اللامفكر فيه الإسلامي: ظاهرة الخطبة الجُمَعِيَّة أنموذجا
فئة : مقالات
ملخص:
إنّ موضوع خطبة الجمعة من المواضيع "المغلقة" وغير "مطروقة" من لدن الباحثين الاجتماعيين، بحيث نكاد لا نجد بحثًا سوسيولوجيًّا عنها في المكتبة العربية، وكل الإصدارات حول هذا الموضوع ما هي إلاّ امتداد لبعدها الفقهي/التعبّدي، لكن هل خطبة الجمعة خارجة عن سياقات الفعل الإنساني السياسية والاقتصادية والمجتمعية؟ إنّنا نود أن نفتح الباب ونزيل الحجب عما نسمّيه "اللامفكر فيه الإسلامي".
إنّنا بتوسيع الأفق لظاهرة "الخطبة الجُمَعِيَّة" يظهر لنا أنّها محل تجاذب وصراع، ومن ثمّ فإنّها تمثل خطابًا صادرًا عن فلسفة اجتماعية وسياسية، من خلال الموقع الذي تحتله في مختلف الأنظمة السياسية العربية والإسلامية وعبر مختلف الأطوار التاريخية التي مرّت بها.
إنّنا ننطلق من فرضية تقوم على أنّ خطبة الجمعة هي انعكاس للسلطة السياسية اتساعًا وانغلاقًا: اتساعًا نحو أفق رحب عقلي وحجاجي توعوي، وانغلاقًا: على رأي فقهي أو سياسي أو مذهبي.
تقديم:
لقد ارتبط الفكر الاجتماعي دائمًا بمسألة الحكم في المجتمع بحيث يضفي شرعية على حكم قائم أو ينتقده أو يطرح بديلاً عنه[1].
في التجربة الإسلامية تَدَاخَل الديني بالسياسي حتى يكاد لا يُرى فرق بينهما فصارت العديد من العبادات مداخل للسياسة وأسسًا يبنى عليها الحكم، فيعتني بها الملوك والزعماء والرؤساء وتصير رأسمالاً رمزيًّا للحكم، كما تصير العديد من أحوال السياسة وشؤونها دينًا يتقرب به إلى الحُكم، فتقام على ذلك الصراعات وتعقد المناظرات ويتسع مجال السجالات. هنا يكثر وينمو مجال خصب للبحث والتنقيب، إنّنا نسمي هذا المجال بـ "اللامفكر فيه"، حيث لم يطرقه الفكر الاجتماعي ومن ذلك ظاهرة الخُطْبَةُ الجُمَعِيَّة.
نسجل أولاً أنّ موضوع خطبة الجمعة من المواضيع "المغلقة" وغير "مطروقة" من لدن الباحثين الاجتماعيين، بحيث نكاد لا نجد بحثًا سوسيولوجيًّا عنها في المكتبة العربية، وكل الإصدارات حول هذا الموضوع ما هي إلى امتداد لبعدها الفقهي/التعبدي، لكن هل خطبة الجمعة خارجة عن سياقات الفعل الإنساني السياسية والاقتصادية والمجتمعية؟ إنّنا نود أن نفتح الباب ونزيل الحجب عما نسميه "اللامفكر فيه الإسلامي".
تتأسس الخطبة ابتداء على الفعل اللغوي[2]، والمقصود بذلك الوحدة التي بفضلها تحقق اللغة فعلاً بصيغة أمر، نهي، طلب، تصريح، تقريرُ واقعٍ أو نفيه، وغايتها تغيير حال المخاطبين. وكل فعل لغوي هو مندرج في إطار مؤسساتي مسيج بقيمتي المراقبة والعقاب بالنسبة إلى المشاركين في عملية التخاطب.
إنّنا بتوسيع الأفق لظاهرة "الخطبة الجمعية" يظهر لنا أنّها محل تجاذب وصراع، فإذا كانت السلطة السياسية تفرض نفسها من خلال هيمنتها على القاعدة الاجتماعية، فإنّ خطبة الجمعة ظلت من جهة أحد الثوابت المستقرة والمستمرة في التجربة السياسية الإسلامية المعاصرة.
إنّ الإشكالية التي نسعى إلى طرحها وتوجيه البحث نحوها هي: ما هي تجليات العلاقة بين الديني والسياسي في المجال التداولي الإسلامي من خلال نموذج خطبة الجمعة؟
إنّنا ننطلق من فرضية تقوم على أنّ خطبة الجمعة هي انعكاس للسلطة السياسية اتساعًا وانغلاقًا: اتساعًا نحو أفق رحب عقلي وحجاجي توعوي، وانغلاقًا: على رأي فقهي أو سياسي أو مذهبي.
أولًا: الأدوار السياسية للخطبة والخطيب
الخطبة الجُمَعِيَّة هي مركب وقائعي لفعلين متزامنين:
ـ الفعل الإنشائي: ويتمّ من خلال إنتاج متوالية من الأصوات ذات تركيب يحيل على معنى، فمن خلال الكلام تُنْشِئ الخطبة فعلاً أو سلوكًا لدى المتفاعلين، يُغَير، يحافظ، يُعَدِّل من العلاقات الاجتماعية أو السياسية أو الدينية القائمة[3].
إنّ الدور الإقناعي للخطبة يجعلها محطّ اهتمام الداعية والسياسي على السواء، فغايتها هي حمل السامع على التسليم بصحّة القول أو الفعل وصوابه أو عكس ذلك. فغاية الخطبة بذلك هي إذعان العقل وحمل الناس على فعل أو تركه.
ـ الفعل الإذعاني: يكون إمّا إذعانًا لنتيجة مبنية على مقدّمات ثبتت صحتها، وإمّا غايته إذعان العقل بصحّة المقول وصواب الفعل أو الترك بأقيسة مظنونة مأخوذة من المحتمل الراجح، أو مقبولة صادرة عمن يُعْتَقَدُ صدقه وسداد رأيه[4]؛
أمّا حمل الناس على فعل أو تركه، فهنا تتلخص كل معاني السلطة المنبرية الجُمَعِيَّة، إنّه الحكم أو النفوذ، أو القدرة، القسر (الفكري)، القوة أو ما يعبر عنه "روبير دال" بـ "مصطلحات النفوذ"[5] والصياغات التي يمكن للقوة ونظائرها أن تعبر عن نفسها بواسطتها[6]. وتترجم القوة هنا من خلال صورتين:
ـ الإقناع العقلاني: وهو أحد أشكال النفوذ يتم بواسطة الاتصال العقلاني وهو عبارة عن مجهود ناجح يقوم به خطيب الجمعة ليمكن المستمعين من الوصول إلى فهم الموقف أو القضية المطروحة من خلال مجموعة من المعلومات الصحيحة والحجج الدامغة.
ـ الإقناع الخداعي: إذا كان الإقناع العقلاني يمثل الاتصال العقلاني في أنقى صوره فإنّ الإقناع الخداعي هو صورة للإقناع غير الأمين، بحيث لا يتضمن النقل الصحيح للمعلومات أو قد يُفهم المتلقي فهمًا لا يتطابق مع الواقع سواء أكان ذلك لغاية سياسية (ثورية أو محافظة) أم دينية. وهي بحسب "دال" – أي عملية الإقناع الخداعي – تتمّ كالآتي: يقوم الخطيب بالتأثير على المستمعين عن طريق الاتصال يوم الجمعة من خلال استماعهم للخطبة بتشويه أو تزييف أو إسقاط جانب أو عدّة جوانب ممّا يعرفه الخطيب والتي إذا ما علمها المستمعون ستتأثر قراراتهم أو قناعاتهم وبالتالي سلوكهم جذرياًّ[7].
ويعود الفضل إلى الباحث "كوليلي" الذي استبدل عبارة "المرسل إليه" أو لفظ "المخاطَب" بلفظ "المتلفّظ المشارك"[8] للدلالة على أنّ التلفّظ هو عملية مشتركة بحيث يقدّم الطرفان معًا دورًا نشيطًا وتفاعليًّا: فعندما يتحدث المتلفظ – الخطيب في حالتنا – فإنّ المتلفظ المشارك –المسلم الحاضر يوم الجمعة- يتقمص دور المتكلم لتأويل الملفوظات وفي أحايين كثيرة يعيد صياغة التصور التفاعلي مع الخطبة بحيث يراقب يتوقف أو يصحح ما سمعه. بذلك تظهر الخطبة على أنّها فعل متعد وليس بلازم.
ثانيا: استقلالية الخطبة والخطيب
يرى جمال الدين القاسمي أنّ خطبة الجمعة في العهد الأول كانت لها مكانة عالية ومقام سَنِيّ، وكانت بيد الخلفاء الراشدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت عندهم موضع احتراس، ومن مظاهر الاحتراس أنّه كان يقام لخطبة الجمعة اتباع ومهابة لأنّها مقام دعوة ووعظ وتذكير، والتغيير الذي يعكس بدايات التحوّل الرمزي بين السياسي والديني حدث بقدوم الدولة المروانية ـ نسبة إلى عبد الملك بن مروان ـ خاصة بعد أن تولى الوليد بن عبد الملك بن مروان الخلافة والذي دشّن عهدًا جديدًا بعد أن بدأ يخطب جالسًا ترفّعًا، فأخذت الخطبة بعدها تضمحلّ وتتلاشى، ثم ترك الملوك الخطبة ووكلوها لغيرهم[9].
من هذه المرحلة شرعت السلطة السياسية تحدد مجال العمل الخطابي وتعيد تكوينه وتشكيله.
فعلى اعتبار أنّ الخطبة هي حلقة وصل بين جمهور وواقع، فإنّ الخطيب إمّا أن: "يرضي جمهوره بخطبة فيها نوع من القوة في النقد والإثارة حتى ولو كان حقًّا، ولكن دون رويّة أو تسييس، أو نظر في المقاصد والغايات، أو في حسن التوقيت، أو في الراجح من المصالح والمفاسد، أو في المندوحة عن الزج بالنفس في مثل هذا، أو أن يرضي طرفًا آخر غير الجمهور"[10]. لكن عليه أن يتحمل العواقب، وهنا يظهر ميزان القوة ما بين قوة المنبر وقوة السَطوة والسلطان، قال ابن القيم واصفًا أحول الخطباء في زمانه: "وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء(..) كما يطلب منهم شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه"[11].
وفي هاته الحالة يستعيض الخطيب ويلجأ إلى "الحِمَى اللغوية" فيعمل إلى التعريض في الخطبة. إنّ لجوء الخطيب نتيجة الظروف السياسية إلى التعريض أو المجاز، بما هو أداة التأويل الأساسية على قانون اللغة العربية[12] سينتج على مستوى الفهم صراعًا وتنازعًا نتيجة الفعل التأويلي. وهنا يقدم الحقيقة لكن مغلفة بقناع، أو تظهر الخطبة بهذا المعنى كقراءة مستترة للحقيقة[13].
تتحول بذلك الخطبة بما هي علاقة ما بين منطوق ومفهوم بالإضافة إلى عملية التبادل، في كثير من الأحيان، إلى علامات مستترة تلغي الواقع الحي وبتعبير "فوكو" فإنّها "تضع نفسها في مستوى الدال"[14].
ثالثا: الدعاء للسلطان بين النفي والإثبات
إنّ الخطبة تترجم الصراعات وأنظمة السيطرة: إنّها ما يصارع الخطيب من أجله وما يصارع به.
من هذا المنطلق اختلف الفقهاء في حكم الدعاء للسلطان على أقوال يمكن أن تُراجع في مظانها، لكن الشاهد من ذلك هو تبيان كيف أنّ الدعاء للسلطان بما هو شكل من أشكال الصفة الرمزية للخضوع شهد تنازعًا فقهيًّا بين مؤيد ومعارض، وسيتبين أنّ الأمر لم يكن فقط بتبني رأي فقهي يقضي بالدعاء له أو عدم الدعاء، بل إنّ الأمر لَيَصِلُ إلى الإكراه على ذلك.
لقد ذهب المانعون وعلى رأسهم عطاء بن أبي رباح، فقال: "هذا محدث لا أصله وأنّ الخطبة إنّما جعلت للتذكير"[15]. وكان العزّ بن عبد السلام يرى أنّ الدعاء للحكام في الخطبة بدعة غير محبوبة[16].
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وقد استثني من الإنصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى كلام لم يشرع في الخطبة مثل الدعاء للسلطان مثلاً"[17]، لكنه استثنى – أي ابن حجر – إذا ما خشي الخطيب على نفسه، وإذا لم يخش الضرر فلا يجوز له حينئذ[18]. يبين الجزء الثاني في ثناياه أنّ الإكراه على ذلك كان معمولاً به، والخشية على النفس قد تمتد ما بين سجن أو قتل أو تعزير... إنّها سلطة العقاب أو الإكراه السياسي في مقابل الفاعل الديني ممثلاً في الخطيب.
يظهر هذا النص أيضًا تَصَارُعَ الشرعيات: فشرعية الخطيب منبعها المنبر الذي هو مقام نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ ومن حاد على هذا الصراط وغَيَّر وبَدَّل فشرعيته الدينية منتفية، لكنّه في الآن نفسه –وهذه مفارقة- سيستمد شرعيته من تبعيته للحاكم، فتصير بذلك الشرعية الدينية ملحقة بالشرعية السياسية.
وهذا له شواهده، فلن يدخل أحد ويعتلي المنبر للخطبة إلاّ بعد أن يستجيب لمجموعة من متطلبات النظام، فالمؤهلات الشرعية والعلمية لم تعد المعيار الأوحد لاعتلاء المنبر، إنّها ما يمكن أن نطلق عليه "شروط الولوج" وهي ما يمنح في نهاية المطاف الخطيب النجاح والبقاء والاستمرار (أي شروط النجاح)، لكن يمكن أن نسجل أنّه ليست كل مناطق الخطب وأنساقها مفتوحة أو منغلقة بالدرجة نفسها وهي تبقى دائمًا قابلة للاختراق، ومن ثمّ تعيد تشكيل نفسها من جديد.
أما المبيحون فذهبوا أبعد من ذلك، فذهبوا إلى حدّ اشتراط إذن الإمام لإقامة الجمعة، فاعتبروها شرطًا، لأنه لا يقيمها إلاّ الأئمة في كل عصر[19]؛ وأما من لم يشترط إذن الإمام فذهب إلى أنّها من فرائض الأعيان[20] واستدلوا بوقائع لا تخلو من دلالة:
- إقامة علي للجمعة وعثمان محاصر، وقالوا أن لا أحد أنكر ذلك؛
- استدلوا أيضا بأنّه وقعت فتنة بالشام تسع سنين وعلى الرغم من ذلك كانوا يُجَمِّعُون؛
يعكس – في نظرنا – القولان معًا العلاقات الصراعية ما بين الحقل التفاعلي الديني والحقل السياسي: فالقول الأول يحيل إلى تبعية السياسي للديني أو لنقل تماهيهما، فهما يخرجان من بوتقة واحدة، الإمام الحاكم يقوم بأَمِّ الناس ويلقي خطبة الجمعة ثم يباشر فيما بعد أعمال الحكم. أما القول الثاني، فيحيل إلى الانفصال الذي بدأ يتشكل في العقل الفقهي ما بين سلطتين: السلطة الدينية والسلطة السياسية، فالسلطة الدينية هي سلطة ممتدة متصلة وغير منقطعة وذلك على خلاف السلطة السياسية المتغيرة والمتحولة والمنقطعة، فكيف يكون الممتد تابعًا للمنقطع، وبالتالي لم يروا في إذن الإمام شرطًا.
رابعًا: الأحكام السياسية للخطبة
للخطبة العديد من الأحكام السياسية إذا ما نظرنا إليها في إطار علاقة تفاعلية داخل المجتمع، والمقصود بالأحكام السياسية هنا ما تحدده وتفتحه السلطة السياسية من مجال للخطيب في تناول القضايا وطريقة التناول وأبعاده. إنّنا هنا بصدد إبراز العلاقات السلطوية المتبادلة ما بين شرعية المنبر والدعوة وشرعية الحكم والسلطة.
قد تبدو الخطبة في ظاهرها شيئًا بسيطًا أو مجرد طقس تعبدي يمر في اجتماع الجماعة المسلمة في ساعة محدودة على صفة مخصوصة، لكنّنا نرى أنّها أكثر من ذلك، إنّها تشكل أحد أشكال المنع والإباحة، وهي تكشف عن الارتباط الوثيق بالسلطة.
إنّ إنتاج الخُطب في كل مجتمع هو كما ذهب إلى ذلك "فوكو" إنتاج مراقب، منتخب، منظم ومُعَاد التوزيع من خلال الإجراءات الضبطية للسلطة والتي يكون دورها هو الحد من سلطاته وبالتالي المخاطر الممكن أن تنتج عنه، إنّه التحكم في المجتمع وبتعبير "فوكو": "إخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة"[21].
لقد صار الخطيب مستجيبًا لقواعد السلطة السياسية التي تسهر على انضباطه لها، مما يتعين عليه مراعاتها في كل خطبة من خطبه، وهو ما يجعله تحت طائلة المراقبة والعقاب التي تحيط بفعله الخطابي يوم الجمعة. إنّ مبدأ مراقبة إنتاج الخطاب يُعَيِّنُ للخطيب حدودًا فكرية تأخذ شكل عملية تغيير دائم للقواعد التي ينبغي مراعاتها. إنّها لعبة إجراءات السلطة التي تشكل سياجًا معقدًا يتم تحديثه ومراجعته باستمرار[22].
والأحكام السياسية للخطبة هي خمسة مرتّبة من المرغوب إلى الممنوع على النحو التالي:
الاستحباب: وهو أعلاها مرتبة وأقربها منزلة للصعود، وهو ما تُشجع السلطة السياسية الخطيب على تناوله وهذا يكون محل ثواب وتقريب وترقٍّ، مثاله التبشير بصفات الزعيم وإنجازاته، التأكيد على وجوب طاعته في المنشط والمكره.
الإباحة: وهو كل مسكوت عنه من طرف السلطة السياسية، كمواضيع الطهارة والحج وغيرها. لا يثاب آتيها ولا يعاقب تاركها، وهي بمثابة المجال الواسع للخطيب.
الوجوب: وهو أقلّها مرتبة وهو كل ما اقتضاه الحاكم على أمر الحتم والإلزام فلا يجوز للخطيب تركه بحال، وهو محلّ معاقبة إن لم يلتزم به، مثاله الدعاء له.
الكراهة: وهو مسكوت عنه لكن له ارتباط بالاختيارات الفقهية أو المذهبية للدولة وبالسياسات العامة التي تمس المواطنين، أو الأحداث السياسية الوطنية والدولية أو تأييد طرف أو فاعل سياسي، والخطيب في حالة تناوله يكون تحت طائلة العقاب.
المنع: إنّ الخطيب ليس له الحقّ في أن يقول كل شيء، كما لا يمكنه أن يتحدث عن كل شيء في كل ظرف، والمنع هو كل ما اقتضاه الفاعل السياسي على أمر الحتم والإلزام فلا يجوز للخطيب تناوله بحال، وهو تحت طائلة العقاب.
على سبيل الختم:
تظهر خطبة الجمعة أنّها على غير ما تبدو عليه أول مرة، إنّها بناء اجتماعي وعلاقات ما فتئت تتبدل وتتغير عبر الزمن.
ويفيدنا التطور التاريخي الذي مرت به ظاهرة الخطبة الجُمَعِيَّة أنّ فعل الخُطبة ليس له بنية قارة، إنّه بالأحرى عملية من التوازنات غير المستقرة بين قوى مختلفة (ضغط النص وفهمه، صرامة الواقع، جبروت السلطة، إلحاحيّة المطالب والانتظارات المجتمعية)، وهو أيضًا حقل غير متجانس، حيث إنّ هناك دائمًا مُهيمِنين ومهيمَنًا عليهم بحسب تعبير "كارل ماركس".
تترجم خطبة الجمعة أنظمة السيطرة داخل الدولة، على اعتبار أنّها فعل متعدٍّ، تتعدّى شخص الخطيب وزمان الخطبة ومكانها لتصل إلى المشاركين في التفاعل/التخاطب.
التحوّل الكبير هو حين صارت الخطبة الجُمَعية تمارس إكراهًا مؤسساتيًّا بحيث أصبحت الخطبة تخضع للتصنيف والتنظيم والتوزيع، فصارت بذلك شرعية الخطبة الدينية ملحقة بالشرعية السياسية وفرعًا عنها وخاضعة لأحكامها. هذه العملية تشكّلت عبر التاريخ الطويل للتجربة التاريخية الإسلامية خاصة ما بعد الخلافة الراشدة.
إنّ انقلاب العلاقة بين المجال السياسي والمجال الديني من خلال الأنموذج الذي تمثله خطبة الجمعة من شأنه أن يعيد ترتيب العلاقات من خلال المساحة التي يمكن أن يشغلها هذا الجانب أو ذاك في إعادة إنتاج المجتمع.
لقد صار لخطبة الجمعة دور "محرّك الشرعنة"، باعتبارها ممارسة تسهر عليها السلطة السياسية لفرض طاعتها والحفاظ على استمرارها، أو بتعبير آخر لجعل السلطة مرغوبًا فيها وتجعل الآخرين يدركونها باعتبارها ضرورة اجتماعية.
وعلى الرغم من أنّ الخطبة تظهر في صيغة "تعددية" لكثرة الخطب والخطباء يوم الجمعة غير أنّ هذه التعددية لم تأت بعدُ بالنتائج المطلوبة في بلورة مشاريع متماسكة بديلة، في إطار نُظم فكرية، على قدر التحدّي المجتمعي.
المراجع:
- سمير أمين، مناخ العصر: رؤية نقدية، مؤسسة الانتشار العربي، سينا للنشر، الطبعة الأولى 1999
- دومينيك مانغونو، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، ترجمة: محمّد يحياتن، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف الطبعة الأولى 1428 هـ / 2008 م.
- علي محفوظ، فن الخطابة وإعداد الخطيب، دار الاعتصام، 1984
- روبير دال، التحليل السياسي الحديث، ترجمة علا أبو زيد، مراجعة علي الدين هلال، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الخامسة، 1993
- سعود بن إبراهيم بن محمد الشريم، الشامل في فقه الخطيب والخطبة، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى 1423هـ/2003م.
- نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995
- ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، التنوير، ت. ن. غ.
- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، تقديم وتحقيق عبد القادر شيبة الحمد، مكتبة الملك فهد الوطنية، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 1421 هـ/ 2001 م.
- نزار بن عبد الكريم بن سلطان الحمداني، خطبة الجمعة: أحكامها وآدابها في الفقه الإسلامي، ت. م. ن. غ.
[1] سمير أمين، مناخ العصر: رؤية نقدية، مؤسسة الانتشار العربي، سينا للنشر، الطبعة الأولى 1999، ص 11
[2] الفعل اللغوي والفعل الكلامي أو الفعل الخطابي كلها بمعنى واحد. أنظر في ذلك:
دومينيك مانغونو، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، ترجمة: محمّد يحياتن، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف الطبعة الأولى 1428 هـ / 2008 م، ص 7
[3] دومينيك مانغونو، مرجع سابق، ص 12
[4] هذا التحديد تكلم به المناطقة، راجع في ذلك مثلا: علي محفوظ، فن الخطابة وإعداد الخطيب، دار الاعتصام، 1984، ص 13 وما بعدها.
[5] روبير دال، التحليل السياسي الحديث، ترجمة علا أبو زيد، مراجعة علي الدين هلال، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الخامسة، 1993، ص 23
[6] نفسه.
[7] روبير دال، مرجع سابق، ص 60
[8] دومينيك مانغونو، مرجع سابق، ص 14
[9] سعود الشريم، الشامل في فقه الخطيب والخطبة، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى 1423هـ/2003م، ص ص 39-94
[10] سعود الشريم، مرجع سابق، ص 35
[11] نفسه، ص 37
[12] نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، ص 6
[13] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، التنوير، دون تاريخ نشر، ص 26
[14] نفسه، ص 27
[15] سعود الشريم، مرجع سابق، ص 386
[16] نفسه، ص 387
[17] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، تقديم وتحقيق عبد القادر شيبة الحمد، مكتبة الملك فهد الوطنية، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 1421 هـ/ 2001 م، ص 482
[18] نفسه.
[19] بالنسبة إلى الأقوال الفقهية راجع بخصوص اشتراط إذن الإمام: نزار الحمداني، خطبة الجمعة: أحكامها وآدابها في الفقه الإسلامي، ت. م. ن. غ، ص 49
[20] نفسه.
[21] ميشيل فوكو، مرجع سابق، ص 4
[22] نفسه.