الكاتب والباحث الأردني ياسر قطيشات لمجلة "ذوات"
فئة : حوارات
الكاتب والباحث الأردني ياسر قطيشات لمجلة "ذوات"[1]:
أول مخرج لأزمة المجتمعات العربية يبدأ بتحرير الإنسان
حاوره: سعيد بلمبخوت
يرى الكاتب والباحث والمحلل السياسي الأردني ياسر قطيشات، أن أول مخرج لأزمة المجتمعات والدول العربية اليوم، يبدأ بتحرير الإنسان ليتمكن من التفكير والإبداع ومحاولة التغيير للأفضل، مؤكدا أن تحرير الإنسان يحتاج إلى تحرير عقله من أغلال السلطات المتعددة المقيدة لتفكيره: سلطة الماضي، سلطة الحاكم بأمره، سلطة العادات والتقاليد البالية، سلطة المجتمع المحافظ، سلطة الموروث الديني.
ويضيف قطيشات أن التحرير الشامل لعقل المواطن العربي، سيمكّنه من امتلاك أدوات التغيير لتأسيس المدخل الجاد للدولة المدنية الديمقراطية، ودولة المواطنة التي تضمن قيم الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والتسامح، وأن الدولة المدنية هي الخيار الاستراتيجي الأول والبديل المطلوب عن مفهوم الدولة الوطنية التقليدية التي فشلت في الحفاظ على مكتسبات المواطن وحريته وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي المخرج من بوابة الانغلاق والعزلة على الذات لمواكبة الركب الحضاري ودخول دائرة الفعل والتأثير الإنساني.
ويشير الباحث الأردني إلى أن الاستبداد هو أصل كلّ الشرور، والحرية منبع التنمية والتحفيز الفردي والمجتمعي، وأيّ حديث عن تنمية إنسانية واقتصادية دون تنمية حقوقية وسياسية سيكون ضرباً من الخيال؛ فالحرية لا تتجزأ وحق الإنسان في العمل والتحرّك مرتبط بصورة أو بأخرى بحقه في التعبير والمشاركة في القرارات التي تؤثر على مستقبله ومستقبل أجياله القادمة، وإصلاح المجتمع جزء من إصلاح المنظومة السياسية الحاضنة للفرد والمؤثرة في حركته وفعله، والقيد السياسي هو العائق الأخطر لمشروع النهضة العربية الشاملة، بدءاً من تنمية الإنسان وحريته في الحياة والعمل بكرامة، مروراً بتنمية العقل العربي وتحفيزه في بيئة من الوعي والإدراك لذاته ودوره في الحضارة الإنسانية.
ويؤكد قطيشات أن الأمن الاجتماعي العربي يواجه أزمة عميقة منذ عقدين، وتختلف درجة تأثيره وانعكاسه على العنف من دولة عربية لأخرى تبعاً لدرجة الاستقرار السياسي والاجتماعي، معتبرا العنف سببا ونتيجة، محددا أسبابه في: الجهل والأميّة والفقر وتدهور ظروف الحياة في القرى والأرياف والمناطق النائية، وانتشار والفساد والبطالة والاستبداد والظلم وسوء توزيع الثروات الوطنية، وانعدام الأمل لدى الشباب، فأي مجتمع تنتشر فيه هذه المظاهر كفيل بأن تدمّر وحدته وكيانه، وأن تجعله عرضة للعنف والعنف المضاد الداخلي باستمرار. أما نتائجه برأيه، فهي: التطرف والعنف الاجتماعي المضاد وتفشي التمييز والعنصرية والفئوية وانقسام المجتمع إلى جزر منعزلة منغلقة عن بعضها نتيجة لتفسخ شروط الأمن المجتمعي، وتنظيم "داعش" الإرهابي وما سبقه من تنظيمات مسلحة عنيفة ضربت في عمق المجتمعات العربية هي نتيجة للأسباب آنفة الذكر.
وأوضح الباحث أن احتكار السلطة واستمرار كافة أشكال الظلم والاستبداد والفساد والادعاء بممارسة الوصاية على الشعوب العربية، بحجة حماية أمن الدولة، وخلق نماذج طبقية للتقسيم الطائفي والديني والفئوي والعشائري والعنصري تحت عناوين التعددية والمحاصصة الاجتماعية والسياسية، ومصادرة الحريات، وشيوع الفساد والدكتاتورية باسم قانون الطوارئ والأحكام العرفية...إلخ، كل هذا سيؤدي حتماً إلى إصابة المجتمعات العربية بالشلل والعجز والضمور، وفي المنظور القريب ستفقد تلك المجتمعات بالتدريج ميزة السيطرة على النسيج الاجتماعي الآمن، وشروط بقاء المجتمع واستمراره أو مدى قدرته على الحفاظ على مقومات بنيانه العضوي.
والأستاذ ياسر قطيشات باحث أردني متخصص في مجال السياسة والعلاقات الدولية والدراسات الإعلامية، حاصل على الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، مسجل لنيل الدكتورة في فلسفة العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية في بيروت. مؤسس وشريك ومدير عام مركز روى الدولي للتدريب والاستشارات (2014-2016). له عدة مؤلفات من بينها: "البعثات الدبلوماسية بين الضمانات ومقتضيات الأمن الوطني" 2012، و"العلاقات السياسية الأردنية العربية في ظل متغيرات -النظام الإقليمي من أيديولوجيا القومية إلى النزعة القُطرية" 2009، و"التجربة الديمقراطية في مملكة البحرين: الماضي والحاضر والمستقبل" 2004، و"السياسة الخارجية الأردنية والمصرية تجاه أزمة الخليج الثانية" 2002، وله عدة أبحاث في كتب مشتركة. حصل عام 2002 على جائزة أفضل مخطوطة في حقل العلوم السياسية خلال إعلان عمان عاصمة الثقافة العربية، وكانت بعنوان "السياسة الخارجية الأردنية والمصرية تجاه أزمة الخليج الثانية: دراسة مقارنة".
سعيد بلمبخوت: اقترن اسم ياسر قطيشات بالأبحاث المتخصصة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والإعلامية، فكيف تقرب إلى القارئ أهمية ودور البحث العلمي في هذه الحقول؟
ياسر قطيشات: لقد انصبّ اهتمامي على الدراسات والأبحاث في مجال السياسة والعلاقات الدولية، ولاحقاً في المجال الإعلامي والاقتصادي، بحكم تخصصي في هذا المجال، وقد تفتّح وعيي على الاهتمام في البحث العلمي، وأنا على مقاعد الدراسة وشجّعني أساتذة التخصص في قسم العلوم السياسية خلال مرحلة الباكالوريس على تنمية قدراتي البحثية عبر سلسلة من القواعد والمقومات التي أرشدوني إليها...
فقد وجدت أن الكثير من الأبواب البحثية موصدة أو غير مطروقة من ذي قبل بسبب ضعف الاهتمام بها من جانب طلاب البحث العلمي، فضلا عن قلة المراجع التي تتناول موضوعات تخص الأردن وقضايا التنمية وحقوق الإنسان والحرية والمواطنة ودولة المؤسسات...إلخ، الأمر الذي دفعني لمحاولة طرق باب الاهتمام بهذه القضايا منذ مطلع الألفية الجديدة.
كنت أقضي معظم وقتي خلال الدراسة في المكتبة الجامعية ولفت انتباهي وجود فراغ بحثي في قضايا الدولة المدنية ومسائل المواطنة والديمقراطية، ما حفزّني أكثر للتأمل والدراسة والتقصي والبحث طوال سنوات لتقديم تصورات بحثية علمية منهجية حول تلك القضايا، وما زال البحث جارياً حتى اليوم في مسألة أسس ومفاهيم الدولة المدنية في الوطن العربي والتاريخ الإسلامي.
سعيد بلمبخوت: كيف أثّر غياب الدراسات الميدانية في العالم العربي برأيكم في ضعف مواكبة ميادين التطور في مجالات التنمية القروية والحضرية؟ وما أوجه التقصير في ذلك على الصعيدين الديني والسياسي اليوم؟
ياسر قطيشات: لا شك أن غياب فكرة "القيمة" للبحث العلمي، ابتداءً، في العالم العربي سببٌ لكل أشكال التراجع والضعف البنيوي والهيكلي في الأقطار العربية؛ فالعلاقة بين التقدم وملاحقة الركب الحضاري وخدمة الإنسانية من جهة، والعلم والبحث العلمي من جهة أخرى علاقة طردية؛ فكلما ازداد اهتمام الأمم بالعلم والبحث كلما واجهت تحديات العصر المعرفية والتكنولوجية واستجابت لمتطلبات البقاء والتأثير.
وليس بخفيّ عنكم أن نسبة الإنفاق العربي على البحث العلمي نسبة ضئيلة لم تتجاوز منذ سنوات (0.2%) من إجمالي الدخل القومي، بينما متوسط الإنفاق العالمي (3.5%) وشتان بين الرقمين!! أما على صعيد الدراسات الميدانية التي تفتقر إليها مؤسسات الدولة العربية في العموم، فلا توجد أرقام تقريبية لحجم الإنفاق العربي على الدراسات الميدانية الجادة، وهذا دلالة على ضعف دعم وتمويل هذا النوع من الدراسات في مختلف مجالات الحياة؛ فالوطن العربي يعاني من نقص شديد في دراسات ميدانية حول واقع: التعليم، الطفولة، الصحة، التنمية، الزراعة، الفقر، التصحّر، البيئة...إلخ، ناهيك عن عدم الخوض في مجال الدراسات الأدبية المتعلقة بالحقوق الإنسانية: الحاكمية الرشيدة، الدستورية، المواطنة، حقوق الإنسان وحرية الرأي؛ فهذه المداخل لا تجد لها أصلاً في قاموس البحث العلمي أو الدراسات الميدانية، لأنها تقوم على افتراضات نظرية تستمد أصولها وحقائقها من المؤسسات الدولية المعنية بمتابعة ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي.
وردّاً على الشق المهم من السؤال حول أثر غياب الدراسات الميدانية للواقع القروي والحضري، وتباعاً للواقع الديني والسياسي، فإن النتيجة الطبيعية والمنطقية لذلك ظهرت للعيان خلال السنوات الماضية بعد اندلاع ما يسمى بـ "الربيع العربي" في بعض البلدان العربية، حيث تمظهرت المطالب الشعبية في الحدود الدنيا لحقوق الإنسان (الخبز، الحرية، العدالة الاجتماعية)؛ فقد عانى الوطن العربي، وبدرجات متفاوتة بين بلدانه، لعقود طويلة من حالات الفقر والتهميش وغياب العدالة الاجتماعية، وسوء توزيع وتمركز الثروات الوطنية والإقليمية بين الريف والقرى والحضر أو المدن، ولم تكن مؤسسات الدولة العربية تملك دراسات إحصائية ميدانية حقيقية حول الواقع القروي والحضري.
وكانت فئات ومناطق عريضة تعيش في ظل ظروف غير إنسانية، وتعاني من التهميش والفقر والبطالة بشكل يتناقض مع ما تدّعيه الدولة العربية من توفير سبل الحياة الكريمة وحفظ كرامة المواطن، ويؤكد ذلك تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2009 تحت عنوان "الأمن الإنساني"، حيث أشار إلى أن أمن الدولة لا يقتصر على أمن إقليمها وحدودها، بل يمتد ليشمل أمن مواطنيها وحريتهم وحقهم في الحياة والتنمية والحصول على فرص متساوية في العمل، فبناء الإنسان مقدم على بناء الجدران.
وللأسف، بدل أن يكون تقرير التنمية الإنسانية أعلاه رافداً لمؤسسات الدولة والباحثين لإجراء دراسات ميدانية حول واقع حال الإنسان والبيئة القروية والحضرية، والاستناد على ما ورد فيه من إحصائيات وتوصيات قيّمة، لم تتحرك أغلب الدول نحو تصويب أوضاعها الداخلية، في الحضر والريف والقرى، ولم ترصد وتراقب عبر الدراسة والتحليل والبحث العلمي التصاعد المستمر لتيارات اجتماعية ودينية وسياسية معارضة لاستبداد السلطة في مقاليد الحكم في ظل غياب الحرية ومؤسسات العمل الديمقراطية، ما شكل ما نسميه ظاهرة "الثقب الأسود" في الفضاء السياسي والاجتماعي العربي، قياساً على الظاهرة الفلكية المعروفة، حيث تمركزت السلطة في يد طبقة شديدة السيطرة ودار في فُلكها طبقة رجال الأعمال والدين، حتى باتت طبقات الحكم السياسية في أغلب الفضاء العربي طبقات "حكم أوليغارشي" تجمع بين السلطة والمال، فكانت النتيجة المباشرة...ثورات الشعوب العربية المطالبة بالتغيير والإصلاح والحرية، وهي المطالب التي تبنتها تقارير ودراسات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة منذ عام 2002 بعد سلسلة دراسات ميدانية أشرف عليها باحثون ومتخصصون من الدول العربية، والمحصلة أن ما يعيق حركة التنمية والتغيير والإصلاح هو عدم تجاوز العالم العربي لخمس نواقص: الوعي المعرفي، الحرية السياسية، الأمن الاقتصادي، التنمية الإنسانية، نهضة المرأة والمجتمع.
سعيد بلمبخوت: لو فرضنا أن أصحاب القرار استوعبوا طوعا أهمية إشراك "الرعايا" بعيدا عن خلفيات الاستبداد، ما القيمة المضافة التي كانت ستحقق للمجتمع؟
ياسر قطيشات: بداية اسمح لي أن أختلف معك في مصطلح "الرعايا"؛ فهذه المفردة استمدت أصولها من التصورات الدينية والموروث المنقول بشكل مغلوط. أما المصطلح الفلسفي والقانوني والدستوري للفرد في المجتمعات المعاصرة هو "المواطن"، والفرق بينهما شتّان في الحقوق والواجبات؛ فـ "الرعية" أو العامة دلالة على "الدونية" أو "الطوعية" في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وليس لهم وفق القوانين الدستورية الدولية حقوق سياسية. أما المواطنون، فهم الطبقة الاجتماعية التي تمتلك حرية الاختيار والانتخاب والتمثيل والمنافسة على السلطة، لأجل ذلك، من الضرورة بمكان أن تتنبه المنابر الإعلامية والثقافية لبعض المصطلحات التي تنتقص من قيمة العلاقة المستندة لـ "شرعية" العقد الاجتماعي بين الشعب والنظام، أو الحاكم والمحكوم، فكلاهما له حقوق وواجبات في دولة المؤسسات والقانون والمواطنة، ولا يتسع المقام هنا لشرح أبعاد منهجية المفاهيم السياسية في الدولة المدنية العربية المنشودة.
وعودة لسؤالكم الكريم، ما القيمة المضافة لإشراك المجتمع المدني والمواطنين في شؤون البلاد وإدارة الحكم؛ فالأصل أن الاستبداد أصل كل الشرور، والحرية منبع التنمية والتحفيز الفردي والمجتمعي، وأيّ حديث عن تنمية إنسانية واقتصادية دون تنمية حقوقية وسياسية سيكون ضرباً من الخيال؛ فالحرية لا تتجزأ وحق الإنسان في العمل والتحرّك مرتبط بصورة أو بأخرى بحقه في التعبير والمشاركة في القرارات التي تؤثر على مستقبله ومستقبل أجياله القادمة، وإصلاح المجتمع جزء من إصلاح المنظومة السياسية الحاضنة للفرد والمؤثرة في حركته وفعله، والقيد السياسي هو العائق الأخطر لمشروع النهضة العربية الشاملة، بدءاً من تنمية الإنسان وحريته في الحياة والعمل بكرامة، مروراً بتنمية العقل العربي وتحفيزه في بيئة من الوعي والإدراك لذاته ودوره في الحضارة الإنسانية.. وصولاً إلى تنمية المجتمع وبناء قواعده ومؤسسات العلم والثقافة والابتكار والإبداع والصناعة والتجارة...إلخ، لإحداث التأثير أو الفعل الحضاري المنشود.
وفي حال افترضنا أن المواطن أصبح شريكا في الحكم، وامتلك ناصية التعبير والتغيير والحرية والمشاركة السياسية، فنتوقع والحالة هذه:
- بناء قاعدة دستورية للحكم الرشيد والحاكمية.
- تنمية إنسانية وتنويع خيارات الأفراد.
- تعزيز قيم العدالة والتسامح الاجتماعي.
- تحفيز الإبداع والعمل بانتماء وولاء.
- تعزيز قيمة المواطنة الفعّالة لدى كل مواطن يعمل لأجل بلده ومجتمعه.
- خلق دولة قانون ومؤسسات أساسها مواطنين شركاء في نسيج اجتماعي واحد.
- تحقيق الكفاية الاقتصادية وزيادة الإنتاجية للمواطن.
- مواجهة كافة التيارات والأفكار المتطرفة والهدامة (السياسية والدينية) في ظل المشاركة الشعبية في صنع القرار والمنافسة الشريفة لخدمة البلاد والعباد.
- التصدّي لمحاولة العبث والتدخل في شؤون المجتمعات والدولة العربية في ضوء تحقيق التنمية الإنسانية والاقتصادية التي ستسد كافة منافذ القصور والضعف (الفقر والبطالة والظلم والفساد والاستبداد...إلخ).
سعيد بلمبخوت: لقد أصبحت ظاهرة العنف تهدد الأمن في المجتمع العربي، فكيف ترون علاقة ذلك بالأسباب التي أدت إلى ظهور تنظيمات متطرفة كـ "داعش"، وهل هناك حلول جذرية برأيكم؟
ياسر قطيشات: يرتبط هذا السؤال بصورة أو بأخرى بالسؤال الذي سبقه، حيث يواجه الأمن الاجتماعي العربي أزمة عميقة منذ عقدين في المجمل، وتختلف درجة تأثيره وانعكاسه على العنف من دولة عربية لأخرى تبعاً لدرجة الاستقرار السياسي والاجتماعي؛ فالدول العربية التي عدت شكلاً من أشكال الصراع أو العنف أو الحرب واجهت مظاهر نوعية ومركزة للعنف وانعدام الأمن الاجتماعي، مقارنة بغيرها من الدول التي واجهت مؤخراً درجات منخفضة من العنف المجتمعي الداخلي بسبب التطورات السريعة والتأثيرات البنيوية العميقة في نسيج المجتمع العربي عموماً.
والعنف هو سبب ونتيجة، فأسبابه: الجهل والأميّة والفقر وتدهور ظروف الحياة في القرى والأرياف والمناطق النائية، وانتشار والفساد والبطالة والاستبداد والظلم وسوء توزيع الثروات الوطنية، وانعدام الأمل لدى الشباب، فأي مجتمع تنتشر فيه هذه المظاهر كفيل بأن تدمّر وحدته وكيانه، وأن تجعله عرضة للعنف والعنف المضاد الداخلي باستمرار.
أما نتائجه، فهي التطرف والعنف الاجتماعي المضاد وتفشي التمييز والعنصرية والفئوية وانقسام المجتمع إلى جزر منعزلة منغلقة عن بعضها نتيجة لتفسخ شروط الأمن المجتمعي، وتنظيم "داعش" الإرهابي وما سبقه من تنظيمات مسلحة عنيفة ضربت في عمق المجتمعات العربية هي نتيجة للأسباب آنفة الذكر.
تتميز المجتمعات العربية بأنها مجتمعات شابة ومعدل فئة الشباب بها يشكل أكثر من 50% من التوزيع الديموغرافي، والفئة المثقفة والواعية والعاملة منها لا تتجاوز 40% حسب الدراسات الأخيرة، فيما النسبة الأكبر منها لم تجد المؤسسات التربوية والتعليمية الحاضنة لها، وهذا المخزون البشري الشاب وجد ضالته في الفكر المتطرف الذي استماله بشدة في ظل غياب مؤسسات الدولة والأسرة والمجتمع عن دورها في تحصين الشباب بالعلم والتوعية والفكر المعاصر.
ومن جهة أخرى، فإن شعور الغالبية العظمى من الشباب بالاستبعاد من المجتمع بشكل غير مباشر وانعدام الفرص أمامهم للتأثير والفعل، وضبابية تنمية شخصيتهم الاستقلالية...يدفع هذه الفئة إلى التهميش والإحباط وخلق عوالم خاصة بهم بعيداً عن واقع المجتمع، ما يساهم في تعبيرهم عن ذاتهم بأشكال مختلفة تصل حد العنف والتخريب والجريمة والانتحار... فكلما انخفض عجز التنمية في المجتمع كلما تفشت مظاهر العنف الداخلي.
وحول البحث عن حلول جذرية؛ فالحقيقة أن حجم الأزمة بحاجة إلى حلول منطقية عميقة، غير أننا لن نجترح حلولاً جديدة لمشكلة قديمة وتجلياتها واضحة للعيان؛ فالعنف المجتمعي وظاهر التطرف وميول الشباب إلى الأفكار الهدامة، بحاجة لإعادة النظر في مقومات الأمن الاجتماعي العربي برمتها، ومعالجة تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية: الفقر والبطالة والفساد وتحقيق درجات مقبولة من التنمية الإنسانية والاقتصادية التي تحقق طموح الشباب وتشكل شبكة أمان للأسر العربية متوسطة الدخل، والاهتمام بالبحث العلمي والدراسات الميدانية التي تقدم تصورات علمية دقيقة للتحديات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم.
أمام الدول العربية اليوم، فالفرص سانحة لتحويل طاقة الشباب والمجتمع إلى طاقة بناء وعمل بدل أن تبقى طاقة هدم وتطرف، وعلى مؤسسات الدولة والمجتمع أن تخلق لدى الشباب فرصاً أفضل للحياة وبناء المستقبل وصناعة الأمل وتشكيل بيئة حاضنة لهم بعيداً عن شبح العنف والاضطهاد والتطرف.
سعيد بلمبخوت: سبق لكم نيل جائزة منبر الحرية لعام 2009، والتي كانت تحت عنوان "الحرية الدينية وانعكاساتها على المجتمعات العربية المعاصرة"، نرجو مقاربة مدى تأثير الأيديولوجيات الدينية في تكوين الإنسان العربي؟
ياسر قطيشات: يلعب الدين الدور الرئيس في حياة المجتمعات العربية، حيث يشكل الهُويّة الثقافية للأفراد ويرسم توجهاتهم الأيديولوجية ويؤثر في قيمهم ومواقفهم تجاه الذات والأسرة والمجتمع والآخرين، فالدين هو العنصر المحوري في النسيج الثقافي والروحي للمجتمعات العربية، وله قيمة عميقة لا تعادلها أية قيمة أخرى!! فهو المنظار الذي من خلاله يقيّم الفرد المسلم أو المتديّن مشروعية أو عدم شرعية كل شيء، بدءاً من طريقة تفكيره وصولاً الى نهج حياته ومظاهر تدينه أو سلوكياته..
وتعتبر شعوب البلدان العربية الأكثر التزاما بالدين مقارنة بباقي شعوب العالم، وذلك من خلال مؤشرات سوسيولوجية تربط بين القيم الدينية ودرجة الالتزام بها أو المحافظة عليها، وتقاس بالدراسات عبر مؤشر مدى التردد على أماكن العبادة والتصور الذهني لدور العبادة والطقوس الدينية في حياة الفرد أو المؤمن أو المتدّين، ولأن العربي المسلم يتردد بالعادة يومياً ويمارس طقوس أسبوعية، مقارنة بأتباع باقي الديانات السماوية، فهو بذلك الأكثر التزاماً وفق هذا المنظور، لكن على صعيد الأخلاق والقيم وعلاقتها بالدين، فتبدو المسألة أكثر تعقيداً، حيث تشير دراسات علم الاجتماع في المنطقة العربية على تباين سلوك الفرد بصورة معيارية مقارنة بالقيم التي يؤمن بها دينياً، ما يعني أن درجة الالتزام بممارسة الطقوس الدينية لا تعكس - بالضرورة - درجة مماثلة من الممارسة الأخلاقية!
ولا تستطع أية قوة سياسية في المجتمعات العربية اليوم أن تؤثر في نظرة الفرد أو الشعوب للدين أو توجهاته، فمع استقلال الدولة الوطنية دخل الدين كعامل مؤثر في رسم مؤسسات الدولة الدينية والثقافية والدستورية والتجارية، حتى أقامت الدساتير العربية علاقة الحاكم بـ (الرعايا) وفق التصور الديني الموروث، وتحددت ملامح السلطة السياسية بمفهوم (الطاعة لولي الأمر) في بعض القوانين المحلية، لقد تم إدغام الكثير من الأطر العصرية (الاقتصادية والصناعية والثقافية والتكنولوجية) ضمن مفهوم الإطار الديني، وتصيغ من خلاله النخب السياسية نظرتها للحكم وشرعيتها للاستمرار.. وهو عباءة سياسية للقوى والتيارات السياسية والحزبية والمكونات الثقافية والمدنية داخل المجتمعات العربية.. وبالتدريج تشكل منه مفهوم الإسلام السياسي بعد فشل أنظمة الحكم التي اتخذت القومية شعاراً وشرعية لحكمها حتى سبعينيات القرن المنصرم، فصار الإسلام السياسي أكثر شعبية بعد القمع والاستبداد، وساهم في ذلك: الخطاب الأيديولوجي الديني المرغوب من قبل الشعوب، وسيطرة الكثير من القوى السياسية على المنابر الدينية، والشعارات الاجتماعية التي حركت الشارع إبان ثورات "الدم العربي" وما خلفته من سقوط بعض الأنظمة وحدوث فراغ سياسي بالسلطة، أفسح المجال أمام تيارات دينية لسد الفراغ بسرعة بعد أن توفرت لديها الشرعية الدينية والاجتماعية والدعم اللوجستي من قوى إقليمية ودولية.
وخلال عقد مضى بات الحديث عن العلاقة بين الدين والسياسة من أدبيات النقاش والبحث والدراسة، خاصة مع صعود حركات إسلامية للحكم، وفشل أخرى في تجيير قوتها التنظيمية من المعارضة إلى سدة الحكم، وكما أنتج الشارع خلال ثوراته حكومات إسلامية، فقد فتح المجال، في ظل الفوضى وغياب المدرسة التنويرية الفكرية، لظهور التيارات الدينية المتطرفة التي شوّهت سمعة الدين الإسلامي وهددت الهّوية الإسلامية للمجتمعات العربية، وأعادت كل الأفكار المتداولة للعلاقة المفترضة بين الدين والسياسية والسلطة، للمربع الأول، حيث الخوف من العنف والتطرف والاستبداد باسم الدّين!!
سعيد بلمبخوت: وماذا عن التفاوت الطبقي واستغلال الإنسان العربي بتكريس مظاهر الجهل وأشكال العبودية بين الأمس واليوم؟
ياسر قطيشات: ربما اختفت نسبياً فكرة العبودية التقليدية، شكلاً، من حياة البشرية اليوم، رغم أن تقرير إحصائي تابع للأمم المتحدة عام 2016 ذكر أن أكثر من (45) مليون شخص ضحايا العبودية في العالم، نصفهم في قارة آسيا، والباقي يتوزع بين قارتي إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهو واقع بشع ومؤلم يكشفه التقرير في عصر الحرية والديمقراطية والعولمة والتكنولوجيا.
لكن المظهر الجديد المستحدث للعبودية أو الاستعباد - بالمضمون- يكاد يكون سمة العالم المعاصر، فما من دولة لا تشهد تفاوتا طبقيا وتوزيعا ظالما للثروات، وتكدس رؤوس الأموال في يد فئة قليلة على حساب طبقات أخرى مسحوقة، فضلاً عن استغلال الإنسان أبشع استغلال وفق أنظمة اقتصادية رأسمالية واستهلاكية جعلت من الإنسان آلة عمل واستهلاك لصالح شركات عالمية متعددة الجنسيات، تسيطر على الشعوب والدول، وتتخطى حدود الكيانات السياسية، وهذا مقام يطول الحديث عنه.
أما على الصعيد العربي، فالتفاوت الطبقي هو نتاج التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وسيطرة فئة معينة من أصحاب الثروات والنفوذ على مقاليد السلطة والمال وأدوات الإنتاج والصناعة والزراعة والتجارة، فطبقة الإقطاعيين والفلاحين خلال القرنين الماضيين حلّت مكان طبقة السادة والعبيد التي سادت في أوروبا وأجزاء من العالم العربي في العصور القديمة والوسطى، واليوم أخذت شكلاً جذاباً تحت عنوان "الرأسمالية وسوق العمل وقطاع الإنتاج والموارد البشرية..."، فأنتجت طبقة البرجوازية المتوحشة التي زادت من مساحة التفاوت الطبقي في المجتمعات العربية بين "الثراء الفاحش" و"الفقر المدقع"، وبينهما "طبقة وسطى" من الموظفين والحرفيين والصناعيين... وتضاف لهم في بعض المجتمعات طبقة المعدومين أو المهمّشين!!
ولا غرو أن نجد في مترادفات اللغة العربية مفردة العبودية ضمن قاموس التسلط والاستبداد والإكراه والعنف والقهر والظلم.. إلخ، فكما تحدثنا في سؤال سابق أن الاستبداد أصل كل الشرور، فالعبودية المعاصرة للإنسان العربي هي شكل من أشكال الاستبداد السياسي، ومظهر من مظاهر التفاوت الطبقي وتهميش دور الشعوب وحقها في التشارك بالعمل والإنتاج والسلطة؛ فالمجتمعات العربية اليوم تعاني من ركود اقتصادي وأزمات سياسية واجتماعية مركبة، بسبب التفاوت الخطير في توزيع ثروات الوطن ورأس ماله المادي والبشري؛ فالفجوة الاجتماعية والاقتصادية تزداد يوماً بعد يوم في ضوء تنامي معدلات الفقر والبطالة وارتفاع مؤشرات الفساد المالي والسياسي والإداري.
إن احتكار السلطة واستمرار كافة أشكال الظلم والاستبداد والفساد والادعاء بممارسة الوصاية على الشعوب العربية بحجة حماية أمن الدولة وخلق نماذج طبقية للتقسيم الطائفي والديني والفئوي والعشائري والعنصري تحت عناوين التعددية والمحاصصة الاجتماعية والسياسية، ومصادرة الحريات، وشيوع الفساد والدكتاتورية باسم قانون الطوارئ والأحكام العرفية ...إلخ، كل هذا سيؤدي حتماً إلى إصابة المجتمعات العربية بالشلل والعجز والضمور، وفي المنظور القريب ستفقد تلك المجتمعات بالتدريج ميزة السيطرة على النسيج الاجتماعي الآمن، وشروط بقاء المجتمع واستمراره أو مدى قدرته على الحفاظ على مقومات بنيانه العضوي.
سعيد بلمبخوت: قليلة هي الكتابات التي تتناول أسباب تخلّف وتراجع العالم العربي عن الأخذ بالقيم التي ترقى بها المجتمعات الحرة المعاصرة فيما يتعلق بالحريات، الديمقراطية، حقوق الإنسان، التسامح... كمختص في المجال السياسي، كيف يمكن "تشريح" الأزمة بدقة وتحديد المخارج والحلول لها؟
ياسر قطيشات: لا يكمن "فقهُ فهم" الأزمة اليوم فقط في تحقيق الحد الأدنى لمظاهر الدولة المؤسسية شكلاً بالأطر الحزبية والبرلمانية وقوى المجتمع المدني والحرية... بل تمتد إلى جذور إدراك الوعي الثقافي العربي بعمق الأزمة الحضارية التي تمر بها الأمة العربية منذ أربعة قرون على الأقل.
لقد تداعى الفكر العربي والثقافي في غضون نصف قرن مضى للتركيز على الظرف الراهن الذي يمر به العالم العربي بين تيارات قومية ودينية وعلمانية واشتراكية وتغريبية، في جلّها ركزّت على أسباب التعطيل الحضاري القائم وفق ما يظهر للعيان من معوقات وقيود حالت دون مواصلة الركب الإنساني، بل والتراجع أصلاً عن الركب الحضاري برمته.
لكن للأمانة، وبالعودة إلى الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول للقرن العشرين، شهد العالم العربي ثورة فكرية وثقافية عالجت أبعاد أزمة الأمة العربية والدولة الناشئة في الأقطار العربية من زوايا شاملة ومتعددة، تاريخية وحضارية وفكرية وثقافية، ولم تقتصر على اللحظة الراهنة في حينه، حيث كانت الأزمة في آنذاك على أشده في زمن الخلافة أو الدولة العثمانية، وكان العرب على مفترق طرق بين مشروع الوحدة العربية من جهة، ومشروع الخلافة الإسلامية من جهة ثانية، والتمزّق والانفصال والدعوة للاستقلال السياسي وفق مشاريع استعمارية، من جهة ثالثة.
ويمكن توصيف وتشريح أزمة المجتمعات والدولة العربية المعاصرة في ثلاثة مستويات متلازمة: مستوى سياسي تبرز فيه السلطة بشكل سلطوي في يد فئة قليلة تحتكرها، وتستنزف موارد البلاد وتشيع فيها الفساد والرعب، ومستوى اقتصادي؛ أصبحت فيه الدولة ريعية وتستثمر ثروات الدولة لصالح النظام القائم وتغيّب برامج التنمية الحقيقة، ما أدى إلى انتشار الفقر والبطالة. ومستوى اجتماعي يقوم على تقسيم فئات المجتمع على أساس طائفي وقبلي وإثني، وخلق حاشية موالية للنظام، من رجال أعمال وسياسيين ورجال دين وواجهات عشائرية وقبلية تمارس دور الوسيط بين فئات المجتمع والنظام، للسيطرة على حركات الاحتجاج الشعبية وتقييد دور مؤسسات المجتمع والأحزاب في توجهاتها التنافسية، فأصبحت تلك "الحاشية" أكثر فسادا من رموز النظام، لأنها امتلكت دعم السلطة من جهة، وشعبية بعض قوى المجتمع من جهة أخرى، فامتلكت المال والسلطة في آن واحد.
تواجه الدولة العربية ومجتمعاتها ثلاثة أنماط من الأزمات المقبلة: أزمة بقاء أو تفتيت الدولة، وأزمة شرعية واستقرار السلطة السياسية، وأزمة جدل تنوع الثقافة السياسية والاجتماعية في بنى المجتمع العربي.
إن أول مخرج لأزمة المجتمعات والدول اليوم يبدأ بتحرير الإنسان العربي، ليتمكن من التفكير والإبداع ومحاولة التغيير للأفضل، بيد أن تحرير الإنسان يحتاج إلى تحرير عقله من أغلال السلطات المتعددة المقيدة لتفكيره: سلطة الماضي، سلطة الحاكم بأمره، سلطة العادات والتقاليد البالية، سلطة المجتمع المحافظ، سلطة الموروث الديني. وهذا التحرير الشامل لعقل المواطن العربي، سيمكّنه من امتلاك أدوات التغيير لتأسيس المدخل الجاد للدولة المدنية الديمقراطية، ودولة المواطنة التي تضمن قيم الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والتسامح...إلخ.
إن الدولة المدنية هي الخيار الاستراتيجي الأول والبديل المطلوب عن مفهوم الدولة الوطنية التقليدية التي فشلت في الحفاظ على مكتسبات المواطن وحريته وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي المخرج من بوابة الانغلاق والعزلة على الذات لمواكبة الركب الحضاري ودخول دائرة الفعل والتأثير الإنساني.
سعيد بلمبخوت: ماذا تغير منذ اندلاع "ثورات الاحتجاج العربية" الأخيرة؟
ياسر قطيشات: كان الأملُ معقودا على أن تكون الثورات الشعبية العربية أو ما يسمى تجاوزاً "الربيع العربي" بداية الطريق لإنشاء عقد اجتماعي وطني وعربي جديد يلغي بموجبه النظم الاستبدادية والأوليغارشية والثيوقراطية القائمة على أسس قبلية ودينية وعسكرية وطائفية، ويحل محلها نظم برلمانية دستورية بعد مرحلة انتقالية تؤسس لسلطة سياسية شرعية مصدرها الأول والأخير الشعوب العربية، حتى يقرر الشعب بنفسه أسس التغيير وقواعد الإصلاح ويمارس حرية الانتخاب والاختيار وحقه في التمتع بثروات الوطن ورفع شأن المواطن وكرامته وحقه في تأسيس نموذج حضاري للدولة العربية أسوة بالدولة المعاصرة في الغرب.
لكن ما جرى بعد عامين من اندلاع الثورات الشعبية، أعاد الأفكار إلى مستودع الأحلام والأمنيات؛ فالثورات بدأت بحركات احتجاج وعصيان جزئي في بعضها (تونس ومصر) ثم امتدت لدول أخرى لتمرد وعصيان مدني (اليمن والبحرين والعراق) حتى كبرت كرة الثلج ووصلت إلى سورية وليبيا واليمن في نموذج حرب أهلية أعادت البلاد والعباد إلى قرون مضت، وتحوّل "الربيع" المنشود إلى جحيم ودم .. إلى خريف تساقط فيه البشر والشجر والحرث والضرع والزرع!!
وبخلاف الثورات العالمية المشهورة، كالثورة الفرنسية، لم تقم الثورات العربية على قواعد رصينة أو وفق مدرسة فكرية توعوية تستوعب حركة الشارع، فما جرى في الشارع العربي فاق كل التوقعات ولم تكن الثورات مخطط لها كما يتصور البعض، إنقاصا من وعي الشعوب بالانتفاض والتغيير، فلو قاد الشارع العربي -لحظة الاحتجاج- النخبة الثقافية والفكرية وأصحاب المدرسة النظرية في التغيير والإصلاح، بعيداً عن التيارات السياسية الحزبية والدينية، لكان مستقبل المجتمعات العربية مختلف تماماً عن وضعها اليوم، وربما لحفظنا عشرات الآلاف من الأرواح التي أُزهقت ثمناً للبحث عن الحرية والكرامة والخبز والعدالة.
وعلى الرغم من كل ما سبق، فقد تغيّر الكثير منذ عام 2010 وحتى اليوم، فقد كسرت الشعوب العربية لأول مرة حاجز الخوف ونجحت في التصدي للأنظمة الشمولية الاستبدادية، وأخذت الشعوب زمام المبادرة للتغير والتأثير وصارت - رغم كل ما جرى- جزءاً لا يتجزأ من مكونات النظام السياسي بعد أن كانت على الهامش في موقع المفعول به، إذ استجابت الكثير من الدول العربية - التي لم تشهد ثورات شعبية- لحركة الشارع قبل تفاقم الأمور، فتشكلت لجان وطنية وتعدلت مواد الدستور وسمحت بالمشاركة السياسية والتمثيل الانتخابي وشرعنة حرية التعبير والاحتجاج والتظاهر، حتى وصلت دينامية التغيير إلى الدول المحافظة في الخليج العربي، حيث شهدت تحركات -رغم أنها خجولة- صوب مشاركة المرأة في العمل السياسي وتشكيل بعض المؤسسات الاستشارية المدنية وزيادة نسبية في مساحة التعبير والحرية.
ومن ناحية أخرى، تغير مفهوم السلطة الأمنية والعسكرية ودورها في الحياة السياسية، حيث شكلت بعض الدول محاكم دستورية ولغت أخرى محاكم أمن الدولة - غير الشرعية- وكذلك إنهاء حياة الأحكام العرفية وتقنين مفهوم "قانون الطوارئ" وإعادة تشكيل المجالس النيابية ومساحة التمثيل الشعبي ...إلخ.
إن التغيّر الأهم في نظرنا هو ولادة قوى اجتماعية مؤثرة في ميزان الحياة السياسية العربية، فمصادر القوة والنفوذ التقليدية في يد النظام والعسكر أصبحت "مقننة" بل و"مترددة" في استخدام تلك القوة تجاه الشعوب، بعد أن ثبت للجميع من التجربة أن ثمن استخدامها -وليس التهديد بها- مخيف ومكلف بلا أية ضمانات، كما انتهى عصر النظام "الأبوي" فالشعوب خرجت من عباءة "القائد الملهم المفتدى بالمهج والأرواح"، وتراجعت قيم السلطة "الهرمية" العربية المتوارثة منذ قرون، بشكليها الديني والسياسي؛ أي بمعنى سلسلة التحالفات التقليدية المتوالية (الحاكم الفرد أو الحزب وتحالفاته مع القوى السياسية والمالية والدينية) وتفتح وعي الشعوب على خطر تسليم السلطة لأحزاب مؤدلجة بعقليات حكم عسكرية أو دينية أو عقائدية أو عشائرية.
نعم، رغم النتائج غير المرضية التي تحققت على أرض الواقع جرّاء "خطف" و"عسكرة" أحلام الشعوب من جانب القوى السياسية والدينية الوطنية والقومية والإقليمية، رغم كل ذلك حدثت تغيرات كثيرة وعديدة منذ اندلاع تلك الثورات، بعضها يتلمسه المواطن العادي أسوة بأركان النظم التقليدية، كما وضحنا آنفاً، والبعض الآخر لا تدركه سوى عقول النخب المستشرفة للمستقبل من طبقة المفكرين والباحثين.
سعيد بلمبخوت: تحدث المفكر المغربي عبد الله العروي عن مسؤولية المثقف المغربي عن الوضع الراهن في البلاد، ما رأيكم بذلك... وهل يمكن "تعميم" المسؤولية – قومياً - على المثقف العربي؟
ياسر قطيشات: المفكر المعروف الأستاذ "عبدا لله العروي" هو من أشهر المثقفين العرب الذين لا يشق لهم غبار في الرؤية والتحليل والنظرة الثاقبة للمستقبل. كنت قد اطلعت قبل سنوات قليلة على بعض إنتاجاته الفكرية والأدبية، خاصة كتابه "أزمة المثقف العربي" وكتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصر"، وبعض ما نشره حول تحديات الوضع الجيوسياسي للأزمات العربية بعد حرب الخليج عام 1991، وأعتقد جازماً أن لدى أستاذنا الكبير العروي رؤية تحليلية عميقة متقدمة على غيرها من التصورات السياسية العربية، ولكن للأسف لم تحظَ أفكاره وكتاباته بالشهرة المستحقة في المغرب خاصة، والوطن العربي عامة، وعلى صعيد منهج الإصلاح والتغيير والحداثة، خاصة لجهة اهتمامه بالبحث عن أوجه الاستفادة من تجربة الغرب الحضارية والفكرية بعيداً عن الغرب السياسي "الاستعماري" في العقلية الذهنية العربية.
عموماً وعودةٌ لسؤالكم حول تحميل العروي للمثقف المغربي والعربي مسؤولية الوضع الراهن، فلا شك أننا نتفق معه إذا ما نظرنا للفكرة بشمولية وخارج الصندوق؛ فالأستاذ العروي يعتبر المثقّف حامل رسالة مقدسة وإمام مدرسة فكرية شعارها الوعي والتغيير، ولا يقارن بيئة المثقف أو دوره ببيئة ودور الاقتصادي أو السياسي أو غيرهما من طبقات المجتمع، لأن لكل واحد من هؤلاء مصلحة شخصية تفوق مصلحة العامة أو الأمة. أما المثقف الحقيقي والجاد، فهو "صانع" التغيير وحامل رسالة التنوير، فإذا تقاعس عن دوره بحجة القمع وحرية التقييد وسلطة الرقيب والخوف من الأنظمة الاستبدادية...إلخ؛ فهو - إذن- مثقف غير واع بقيمة وحجم المهام الملقاة على عاتقه تجاه المجتمعات العربية، لأن حجة البيئة والظروف يمكن تجاوزها ببساطة إذا ما امتلك المثقف العربي بوصلة الاتجاه الصحيح وزمام المبادرة، خاصة في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي، وصاحب القلم الحر يجد ألف سبيلاً لنشر كلمته وفكره.
ونعتقد، كما يتصور "العروي"، أن أزمة المثقف العربي، وحكماً المغربي، هي انعكاس لأزمة المجتمعات العربية، حيث جلً ما تعانيه المجتمعات العربية اليوم هو نتيجة لضعف دور المثقف والمفكر العربي في التأثير والقيادة، فتصبح أزمة المجتمع أعمق وأخطر من أزمة المثقف الذي يرفع الراية البيضاء في أول اختبار قاسِ، كما أنه بسهولة يصاب بالإحباط والتراجع بعد أن ييأس من إصلاح المجتمع وتغييره وتنويره في أول جولة له!! ما يؤشر على أزمة ذاتية لدى المثقف نفسه تحول بينه وبين دوره في خلق ثقافة نموذجية تواكب متطلبات العصر، وتشكل نواة مدرسة فكرية للإصلاح والتغيير.
وقد أشرت في معرض إجابتي عن السؤال السابق إلى أن غياب المدرسة الفكرية التنويرية حال دون نجاح الثورات الشعبية، فلو نجح المثقف العربي في تشخيص الواقع العربي كما يجب، وقدم تصورات استشرافية عميقة ووضع أطر التنظير اللازمة للتنوير ورسم مناهج الإصلاح والتغيير وشروط ولوج الحداثة ومقومات النجاح وتحديات متطلبات العصر...إلخ. لو نجح فعلا ً المثقف العربي في ذلك كله لما وصلت المجتمعات العربية إلى هذا الوضع الراهن، بل ولربما كانت ثورات الشعوب "ربيعاً" حقيقياً لا "سلسال دم" عربي لم ينته بعد.
[1]- مجلة ذوات العدد 48