القراءة بين التثمين والوصاية
فئة : مقالات
إنّ القراءة من أكثر الطُّرق المتأتيّة لتقنين جنيالوجيا المعرفة، وتحقيق النّمط التقنيّ لها، ويُعدّ هذا الفعل الأكثر تمحوّراً حول هاجس الحقيقة، الذي عُرض بفلسفات مختلفة، مُتَأَرْجِحاً بين أنْسَنَةِ الخِطابِ وتأليهه، فكانت الكِتابَة أزليّةً بما ترتئيه بنفسها وسيلةً كبرى ومُنْتَخَبَة، فما زالت متعرّضة لأشكال رِئويّة تتنفّس بهوائها؛ أيّ بالهويّة التّجنيسيّة والمعرفيّة المطواعة والمتمرّدة لكلّ أشكال التّأويل البشريّة؛ التّأويل المستمدّ من الوجود العينيّ المنساق، خلال جماعات تمتلك الخصائص عينها، من الذّات نحو الغير، دون أيّ غيرانيّة مبتذلة، ودون الامتزاج بالمفاهيم المثلى؛ بالاقتصار على النّشوة، الّتي يحقّقها الخطاب العالي.
لمْ يتَجَرّد مُثَقّفُ العصرِ الجديد من هذا الانفعال، وأبقى على شرفته العاليّة، وعلى لغته الخاصّة، وعلى جمهوره الكبير. ولم تكن غاية الكتابة الطّرح الفكري التّحليلي لمعطياتٍ متّفق عليها؛ بل تتعدّى ذلك لإيصال نتائج معيّنة تُعدّ جزءاً من السّياق الفكريّ الإنسانيّ، ويُعدّ تناولها محفوفاً بأسئلة كثيرة يفترضها ذهن القارئ، منها: هل من المفترض أن أتناول هذه الطّريقة في التّفكير كنظريّة تعطي نفعاً لحلّ إشكاليّات أُعاني منها؟ وهل هذا الطرح، أصلاً، أخذ هذه الإشكاليات بعين الاعتبار؟ ربّما قد تُرضي هذه الأسئلة الفلسفات التي تسعى للتحزّب في ذاتها، ولكن قد تهملها الطّروحات الحالمة والذاتيّة غير المتّصلة بالواقع الفكريّ والسلطويّ.
فمن الصّعب نقاش أيّ كتاب، دون التماس الحسّ العالي بالاصطفاء الذّاتي في أبعاده، وأبعاد مؤلّفه؛ فالفَهْمُ المرادُ من تأمُّلات الكاتب سبيلٌ من سبل اقتلاع سلطة التّقويض، وليس مجرّد إضافة إلى سياق عامّ كلّيّ قد طرح فَهْماً بدرجات معيّنة، وقد لا يوجد ذلك إلا في أنساق مذهبيّة جمعيّة، على نطاق زمنيّ ضيّق؛ أيْ أنّها تبحثُ عن النّفع الواقعيّ، ودمجه بالطّرح، ليتأتّى قوّة تصل إلى أزمان طويلة، وتحديداً أكثر، قوّة الانتشار والتّخليد بالفعل، وقد يتوارد على الذّهن سؤال: لماذا لا ينفصل الفَهْمُ عن ارتقائيّته الخطابيّة، ويسعى لتكوينٍ حزبيّ لا يتجرّد من النّفع والانتشار؟ الكثير من الأطروحات والكتب قد لا تعي كونها تهمل الأفْق النفعيّ الزمنيّ الخاصّ بخصوصيّتها الزّمنيّة؛ بل تجد ذلك عيباً، وقد يتّصل ردّ الفعل لدى المثقّف، أيّاً كانت ارتقائيّته، بمتلازمة الاغتراب لديه، فيتشكّل لديه رفضٌ ضروريّ لقيمة الزَّمن الحاضر، ويتّجه نحو الخطاب الشامل بعيد الأفق، كما ارتضى نيتشه عدم الفهم والتناول الصحيح لمؤلّفاته، ليقينه أنّها تجاوزت زمنه من ناحية ارتقائها، فتحقّقت لديه الغبطة، والكونيّة المدهشة. وتعدّدت الحقيقة السيكولجية لهذا النوع من الخطاب في الطّرح الأوروبيّ (الألمانيّ والفرنسيّ خاصّة)، ولم يقتصر على الفلسفة؛ بل على الأشكال الأدبيّة التجريبيّة ما بعد الحداثيّة، في الرواية والتجريديّة الحالمة في الشّعر، واختصّت الفلسفات النفعيّة، أو، يصحّ القول، الأفكار النّفعيّة، كالماركسيّة، والرأسماليّة، بالاندفاع التطبيقيّ نحو آمالها، في حين لم يعرف ذلك عن الفلسفات بعيدة الأفق، وصاحبة الذاتية الفجّة والشرسة، كالنيتشاوية، والسارترية، والقصيمية، (نسبةً إلى عبد الله القصيمي).
وبما أنّ الكتابة ما زالت السّبيل الأوّل لاجتذاب التّلقي، تكون القراءة، بالضّرورة، تحكيميّة، أو امتصاصيّة تكوينية، حَسْبَ درجة تماسك ذهن القارئ، ويعرض الفَهْم، تِبْعاً لذلك، لفَهْم آخر، أكثر اختصاصيّة وغربة عن المفهوم الأوّل؛ إذ لا تتعدّى سلطة الكتاب سلطة ذات القارئ المقوّضة للمطروح، فحيناً تتصارعان، وحيناً تُسيطر الأُولى على الثّانية، وإِنْ تلاقى الفَهْمان يتشكّل تيارٌ من خطاب زمنيّ سابق لالتقائه بِفَهْمٍ واعٍ لاحق، ضمن نسبيّة غير محددة، فيخرج التّثمين عن كليّته القيميّة، المقتبسة من أنّ القراءة ضرورة لا بدّ منها لتحقيق تيار توعويّ جمعيّ؛ فالجدير بالملاحظة أنّ أيّ كتاب ينطلق من رؤية ذات غريبة إلى ذوات غير متّسقة، من ناحية الزمان والمكان، إلّا أنّ النسبية، في كونها دافعيّة نحو الوعي، تجعل من التّنظيم المعرفيّ، وتكوين/ تعقيل الذّهن، الذي لا بدّ منه، طريقةً من طرائق فرض السّلطة، سلطة ذاتٍ نحو ذواتٍ عديدة، دون أدنى تكشّف عفوي من القارئ؛ تكشّف ينبغي أن يكون لبنة معرفية أولى، من ناحية القيمة والذهنيّة الأوسع، وهنا، تحديداً، يكمن خطر القراءة وأهميتها، فهي لا تنقل كمّاً معلوماتياً هائلاً ومُدْهِشاً فحسب؛ بل تنقل تفكيراً، بمعنى أن يخطر في بال القارئ، في لحظةٍ، أنّ "ثمّة مَن كان يفكّر في هذه الطريقة المدهشة!". عند هذه اللّحظة، تماماً، يحدث التوسع، وتدخل الفكرة الخالدة المُجهّزة منذ زمن بعيد، لتخترق الرأس، وتترسّب فيه ككلس لا يذوب إلا بمادة أخرى أكثر فاعليّة، ويتحقّق، في هذه اللحظة، وهم الأصالة.
منذ البَدْء، كانت كلّ الأفكار محفّزة من أفكار أخرى، تجسّدت بأشكال إبداعيّة مختلفة، فإن لم تكن الكتابة ردَّ فعل، والقراءة امتصاصاً له، وإعادة تشكيل لردّ فعل آخر، لتحقيق دورة تكافليّة من السّير نَحْو فَهْم أعمق، فمن ذا الذي يجزّئ حواسه ورأسه ليخرج بفكرة أصيلة من ناحية التأثير والتأثُّر؟ فعدم القراءة خبث لن يستطيعه أحد. لكنّ غرور الكاتب هو الذي يجعله يغترب، ويجعله يسعى لأن يكون لبنة أولى لعقول في زمن آخر، فهو الآخر زمانه.
ما زالت القراءة شكلاً من أشكال الانتشار الخطير، ونوعاً من أنواع الوصاية البريئة، وتستلزم القارئ الصّلب أميالاً من الحذق، والتّفكر، والتّمكّن من ذاته، لكنّها شكلٌ من أشكال تخليد عظمة الإنسان، شاكلة الله الصغرى، وشكل معرفيّ دائريّ ما زال غيابه يوسّع دائرة الجهل، وحضوره باللاانتظام في عقل المُثقّف العربي، والصّحوة المفاجئة بين تحقيق رفضٍ لما تمّ تشرّبه، وإيجاد بديلٍ واعٍ، ضِمْنَ مساحة زمنيَة ضيّقة، يدعم إشكالاً حولَ النَّفع والإثمار، وفي كون المعرفة دائريّة يصعب الارتكاز على زاوية تحقّق نجاعة ضمن نسق خاصّ إقليمي مرضٍ، على الرغم من النّفع الكبير، في طرائق التّفكير والتّناول. وربّما على القارئ، ولاسيّما العربي - إن شاء الاطلاع على نتاجات الثّقافة العولميّة - أن يحدّد مواقفه من موروثه بشكل علميّ واضح، يتّسم بالمعرفة، وحسن التّعامل مع اللّغة، من ثمّ يبني لذهنه خصوصيّة مكانيّة، وزمانيّة، وفلسفيّة، تتجرد من الجمود الفكريّ، والانفتاح غير العقلانيّ للمفاهيم، في عصر النّهضة، بحسن التّعامل مع خطر التّشوّه، ليدرأ أيّ وصاية لا أخلاقية، لأيّ معرفة غريبة، بالتّرسبات الخاصّة بها. وحين يتمّ تدارك هذه الإشكالات يصير تمييز القارئ لزوايا هذه الدائرة سهلاً ويسيراً، ويصير يعرف من أين تُؤكل الكتف، ويستطيع تثمين المعرفة والتّفكير الإنسانيّ، بعموميّته، المنتقل، عبر الكتب، متجرّداً من أيّ وصاية مقصودة، أو غير مقصودة؛ أيّ حسن تعامل مع المقروء تِبْعاً لأبعاد متخصّصة بذهن القارئ.
وقدرة تحكّم القارئ في ما يقرأ، وفي الّذي يتأثّر به، لا تنفي عدم التّأثير المطلق لأي معرفة، إذا تواءمت مع الطّريقة الصّحيحة للتفكير والتناول، فهي توسّع مدارك هذا التّفكير، إن لم ترسّب نتائجها فيه، ومن هذا، تنبع ضرورة القراءة، كضرورة الاطّلاع على الفَهْمِ الإنسانيّ العام، وتطوّره ضمن سياقات خاصّة، من ناحية الزّمان والمكان.