الكائن المغربي
فئة : مقالات
الكائن المغربي
عثمان لكعشمي
«كثيراً ما تنفلت قضية المغرب من هؤلاء الذين يسكنون فيه. فجذور الإنسان الطوبوغرافية لا تعطى كهبة بالولادة للذين يقيمون على الأرض التي ولدوا فيها. أمشي على هذه الأرض، وتنير بصري شمس هذه البلاد، وأحيي وأنا ماش وجوه البشر».
«لكل تيار مغربي مغربه، كتقليد وكمشروع تاريخي، أما الباحث فهو يحاول الانتقال من هذا الميدان الضيق إلى مغرب جذري ومطلق، مغرب جميع المغاربة، أمواتاً وأحياءاً، مغرب كمسألة ضمن رباعية الوجود».
ع. الخطيبي
ما هو هذا الكيان المغربي الذي نمشي على أرضه، ونستنير بشمسه، ونستظل بظلال شجره ونتنفس من هوائه ونشرب من مائه..؟ بل ما هو هذا الكيان ككائن، أو هذا الوجود كموجود، ككائن اجتماعي وثقافي أو غيره، بما فيه هذا المغربي ذاته الذي يتساءل والحالة هذه عن مغربيته؟
نادراً جدّاً ما يتساءل المغربي عن ماهيته كذات مغربية، فهو لا يتساءل عن ذاته ككائن إلا على شكل "سخرية". ليس بالمعنى الدقيق للعبارة؛ شأنه في ذلك شأن كل "إنسان". مع تسجيل نوعاً من الخصوصية والحالة هذه، عندما يتعلق الأمر بالإنسان المغربي. وهذا أمر مهم جدّاً، وهي خاصية المغربي بلا هوادة: السخرية مِن ال "نحن" المغربية.
1
ما هي هذه ال "نحن"؟ وكيف يُمكن تحديدها؟ إنها ذلك الحاضر الغائب، تلك اللمسة السحرية التي تُذيب الأنا في الجماعة، ومن ثم التنصل من المسؤولية، مسؤولية الغلط، بما هو غلط جماعي بالضرورة. أما هو- المغربي- كفرد، فليس له أية مسؤولية في ذلك؛ فالمسؤولية كل المسؤولية تقع على الآخر أو الجماعة والحالة هذه؛ ذلك أن السخرية عنده كشفاً للعيب، لعيب المغربي الآخر، أو لذلك الجزء الذي يستعير منه.
فما الذي يملك هذا العبد الضعيف أمام جبروت الجماعة وسلطانها، أكثر من السخرية من هذا الجبروت المستبد الذي يسكنه من حيث لا يحتسب.. كي يخفف من عبء الحياة الاجتماعية وثقل الوجود الاجتماعي، خاصة وأن السخرية هنا تأخذ طابعاً سلبياً في الغالب؛ أي إنها تكون استنكارية؛ أي ضرباً من ضروب الرفض، رفض شيء ما، قضم قطعة ما من لحم هذا الجسم الممزق.
لنقل إنه نوعاً من "النقد الذاتي" بمعنى ما، إنْ لم تكن "نميمة" جماعية مشروعة، أكانت بوعي أو بلاوعي. لهذا، لا أحد يُريد أنْ يكون ضحية مسخرة أو أضحوكة.
قد يعود ذلك إلى هشاشة الصورة التي يرسمها المغربي عن نفسه كمغربي، أم الباطولوجيات الاجتماعية التي يُعاني منها المغربي اليَوم. إنها ليست شراً بالضرورة، فهي قد تعود عليه بالنفع كحركة بلورية تساهم في التنفيس على الكائن، لكنها قد تؤدي في الوقت نفسه إلى العجز: عدم القدرة على الخلق والإبداع.
2
لا أتحدث هنا عن المثقف وحده، أو عن الكوميدي المُحترف فحسب، بل عن الإنسان المغربي "العادي" في الحياة اليومية، بما في ذلك المثقف عندما يتحرر من جلبابه الأكاديمي الوظيفي كرجل للحكمة و"الفضيلة"، إنْ لم يكن رجل سلطة، مثله في ذلك مثل أي مغربي آخر، مهما كان سنه أو جنسه أو وظيفته أو عمله أو لا عمله (أو عطالته)..، إلخ.
لكن المغربي لا يسخر من ذاته مباشرة؛ لأنه سيتناقض مع ذاته وفي ذلك إحراج لنفسه وجرح لإنيته، خاصة أمام الآخر؛ لأن إنيته لا تحتمل أي تغليط أو عيب. فالمغربي كإنية دائماً على صواب. على عكس الآخر، أو الجماعة، أو المجتمع، أو الدولة، مصدر كل الشرور. أما هو، فمنزه عن أي خطأ ك "عبد" لا حول له ولا قوة.
لذلك، فهو لا يسخر من ذاته وهو في وضعيات يومية معينة، في مساره اليومي، أفي البيت أو في الشارع، أو في الدرب، أفي السيارة أو في الحافلة أو في الطاكسي، أفي العمل أو في المقهى أو في النادي، أفي المسجد أو في الحانة...، قلنا لا يميل المغربي عادة إلى السخرية من ذاته بشكل مباشر على الأقل. لذا فهو دائماً ما يسخر من نفسه كآخر، كضمير غائب: "هو" أو "هي" بالمفرد أو، "هم" بالجمع.
3
إنه لا يسخر من نفسه مباشرة إلا بوساطة ال "نحن": نحن المغاربة وأي مغاربة! تلك ال"نحن" التي تخفف من ثقل المسؤولية أمام الآخر، تلك هي وسيلته ليفلت بجلدته من كونه موضوعاً للسخرية، ومن ثم الحفاظ على ماء الوجه. أما هو كضمير مخاطب مفرد: "أنا"، ليس أكثر من متكلم ساخر ينفلت من كونه موضوعاً مباشراً للسخرية والضحك. هل يتعلق الأمر بمفارقة؟
هذه ظاهرة لم تُرَ بعد، على الرغم من أنها تقفز إلى العين مباشرة: نعيشها كل يوم في حياتنا اليومية، من عتبة البيت، أو من داخل البيت رفقة العائة، مروراً بوسائل النقل إلى أماكن العمل في مختلف المجالات اليومية التي نتنفسها. إنه عماء الحياة اليومية. إن غير المرئي لا يكمن في الخفي، وإنما يكمن في الظاهر الذي طبعت معه حواسنا بحكم الأُلفة واليومية.
فلماذا يحلو للمغربي السخرية من الآخر، أو من ذاته عبر الآخر، بدل أنْ يسخر من ذاته مباشرة؟ قبل ذلك: هل يتعلق الأمر بسخرية أم بتهكم أم بشيء آخر؟ كالاستهزاء مثلاً. خاصة وأنها تُعْنى بالآخر دائماً أو بال "نحن" أكثر من "الأنا" الشخصية.
لنقل إن الأمر يتعلق بسخرية سلبية، دون أن يُفهم من كلمة سلبية هنا أي حكم معياري أو أخلاقي بالضرورة. إنها ليست سلبية إلا لأنها استهزائية. لنعتبرها "سخرية استهزائية". الاستهزاء بماذا؟ بال "نحن" المغربية. إننا أمام مفارقة من الدرجة الثانية.
ألا يُعطينا ذلك فكرة واضحة عن الكيفية التي يُعرف بها المغربي ذاته كمغربي؟ إن الطابع المغربي أو ما يجعل المغربي مغربياً- طبعاً لا أتكلم هنا عن الجنسية القانونية- أيْ مغربيته، تكمن دائماً، خاصة في وجهها السلبي في: ال "نحن".
تلك ال "نحن" التي تتجاوز الفرد كشخص أو كذات متفردة. هل يعني ذلك، أن المغربي لا يُعرف نفسه كمغربي إلا من خلال المجتمع الذي ينتمي إليه أو يسكنه؟ لنترك هذا السؤال مفتوحاً للتفكر؛ لأن الأمر يحتاج إلى تشخيص سوسيولوجي مُعمق.
4
ما الذي يوحي به ذلك؟ قد يوحي إلى أشياء كثيرة، لكن الخطير هو أنْ يحيل إلى هشاشة الصورة لدى المغاربة عن أنفسهم.
سيلاحظ القارئ أنني ألح كثيراً على الصورة التي ينحتها المغربي عن نفسه وأصفها بالهشة.
لماذا أهتم بهذه الصورة، أو لماذا ينبغي علينا أنْ نهتم بها؟ لأنها مرآة المغربي وظله، إنْ لم تكن تمثل لا شعوره الذي يعكس لنا خاصيته كمغربي. وهي ليست مجرد مرآة صافية أو صورة انعكاسية جامدة لا حياة فيها ولا روح، وإنما هي مرآة منكسرة ودائمة الحركة.. وفقاً لحركة المغربي وسيرورته في المجال والزمان المغربييْن.
ولماذا أعتبرها صورة هشة؟ طبعاً قد تجد السبب في التاريخ والاقتصاد والسياسة، لكنها تعد بمثابة انعكاس للوضع الاجتماعي وغيره الذي يعيشه المغربي: باعتباره وضعاً متأزماً.
إنها صورة مشروخة ومجروحة.. إلى درجة قد يتنكر فيها المرء لمغربيته، وإنْ كان ذلك في بعض الأحيان يقدم كاحتجاج. احتجاج على ماذا؟ احتجاجاً على التهميش أو الشعور بالتهميش: "الحُكْرَهْ".
5
وهل هناك ما هو أخطر من حرق فتيان مغاربة لِعَلَمِهِم المغربي ورفع علم إسبانيا، العدو التاريخي للمغرب، الممثل للضفة الأوروبية؟ كما حدث سابقاً في "الفنيدف". هذا مثال واحد فقط، وهناك أمثلة كثيرة يشهد عليها الإنسان المغربي يومياً، أكانت فعلية أو لفظية، لكن المجال هنا لا يسح لذكرها جميعها.
"الحُكْرَهْ": هذه العبارة السحرية التي تختصر كل شيء عن معاناة مغاربة الهامش. "الحْرِيكْ".. إنه الوجه الآخر لل "حكره"، وهي كلمة سحرية أخرى تعبر عن الهجرة المسماة غير شرعية إلى الضفة الأخرى، إنْ لم تكن تعبيراً عنها.
سؤال لا بد منه: ما الذي يجعل الشبان المغاربة يرمون أنفسهم في البحر من أجل الهجرة إلى الضفة الأخرى؟ فما الذي يجعل المرء يُقْدم على هذا الفعل "الانتحاري"، أنْ يضحي بحياته بهذه الطريقة وبهذا الشكل، إلا إذا لم تكن حياته جديرة بالعيش في الأصل؟ كيف يمكن للمرء أنْ يُقامر بحياته من أجل حياة أخرى، لم يعشها بعد، يعتبرها جديرة بالعيش، أكثر من حياته المعيشة في المغرب؟ مع التأكيد على الأهمية القصوى للسؤال الأخير.
ينبغي علينا التفكير جدياً في هذه المسألة. إن الأمر لا يرتبط بحادث عرضي، فتصاعد حركة "الحْرِيكْ" مؤخراً، وبهذا الشكل، ليس مسألة عرضية أو معزولة، وإنما هي مسألة المسائل.
وهل هناك مسألة مغربية أكثر أهمية من حياة القلب النابض للمجتمع المغربي وحيويته: حياة الشبان المغاربة؟
لذا، ينبغي علينا التعامل معها بالجدية اللازمة، فبموجبها يمكننا التفكير في الوضع المغربي برمته، في الكيان المغربي الحالي وفي الكائن المغربي الحاضر اليَوم.
أولا يتعلق الأمر إذاً بهشاشة الصورة؟ صورة المغربي عن نفسه.
6
إننا لسنا أمام مصطلح، بل أمام عبارة يراد لها هنا والآن أنْ تتطور إلى مفهوم، مفهوم تحليلي ومحلل. قد يمكننا من فهم الوضع الأنطولوجي الحالي للكائن المغربي، أو على الأقل يفتح لنا إمكانية لفهمه ضمن مسألة بعينها، هي مسألة الوجود المغربي كموجود.
هذا مشروع لوحده، قد يتطلب الكثير من التحليل الدقيق الذي يتطلب نفساً طويلاً، والذي يتجاوز إمكانية هذا النص الذي لا يسعى إلى أكثر من فتح الأفق أمام هذا النوع من المشاريع للاختمار والتخصيب.
هذه الهشاشة تتصاعد أكثر فأكثر لدى الشبان، خاصة لدى شبان الهامش.
مَن يتجرأ اليَوم على قول: أنا مغربي؟ حتى إذا تجرأ على قولها، سيكون عليه تحديد معناها على الأقل، كي يستحق هذه الصفة أو هذه التسمية: المغربي، نسبة إلى المغرب.
ما معنى أنْ يكون المرء مغربياً اليَوم؟ في هذه اللحظة التي يقول فيها أنا مغربي، هل يعني ذلك فعلاً؟ متى سيتمكن المغربي من التخلص من هشاشة الصورة التي يعاني منها؟ ربما عندما يتمكن من تسميته لنفسه ويقول: هأنذا، هذا أنا، أنا مغربي. فكيف السبيل إلى ذلك؟
طبعاً، هذه الأسئلة لا تعني المغربي العادي مباشرة.. فهو بالكاد يعيش مغربيته على نحو طبيعي وتاريخي في الحياة اليومية المعيشة، لكن ذلك لا يمنعه من التعبير عن شعلة حياته بطريقته الخاصة جداً، وفي طريقة التعبير أو العيش تلك تكمن مغربيته الفعلية المستمدة من جذوره التاريخية التي ترمي بظلالها على حاضره وتشق طريقها إلى المستقبل.
ليس علينا إلا أنْ نتفكر كمغاربة في هذه المسألة، تفكراً من شأنه أنْ يسعفنا على الوعي بذاتنا، بهويتنا وغيريتنا.
لكن وبعد هذا التحليل، نتساءل من جديد مَن هو هذا الكائن المغربي كمغربي؟
7
لا أتحدث هنا عما سمي أو أعيد تسميته مؤخراً ب "التمغربيت" التي تلوكها الألسن هنا أو هناك، من طرف هذا المثقف أو ذاك؛ ذلك أن هذه الدعوة مهزوزة في أساسها، هذا إذا كان لها أساس متين تقوم عليه، لأنها دعوة انفعالية أكثر منا دعوة فعالة.
لماذا هذه الدعوة الآن، في هذا الوضع الذي يعيش المغرب اليَوم؟ لماذا كل هذه الرجة في الحديث عن "التمغربيت"، في هذا التوقيت بالضبط؟ فجأة صار هذا المغربي يهتم بمغربيته المفقودة التي يختزنها في عبارة "تمغربيت".
طبعاً ثمة تضخم خطابي، وإعلامي تحديداً، وسرعان ما ستنطفئ شرارته لمجرد أنْ يهدأ الوضع؛ ذلك هو حال كل انفعال، إنه ليس أكثر من رعشة جنسية، أو هزة جماع.
لنضع هذا الأمر جانباً ونطرح على هؤلاء، دعاة ال "تمغربيت" الجدد السؤال الآتي: ما هي هذه "التمغربيت" التي تتغنون بها وتتشدقون؟ هذا السؤال كفيل بوضعهم موْضع أزمة، أليس كذلك؟ إنها التراث لما غدا تقليداً، أو لنقل الثقافة الشعبية عندما تحولت إلى فولكلور.
هذه هي الصورة التي يختزل فيها أولئك المغرب والمغربي. إنها لا تختفي كثيراً عن نظرة الآخر الغربي، التي لا تريد أنْ يُرى في المغرب إلا ما هو تقليدي كبلد للعجائب والمتاهات، وهي لا تختلف أيضاً عن نظرة السائح الأجنبي الذي ينظر إلى المغرب كبطاقة بريدية لهذا الرمز التقليدي أو ذاك.. متلذذاً بالعتاقة التي يفتقدها، ناهيكم عن ما تثيره تلك الصورة العجائبية من شعور لدى الأجنبي الغربي بالتفوق.. وما تحمله من نظرة تحقيرية لهذا البلد ورجالاته ونسائه.
تلك الصورة التي اعتقدنا لمدة طويلة جدّاً أنها تمزقت بفعل الاستقلال السياسي والنقد ما بعد الكولونيالي.. وكذا التحولات التي عرفتها المجتمعات الغربية بعامة ومست المجتمع المغربي لاحقاً بخاصة... والتي نشهد على كثير منها اليوم.
8
لعل الكيان المغربي كياناً متعدداً على جميع الأصعدة والمستويات: ربما ليس هناك كياناً أو كائناً في العالم العربي يضاهي التعددية التي تطال المغرب والمغربي على السواء. يعود ذلك إلى جملة من الشروط يتداخل فيها التاريخي بالجغرافي، والثقافي بالاجتماعي، والاقتصادي بالسياسي.
لذا، فإن ما أسميه هنا ب "الشيء المغربي"؛ أي ما يجعل المرء مغربياً، الشرط المغربي، أعمق بكثير من التراث التقليدي المتمثل في الثقافة الشعبية، التي يراد تحويلها إلى تقليد أو فولكلور (منتوج سياحي)، بمختلف أشكالها وألوانها: الموسيقى، الرقص، الحكاية، الوشم، الزربية، الزليج.. إلخ، أكانت آثاراً أو أفعالاً حية؛ أيْ علاقات اجتماعية.
هل يعني ذلك أننا ضد الثقافة الشعبية؟ طبعاً لا؛ وهل يُمكن للمرء أنْ يكون ضد ثقافة شعب ما، ضد ثقافة الشعب الذي ينتمي إليه ويعتبر نفسه جزءا لا يتجزأ منه؟ هكذا أُعرفها: الثقافة الشعبية هي ثقافة الشعب: الشعب المغربي في هذا المقام.
هذا التعريف يمنحنا إمكانية التعامل مع الثقافة الشعبية كميراث مغربي متجدد، للمغاربة قاطبة، أكانوا أمواتاً أو أحياء، والابتعاد عن المفهوم التقليدي للثقافة الشعبية الذي يختزلها، إما في رائحة الموتى أو في الطبقة الشعبية.
إن الثقافة الشعبية عندنا تطال كل مفعول مغربي قديماً كان أو حديثاً، مادامت ملتصقة بمفهوم الشعب. الشعب بوصفه شُعُباً وتشعباً: أي باعتباره اختلافاً، كما هو شأن الشعب المغربي. هذا هو الهامش الذي نتحدث عنه؛ هامش فعال. بهذا التعريف، فإننا نخلخل الموقف الفلسفي المتعالي، من الثقافة الشعبية، الذي يدعو إلى الإعراض الكلي عنها، أو القطع المطلق معها. وكذا العمل في اللحظة نفسها على زعزعة المفهوم التقليدي للثقافة الشعبية ومجاوزته.
9
ويظل الكاتب يتساءل مع القارئ بعد هذه الرحلة الاستكشافية الخاطفة، والتي لم تكن أكثر من تساؤل مفتوح عن الكائن المغربي في إشكالية بعينها هي هشاشة الصورة التي يرسمها المغربي عن نفسه: ما هو هذا الكيان بما هو كائن، والذي نطلق عليه اسم المغرب ككيان أو المغربي ككائن؟
لنتساءل انطلاقاً من خاتمة هذا النص، خارج النص، أو على هامشه، ونُسائل في اللحظة نفسها أهم النماذج الشائعة، التي حاولت أنْ تؤطر هذا "الكائن الزئبقي" حتى لا أقول "حربائي"، في إطار معين: هل هو كائن لاهوتي أم سياسي أم تقتني؟ وهل هو كائن سلفي أم تراثي أم عقلاني؟ وهل هو كائن أبوي أم قبلي أم قائدي أم صناعي..؟ باختصار شديد وبناء على ثنائية سائدة وعزيزة على مثقفينا المغاربة والعَرب: هل هو كائن تقليدي أم حداثي؟ أم إنه كائن بيني: ما بين الحداثة وما بعدها؟ وإنْ كان الواقع الحاضر للمغاربة يتجاوز هذه الثنائيات في العمق، الذين يتعايشون معها ويدبرونها بشكل تفاوضي أو استراتيجي.
السؤال هو: كيف يمكن تعريف المغربي كمغربي، وليس كتيار.. فكرياً كان أو اجتماعياً وسياسياً، وإلا سنكون أمام مغرب لكل مغربي، فكم سيلزمنا من نموذج كي نُعرف الشيء المغربي. وهل سنتمكن آنذاك من الحديث عن هذا الشيء؟ حينها لن يظل هناك أي معنى لسؤالنا هذا.
لا ريب في أن التصنيف المنهجي مسألة ضرورية لتحديد هذا الكائن، لكن ينبغي عليه أنْ يقودنا إلى الشيء الضروري الذي يجعل من المغربي مغربياً.
متى سنتعلم التعامل مع المغرب كمسألة جذرية تطال كل المغاربة، كيفما كانت انتماءاتهم وتوجهاتهم، ذلك المغرب الذي يسكن كل المغاربة؟ التفاصيل الدقيقة مهمة جداً، لكن الغوص في تلك التفاصيل من دون التمكن من تعميمات استقرائية مكثقة، سيؤدي بنا، وهو ما يقع بالفعل، إلى فقر نظري مدقع.
من هو المغربي ضمن كل تلك التيارات والنماذج؟ إنه يكون كل تلك النماذج، فهي تتساكن وتتعايش كلها في وجدان هذا الكائن وصيرورته التاريخية وتكوينه النفسي والاجتماعي والثقافي، ولا يمكن اختزاله في نموذج أو تيار بعينه، لتجعل منه كائناً مفارقاً. إنه كائن مُفارق، وينبغي التعامل معه على هذا الأساس.
****