الكسندر جيفن: القرن الحادي والعشرين عصر الدمقرطة الحقيقية للكتابة
فئة : حوارات
احتفاء بإصدار العدد الأول من "المجلة الأدبية الجديدة" (Le Nouveau Magazine littéraire)؛ كنسخة جديدة من "المجلة الأدبية" (magazine litteraire) الفرنسية العريقة التي تصدر منذ سنة 1966، تقدم أسرة التحرير حوارا مطولا مع الناقد الفرنسي "ألكسندر جيفن" (Alexandre Gefen) صاحب أحد أهم الكتب إثارة للجدل مؤخرا في المجال التداولي الفرنسي، والذي يثير ضمنه مسألة وظيفة ورهان الفعالية الأدبية العليا في علاقتها بالأدب الشعبي وأدب العموم: "ترميم العالم: الأدب الفرنسي في مواجهة القرن الحادي والعشرين" (Réparer le monde. La littérature française face au XXIe siècle).
"يمثل القرن الواحد والعشرون عصر الدمقرطة الحقيقية للكتابة؛ بفعل الرقمنة والإنترنيت"*
حوار مع الناقد الفرنسي ألكسندر جيفن**
في كتابه الأخير، "ترميم العالم"، يستكشف ألكسندر جيفن الأدب المعاصر من خلال منظور الخيال العلاجي الجماعي. إنه يقارب "تناسي التاريخ العظيم" مثل كتاب "الأدب المقيد" ويتساءل عن حاجتنا للكتابة والقراءة.
ماري فوكيه: في كتابك الأخير، نجدك تجعل من الأدب تخصصا مغرقا في الفضائل التعويضية وقوة مقاومة للأمراض، في إطار التحليل المتواصل لأعمال العظماء مثل سونتاغ أو فيرجينيا وولف، تجعل من المرض نفسه "تجربة شاعرية". ما هي مقومات وإمكانات "العلاج الأدبي" [أو التداوي بالأدب]؟
ألكسندر جيفن: تعود الفكرة القائلة بأن تجربة المرض يمكن علاجها بالكلمات إلى حقبة الفلسفة الحديثة مع كل من مونيتن وباسكال؛ أو حتى إلى جذور الفلسفة اليونانية. أصبحت هذه الوظيفة مدرجة ضمن نسق عالمنا المعاصر، لدرجة أنه أصبح لدينا "طبيب سردي" (médecin narratif) يشتغل حول سِير وحكايات الناس ويرافقهم بالكلمات. هناك علاج فني في الرعاية التلطيفية، كما أن الكتابة العلاجية من المفترض أن تساعد الناس على الاستعداد لمواجهة الموت. ما يهم هو أننا في مرحلة يتم بموجبها تداول هذه الأفكار والترحيب بها من قبل الأطباء، الذين يستخدمون القص والرواية لشفاء مرضاهم. يبدو إذن أن الأدب أصبح الطريقة العلاجية المتبقية، حينما تعجز كل الطرائق العلاجية الأخرى عن أداء وظيفتها. من خلال وجهة النظر هاته، كثيرا ما نسلط الضوء على حالة ضحايا الاعتقال الذين لم يكن لهم سوى هذا السلاح [الكتابة والأدب]. إنه السلاح النهائي لحرية الإنسان.
ماري فوكيه: تتحدث كثيرا عن الصدمات النفسية؛ وخاصة ثقافة الصدمة التي تطبع عصرنا الحالي. ما الصدمات التي يمكن أن تتطلب استجابة وحضور الأدب؟
ألكسندر جيفن: استخدمت هذا الأمر مؤخرا في مقال لي بجريدة اللوموند الفرنسية، بعيد نشر قائمة المائة بالجريدة، على أمل أن أشرح وأبين أن ثقافة الصدمة قد غزت الفضاء المعاصر مع فكرة أنني سعيت إلى مواجهة هذه الثقافة من خلال تثمين حرية الإزعاج. لكن في المقابل، أريد أن أوضح أنني لست من أجل حرية الإزعاج. إنني لا آخذ بثقافة الصدمة، وإنما أسعى إلى تحليلها وتفكيكها. في الواقع، تعد ثقافة الصدمة الفردية والصدمة الجماعية، وتعريف الذات كفرد مصدوم أو فرد مرن، من المواضيع الحاضرة بشكل قوي في فضائنا المعاصر مهما كانت طريقة تفكيرنا ونظرتنا للأمور. غالبا ما تكون مشاريع الكتابة تعبيرا عن صدمة أصيلة. ينطبق هذا الأمر على الكتاب الكبار مثل "إيمانويل كارير" (Emmanuel Carrère) الذي يقول، في "حيوات أخرى غير حياتي" (D'autres vies que la mienne) "إنه من الأفضل أن نتكلم" مع الأشخاص المتواضعين فقط. إننا نواجه هذا الإغراء الذي يمكن أن يقلقنا بخصوص قدرته على قفل الفردي فينا بعد الصدمة.
ماري فوكيه: مع ذلك، ينتمي هؤلاء المائة الموقعات- الصحفيات والمحررات والممثلات والمضيفات الإذاعيات- إلى ثقافة تسمح للمرء بأن يعبر عن نفسه ويقرأ وينظر ويعترف بذلك ...
ألكسندر جيفن: لأنهن من النساء اللواتي فزنا، انتصرنا ويدعون الأخريات للقيام بالمثل. لكن لا يمكن للجميع تحمل [تكاليف] ذلك. أعتقد أن هدفهن يكمن في التنديد بثقافة الضحية والتطرف؛ يتفق الجميع على شجبهما. لقد تحالفوا، بشكل متناقض، على التحليل النفسي - الذي ما فتئ يذكرنا بأن هناك حياة جنسية في كل مكان- وعلم النفس التطوري لـ "بيجي ساستر" (Peggy Sastre)- الذي يذكرنا بوجود توجهات منطقية في الإغواء لا نستطيع إنكارها أو التخلص منها. لكن مع ذلك، لازال التغاضي على العديد من مطالبهن قائما.
في نفس السياق، هل يسعى كتابك، الذي يحاول بناء تحليل لمكانة الأدب في المجال المعاصر من خلال دمج ما يسمى بالأدب "الشعبي"، معالجة قضايا "أولئك الذين لا يمتلكون وسائل" للتعبير، النشر أو الولوج إلى الثقافة الأدبية؟
ما أدهشني أن كتابي عرف نجاحا كبيرا خارج الدوائر الأكاديمية. إن القضايا الأدبية تهم الناس، بمن فيهم أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى "الأدب العالي" أو "الأدب المقيد" (littérature restreinte) كما يقول بيير بورديو. يجدون أنفسهم حبيسي الفكرة القائلة بأن الكتّاب لديهم أيضا مهنة للقيام بها على أحسن وجه، وليس مجرد تعذيب عقولهم وأرواحهم. لمرة واحدة ليخرج أحد الكتاب من فضائه الجمالي المجرد ويدرجه في سياق الاعتيادي، المألوف وفي سياق الحياة. لدي رغبة حقيقية في فتح الحقل الأدبي –حتى كلمة "الأدب" نفسها- في إطار مؤلفات أدبية موازية (paralittéraires). أدير حاليا مشروعا حول الكتب الأكثر مبيعا في مجال أدب الهواة: ما يكتبه الناس على موقع "واتباد" (Wattpad) والذي يندرج في إطار ورشات الكتابة. يكتب الناس بشكل كبير، لكن لا أحد يتحدث عن ذلك.
ماري فوكيه: في الصفحات الأولى من كتابك، تتحدث عن الرقمنة والشبكات الاجتماعية. هل تنظر إلى الإنترنت كفضاء لإعادة تشكيل المعرفة والكتابة الأدبية؟
ألكسندر جيفن: لنأخذ موقع "ويكيبيديا" على سبيل المثال. يظهر أن الهواة قادرون على التنافس مع المتخصصين والخبراء. أعتقد أننا نشهد حركية حقيقية بفضل الرقمنة تمثل دمقرطة للكتابة بعد حركية القرنين الثامن والتاسع عشر التي كانت متمحورة حول القراءة. اليوم، يبحث الجميع عن كتابة قصصهم وروايتهم، سواء كانت ترجمة لسيرته وحياتهم الشخصية أو مجرد سرد خيالي. اختار آخرون من الإنترنيت فضاء لتفجير قدراتهم الشعرية، والبعض أصبحوا كوميديين على شبكات التواصل الاجتماعي... يظل هذا الاستثمار في الكتابة مثيرا للاهتمام. تدفع قيود تويتر والفيسبوك إلى البحث عن مزيد من التألق من خلال الكلمات؛ يتناسب الاعتراف الاجتماعي مع الابتكار اللفظي.
ماري فوكيه: هل يتعلق الأمر بعلامة - عل سبيل المثال، ازدهار القراءات والعروض الأدبية على خشبة المسرح- على نهضة [جديدة] للأدب؟
ألكسندر جيفن: أضحى الأدب مفعما بالحياة من جديد؛ فهو يُستثمر في الوسط، القراءة، القول وتشكيل موضوع للقاء والتعارف. يصبح الكاتب شخصا يمكن الحديث معه والإصغاء إليه أثناء عرضه لنصوصه؛ والشعر في طليعة هذه الظاهرة. لم يعد الشاعر ذاك الشخص الذي نقرأ له لوحدنا تحت شجرة، ولكننا نسمعه على المنصة أو الركح –في مكان جديد بالنسبة إليه وإلينا- الأمر الذي أسهم في خلق مجتمع جديد لتلقي الشعر: هناك مثالية شعرية اجتماعية جديدة آخذة في الظهور والتطور.
ماري فوكيه: ما هي ردود فعل الدوائر الجامعية حول صدور كتابك؟
لقد اتهمت بدفن الأدب. في فرنسا، يُنظم الحقل الأدبي بشكل عمودي، من خلال أرستقراطية الكتاب، والقول بفكرة أنه بإمكان أي كان أن يصير كاتبا تزعج أو تغيض البعض. ليس من السهل سماع وإسماع فكرة أن الأدب خير مُشترك يمكن تقاسمه خارج المجالات التي تقع على عاتقها مهمة التحديد والتعريف الاجتماعي؛ على أي حال، ليست للجامعة ولا لما يسميه "بيير ميشون" (Pierre Michon) بـ "الأدب الأدبي" (littérature littéraire)، ولكن لتلك الجهة التي تدعي [الوصاية على] الطابع الفني.
ماري فوكيه: أليس من الصعب على كاتب أن يقبل أن تقدم تعريفا للأدب؟ ألا يعني الأمر في الواقع موت الأدب [والأديب]؟
ألكسندر جيفن: في الواقع، هناك مثل أعلى للأدب أشبه بنمط الدين الذي تطور خلال القرن التاسع عشر. يتحدد الأدب من خلال حياتنا؛ إنه مهنة وأشياء ننظر إليها في إطلاقيتها. يمكن للتخلي عن المطلق ولمسته اللانهائية التي تطبعها الكتابة أن ينظر له بمثابة خسارة. لقد تعرضت للنقد لأنني أنقل الأدب إلى جانب الفعل "الشعبي". وعلى العكس من ذلك، اتهمت بعدم التجرؤ على القول بأن الأدب يُفقد أثناء عملية المرور هاته. يمكنني القول [والاعتراف]، حينما يتعلق الأمر بمسألة الإيمان بالأدب، بأنني "خنت" هذا المبدأ الأعلى.
ماري فوكيه: لكن، يمكننا التأسف حول مسألة أن العديد من كتاب "الأدب المقيد" غير معروفين لدى العامة وأن قائمة أفضل الكتب لا تستجيب لمتطلبات الأدب؟
ألكسندر جيفن: يتعلق الأمر بمراقبة الحدود والاستعمالات المتغيرة والمتحولة باستمرار؛ إنه أكثر من تحليل لتمثلاتنا حول الأدب. تؤثر هذه الظاهرة على "الأدب العالي"، حيث يمكن لقراءة "باسكال كويغنارد" (Pascal Quignard) و" بيير ميشون" (Pierre Michon) أن تجعلنا سعداء. يحدث ما يشبه المساعدة، المرافقة، التقاسم والعلاج، الحوار بين الكاتب والقارئ. لكن، ليس الأمر عينه في حالة كتاب الاحتجاج أو الانسحاب، والذين يغذون أفق كاتب سيختفي في نهاية المطاف، المحكوم عليهم بالاستهلاك من خلال إعادة إحياء قلقهم الخاص في الكتابة.
ماري فوكيه: يمثل الأدب الذي تقدمه نقطة تلاقي وتوفيق بين عالمين أدبيين مختلفين: عالم الكتاب الكبار وعالم الأدب الشعبي.
ألكسندر جيفن: إن الأدب هو الذي يتوسل الأبدية ويأخذ على عاتقه مهمة استثمار مختلف الوسائل الكفيلة بإذاعته. يميل زماننا إلى القول بأن الأدب يتدخل من أجل ترسيم الكلمات ووضعها، حيث يعجز خطابنا عن ذلك. كان هناك سؤال واحد صَعُبت الإجابة عنه لفترة طويلة، ويرتبط بمعرفة ما إذا كان الأدب تواصلا: هل يستخدم للتواصل، للتحدث مع شخص ما، حل مشكلة والتحدث مباشرة مع العالم أم أنه، وعلى العكس من ذلك، يستخدم للعب بالاعتماد على اللغة كوسيلة تعبيرية. مع ذلك، يتعلق الأمر باقتران غريب نوعا ما، في الوسائل والغايات، حيث يبحث الأدب [والأديب] عن الإذاعة [الأداء] وفي الآن نفسه يربط نفسه بالتفكير والتأمل.
ماري فوكيه: تتحدث هنا عن الأدب الأدائي (la littérature performative). هل يمكن للأدب في رأيك، أن يكون له تأثير سياسي في العالم؟
ألكسندر جيفن: لا ينفصل الأدب عن قضايا التشغيل، البطالة، التهميش، الضواحي... هل يمكن أن يشكل هذا الأمر جزء من الفعل السياسي؟ بمعنى واسع، أعتقد أن الأمر صحيح. لكن، لا يعني ذلك أن يضع الأدب نفسه في خدمة الايديولوجيات الكبرى وسعي الطبقات الاجتماعية نحو الثورة. نادرا ما نصادف نمط الانسحاب المفتوح؛ حتى في حالة "أرنو برتينا" (Arno Bertina)، في "قلاع تحترق" (Des Châteaux qui brûlent)، الذي اهتم بظروف العمل في إطار خطاب تحليلي أكثر منه خطاب انسحابي مفتوح. لقد وضع الكلمات على الأشياء التي لا تستطيع دوما حملها أو مرافقتها. فهل يمكننا إذن أن نتحدث عن ميكروسياسة وسياسة للظروف؟ ربما. قد يتقابل ذلك أيضا مع تعليم الالتزامات التي أصبحت الآن أكثر براغماتية، انطلاقا من النظريات الكبرى. من خلال وجهة النظر هاته، لم يستهلك الأدب من خلال هذه الكينونة البراغماتية الأكثر تجريبية خلال الفترة المعاصرة. بالنسبة إلى توقع الكتاب بخصوص وجود عمل سياسي ملموس [ضمن العمل الأدبي]، يمكننا أن نأخذ حالة "ديدييه دينينككس" (Didier Daeninckx) الذي يتحدث في روايته الاستكشافية (Le Retour d'Ataï) (2002) عن رأس "أتاي" الذي تم نقله من الكاناك (Kanaks) خلال الاستعمار إلى متحف التاريخ الطبيعي. لكن، بعد سنوات عاد الرأس إلى التراب الكوناكي (بفضل تأثير روايته).
*- المصدر:
Le Nouveau Magazine Littéraire n° 1 - Voyage au cœur des nouvelles utopies, mensuel NML N°1 daté janvier 2018
https://www.nouveau-magazine-litteraire.com/idees/alexandre-gefen-litterature-arme-ultime-liberte-humaine#
**- Alexandre Gefen, Réparer le monde. La littérature française face au XXIe siècle, Alexandre Gefen, éd. José Corti, 2017, 370 p.