي أنتج في فترة زمانية ومكانية ما، إنما يشير من كل النواحي إلى التجاوبات النفسية والمعرفية والثقافية لتلك الفترة مع مدوناتها وما تؤلفه وتقرأه؛ فمجتمع لا يزال نسيجه الاجتماعي خارج الأفق الزماني للعالم، يجد نفسه بعد حين في مضمار المعاداة لكل جديد ومستحدث، وهكذا كان بالنسبة للحركات التي تزعم الارتباط للإسلام بكثير منها، أو بعض منها، أو على أقل تقدير توجسها من كل ما يباين طريقتها في الحياة. إنها حركات "..لا زالت...بمعزل عن تبين الإشكالية في عمقها"([6]) وإن برز من بعض ديباجاتها الدعوية استعمالها لخطاب يستدمج بعض ما يفيد أنها انخرطت في إشكاليات جذرية تمس العالم، لكن أبسط إحالة إلى الواقع في تشابكاته تنغلق وتنتفض، وتكرر حلولا عرفها السابقون، لكن ليت شعري، إذا أدت عن السابقين، هل تؤدي عن اللاحقين وترفع عنهم غبنهم، في سكينة مريرة، وكأنها تملك الحلول جميعا، فتغفل عن التاريخ، فيغفلها التاريخ. ويعطي الكاتب نموذج سيد قطب رحمه الله (1965م) بخطابه التجهيلي والاستعدائي، بعناصره الأساسية، الحاكمية، الجاهلية، المفاصلة، الجهاد، الجماعة المؤمنة.....ويذكر بالعجز الدارج لهذا الخطاب وما انبثق عنه من حركات، كونها تجاهلت الاعتبار التاريخي الاجتماعي بالطريقة التحليلية النقدية، لذهولها عن الموازين المنهجية القرآنية، وأيضا لأن الحداثة لم تحدث تغييرات بنيوية في أساليبها، لذا تحتاج إلى نخبة تقودها إلى الانتقال الواعي الممنهج نحو الحداثة المختارة، المبنية بكفاءة معرفية ومنهجية عالية، تولّف بمنطق التركيب والجمع، بين المنهجية المعرفية القرآنية، ومكتسبات المعرفة الحداثية ومناهجها، من غير ضرورة للاندفاع إلى نهاياتها الفلسفية.
يمكن اعتبار الإسلام بأحكامه جوابا لمشكلات الإنسان، لكن هل يمكن اختبار ذلك واقعيا؟ صحيح أن أحكامه ثابتة، بيد أن التنكب عن المتغيرات الناشئة عن الظروف والملابسات، يورث القصور في فهمها، والتقصير آن تطبيقها، ما يقود في النهاية إلى الفشل والصدام، لذا يستوجب الوضع قراءة متعمقة للقرآن، واستعادة منهجية لمعطيات الفهم فيه، لتتمكن هذه الحركات وغيرها من تخطي الشرطية التاريخية، إلى نمط من الوعي الموضوعي المانح للاستطاعة على الولوج إلى متغيرات الوقائع وتقلباتها، وإلى المناهج وأطرها الفلسفية، لأن القرآن كلما قورب بهذه المناهج، ينقلب بعد حين إلى مقوم ذاتي لها، باعتبار موازينه ومنهجيته المعرفية المهيمنة، لصدوره عن الإلهي، ولاستيعابه المتين لإمكانيات هذه المناهج، ولمنحه المقدرة النقدية الدائمة، والمنزع التركيبي وغيرها من المواصفات الإبستمولوجية المساعدة على التحرر من جزئيات الوقائع وتنصبها شرطيات كلية على الفهم القرآني ومعانيه ومضامينه، وبذا يتمكن الوعي الإسلامي، والإنساني، من الانفلات من ربقة التاريخانية المقيتة التي تلغي كل التجاوزي لصالح الحلولي والكموني، فيبدأ الوعي متحررا منفتحا، فيضحى مأسورا مرهونا لظرف ما، فندخل عالم الصيرورة الماحقة لكل ثابت.
فالخروج من اللاهوتية الدينية، باستلاباتها للواقع لصالح النص، لا تعطينا الحل، بل تلقي بالوعي في استلابية من نوع آخر، ولاهوتية لكن من طراز علمي فلسفي، يستلب النص لصالح الواقع، والثقافة المتوازنة، هي تلك التي تنشئ المعنى المتكثر من الروافد المختلفة، جدلا بين الغيب والإنسان والطبيعة، وحينذاك تظهر إلى العيان فلسفة رشيدة، وممارسة متثبتة، وتجارب أثرى وأغنى، وبذلك تبنى النظم الحياتية المتجاوزة للأزمات الحضارية المكينة. إن وعيا كهذا يتيح للثقافة النقدية المستمدة من الماركسية الجديدة؛ أي مدرسة فرانكفورت، أسسا فلسفية للنقد، يتيح لها أن تتخطى النقد الجزئي، حيث مكنها من الاقتراب إلى الإنسان، إلى النقد الكلي الجذري، لكي تتبين الأسس الفلسفية العميقة التي بنت عليها الحضارة الغربية نفسها، فآلت إلى المادية واللاهوت الأرضي، "إن تقدم الفكر الأوروبي المعاصر باتجاه الإنسان هو خطوة على طريق التحرر من اللاهوت المادي، وإن كانت هذه الخطوة تعاني من تشوهات الأفكار الوضعية، ولا تستطيع الفلسفات النقدية الراهنة أن تواصل طريقها الفلسفي الجديد، إلا إذا طورت جهودها المعرفية باتجاه (صياغة كونية) لنظرياتها، ولا يبدو الأمر متاحا خارج المرجعية القرآنية الكونية التي بمقدورها وحدها حل إشكاليات مناهج المعرفة..." ([7])
ثانيا- القرآن بين الشرطية التاريخية ولوازم التعالي، تولد الإشكال:
إن طرح الإشكالية بطريقة منهجية صحيحة، يختصر الطريق إلى منح الحل المناسب، ولا نستوضح الفهم، إن لم نستجمع شرطه؛ أي توضيح موقع المقولة الأساسية التي نحن بصددها؛ أي القرآن، إزاء الشبكة المفهومية العامة، وكيف تنعكس عليها في ضبط دلالتها في اتجاه المعنى المبني بمراكمة التصورات ووصلها ببعضها.
إن القرآن عند محمد أبي القاسم حاج حمد، مرجع كوني، يساير صيرورة العالم في اتجاه ما سيأتي، يكافئ منطقيا كل ممكنات الوجود، من جهة ما يدل عليه، ومن ناحية ما يفصل في معطياته بما يهدي إلى شكل تجاوب معه؛ أي يؤسس للطريقة الصحيحة في الولوج إليه، وهنا تظهر إشكالية النزول القرآني، من حيث ما تشير إلى كيفية الانتقال أنطولوجيا من مستويات متعالية مرتفعة عن التلبس الزمكاني، وصولا إلى المباشر العيني والجزئي. وهنا يجمل جوابه بتعيين موصفات للعملية السابقة، في أنماط ثلاثة: الأول؛ هو التحدد والتعين، إذ لازم النبي في ظروفه كلها، أرض/لسان/مكان/زمان/أفق/... لكن لماذا هذه الملازمة بتلك الكيفيات؟ لو وقفنا عند حد المعطيات، فإن الخطاب القرآني وما يشير إليه آني. أما إذا تعاطينا مع منهجية معرفية ترفعه فوق المباشر إلى التساؤلات حول ما فوق التعيينات، فإنا نجده كتابا خاتما، نزل بأرض محرمة، مخاطبا الناس جميعا، مخالفا لدأب النصوص المقدسة التي سبقته، إذ رمى بإنسان منتمٍ إلى فضاء مغلق مسيّج، إلى كون فسيح، وفتق رؤيته ونقلها من قدام خيمته إلى أطراف أنطولوجية سحيقة تتصل بالبدء والختم، وثور المعنى في مخياله آن ساجل رؤيته للعالم وهزها، ونضدها بكيفية أخرى مستقلة ومتميزة، ودفع به أن يغادر تخوم قبيلته إلى أطراف العالم الفسيح، يتعرف ويتعارف، وعندها اتصف وعيه بالكونية تارة، وبالعالمية طورا، والأبدية أخرى، متعشقا للمطلق، حيثما أشارت البيت إلى وجهه في كل مكان، فحرّم أرضا وجعلها فوق المقدسة، ونقله وعي أهلها إلى الناس جميعا ليتشاركوا سوية في بناء العالم...وهكذا.
أما الثاني، فيمثل في جرأته النقدية وسعيه الدؤوب على استعادة الموروث الروحي والقيمي السابق، وموضعته ضمن شبكته القيمية، ومراجعته بكيفيات لا تمحو ما كان، بل يعيد ترتيبه، حيث يتوافق مع المزاج الكوني، والطموح الإنساني الحر والعادل، ولا يمكن تماما فهم ذلك، إلا بتسييقه مقابلة مع المعروضات في وقت نزوله، وأيضا صمود هذا المعروض أمام عاديات الأيام وتقلباتها. "وقد عالج النقد القرآني المنظور التراثي البشري الذي أحاطت به المخيلات الخرافية والأسطورية بضلال متفاوت تلك الكتب والنبوات، فطهرها من التزييف واسترجعها لحقائقها التوحيدية نافيا تأثير العقليات الإحيائية الوثنية، والتجسيدية والحلولية، لإىدم في القرآن غير آدم في الموروث التوراتي، وكذلك موسى نفسه، ثم كذلك عيسى في الروايات الإنجيلية المتأخرة"،([8]) ولم يقف عند حدود الكتب السابقة فلخصها في بنيتها القيمية العميقة، واستعادها، وصدقها، وهيمن عليها، بل أعاد تسديد الإطار البشري ككل وفق المعنى الإلهي المتعالي والحاضر في الوقت عينه، فنقل الفهم، من تشتيت، إلى ثنائية، فوحدة، تصويرا لتدرج الفكر البشري وتقلباته، فمل الله حركا على شعب مختار، ولم يتجسد ليخضع لناموس القهر، بل تعالى بذاته، وتواصل بخطابه، ووضع ضمانات البقاء الذي لا يمحق البشر، وزودهم بالوحي؛ سبل الوعي. وأجمل في محتوياته ما اندرس من غايات النبوات السابقة، وما انحرف من تجارب الفلسفات الوثنية التي فاضلت بين البشر، فجعلت هذا مواطنا، وذاك عبدا إلى الأبد، وأدخلت المدينة من تشاء وأخرجت من رغبت، في حين أعاد القرآن بتنزله سكة الوعي المندثر، إلى الاتقاد المتوازن والانبعاث المكين.
أما عن الضمانة الثالثة؛ فكونه خطابا للعالمين، وليس موجها لفئة على حساب أخرى، وفي دلالاته المتنزلة بمستويات معنى متفاوت، ما يدل على كونه تجاوز المحدود، وهنا نذكر بعلة نزوله في الأرض المحرمة، وليس بالأرض المقدسة، فتلك ارتباطات نسبية، بأوضاع كذلك. أما هذه، فمفتوحة باعتبار التوجه العالمي للرسالة، زيادة إلى إيكال الحفظ إلى من تولاها فلم يولها حقها. أما القرآن لمقام المكان الذي نزل فيه، تولاه الله سبحانه، فرعاه وحفظه، حتى ولو كان حفظا بطرائق تبدو مألوفة، إلا أنها ليست مألوفة، فلم تحفظ السابقة، وقد استعانت بالأدوات عينها. أما هذا، فقد حفظ وبقي، بمتضمناته إلى الآن.
الوجه الأخير للإشكال: عروبة الكتاب، لا عروبية الكتاب؛ فهو قد جعل عربيا، وليس العرب جعلته كذلك، وهنا مبلغ التباعد في النتيجة، فلو صاغته العرب بكلامها وأخضعته لمنطق لسانها ودارج خطابها، لكان أفقه ما تعارف عليه القوم، ولنسج على منوال المعنى وشرائط الدلالة عندهم، أما وقد تنزل مطلقات تراصفت معطيات اللغة العربية لتضمنها، فذا يجعلها عربية غير العربية، وينتقل بها إلى الاستخدام الإلهي، ويحررها من الدلالة المألوفة المعبرة عن تصور البيئة ومكوناتها، ولكي يضبط تأسيسه هذا يخرجه من حد قواعد اللغة المستمدة منها، ويضعه تحت رؤية جديدة للغة ووظيفتها، تحررها من قيود المحدود، كالاشتراك والترادف...ويجعل منها لغة مثالية محكومة في معانيها بما حكمت به البنائية الكونية الكلية، فكل حرف له وظيفته، ولو اختل وبدل وغير لانهار البناء كله، لذا نجده يرفض كثيرا مما درج عليه المفسرون.
إن الحقل المكاني؛ مكة، والحقل الاجتماعي؛ الأميون العرب، والحقل الثقافي؛ اللسان العربي، نقاط بدأ عندها القرآن، وليست سقفا استظلت دلالته تحتها؛ فهي مؤشرات دلت على/ في بنائيته الكلية، وليست نطاقا أحاط بالمعنى وأسره، لذا نلقفه مستعيدا باستماتة للتجارب الدينية التي أحاطت بالنبي آن نزول الوحي، لأن ذلك بمثابة علامات قادت إلى تشكيل الموقف والحكم، بما يحملانه من قيم معرفية ومنهجية هادية؛ فالسبب لم يدع إلى النزول، وإنما عبر عنه بكيفية ما، فهو قد يكون مناسبة، لكن أبدا ليس سببا، وقد يؤخذ من وجهة تحليلية نقدية عامة وجذرية، بعيدا عن التلبسات المباشرة التي ذهبت وولت، وهنا نجد وضعا مفارقاتيا مركبا: أول وجوهه من يستعين بأسباب النزول ليحين الحكم، وتاليا يدعو إلى تخطيه، وبين من يموضع الحكم في زمان ما ليؤبد الفهم من خلاله، وكلا الاختيارين صادر بجزئية مبعضة، بعيدا عن حكمة القرآن التي لن يفضى إليها إلا بالفهم الجمعي التركيبي، المموضع في تجاوز، والمتجاوز في موضعة.
ثالثا- دلالة الزمن وسيرورة التاريخ، من المنشأ إلى الظهور:
يعتبر الفصل الثاني من الدراسة التي خصصها فيلسوفنا لمعنى الزمن، حيث رغب في تحرير مفهومه من الاستخدام الفلسفي الجزئي، ومن الخلفية المعرفية اللاهوتية، ذلك أنه "من صيرورة الزمان والمكان تستنبط قواعد التحول والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، وبموجب هذه القواعد تتحدد الأهداف والوسائل، ومهمتنا أن نكتشف –من داخل القرآن-قواعد هذه الصيرورة لنضع أيدينا بعد ذلك، على طبيعة التحولات التي يتم في نطاقها التطور من مرحلة التنزيل قبل أربعة عشر قرنا ضمن الانتشار العربي- الأمي ووصولا إلى ظهور الهدى ودين الحق عالميا"([9]) هي المتلازمة النظرية التي أسس عليها رؤيته لتكامل التاريخ وانتقاله من مرحلة التشكل الأول، إلى اندفاعاته المتشعبة، بلوغا حد التمثل التام التوافقي والمتوازن لموازين القسط والعدل، ممثلة في دين الحق، خلاصة الخلاصات، خاصة إذا اعتمدنا المفهوم الوراثي في بناء الثقافة العالمية، وقدرت أن يكون مسمى الصيرورة مصادرا إلى خلفيات فلسفية جدلية مادية وحتى مثالية، مرتهنة إلى لاهوت أرضي تغيب عنها المعنى الإلهي الكوني، لذا فضلت استبدالها بالسيرورة، كحركة جدلية تتدافع فيها القوى المتعددة، بغية بلوغ التمكين النهائي لأمثل نموذج يمارسه البشر تحت مظلة الهداية الإلهية، كتكامل ينعكس على كل مظاهر الوجود ومكوناته، بعيدا عن السكونية المكررة للحياة في أشكالها ومضامينها، ورهاناتها، عجزا عن خلق التكامل، أو ذهولا عن مسايرته.
إن القرآن كوحدة منهجية ومعرفية عضوية، يعج بالحركة الدائبة، المماثلة لحركة الأفلاك، في فلك تسبح، أو في انفجارات وعنفوان تتخلق من ورائه الحياة الجديدة، انتظامات تعقبها فوضى، وتناثر تليه لملمة... لذا يورد القصص بأشكال عرض متعددة، ومن زوايا مختلفة، وبتقييمات كثيرة، يمكن اعتماد مداخل نظرية وفلسفية كثيرة لتفسيرها؛ فالقصة الواحدة يمكن مقاربتها اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا، أو معرفيا، نفسيا، سلوكيا...من آدم عليه السلام؛ تخليقا، وتجربة وجودية عامة في الملأ الأعلى، وخاصة في عائلته وأبنائه، وعلاقته مع الله سبحانه، فالشيطان، فزوجته، فمعصيته، إلى توبته، الخروج، فالدخول...رغد العيش وضيقه، وفرة الحياة ثم شحها...وما إلى ذلك، كذا لنوح عليه السلام، فإبراهيم عليه السلام، إلى موسى وقومه من بني إسرائيل، القارونية الكانزة، والفرعونية الطاغية...عيسى عليه السلام وتجربة المولد الحي من كبد اللاشيء...محمد والأميون العرب، محمد عليه السلام والشرك، فالتثليث، فالتوحيد الانكفائي...تلك كلها تجارب تقص على الناس أجمعين أشكال معاناتهم للحياة، وأنماط التعاطي الغيبي معها، تدرجا وصعودا، ثم نزولا وهبوطا، بكيفيات توسط جدلي تصور التدخل المطلق في التجارب المباشرة، بطرق متساوقة مع العمر التاريخي لكل مجموعة إنسانية، اعتمادا على النسخ المقولة الجوهرية في مقاربة التجارب التاريخية وأساليبها، لا كما يؤخذ على أنه نقض لبينة النص ووحدته، ظنا أن النسخ إبطال حكم بآخر أكمل وأمثل، بل يتجه حاج حمد إلى حسبانه طريقة في الصلة بين الأمم ماضيها وحاضرها، ومستقبلها. فالنسج معناه تجاوز إلى تجربة تاريخية جديدة بالقطع مع أخرى سابقة بكل لوازمها ومعانيها وقيمها، مرة بشكل حاد وجذري، وأخرى بطريقة جزئية تصويبية تصحيحية، وتمثيلا يقارن بين مراحل السيرورة الأربع: العائلية- فالقومية- فالعالمية الأولى/العالمية الثانية، ولكل خصائصها وشروطها، ومؤسساتها، وأحكامها تغليظا وتخفيفا، "... بنظرة عامة نكتشف أربع مراحل للخطاب الإلهي الموجه للبشرية، بما يعني أن الله سبحانه وتعالى يتعامل مع صيرورة الزمان والمكان، ويلف بغيبه جدل الإنسان والطبيعة؛ فمفهوم التعامل مع التغيرات هو مفهوم وارد في القرآن"([10]) وانعكس على أحكامه وشرعته، بمراعاة الواقع وتأطيره بما يتوافق والأرضية العامة المتحكمة في كل تفاصيل حياة الناس. لكن ألا يقود ذلك إلى مصادرة المقدرة على التجديد في مسالك التدبير وطرائقه؟
إن التوجه القرآني منضبط بتقرير جذري مهم، هو لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، منكم/عليكم/فيكم، هي درجات تدفع أشكال الأنظمة التدبيرية إلى الاختلاف والتنوع، فلو كانت عليكم، لنشأ التسلط وتأبد بحسبان الوضع الإلهي، ولو كان فيكم، لكانت فئوية دائمة تتوارث الحكم وتنقله عبر أجيالها. أما وهو منكم، فإشارة قوية إلى استمداد خصائص الحكم، وأنماط المعرفة التي يتعلق بها، من ممارسات الناس وتصرفاتهم، مراعاة لمعطيات الظروف التي نشأ فيها هؤلاء الناس وينشأون، لذلك يستحيل أن يكرر القرآن ملامح التجارب النبوية والرسولية السابقة في تفاصيلها، وتفريعات التدبير. أما الموازين المحددة لموارد القوانين والتشريعات، فطبعا هي واحدة. وحالما نقارن بين تجربتين، مدار الوحي الإلهي عليهما، نرى الفرق الجوهري بين التجارب والمراحل التاريخية، فالخطاب لبني إسرائيل قبلي قومي إثني. أما للمسلمين، فهو خطاب أمي/أمة، يبدأ من النبي ويمتد إلى كل العالم، ويرجع صداه إلى مضامين التشريعات وتفاصيلها. وهنا نجد كاتبنا يشدد على ضرورة التفريق بين أمي/غير كتابي، وأمي دارجا بالخطأ غير كاتب، ومنعكسات التفريق على الدلالة العامة المهيمنة على العائد المفهومي لكل الخطاب القرآني.
ويمتد التمايز إلى الحركة التاريخية ومسار التوجهات في الاختيارات والمواقف، والعلاقات والأحكام؛ فهناك في التجربة الموسوية أمر بدخول الأرض المقدسة؛ أي انكفاء من الأطراف إلى المركز، بغية تشييده والمحافظة عليه في وجه الأغيار/الآخر، بمنطق الغيتو والانغلاق، وكما قيل لا يسكن اليهودي في الغيتو، ولكن الغيتو يسكن في اليهودي. أما الأميون المسلمون، فحركتهم من المركز إلى الأطراف، والانبعاث نحو الوجود الفسيح، بدعوى اخرجوا/ ادعوا...وانقلوا خيرية الخاتمية إلى العالم كله. ولكي تتأكد المعاجز في التجربتين، ظهرت أمة قبال قوم، وضمرت أمم لكي يظهر القوم، وتساوقت التجربة ككل مع خوارق حسبة في العمل الموسوي، لكي تتأكد صدقيته أمام قومه، والسحرة وفرعون، وأمام العماليق...أما العمل المحمدي، فكان تدخلا خفيا بتوسطات جدلية لا تلغي الحضور الإلهي، ولا تمحوا الفاعلية البشرية، ولا تصادر السنن الكونية الطبيعية، بل تعتمدها، ويكون منهاج الولوج إلى فهمها مركوزا في ثنايا المعجزة السائرة؛ أي القرآن.
فارتبطت الشريعة الموسوية بغلظة الأحكام وقسوة التشريعات، لانبثاقها عن العطاء الحسي المعجز الدائم المتوالي، طعاما وشرابا، وفلقا للبحر، وعصا تستحيل ثعبانا، ويد بيضاء؛ فكان جزاء المخالفة حسيا من سنخية العطاء، لذا نجد رجما، وقتلا، ومسخا، وتهجيرا، وعقابا جماعيا....أما الشريعة المحمدية قلب الإسلام ومسالكه، فانبنت على أحكام التخفيف، وشرعة الرحمة، والتسالم الكلي، مع الله سبحانه، ومع الكون، ومع الناس، ومع المستقبل...فليس هناك رجم، ولا قطع، ولا نفي، ولا حرق...
إذن؛ خطاب عالمي نسخ خطابا حصريا، والخروج رفع الدخول، وتنزل بالأرض المحرمة، زحزحت مكانة الأرض المقدسة وحافظت عليها، العلاقة مع الله سبحانه غيبية، تعتمد المدركات التي تتيحها قوى الوعي الثلاث، من سمع وبصر وفؤاد..أما في النموذج الآخر، فهي صلة برانية حسية مادية، عطاء وطاعة، فكانت الأحكام أساسها التخفيف، والإصر والأغلال في الأخرى، وبذلك نسخ منطق التكفير والعفو والصدقة، منهاج التكفير والقرابين المادية الحسية، فتكون نتيجة النتائج أن القرآن بمنهجيته نسخ التوراة بمنهجيتها، ومنح للعالم طريقة جديدة في التعاطي مع مشكلاته وأزماته، ونسخت أمة محمد الأمية، أمة بني إسرائيل الكتابية، فكانت العالمية في وجه القومية.
رابعا- القرآن بين حقانية المصدر وضمانات الاستمرار:
يقصد الكاتب بهذا الفصل، أن يبرز استمرارية العطاء القرآني، وأهلته في تحقيق الهيمنة المنهجية، وإشراف حكمته على انزلاقات الأخطاء التفسيرية والتأويلية، التي تنتهي إما إلى تكلس المعنى، وإما إلى إهدار إمكانيات المعنى فيه، وفي الوضعين يفقد قدرته على تخليق المعنى وإنتاجه، ولتفادي هذا المآل، موضع القرآن في سياق حفظ الذكر، وتوريث علمه للربانيين، الذين يسلكون دروب الفهم فيه، ويستنبطون الحقائق من تلافيفه، وأحيط بجملة تدابير ربانية/ إنسانية، لتخليصه من كل فخاخ النسبوية والتزمين الحاد، فتعالى في حضور، وتزامن في تعال، من تلك التدابير إعادة ترتيبه وقفيا، مشددا على تفهم التفاصيل في إطار الوحدة البنيوية، ورفض منهج دعاة التفسير بما نزل عليه الآيات والسور تساوقا مع السنين والأعوام، فكما أعاد جبريل ترتيبه مع النبي، يفيد ذلك ضرورة الوعي المرتب المركب بكل جزئياته ومعطيات المعنى المتشكل في ثناياه، فيكون واحدا عضويا، ومتماسكا منهجيا، معطاء مجيدا لا يبلى مع متغيرات الزمان والمكان، كريما، لا تقضي فتوح المعنى منه، مكنون لما يتضمنه من دلالات ثرة غنية. وبذلك يحفظ ديمومته وغناه، كتابا/ كونا، لا يمسه إلا المطهرون، تمييزا بين استعمالات المفردات فيه في دقة غير عادية، تماما كمواقع النجوم في أفلاك الفضاء.
وضمانته الأخرى، أن الأمة الأمية حملته إلى العالم، مع جدوى استعانتها بما انتهت إليه البشرية من مكتشفات ومستحدثات في مناهج التحليل والنقد، فيحدث الاستيلاد الممنهج، بالحفاظ على ثبات قيمه، وتبدل توصيفاته للأشياء وتراكيبها، في عمومية التواجد العامة، أو في خصوصية التفاعل المباشر، وبذلك يستمر ويبقى ولا يخلق على كثرة الرد؛ "فالمطلوب هو التعاطي مع القرآن كمنهاج للهدى ودين الحق، بعد إعادة ترتيبه ضمن وحدته العضوية، وتبعا لمناهج المعرفة البشرية المختلفة... فليس ثمة تناقض بين (التقييد الأمي) في سورة الجمعة و(الإطلاق العالمي) في سور التوبة والفتح...وإنما هو تواصل جدلي تاريخي متوافق مع ضرورات الصيرورة؛ أي ليس ثمة تناقض –كما قلنا- ما بين المعرفة، ما دامت خصائص القرآن البنائية قابلة للاستمداد المتجدد".([11])
ما سبق يحول دون إهدار القرآن من طرف المتمسلفة الذين يؤبدون المعنى فيما مضى وكان، بدعوات متعددة، أغلبها يتهافت أمام مشرط النقد التركيبي، فيظهر ما يمكن تسميته بالوضعية الدينية، حيث نجدها لا تختلف تماما مع الوضعية العلمية في تعاملها مع المعلومة العلمية، فكما انعكست نظريات معينة على مفهوم العالم وفلسفة التاريخ، كذلك انقلبت معطيات التاريخ على محتويات القرآن، فجعلته وكأنه نزل لأناس في زمان مضى، ولا يمكنه مسايرة التاريخ في تطوراته، ولكي يتم تخليصه من إسار الزمكانية، لجأ إلى تحرير المعنى من الأفق السابق، على أهميته لأهله، وذلك بالسبر عن التركيبة الكلية وموضعة معطيات الفهم ضمن إطار الحكمة الشاملة، كما يتعاطى مع المعلومة العلمية في فلسفة معينة؛ أي تحويل الجزئي إلى تفسير كلي، في حين ان القرآن يحكم على المعطى الجزئي ضمن هيمنة معنى كلي عام وشامل. فتركيبة الوعي المتدامجة تنشأ من تركيبة القرآن ذاته، وكأن في المسألة دور، لكن المتمعن يلحظ أن نمط الوعي التجميعي ينبثق من البنائية العامة للكتاب، المماثل لبنائية الكون، فمطلق الكون، يقابله مطلق الكتاب، ويتناسل عنهما مطلق الوعي/ الإنسان، وبذلك يندفع التجاوب المثمر تلقاء تنوعات متجددة من النظريات والمخترعات والمبتكرات. القرآن "... يتحول في عصرنا إلى كتاب جديد يحمل كل أبعاد الفكر الكوني، الذي يهيمن على تجربة الإنسان ضمن حياة كونية متسعة".([12])
إن خصائص الوعي التاريخي ينعكس على طرقة القوم في مقاربة أي نص، فكما تعاطى الأوائل مع القرآن بوصفه مدونة لغوية لفظية، وأخرجوا من ثناياه أعاجيب اللغة ونوادرها، فطوروا ما كان متوقفا منحبسا، وحالما تطورت اكتشفوا بها مستويات أخرى لم تكن ظاهرة لهم، كذا يجب التعامل معه باستمرار، بوصفه جملة وعي ملخصة للوجود، تدفع إلى الانفلاق الكلي للرجوع إلى البيت الكوني، ومنه إليه، كما فعل النبي مع الكتاب كمدونة مرشدة دفعت به إلى أن يكون قدوة ووسيطا تستحيل من خلال أداءاته المعاني القيمية الكلية إلى تفاصيل الحياة، وللأسف توقف القوم عند التفاصيل وخالوها هي الكليات، لذا ينبغي أن تقارب حياة النبي بوصفها نموذجا دالا على خلفيات تتعدى التاريخ الملازم للتجربة آن صدورها، فتضحى مؤطرا عاما للحياة في لوازمها تبعا لما ينبثق من مشكلات تتحدى النبوة في مصادرها الإلهية.
وفي الأخير، يشير محمد أبو القاسم حاج حمد إلى الأهمية المكينة للتحليل كبديل للتفسير، يعطي المقدرة على الولود إلى عالم القرآني الفسيح، ضمن منهجيته ووحدته، وصولا إلى المعنى العام، والحكمة الكلية التي تنظم كل تفاصيل دلالته في صلتها مع جزئياتها، وفي علاقتها مع الوعي في تطوراته، والمناهج ومكتشفاتها، فينتقل بذلك من مصادرات الوعي العربي البدوي الأول، إلى الوعي العالمي الإنساني القادر على التجاوب مع كل الأمم، متخطيا الإحيائية القديمة المذررة لكل شيء، بلوغا إلى المنهجية الجدلية العضوية الكلية التي تصل فعاليات الغيب في تنزلات التشيؤ ومنهجيتها، في شكل المكتشفات الحديثة ومستخدماتها، فتظهر العبقرية البشرية، التوليفة الأنطولوجية التي أنتجت الإنسان، وقبله بيته الكوني، ومقدرات الوعي لديه، وبذا ينبثق الوعي التركيبي المركب، الذي لا يخطئ داروين بأن الطائر الذي شرحه وعرفه تطوره لآلاف السنين، هو عينه طائر عيسى عليه السلام الذي كان طينا، فنفخ فيه من روحه فكان، فذاك اختصر التطور في تفسير، وذا لخص التخليق وتطوره، في نفخة، عن نفخة...
خاتمة:
إن القرآن يتعامل مع المتغيرات، من غير أن يهدرها ويصادرها لأحكامه، كما أنه لا يخضع لها، حالما يتعداها بمنطق حكمته التي لا تقف عند التفاصيل، بل تندفع تلقاء القيم التي تؤطر كل الحياة، باستجلاب الوعي المركب في تكونه الثلاثي، مماثلة للمطلقات الثلاث: القرآن/الكون/الإنسان، مصورا لجدلية الفاعلية والتطور، وراسما لمآل التجارب التاريخية بتجاوز آنيتها. فحق له أن يكون متعاليا بلوازمه، معطاء بشرطيات التاريخ.
[1]- محمد أبو القاسم حاج حمد: القرآن والمتغيرات التاريخية والاجتماعية، تقديم محمد العاني، بيروت، 01، 2012 ، ص 12
[2]- المرجع نفسه، ص 19
[3]- المرجع نفسه، ص 25
[4]- المرجع نفسه، ص 26
[5]- المرجع نفسه، ص 42
[6]- المرجع نفسه، ص 43
[7]- المرجع نفسه، ص 52
[8]- المرجع نفسه، ص 68-69
[9]- المرجع نفسه، ص 95
[10]- المرجع نفسه، ص 100
[11]- المرجع نفسه، ص 129
[12]- المرجع نفسه، ص 132