الكورونا: ماذا تبقى من الموتى؟
فئة : مقالات
في كتاب بعنوان "حيّ حتى الموت"[1] يعلن بول ريكور: "وحدهم الثكلى من ستتم مواساتهم"، وكأن ريكور يحرجنا بسؤال حول ماهية الموت، لكن من خارج دائرة الموت نفسه؛ فالثكلى هم الباقيات بعد الموت، هم الحاضرون هنا بوصفهم شهودا على الموت، لتكون وظيفتهم سرد رواية حول الموتى. هم إذن يبلغون رسالة الموتى على ألسنتهم، مثلما كان هرمس رسول الآلهة، فإن الثكلى هم رسل الأموات، هم من يربطون بين عالم الأموات وعالم الأحياء. إن هذا الإعلان يجعلنا نستأنف الحديث مرة أخرى عن الموت بوصفه انقطاعا عن الوجود، إلا أن الصعوبة التي تواجهنا هو أن الموتى لا يتكلمون، هم لا يرون قصص موتاهم، وحدهم الناجون يفعلون ذلك، وحدهم الباقون على قيد الحياة يحدثوننا عن الموت، عن تجارب البقاء والصراع ضد الموت. يمكن أن نترجم المشكل إلى السؤال التالي: كيف يمكن أن نصوغ سرديتنا حول الموت؟ هل الموتى يهتمون بموتهم؟ كيف السبيل لتفكير في الموت، ونحن على قيد الحياة؟ وكيف نفهم جدلية الخلود والموت؟
الموت بين الذاكرة والنسيان
إن التفكير في الموت بوصفه نقيضا للحياة، يجعلنا نتساءل على النحو التالي: ماذا تبقى من الموتى؟ وتكون الإجابة المؤقتة، إن كل ما تبقى منهم هي تجارب "حدثت في زمن سابق"، يرويها أحد الشهود في شكل استحضار لذكريات. ومن الطرافة، أن نعثر في التراث الإغريقي على تصور حول الذاكرة على أنها مرتبطة بالأساس بليثي Léthé؛ إذ نعثر في كتاب تحت عنوان: "ليثي في فن النسيان ونقده"، أن ليثي حسب الميثيولوجيا اليونانية ترمز إلى "نهر في العالم السفلي من شرب منه فقد ذاكرته يقابله نهر يدعى Mnémosyne من شرب منه عادت إليه ذاكرته، وصار عليما بكل شيء."[2]
يستوجب الحديث عن الذاكرة مباشرة الحديث عن النسيان، إذ إن عملية التذكر هي هروب وفرار من حالة النسيان، فتذكر الموتى هو تحريرهم من دائرة النسيان بما هي غياب وإحضارهم إلى الزمن الحاضر. كل الثكلى أو الناجين أو الباقين على قيد الحياة هم حراس للذاكرة، هم يؤرشفون ويخزنون ذكرى عن موتاهم، هم إذن في حالة صراع دائم ضد النسيان. بهذا المعنى، يصبح النسيان وجها من وجوه الموت؛ فمن هم الأموات في حقيقة الأمر؟ هل يكفي أن يتحلّلوا بيولوجيا حتى يكتمل موتهم؟ أم إنهم يموتون فعليا، عندما تنقطع علاقتهم بعالمنا الواقعي؛ أي عند خروجهم من حقل الذاكرة ودخولهم حقل النسيان؟
إن استرجاع الذكرى هو أن نحفظ من تم دفنهم من الاندثار؛ فمثلما كان هيرودوت وهوميروس يحفظان الذاكرة الإغريقية من النسيان من خلال الأشعار والحكايات عن الإلهة وأنصاف الآلهة والبشر الخارقين، والتي لا تتمثل في سرد أحداث وتأريخها فقط، بل إنها تصور لنا ذاكرة المدينة ونمط عيش الإغريق كنوع من السردية التي تشتغل على خلق تصور لما- بعد الموت، يسعى كذلك الإنسان الحديث إلى إيجاد خطاب مناسب يحرره من العدم من ما بعد الحياة. وفي الوقع، إن الإجابة عن سؤال الما- بعد قد وجد أفقين يتمظهر من خلالهما؛ هما الدين والعلم.
الموت في السردية المعاصرة
نحن اليوم، نقف أمام "موت معاصر" يشتغل داخل مجال العلم، ولكنه يفرض هيبته وسلطانه على باقي مجالات الحياة الأخرى، بل حتى إنه "يفرض عليها حجرا صحيا". إنه موت يعرقل السير الطبيعي للحياة بل يؤجلها إلى أجل غير مسمى. لم نعد اليوم نتحدث عن الموت بالمعنى التقليدي للكلمة، الموت الميتافيزيقي، حيث يتدخل مفهوم القدر والواله في حياة الإنسان وموته، بل توجهنا اليوم إلى موت الفيروسات والأوبئة، إلى الجانب الخفي واللامرئي في العالم، وكأن الإنسان أضحى في حرب مع عدو خفي يزرع الخوف والهلع فيه، لأنه ببساطة غير قادر على إحاطته داخل مجاله النظري.
في مقال للمفكر التونسي فتحي المسكيني تحت عنوان: "الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة"، يعلن الكاتب منذ بداية النص، الإعلان التالي: "في سنة 1892، تم اكتشاف "الفيروسات" ودخلت الإنسانية تاريخا جديدا لمعنى الحياة."[3] إن الدخول إلى عالم الفيروسات يجعلنا صلب سردية أخرى من تاريخ الإنسان، فهي لحظة تعتبر بمثابة المنقلب أو المنعطف في تاريخ العقل البشري وخاصة العقل العلمي بالأساس، فها هي اليوم أصغر المخلوقات المتناهية في الصغر قادرة على إحداث الفوضى، وإثارة البلبلة داخل العالم كله، بل ذهبت إلى حد إدخاله في نوع من العزلة الإجبارية.
ربما يكون الكورونا هو المقلب الذي سيشرخ تاريخ البشرية، فنحن اليوم نصنف بوصفنا، إما مصابين أو بوصفنا ناجين مترقبين يملؤهم الخوف والفزع، حتى إن كتابة التاريخ يمكن أن يؤرخ لها كما في الثورات ما- قبل الكورونا فيروس - أو ما- بعد الكورونا فيروس-. ونحن نعلم أن كل الثورات هي تغير جذري، ولكن لا نعلم إن كانت إلى الأفضل أو نحو الأسوأ.
إن الأمر الأكيد هو أنه وحده رجل العالم من يستطيع أن يحدثنا عن هذا نوع من "الموت المعاصر"، فلا الإله ولا رجل الدين ولا الفنان ولا حتى الفيلسوف قادرون على الإجابة عن سؤال الأوبئة. طبعا، لقد أشار كانط إلى هذا الفصل بين "ما يقدم في حدود التجربة الممكنة" و"ما يتجاوز حدود التجربة الممكنة"[4]، وهو فصل بين رجل العلم والفلسفة، بين ما "نعرفه" وما نفكر فيه. كل الإجابات من نوع لاهوتي ميتافيزيقي هي غير كافية، كل الإجابات الإستيطيقية للفنان أو الشاعر ليست إلا مواساة للغير، وكل تفكير للفيلسوف ربما يكون عرضا، فلا معنى لأن تفكر والموت يقرع الأبواب، نحن لسنا في حاجة إلى الإيمان أو إلى خطب الأنبياء، ولسنا في حاجة إلى الحديث عن الجميل والقبيح كموضوع فني، نحن في حاجة إلى "المقاومة"، ولكن ليس بوصفها مقاومة تقليدية، أو مقاومة مسلحة ضد كيان أو سلطة ما، وإنما هي حروب المناعة ومقاومة التعقيم التي يفرضها العلم. وحده اليوم، رجل العلم قادر على تفسير وتحليل وتفكيك ما تمر به الإنسانية، في حين تظل كل الخطابات الأخرى ثانية وثانوية.
لكن هذا لا يعني أن نتوقف عن التفكير، فكما دعا كانط، كل ما لا نستطيع معرفته علينا التفكير فيه، وبما أن الفلسفة هي فن طرح الأسئلة، فإنه يتبادر إلى ذهننا مسألة الطبيعة الإنسانية في حضور الكورونا؛ إذ في الأزمات والمحن يظهر الإنسان على طبعه، وتطرح أيضا مسألة الأخلاق. من هنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل من الممكن أن يتحول الإنسان عدوّا لأخيه الإنسان في زمن الكورونا؟ هل الأسبقية للبقاء أم للأخلاق؟ ثم هل من فاعلية للخطاب الديني اليوم؟
الكورونا والطبيعة الإنسانية
في مقال للفيلسوف سلافوي جيجيك تحت عنوان: ""كورونا" ضربة للرأسمالية قد تعيد اختراع الشيوعية"، نعثر على ما يلي: "الانتشار المستمر لجائحة فيروس كورونا شكل شرارة لتفش هائل لعديد من الأوبئة الإيديولوجية، التي كانت كامنة في مجتمعاتنا: الأخبار الكاذبة، نظريات المؤامرة، انفجار السلوك العنصري، الحاجة للعزل الصحي، المبررة على أسس طبية وعلمية، لاقت صدى في الضغط الإيديولوجي الداعي لإقامة حدود واضحة، وعزل الأعداء الذين يشكلون تهديدا لهويتنا." [5]
إن هذا الإعلان الصارخ هو مناسبة جيدة للتفكير مرة أخرى في الطبيعة الإنسانية، ولكن ليس كما فعل فيلسوف الأنوار جون جاك روسو "فرضية المجتمعات آكلي اللحوم البشرية"[6]، ولكن الطبيعة الإنسانية تحت ضغط الخوف من "فقدان-الحياة". طبعا، إن أول ما نلاحظه هو حضور كم هائل من العبارات العنيفة من: "العزل"، "الضغط"، "الحجر الصحي"، "الانفجار"، "الانتشار"، "الغلق"، "الإبادة"، "الضحايا"، "إقامة الحدود"، و"التهديد"، كلها مصطلحات تعبر عن الوضع الراهن، وهي تنتمي إلى قاموس "الأوبئة الأيديولوجية"، وكما عبر عن ذلك جيجيك، هي مصطلحات ترسم لنا حربا أو معركة أولا ضد الفيروس، وثانيا ضد المصابين أنفسهم بوصفهم لا ينتمون إلى "النحن" ولا ينتمون إلى "الأغلبية"، بل هم ينتمون إلى الخارج، إلى الآخر الذي يهدد كياني ووجودي. إنهم ينتمون إلى حقل "الهم".
إن هذا الأمر يطرح مسألة كيفية التعامل مع المصابين؟ وهذا ما يطرح مشكلا قانونيا على صعيد الدولة-المصاب ومشكلا إيتيقيا على صعيد الناجي-المصاب.
هل على الدولة أن تتعامل مع المصابين على أساس أنهم "مرضى"، وبالتالي فهم لا يمثلون خطرا على المجموعة؟ أم إن عليها أن تتعامل معهم على أساس أنهم أعداء يمثلون تهديدا وخطرا على أمن وسلامة المجموعة؟
طبعا، إن مصطلحات من قبيل "الحجر" و"وضع الحدود"، تعبر عن درجة استنفار قصوى من قبل السلطة إلى حد أن بعض الدول ذهبت إلى اتخاذ إجراءات وعقوبات قانونية، على كل من لم يمتثل للحجر الصحي. بهذا المعنى، يمكن تصنيفهم على أنهم "مصابون مخالفون للقانون". إن السلطة لم تتخذ موقفا واضحا، فهي تعامل المصابين على أساس أنهم مرضى، وفي نفس الوقت على أساس أنهم تهديد. يبقى المشكل في الأسبقية، هل هم مرضى؟ وبالتالي وجب عزلهم، حتى لا يتحولوا إلى تهديد؟ أم إنهم تهديد لذلك وجب عزلهم؟ في إطار ضمان الاستقرار، وليس في إطار العلاج بوصفهم ينتمون إلى "المرضى".
على مستوى ثاني، ظهور ما يسميه جيجيك بالسلوك العنصري، وهذا ما يتعلق بعلاقة الأفراد بين بعضهم البعض، ويمكن أن يترجم في عبارات من قبيل "عدم الاقتراب"، "عدم اللمس"، "عدم التقبيل"، "الابتعاد بشكل أمن". كلها مصطلحات تصور الوضع الغريب الذي تعيشه البشرية إلى حد أن الآخر المغاير، قد يصبح تهديدا لسلامتي لمجرد أنه قام بالعطس في فضاء عام، بل يمكن أن يتحول مجرد السعال إلى نظرات الاتهام والدونية، بل إلى حد التجريم.
والمستوى الثالث يهم الخطاب الديني؛ إذ كيف يتعامل رجل الدين مع الوباء؟ لتكون الإجابة الصادرة عن دار الإفتاء هي تأجيل الدخول إلى ديانة معينة بسبب فيروس الكورونا، وإلغاء الرحلات لموسم الحج... من هنا يتحول الخطاب الديني إلى تابع للخطاب العلمي، بعد أن كان يعطي تمثلات حول البداية والنهاية وحول الأخلاق والمعاملات.
في هذا المستوى، يظهر مدى تفكك وهشاشة الذات الإنسانية عند الأزمات والمخاطر، ولكن طبعا هذه الأزمات مثلما عبرت عن التفكك، فهي أيضا تعبر عن الوحدة والتماسك، فها هو العالم موحد يحاول الخروج من هذا المأزق؛ فعلى حد عبارة سلافوي جيجيك: "ولكن ربما سينتشر فيروس أيديولوجي آخر أكثر نفعا. وعلنا نصاب به جميعا: فيروس التفكير بمجتمع بديل، يتخطى حدود الدولة القومية، مجتمع يحقق نفسه في أشكال التعاون والتضامن العالميين".
[1] بول ريكور، حي حتى الموت متبوعا ب: شذرات. ترجمة عمارة الناصر، منشورات الاختلاف، لبنان، 2016
[2] فتحي المسكيني، الهوية والحرية نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، لبنان، سنة2011، ص 229
[3] فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا من معارك الجماعة إلى حروب المناعة، الرابط:
https://www.mominoun.com/articles
[4] إمانوئيل كانط، نقد العقل المحض.ترجمة موسى وهبه، دار التنوير للطباعة والنشر، لبنان، 2015، ص 46
[5] سلافوي جيجيك، "كورونا" ضربة للرأسمالية قد تعيد اختراع الشيوعية، الرابط:
https://7al.net/2020/03/02/%D8%B3%D9%84%D
[6] جون جاك روسو، العقد الاجتماعي. ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، 2012، ص 33