القرآن فوق كل شيء
فئة : مقالات
القرآن فوق كل شيء
"من لم يحيِه القرآن، فهو إلى الأبد ميت"
عبد الله العروي[1]
تعود عبارة "القرآن فوق كل شيء" للعالم المغربي محمد بن الحسن الحجوي (-1956م)، وهي عبارة ذات وضوح منهجي ومعرفي في طبيعة ما ينبغي أن يكون عليه النظر إلى القرآن الكريم، والشيء هنا بمعنى مختلف التصورات والآراء والعقائد والفلسفات والنظريات...إذ علينا ألا نغفل استحضار الرؤية المعرفية للقرآن الكريم، في مختلف القضايا والإشكالات التي نتعاطى معها في الوجود والحياة والمجتمع. هذا الاستحضار لا ينبغي له أن يختزل في دائرة التصورات الفقهية والاعتقادية والمذهبية والمدرسية؛ ومختلف الفلسفات القديمة والمعاصرة...لأن كل ذلك في مجمله تحت القرآن ولا شيء فوقه. ونحن هنا أمام مشكلة منهجية كيف لنا أن نتخلى عن مختلف تصوراتها وأفكارنا التي تشكل جزءا من وجودنا العيني والعقلي؟ المسألة هنا لا تعني القطيعة الكلية مع مختلف تصوراتنا وأفكارنا الملتحمة بالطبائع وما هو معتاد وكل ما له علاقة بالثقافة، بقدر ما هي إعادة الاعتبار لذلك البعد الذي وهبه الله للإنسان دون غيره من الخلق، وهو ملكة النظر والتفكير والتفكر والتذكير والتذكر والعقل... وهي ملكات في مجملها تحت القرآن وليس فوقه، تحته بما تستمده منه من القيم الأخلاقية، تذكر الإنسان بأن يجعل من نفسه كيانا محمولا بالروح، بدل أن يكون محمولا ومنصاعا لنداء الغريزة التي لا تحسب للأخلاق أي حساب.
القرآن إذن فوق التراث بمختلف مشاربه، وهو يحيي فينا ملكة العقل والنظر والعلم... وهو فوق العقل والنظر والعلم من باب ما يبسط أمامنا من منظومات قيمية وأخلاقية في نظرتنا لذواتنا نحن بني آدم، وفي نظرتنا إلى الكون/ الطبيعة المؤتمنين عليه، بدل أن نرى أنسفنا في صراع معه؛ فإما أن نسيطر على الطبيعة أو تسيطر علينا بما تخفيه عنا من أسرارها؛ وسنكون في مقام السيطرة كلما كشفنا أسرارها وكل ما هو متخفي فيها ومن داخلها عن أعيننا، بينما الصواب هو تسخير ملكة المعرفة وكشف أسرار الطبيعة لإعمارها بدل استغلالها المفرط.
مشكلة الحضارة الحديثة اليوم، تكمن في النظر إلى العقل كشيء كامل ومكتمل ومكتف بذاته، وليس في حاجة لما هو خارجي. مع العلم أن هذا الأخير ملكة بدرجة أولى من كونه جوها، فهو متعدد ومتنوع من جهة الاستعمال والزمن وارتباطه بالثقافة. وقد تتعدد العقول بتعدد الثقافات ومشاربها ومرجعياتها. وقد هيمن العقل الغربي بشكل عام على العالم منذ القرن التاسع عشر، نتيجة اتساع منظومة الحداثة وتبعاتها، وهو عقل ملتصق بالطبيعة والمادة والحس والتجربة، ولا يولي اهتماما كبيرا لما وراء الطبيعة، نتيجة تجربته التاريخية الأوروبية التي جعلت منه خصما وفي صراع مع الغيب. وقد ارتأى هذا العقل في نفسه بأنه هو عقل العقول، إلى درجة سارت الحملات الاستعمارية الأوروبية تسوق بأن الرجل الأبيض، إنسان من الدرجة الأولى دون غيره، وتبعا لهذا المبدأ لا يهم عدد القتلى والمشردين والمنكوبين مادام الأمر يرتبط بمصلحة العليا للرجل الأبيض. وحتى الآن القرن 21م لازال الغرب لم يتحرر بشكل كامل من عجرفته.
وبإمكاننا اليوم أن نتحدث عن العقل التقني بفعل تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، وهو عقل لا يول اهتماما للثقافة ومختلف الفنون التي تغدي الروح؛ إذ يتم اختزال أي فعل يقوم به الإنسان في دائرة الربح وجلب المنفعة المادية بمعزل عن تغدية الروح. فحضور العقل التقني بمعزل عن الثقافة، تجعل الإنسان ذا التقنية العالية فاقد القدرة على التمييز بين الإنسان ومختلف الأشياء بجانبه، فهو سهل المنال ليستجيب بوعي أو دون وعي لمتطلبات نظام السوق في كل ما يجلب الربح السريع. وتبعا لهذا السياق يصبح التفكير "تافها حين لا يهتم الباحثون بالملاءمة الروحية لمقترحاتهم البحثية"[2] فلا يبدو أن "هناك طائلا وراء التأمل فيما فعله القدماء من قبلنا من أجل إضافة قطعة عمل جديدة إلى ثقافة قائمة سلفا".[3]
نعود إلى عبارة "القرآن فوق كل شيء" هذه العبارة من منظور العقل الغربي والدراسات الاستشرافية، ومن منظور الكثير من الناس المعجبين بتعامل الغرب مع المعطى الديني، سينظرون إليها بأنها دعوة رجعية تسعى لتثبيت سلطة الدين على العلم والمجتمع، وسينظر إليها البعض من الأصوليين بكونها مقولة تصادر العلوم الشرعية وجل ما قال به الفقهاء في الثقافة الإسلامية...فكثافة المعنى من داخل هذه العبارة يجعلها أمام تأويلات متعددة، وبما أن القرآن من عند الله وهو فوق عباده، فهذا يعني أن كتابه وكلامه فوقهم، قال تعالى: "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)" (الأنعام) قال تعالى: "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)" (الرعد) وقد ورد في الإنجيل «في البدء كان الكلمة» (يوحنا ١:١)، والكلمة هنا لا يعني أنها منحصرة في الأحرف والكلمات؛ لأن الأحرف حاملة للمعاني والدلالات؛ فهناك الحامل، وهو الآيات أحرفا، وهناك المحمول وهو منظومة القيم والأخلاق والدعوة إلى الهدى والرشاد والبر، فآيات الله في الكتاب المسطور نقد عندها بالبصر والبصيرة في الأنفس الوجود. قال تعالى: "سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)" (فصلت) فالمسألة هنا مسألة مركبة بين عالم اللغة وعالم الوجود، بين ملكة العقل والنظر وملكة القلب والوجدان. وقد نبه القرآن بأن لا نبقى حبيسي أسوار كلمات وأحرفه قال تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)" (العنكبوت) بمعنى أن آيات الله ندركها في الأنفس وفي الوجود.
يعود تاريخ مقولة "القرآن فوق كل شيء" إلى أربعينيات القرن الماضي، القرن العشرين، بكونها عنوان لأهم كتب محمد بن الحسن الحجوي، وهو أحد أهم أعلام الفكر المغربي المشبع بسؤال النهضة والإصلاح (1874م/1956م)، لا يهمنا هنا بدرجة أولى مضمون الكتاب، فهو يعكس وجها من وجوه التدين والفهم لمقتضيات الدين، عند فئة كبيرة من أتباع ومريدي الزاوية التيجانية في النصف الأول من القرن العشرين، الذين بالغوا كثيرا في فهم تراث أحمد التيجاني مؤسس الزاوية (-1815م) وأحد أعلام التصوف في إفريقيا والغرب الإسلامي، إلى درجة أنهم جعلوا ذلك التراث فوق التاريخ وفوق القرآن، مما كان سببا في انسداد أفق الفهم لديهم، نتيجة تقديمهم ما هو نسبي ومحلي وعارض ومتحول، على ما هو مطلق ومتعال ولا محدود. فالمواضيع التي توقف عندها المؤلف بالعرض والتحليل والنقد، من زاوية الفقه بالواقع وهو العالم بمقتضيات الدين وبمتطلبات عصره وزمانه، الذي تميز بالاتصال المباشر مع الثقافة الأربية في وجه المستعمر الفرنسي، والرجل قام برحلة إلى الديار الأربية سنة 1919م وله كتاب بهذا الشأن (الرحلة الأوروبية) دوّن فيه مختلف انطباعاته عن حالة أوروبا حينها بالمقارنة مع حالة المغرب، ومن المعروف أن الرجل انخرط في الإصلاح من زاوية العمل على إصلاح منظومة التعليم بجامعة القرويين.
أهمية كتاب محمد بن الحسن الحجوي "القرآن فوق كل شيء" يضعنا أمام نموذج تجربة إصلاحية تهدف إلى تحرير نموذج من التدين الذي يتجلى في أتباع ومريدي الزاوية التيجانية في أربعينيات القرن الماضي؛ تحريره من الانسداد في فهم مغلق باسم وهم التميز والأفضلية عن غيره من نماذج تدين أخرى. والأكثر من ذلك، فالكاتب دعوة إلى نموذج آخر من التدين يحضر فيه الوعي بالحاضر وبطبيعة ما ينبغي أن يكون عليه ويفهم به دين الإسلام، وهو يدعو إلى الاجتهاد بقوله: "ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها، وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر حياتها التي أجلَها العلُوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدين مع علماء الدنيا، فيظهر المجتهدون".[4]
محمد بن الحسن الحجوي ليس لديه أي مشكلة تذكر مع المعرفة الصوفية، كما أنه ليس لديه مشكلة مع أحمد التيجاني وتراثه؛ فمشكلته تدور في سياق إعادة الاعتبار للترتيب المنهجي وللناظم المعرفي للمرجعية الدينية الإسلامية، التي ابتدأت وتشكلت بالقرآن ومن خلال القرآن، فهو يعمل بسط أفكار إصلاحية من خلال مناقشته لما كان عليه جمهور من أتاع الطريقة التيجانية، والسؤال هنا ما هي الفائدة التي سنجنيها من كتابه "القرآن فوق كل شيء"؟ وأهم ما يدعونا إليه هو قراءة القرآن بنفس تجديدي يحضر معه الإفادة من علوم الماضي وعلوم الحاضر.
"القرآن فوق كل شيء" يعد من أنفس كتب المصلح محمد بن الحسن الحجوي، فهو ينصح حينها القراء بقوله: "إخواني العين التي بها يبصر الاسلام، والمأثرة الخالدة، والمعجزة الدائمة، هي: القرآن، فمن مسه بتنقيص فنحن منه براء".[5]
[1] العروي، عبد الله، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط I، 2008م، ص 115
[2] آلان دونو، نظام التفاهة، دار سؤال، بيروت، ترجمة، مشاعل عبد العزيز الهاجري الطبعة الأولى سنة 2020م، ص.69
[2] نفسه، ص.94
[3] نفسه، ص.96
[4] نقلا عن، عبد الحميد عشاق، منهج الاجتهاد مقاربة في منهجية الاجتهاد، مركز الموطأ للدراسات والتعليم، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى 2018م، ص.45
[5] محمد بن الحسن الحجوي، القرآن فوق كل شيء، تحقيق محمد بن عزوز، دار ابن حزم، لبنان، مركز التراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء، ط.2005م، ص.7