ظلال عبد الكبير الخطيبي: قراءة في مؤلفه "الكاتب وظله"
فئة : قراءات في كتب
ظلال عبد الكبير الخطيبي
قراءة في مؤلفه الأخير: (Le scribe et son ombre)
(الكـاتب وظـله)
تقديم:
(الكتاب وظلّه) (Le Scribe et son ombre )آخر مؤلَّف للكاتب عبد الكبير الخطيبي، الذي توفي بتاريخ 16 آذار/ مارس 2009م. صدر الكتاب عن منشورات الاختلاف في باريس في فرنسا سنة (2008م)؛ أيّ قبل شهور قليلة من غيابه.
بطاقة تعريفية مختصرة للمفكّر والأديب عبد الكبير الخطيبي:
وُلِدَ عبد الكبير الخطيبي، بتاريخ 12شباط/ فبراير 1938م، في مدينة الجديدة في المغرب، في حيّ شعبي يُسمّى حيّ الصفاء. كان أبوه أحمد الفاسي رجلَ دين وعلم، فضّل، بعد عودته من مدرسة القرويين، الاشتغال في التجارة عوض العمل في سلك القضاء. ونظراً لتكوينه العالي في مجال الشريعة، فقد كان يُعطي دروساً، بصفة منتظمة، في أحد المساجد في حيّ الصفاء تحديداً. أمُّه اسمها عائشة بوخريص من منطقة بني هلال في إقليم الجديدة, وتعود أصول سكان هذه المنطقة إلى الحجاز، كما يُحكى. درس عبد الكبير الخطيبي المرحلة الابتدائية في مدينة الجديدة، وانتقل، بعد ذلك، إلى مدينة مراكش ليكمل فيها دراسته الثانوية. لما حصل على شهادة الباكالوريا، في ثانوية ليوطي في الدار البيضاء، تمكّن من الفوز بمنحة دراسية، بعد اجتيازه مباراة في هذا الشأن، ليسافر إلى فرنسا، ويكمل دراسته، في جامعة السوربون في باريس، في شعبة العلوم الاجتماعية والفلسفة. وقدّم رسالته حول موضوع الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية.
سيعود، بعد ذلك، إلى المغرب، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، ويشتغل أستاذاً مساعداً في جامعة محمد الخامس في الرباط سنة (1964م)، ومديراً لمعهد السوسيولوجيا، قبل إغلاقه. ثمّ سيغادر مجال التعليم، ويَهب مجهوده للبحث العلمي، وذلك في المعهد الجامعي للبحث العلمي، الذي سيصبح مديره العام فيما بعد.
كان عبد الكبير يدير مجلة «علامات الحاضر»، كما كان يرأس تحرير المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، وهما مجلّتان مهمّتان في مجال علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم الإنسانية.
انضمّ عبد الكبير الخطيبي إلى اتحاد كتاب المغرب في أيار/مايو، عام (1976م).
وتتميّز مجالات إنتاجه بالتعدّد والتنوّع، فقد كتب في الرواية، والشعر، والمسرح، والفكر، والنقد الفني، والنقد الأدبي، والتحليل السياسي، وغيرها من المجالات، وتُرجِمت أعماله من اللغة الفرنسية (لغته في الكتابة) إلى عدة لغات، ومن بين أعماله، التي يفوق عددها (25) مؤلَّفاً، بالإضافة إلى مؤلَّفات جماعية شارك فيها:
- الذاكرة الموشومة (1971م).
- فن الخط العربي (1976م).
- الرواية المغاربية (1993م).
- صيف بستوكهولم (1990م).
- صور الأجنبي في الأدب الفرنسي (1987م).
- كتاب الدم (1979م).
- النقد المزدوج (1974م).
نظراً لإسهاماته العميقة في مجال الفكر والأدب، اكتسب عبد الكبير الخطيبي مكانة عالمية، وفرض احترام العديد من الكتّاب والمفكرين العالميين، من بينهم الناقد الفرنسي رولان بارت، الذي قال عنه: "أهتم، أنا والخطيبي، بأشياء واحدة؛ الصور، والدلالات، والآثار، والحروف، والعلامات. وفي الوقت نفسه، يعلّمني الخطيبي شيئاً جديداً، ويخلخل معرفتي؛ لأنّه يُغيّر مكان هذه الأشكال في بصري؛ ولأنّه يحملني بعيداً عن ذاتي، في بلده الأصلي، وكأنّني في أقصى نفسي". (عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح)، ترجمة محمد بنيس.
"الكاتب وظله":
يقول الخطيبي في تقديمه للكتاب:
"خلال إعداد هذا الكتيّب، آمل أن أكون قد ضحّيت بهذا التنوّع المتحرّك لغروري بمجموعة من الخطوط التوجيهية أملتها قوّة الأشياء على حوادث الحياة ولعبة اللغة. هكذا، كانت هذه المحاولة متوزعة بين السيرة الذاتية، والشهادة، والسرد الثقافي"(ص8).
تميُّزُ هذا الكتاب يتمثّل في أنّ إنجازه تمّ بناءً على طلب أحد أصدقاء الخطيبي:
"أكتب هذا الكتيّب بطلب من صديق متيقظ، اقترح عليّ أن أقدّم للقراء مساري الشخصي مثقفاً. وافقت، على الرغم من ترددي المعتاد، وعلى الرغم من الصعوبات الخطيرة جداً، التي يواجهها مثل هذا النموذج من السيرة. سواء أكانت لطيفة أم قاسية، فإنّ السيرة تُختزل في كونها كاريكاتوراً لشبحنا الشخصي الضائع في حياة الآخرين. تشهد بصدق ووضوح على نفسك، وعلى الآخرين، يا له من رهان على الحقيقة!"(ص13) [ترجمتي].
انطلاقاً ممّا سبق، يتبيّن أنّ هذا المؤلَّف جاء، أساساً، على شكل سرد أفقي للمسار الفكري، والمهني، والإنساني، للراحل عبد الكبير الخطيبي. هذا المنجَز قام بتكسير كلّ أشكال السير الذاتية المتعارف عليها، ويمكن اعتباره تتميماً لعملين روائيين رائعين للخطيبي يدخلان، إلى حدٍّ ما، في إطار السير الذاتية، ويتعلّق الأمر بروايته (الذاكرة الموشومة)(La mémoire tatouée) 2، الصادرة سنة (1971م)، التي رصد فيها الكاتب مسار حياته، بدءاً من الولادة، إلى حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا، ورجوعـه إلى المغـرب، ثمّ رواية (حج فنان عاشــق) (Pèlerinage d’un artiste amoureux)3، الصادرة سنة (2003م)، التي حاول الكاتب فيها ملامسة حياة جدّه الرايسي، الذي وُلِدَ سنة (1877م)، وتوفي سنة (1960م)، الرايسي شخصية حقيقية تمثّل حلقة الوصل بين كلّ خيوط هذه الرواية.
يتشكّل المؤلَّف المكوَّن من (128) صفحة من الفصول الآتية:
1- علامات الانتماء.
2- الطريق إلى الأنا.
3- الرغبة في علم الاجتماع.
4- الطريق إلى الآخر.
5- من الإتنولوجيا إلى السيميولوجيا.
6- على هامش الفلسفة.
7- التحليل النفسي الدقيق.
8- تقولون قصة مفقودة؟
9- سياسة عن طريق الرسائل.
10- الهوية اللينة.
11- الرغبة في الاستنساخ.
سأحاول، الآن، التطرّق إلى أهمّ ما جاء في هذه المحاور:
1
علامات الانتماء
استهلَّ الكاتب هذا الفصل بالحديث عن ارتباطه القوي بالمغرب، بلده الأصلي، الذي يحمل هويته وتاريخه، وتحدَّث، أيضاً، عن ولادته، التي تمّت في بداية الحرب العالمية الثانية، وعن بعض أعلام الفكر، الذين أثروا في بداياته الأولى مع القراءة، على رأسهم: ابن خلدون، وكارل ماركس، وميشيل سير، وماكس فييبر. وفيما يتعلق بمساره الأدبي، سرد الكاتب أسماء بعض الرموز، الذين تأثّر بهم، أمثال: الشاعر الفرنسي شارل بودلير، ووالتر بنيامين...
"أعيش وأشتغل في المغرب. هذا البلد يمتلك قوة حيّة. أنا مدين له بولادتي، وباسمي، وبهويتي الأولى.كيف لا يمكن أن أحبّه بعطف! عطف بنّاء ويَقِظ. البلد ليس مكان الولادة فحسب، بل اختيار شخصي يقوي الإحساس بالانتماء"(ص9).
وعن مساره الدراسي، تحدّث الكاتب عن اختياره شعبة علم الاجتماع في جامعة السوربون، ذاكراً أسماء بعض أساتذته من بينهم روجيه باستيه...
تحدّث الخطيبي، أيضاً، عن مساره مقثفاً: "بصفتي مثقفاً، أحاول إنجاز مهمّتي؛ بمعنى تحويل تجربة إلى اختبار أوّلي. ما هي في نظركم؟ تجربتي علمتني التمرين الشاق للحرية وقيودها. الابتعاد عن المعتقدات الحالية هو الخطوة الأولى نحو هذه الحرية الناقصة. علينا الذهاب إلى أبعد، والمجازفة بحقيقة خطيرة، حيث يتمّ تشكيل الأبجدية تدريجياً، أو، بالأحرى، لغة تسمح ببسط مكانة متحرّكة بين ما هو شخصي وجماعي، هذا ما يجعل تجربتنا وذوقنا للتغيير والبناء المستدام متفرّدين ومتعدّدين، من حين إلى حين.
نعم، التضحية من أجل الحقّ في التفكير، بما في ذلك وقت الشدة، والحقّ في الرفض، وفي المقاومة، في بناء استقلال ذاتي، في النقد، في الاختلاف، في الاقتراح، في التعديل، في القبول بتوجيهك بوساطة أفكار، أو صور لا تزال بشعة، وتبحث عن دعم وأداة للتعبير داخل مغامرة العقل وحيويته"(ص12).
2
الطريق إلى الأنا
في هذا الفصل، قام الكاتب بذكر أهم الأعلام، الذين رافقوه طيلة مساره الفكري والإبداعي، وكانوا مصدر إلهام له، ومن بينهم: هرقليطس، ولاوتسو، وابن خلدون، وليوباردي، ونيتشه، وباشلار، وفوكو، وبارت، ودريدا، هذا الأخير الذي ظلّ صديقه لمدة ثلاثة عقود. تكلّم الكاتب، أيضاً، عن بداياته الأولى مع الكتابة، التي بدأ ممارستها وهو في سنّ الـخامسة عشرة من العمر. ولم تفُته الفرصة دون ذكر سرّ تسميته بـ عبد الكبير، حيث إنّه وُلِدَ يوم عيد الأضحى، الذي يسميه المغاربة العيد الكبير، ومن هنا تأتي التسمية. وقد سبق للكاتب أن تحدّث بالتفصيل عن الطقوس، التي رافقت فعل ولادته، وكذا التسمية في رواية (الذاكرة الموشومة).
3
الرغبة في علم الاجتماع
تطرّق الكاتب، في هذا الفصل، إلى عودته إلى المغرب سنة (1964م)، بعد نهاية دراساته العليا في جامعة السوربون، في فرنسا، وحصوله على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، ثمّ تعيينه مديراً لمعهد علم الاجتماع في الرباط سنة (1966م)؛ هذا المعهد، الذي سيتمّ دمجه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط. تحدّث، أيضاً، عن مساره المهني برفقة المفكر والباحث بول باسكون في تكوين جيل مهمّ من الباحثين في علم الاجتماع، أمثال: عبد الله حرزني، وعبد الله حمودي، وأحمد زوكاري، الذين قدّموا دراسات ممتازة في مواضيع ذات أهمية قصوى، مثل: الشباب في العالم القروي، والطبقات الاجتماعية، والتخلّف، والتحوّلات الاجتماعية، والمثاقفة، والرشوة في الإدارة...
ومن المهمات التي أُوكِلت إلى عبد الكبير الخطيبي، في هذه المرحلة، أيّ منذ سنة (1966م)، مهمّة التنسيق في تحرير المجلة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب، وذلك برفقة مجموعة من الباحثين المنتمين إلى مختلف مجالات العلوم الإنسانية. وحيث إنّ عنوان هذا الفصل له علاقة بعلم الاجتماع، فقد كان الخطيبي، من حين إلى حين، يفصّل في الحديث عن إعجابه بعلم الاجتماع منذ مرحلة الثانوي، مبرزاً سمات هذا العلم الأساسية المتمثّلة في الملاحظة، والإنصات، وتشكيل الفكر التحليلي والنقدي. لم يغفل الخطيبي، أيضاً، حيثيات إغلاق معهد علم الاجتماع سنة (1970م). وبمرارة واضحة، وحسرة شديدة لا تخلو من سخرية، يؤكّد عبد الكبير الخطيبي أنّ هذا المعهد كان يضمُّ طلبة هادئين جداً، ولم يكونوا مهتمين بإضرابات، ولا بمضربين. كان همّهم الوحيد، فحسب، الحصول على شهادة بعد نهاية التكوين.
تحدّث الخطيبي، في هذا الفصل، أيضاً، عن المناهج التي قام بتجريبها في مجال العلوم الاجتماعية، من بينها: البحث الميداني، وتحليل المضمون. تحدّث، كذلك، عن دور السيميولوجيا في تقوية مناهجه في الأبحاث والدراسات، التي قام بها في علم الاجتماع.كما خصّص الخطيبي الصفحتين الأخيرتين، في هذا الفصل، للحديث، مرة أخرى، عن بول باسكون باحثاً في علم الاجتماع، ودوره الريادي في تأسيس علم اجتماع ما بعد مرحلة الاستعمار (Sociologie post-coloniale). ويبرز هذا الفصل قوّة العلاقة، التي كانت تربط عبد الكبير الخطيبي بـ بول باسكون، سواء على المستوى المهني، والبحث في مجال العلوم الاجتماعية، أم على المستوى الإنساني، حيث ما زال الخطيبي يتذكّر، بتأثُّرٍ بالغ، وفاة رفيق دربه في حادثة سير مؤلمة في الصحراء سنة (1985م)، علماً بأنّه سبق أن فقد نجليه: نادين وجيل، أيضاً، في الصحراء، في شهر (؟) من سنة (1976م). يسرد الخطيبي هذين الحادثين المنفصلين، ولكن باستفهام شديد يخفي الكثير من الكلام، وكأنّه ما زال لم يستوعب موت صديقه ونجليه في المكان نفسه تقريباً. وما زالت صورة بول باسكون تتراءى أمامه، على الرغم من هذا الغياب الطويل، فهو رجل كتوم، ذو إحساس قوي، ونظرات حزينة.
4
الطريق نحو الآخر
يتطرّق الخطيبي، في هذا الفصل، إلى إسهاماته في مرحلة التخلّص من الاستعمار، ويقصد الخطيبي الاستعمار وآثاره على المستوى الثقافي بشكل عام، ومن ثمّ كان لزاماً عليه وجوب الاشتغال على مسألة الهوية. في مقابل ذلك، تحدّث، أيضاً، عن مشاركته الفعلية في مشروع تحديث البنيات الاجتماعية للبلد المتّصفة بكونها أبوية وموضوعة بطريقة غير صحيحة. وفي هذا الإطار، عمل الخطيبي مع زملاء آخرين على تكوين مثقفين عضويين في الجامعة.
أشار الخطيبي، في هذا الفصل، إلى دور كاتب غير معروف اسمه فيكتور سيكالين (Victor Segalen) اكتشفه سنة (1957م) في بداية اهتمامه، وولعه الشديد، بالإتنولوجيا والآداب، قبل أن يتعرّف إلى كلود ليفي شتراوس، من خلال مؤلَّفه: ((Les Immémoriaux الصادر سنة (1907م).
تحدّث الخطيبي، أيضاً، عن انشغاله بالآخر كفضاء للبحث، وتحديد المفاهيم والنظريات. «تيمة»، أو لغة الصمت، كانت حاضرة، أيضاً، في هذا الفصل، حيث تحدّث الخطيبي عن قوّة الصمت في التعرّف إلى الآخر.
5
من الإتنولوجيا إلى السيميولوجيا
استهلّ الخطيبي هذا الفصل بالحديث عن مشاركته في مؤتمر دولي في مالطا، سنة (1967م)، حول ثقافات البحر الأبيض المتوسط، أشرف عليه فرناند بروديل(Fernand Broudel)، وقد شارك بدراسة سيميولوجية لبعض الأمثال المغربية. تحدّث الخطيبي، بإعجاب شديد، عن السيميولوجيا، باعتبارها قريبة جداً من اهتماماته على مستوى الكتابة، حيث استطاع بوساطتها الغوص في عدّة مجالات بالدرس والتحليل على غرار الأمثال، والوشم، والخط العربي، والصورة، والموسيقا، والرسم، والتشكيل. ويندرج مؤلَّفه (الاسم العربي الجريح) (La Blessure du nom propre)الصادر سنة (1974م)، ضمن هذا المنحى، الذي تبنّاه الخطيبي، والمتمثّل في الاعتماد على السيميولوجيا في مجال البحث عوض علم الاجتماع في فترة من الفترات.
تناول الخطيبي، كذلك، الحديث عن الدراسات والأبحاث، التي قام بها حول الجسد في الإسلام، وكذا حول الزربية، بصفته متخصّصاً في دراسة العلامات Signes))، وتفكيك دلالاتها، وتحليل مفاهيمها. وفي معرض حديثه عن السيميولوجيا، لم ينسَ الخطيبي أن يذكّر بعلاقته القوية برمز من رموز هذا العلم، ألا وهو الناقد الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes)، الذي كان عضواً ضمن لجنة مناقشة رسالته في سلك الدكتوراه حول الرواية المغاربية، قبل أن تتوطّد صداقتهما فيما بعد، ولاسيّما لما درس بارت في جامعة محمد الخامس في الرباط، خلال السنة الجامعية (1969-1970م).
6
على هامش الفلسفة
بداية حديثه، في هذا الفصل، تحتوي على لغة فلسفية بامتياز، فالكاتب يوضّح، بكثير من الرمزية، والغموض، أحياناً، أنّه في إطار هذه السيرة الذاتية الفريدة من نوعها، يبدو، وهو يتكلم عن نفسه، كما لو كان يتحدّث إلى روح بعيدة منفصلة عن حياته الحالية، التي قد تكون، إلى حدٍّ ما، شاهدة عن بعد(ص59)، ويضيف أنّ السيرة الذاتية المتخيّلة هاته لابدّ من أن تكون قد كُتبت من طرف روح تحكي عن مسارها الفكري، بطريقة توحي بأنّ شخصاً ثالثاً غير معروف هو من يقوم بعملية الحكي هاته. ولتوضيح هاته النقطة، أحال على جزء من مداخلة أستاذ الفلسفة الدكتور عبد السلام بنعبد العالي، في مؤتمر في مدينة كرونوبل الفرنسية سنة (1985م)، حيث تحدّث عن النقد المزدوج، والفكر المغيّر كما يراهما الخطيبي، ولكن بطريقة تأخذ عدة إشكالات وأوجه، وتتوزّع بين عدة مجالات، منها النقد الاجتماعي، والبحث السيميولوجي، والكتابة الأدبية؛ لهذا، فالخطيبي، في نظر بنعبد العالي، لا يوجّه مشروعه الفكري هذا نحو كتابات فلسفية تُعنى بتاريخ الفلسفة، وتتحاور معها. ولكنه يشتغل على هامش الفلسفة، الفلسفة الجديدة: نيتشه، ودولوز، ودريدا، وميشيل سير، وآخرين.
يقول الخطيبي: "ما يهمني، في أيّ فكر، طريقته في إيقاظ وعيك من أجل ممارسة النقد..."(ص61)، [ترجمتي].
لم يفوت الخطيبي الفرصة دون ذكر تأثير نيتشه فيه من أجل فكر متعدّد، وتأثير دريدا، أيضاً، يسير في السياق ذاته.
عند ذكره اسم دريدا، ناقش الخطيبي ثنائية التفكيك (décolonisation)، حيث ذكر أنّه حاول، دائماً، إيجاد علاقة دلالية بين هذين المفهومين. ويضيف أنّه، خلال أبحاثه، وفي إطار محاورته فكر الآخر، لم يتوقف عن بناء (programmatique)، لفائدة فكر للمستقبل، وهي مرحلة مهمّة، في اعتقاده، من التقدّم، وبناء فكر مغاير (pensée autre). وفي هذا السياق، دائماً، سيذكر الخطيبي كتابه (Maghreb Pluriel) (المغرب المتعدّد)، الذي طبّق فيه النظرية السابقة programmatique))، من خلال مجموعة من التصوّرات، حيث قام بإحكام نقد مزدوج على الميتافيزيقا اليونانية، وكذا الميتافيزيقا ذات الجذور الإسلامية؛ الاستشراق، والجنس بمنظور القرآن، والقرآن وفق تحليله (les interdits et de ses licites) ازدواجية اللغة (bilinguisme) الفن، ولاسيما العلامة؛ هذا الفن الذي سيتمّ تطويره من طرف الفنانَين التشكيليَين أحمد الشرقاوي وأحمد الغرباوي.
تطرّق، في هذا الفصل، أيضاً، إلى إشكالية المغرب (Maghreb) الذي يسكنه، وذلك بلغة فلسفية عميقة جداً، موضّحاً أنَّ هذا المغرب يحتوي على حكاية قصيرة داخل سيرته الذاتية الثقافية. نلاحظ، هنا، أنّ الخطيبي تعمّد ألا يذكر المغرب العربي؛ لأن البلدان المغاربية تتميّز بالتعدُّد اللغوي والثقافي، والخطيبي من أوائل المدافعين عن الهوية، والاختلاف، والتعدُّد. يتساءل الخطيبي، وهو الذي قام بعدّة دراسات حول المغرب (Maghreb) على المستويات الأدبية، والاجتماعية، والسياسية، عن الأسباب التي تعيق بناء مثل هذا القطب الاستراتيجي. يؤسّس الخطيبي على هذا التساؤل المركّز عدّة أسئلة فرعية، منها:
- كيف أصبح المغرب في بداية هذا القرن؟
- ما القدرات المستخدمة في مشروع المغرب؟
- هل هذه الدول-الأوطان مستعدّة للاستجابة لمطلب الوحدة؟
- هل ينصت هذا المشروع لنبض الشباب وقلقه؟
- هل الدول المغاربية قادرة على التكيف مع التغيرات، التي ستشمل مجتمعاتها؟
وأوضح الخطيبي أنّ هناك مجهودات يقوم بها المثقفون المغاربيون والعلماء لتحقيق هذه الوحدة، لكن المسؤولين السياسيين، عادةً، يتحدثون (le dos tourné). الحوار، في نظر الخطيبي، يقتضي انتفاع الدول المغاربية بالموارد التي تزخر بها، وتحقيق انتظارات وطموحات شباب المنطقة. إنّ مشروع المغرب، في نظره، مشروع مؤجّل بسبب الخوف المعدي من الجار، وهذا هو التناقض بعينه.
ولتحقيق هذا المشروع، يرى الخطيبي أنه لا بدّ من تحديد الأشياء التي تتشابه فيها دول المغرب العربي، والأشياء المتنوعة، أهمّها، مثلاً: التجمعات الشعبية، التي تمثّل الكيان الاجتماعي، مثل: الأسرة، والزنقة، والحي، والمسجد، والمدرسة، والدوار، والقرية.
تحدّث الخطيبي، كذلك، عن "الأمازيغية"، التي ظلّت تعاني من التهميش لمدة طويلة؛ بل الرفض، في حين أنّ الاعتراف بها مكوّناً أساسياً للهوية المغاربية ضروري، في نظر الخطيبي، من أجل سلم اجتماعي في المنطقة.
بالنسبة إلى الخطيبي، المغرب (Maghreb) ليس مثالياً، ولا كارثياً، ولكنّه يبقى فرصة جيدة لشعوب المنطقة. حان الوقت أن يتكلّم الجيران وجهاً لوجه، يتحاورون، يقبّلون بعضهم بعضاً؛ لأنّ قواسم مشتركة تجمعهم، أهمّها الدين، والتاريخ، والثقافة.
ويطرح الخطيبي سؤالاً مهمّاً وعريضاً: ما الذي يعيق فتح الحدود بين المغرب والجزائر مثلاً؟ الشعوب، في نظره، موضوعة كرهائن ولكن إلى متى؟ هذا في الوقت، الذي يطالب فيه المجتمع المدني بالتحرّك من أجل نيل الحقوق، ومن أجل الاتجاه نحو الحداثة.
7
التحليل النفسي الدقيق
جوهر هذا الفصل علاقة التحليل النفسي بالأدب، أو، بعبارة أخرى، الحوار بين المعرفة واللغة والفن، وعلاقة مناهج غير متماثلة. وفي هذا الإطار، يطرح الخطيبي السؤال الجوهري الآتي: لماذا يحترس الكاتب من التحليل النفسي؟ هل بجهل؟ هل يخشى أن يحرم من سيرته الحميمية؟ هل هي رغبة في الحماية ضدّ قدرات الصمت، الذي سيجبره على الكلام والكتابة؟ وغيرها من الأسئلة.
للتفصيل في العلاقة، التي توجد بين التحليل النفسي والأدب، ولمحاولة تحليل تجربته كاتباً في علاقته مع بعض الحالات النفسية، التي مرّ منها، من خلال الأحلام مثلاً. يسرد عبد الكبير الخطيبي بعض الجلسات النفسية، التي قام بها عند محلّل نفسي، مبدياً ملاحظاته حول هذه الحالات، ومنتهياً بخلاصات، فأعطى مثالاً لحالة فشله في علاقات الحب التي مرّ بها؛ لهذا خضع لتحليل دقيق لمعرفة هذا الفشل الذريع في هذه العلاقات التي تنتهي بسرعة، في نظره، والهدف، أيضاً، مقرون، في نظره، بصفته كاتباً، من خلال مذكراته التي دوّنها في فترة من الفترات، وكان يشاركها مع المحلّل النفسي، ويعود تاريخها إلى سنة (1983م). وهو يرى، الآن، أن هذه المذكرات تسمّى الإحساس بالتحليل النفسي، كجنس أدبيّ لا أقلّ، ولا أكثر.
8
تاريخ ضائع، ما هو رأيكم؟
استهلّ الخطيبي هذا الفصل بالقول: إنّه أوقف هذه الـ(tranche) سنة (1983م)، مبرزاً أنّه لم يكن لديه الوقت لإعادة التوازن فيما يخصّ علاقاته الغرامية، وكان لديه إحساس مستمر بتجريب عدم الاكتراث بالبحث عن توازن عاطفي حقيقي. ويعرض، في هذا الفصل، دعوة صديقة له تشتغل محلّلة نفسية، للمراسلة معه. ومن خلال هذه المراسلة، أعاد - يقول الخطيبي - اكتشاف كلمة «التحاب» (Aimance)، التي تمّ إهمالها منذ مدّة.
عرض الخطيبي، في الفصل، نماذج لمراسلات سابقة مع صديقته المحلّلة النفسية. وكنتيجة لبعض الحوارات مع صديقته، يعيد عبد الكبير الخطيبي كتابة حوارات جديدة، كالحوار حول "كراهية الحب"، الذي تمخّض عن حوار مع صديقته حول لعبة اللغة والشهوانية.
ومن خلال هذا الحوار، الذي نسجه عن «تيمة» الحب، سينتقل إلى الحديث عن حالته وفشله في مجموعة من تجارب الحب المرتبطة، أساساً، بالألم. بعد هذا الفشل المتكرّر، الذي عرضه بالتفصيل، من خلال الحوار السالف الذكر، يشير إلى زواجه الأخير سنة (1990م)، الذي أثمر ولديه أحمد وشامة.
9
سياسة رسائلية
تحدّث الكاتب، في هذا الفصل، عن أهمية التجربة، التي خاضها برفقة جاك حسون، وهي نشر المراسلات، التي تمّت بينهما خلال المدّة المتراوحة بين سنة (1980م) وسنة (1985م)، بين دفتي كتاب. الأهمية في هذه التجربة تكمن في اعتقاد الخطيبي بمعطيات عديدة أهمها: أولاً: كون الخطيبي كاتباً، وجاك حسون محللاً نفسياً، والمعطى الثاني يتحدّد في كونه ينتمي إلى أسرة مسلمة من المغرب، والآخر إلى أسرة يهودية من الإسكندرية، في مصر، ثالثاً: إنّ لغتهما الأصلية هي العربية، ولغتهما الثانية، وكذا لغة الكتابة لكليهما، هي اللغة الفرنسية.
الكتاب صدر سنة (1985م) تحت عنوان: (نفس الكتاب) (le même livre). وهو كتاب -يقول الخطيبي- أتاح للصديقين فرصة التحاور حول مواضيع عديدة من أبرزها الصراع العربي-الإسرائيلي. وما يميّز الكتاب -حسب الخطيبي- أنّ كلّ مراسلة تحمل قضيّة ما، أو إشكاليّة ما، أو موضوعاً معيّناً، يطرحه أحدهما، وعلى الآخر أن يستفيض في الإجابة والتعبير عن رأيه، أو موقفه. وفي هذا الإطار، ذكر الخطيبي مثالاً لهذا، فلما سأله صديقه جاك حسون عن شعوره حول هجرة اليهود المغاربة من بلدهم المغرب، أجابه بأنّه تأسّف كثيراً لقرارهم هذا.
وفي الفصل نفسه، قام الخطيبي بإعادة نشر المقال، الذي يحمل العنوان الآتي: (رسـالة إلى مـناضل شــاب) (Lettre à un jeune militant)، والذي سبق أن نُشر في مؤلّفه: (التناوب والأحزاب السياسية)، الذي صدر سنة (1998م).
10
الهوية اللينة
عاد الخطيبي ليتكلّم، في هذا الفصل، عن أهمية السيرة الذاتية، مؤكّداً أنّه يعشق نسيان الذكريات، وفي الآن نفسه، يُعبّر عن رغبته الدائمة في أن تقوم الذكريات ذاتها بالقدوم نحوه؛ لأنّه يريدها أن تكون مرنة. وهذه لذّة ما بعدها لذّة في نظره، لاسيّما عندما تمارس هذه اللعبة حسب المراحل العمرية.
تناول الخطيبي، أيضاً، في هذا الفصل، مرحلة الطفولة، مذكّراً بأنّ ترتيبه في مستوى أوسط بين أخويه، اللذين يكبرانه سنّاً، وأختيه، اللتين يكبرهما سناً؛ وأنّ مستواه التعليمي الأعلى من إخوته، جعله يشكّل للأسرة "ولياً رمزياً". تحدّث، أيضاً، عن السفر وسحره في معرفة الآخر، والتعلم، واكتساب معارف جديدة.
السفر، في نظر الخطيبي، اكتشاف، ومعرفة، وتقويم للحاجز الذي يوجد أمام طريقك نحو الآخر. أن تبحث لمعرفة الآخر يعني أن تبحث عن الإنسانية المقنعة بالأخطاء وبعدم الاكتراث.
في موضوع السفر، دائماً، يشير الخطيبي إلى أنّه، في كلّ اكتشاف لبلد جديد، يشعر بأنّه وُلِدَ من جديد، أو تجسَّدَ في شخص آخر. وفي رمشة عين، يصبح سويدياً في ستوكهولم، ويابانياً في نارا، وفرنسياً في زنقة ما في باريس القديمة.
11
الرغبة في الاستنساخ
تحدّث، في هذا الفصل، عن التصوير (la photographie) كآلة قادرة على استعادة الزمن، وقادرة، كذلك، على أن تصنع سينوغرافيا النشوة انطلاقاً من الماضي، ومن الذاكرة الافتراضية. ولهذا، المصوّر، في نظر الخطيبي، شخص باحث عن النشوة.
ودائماً، فيما يتعلق بولعه بالتصوير، بشكل عام، تحدّث الخطيبي عن رحلته إلى طوكيو في شهر آذار/ مارس (2007م)، في إطار مشاركته في الندوة الدولية، التي كانت تحت عنوان: (المثقفون في القرن الحادي والعشرين)، حيث قام بتجربة (Interimage) مع صديقه الفنان الياباني مينول كوباياشي (Minol Kobayachi)، بعد انتهاء أشغال الندوة. وتمثّلت هذه التجربة في قيام صديقه، الذي يعيش في فرنسا، بتصويره بوساطة كاميرا الفيديو. وكان هذا التصوير يتمّ بطريقة سريّة.كان يتركه في شارع ما، أو في زنقة ما، ثمّ يشرع في تصويره من بعيد.
بعد اليابان، يضيف الخطيبي أنّه أقام في شيكاغو لمدة ثلاثة أسابيع، حيث قام مخرج سينمائي مغربي في المدينة نفسها بتصويره هو أيضاً. وفي إطار هذه التجربة، يقول الخطيبي إنّه أُتيح لهؤلاء الفنانين من الشرق ومن الغرب تأطير هويته اللينة من خلال كاميراتهم.
بالنسبة إلى الخطيبي، تُعَدُّ لعبة المرآة هاته خطيرة؛ لأنّها تضاعف من احتمال أن تصبح "انعكاساً ضائعاً" في عيون الآخر.
خاتمة:
باعتبار (الكاتب وظله) آخر مؤلَّف للكاتب عبد الكبير الخطيبي، فهو يمثّل، في نظري، امتداداً نوعياً ومهمّاً لمشروعه الفكري والأدبي. أهمية الكتاب تتجلّى، أيضاً، في كونه عبارة عن سيرة ذاتية وثقافية تمّت صياغتها بطريقة فريدة من نوعها لكاتب معروف بقلّة حواراته. ومن ثمّ، هذا المُنْجَز رصد عدة محطات في حياة الكاتب ابتداءً من الولادة، مروراً بمتابعة دراسته العليا في فرنسا، ورجوعه إلى المغرب، وبعدها أفاض الكاتب في الحديث عن العديد من الأحداث المهمة التي مرّ بها، والتي ظلّ بعضها غامضاً، أو مسكوتاً عنه، من قبيل إغلاق معهد السوسيولوجيا سنة (1970م). كما ركّز الكتاب على العديد من المسارات الفكرية والثقافية، التي مرّ بها الخطيبي. ولا بدّ، في الأخير، من تأكيد تميّز الكتاب بفرادة اللغة المستعملة فيه، كما في سائر مؤلفات الخطيبي، حيث تتّسم بسحرها، وجاذبيتها، وعمقها، وجمالها.
هــوامـش ومراجـع:
- Khatibi, Abdelkébir. Le scribe et son ombre, Paris, Éditions de La Différence, 2008.
- Khatibi,Abdelkébir. La Mémoire tatouée, roman, Paris, Denoël, coll. Lettres Nouvelles, 1971 et Poche Coll.18/18, 1979.
- Khatibi,Abdelkébir. Pèlerinage d'un artiste amoureux, roman, Paris, Éditions du Rocher, 2003, Poche, Le Serpent à plumes, coll. Motifs, 2006.