اللذة الوحشية في النصوص الأدبية: أو في تجميل القبيح
فئة : مقالات
ثمة بُعدان (+ بُعد ثالث سأتحدث عنه بعد قليل) في مقاربة المأساة الإنسانية على المستوى الأدبي [أُبْقِي على هذا الطرح في إطار الفعل المعرفي المُتنامي، حيث لا أقرّ على ما أنا بصدده إقراراً يقينياً، يقتل أية بادرة فعل معرفي جديد] والدفع بها قُدما في متن النص الأدبي:
أولهما مأتمي، جنائزي، أليم؛ إذ ينزح المرء ساعتها ناحية الإغراق في نوعٍ من الحزن الطافح، كتعبير ظاهر عن ألمٍ داخلي يعصف بالإنسان، نتيجة لحدثٍ ما، اصطلح عليه بالمأساة أو بالمصيبة. ولكم كان الإنسان ميَّالاً إلى أن يُضفي على مظهره منظراً عامراً بالحزن وما حفّ به من مظهريات أليمة، ساعة موت قريب أو فقدان حبيب أو حتى ساعة حدوث مصيبة عامة، كالحرب أو المجاعة...إلخ. في تأكيد منه على نوع من التعاطف السيكولوجي (المُتمظهر خارجياً) الضمني مع هذا الحدث الجَلَل. وقد كان للأدب أن يقول كلمته في هذا المجال، فقد كان "جلجامش" قد حزن حزناً كبيراً على موت صديقه ورفيق دربه "أنكيدو"، وجلس فوق رأسه يُعاين الجسد القوي، وهو يتهدّم ويتفسّخ، ويتحوّل إلى أثر بعد عين. وظهر مثل هذا الحزن أيضاً في رواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي، فقد استفظع راسكولينكوف الخطوة التي أقدم عليها وأدّت إلى حادثة قتل مزدوجة، وعمل على تفجير مكامن ضميره الأخلاقي، إلى حدّ أن حزنه طفح عالياً، مما جعله يعترف بجريمته التي ارتكبها بحقّ العجوز وخادمتها، ويقبل بالعقوبة التي وقعت عليه، نتيجة ما اقترفت يداه. وقد ظهر هذا الحزن أيضاً في النصّ القرآني ساعة طفح الكيل بيعقوب حزناً على ولده يوسف الذي تآمر عليه إخوته، فافترق عن والده سنين عديدة، مما جعل يعقوب يفقد بصره لكثرة ما بكى ولده. وأمكن أيضاً ملاحظة هذا النوع من المقاربات في كثير من النصوص الأدبية، قديمها وحديثها، إلى درجة قد تجعل منها السمة الغالبة في مقاربة موضوعة المأساة الإنسانية، نظراً للحمولة الواقعية التي تميل إلى الحزن في أوقات الألم والمصائب، أكثر من ميلها إلى الفرح.
وثانيهما لذّي، فرائحي، ضاحك؛ إذ ينزح الإنسان أو يميل في أوقات الشدّة والمأساة، إلى الضحك أو بالأحرى مداراة مأساته بالضحك، لكي لا يتلف نفسياً، ويسقط في براثن الحزن المُدمّر. فموت الأب أو الأم أو فقدان الحبيب أو الدخول في حرب أو مجاعة، قد يدفع الإنسان إلى البحث عن حيلٍ يُداري بها وحشة وقسوة الواقع الذي يعيشه. فقد تميل أمة من الأمم إلى مداراة الحزن الكبير بثقافة النكتة والتسرية عن النفس، كما قد يميل بعض الأشخاص إلى هكذا مَنَافِذ لكي يخرجوا من حالة الحزن الشديد. لكن في العموم، يبقى هذا النمط من مقاربة المأساة الأقل حضوراً، لذا تصير النماذج الأدبية في عموم الثقافة الإنسانية التي تقارب المأساة الإنسانية من زاوية الفرح، نماذج قليلة؛ فالحضور الطاغي هو للحزن والإغراق في الألم، نظراً للطابع الصارم والجِدِّي الذي انطبع عليه الإنسان لحظة تفتّق الألم إلى سياقاته الواقعية. لكننا لا نعدم مثل هذا النمط على الإطلاق، فتصرفات الـ دون كيشوت في الرواية التي حملت اسمه، كانت تصرفات ملهاتية على أحداث حزينة، فأن يخوض الدون كيشوت حرباً ضروساً ضد طواحين الهواء، على أساس أنهم غزاة، فذلك مشهد يسعى إلى مقاربة المأساة بالفرح والضحك. كذلك أمكن الحديث هَهُنا عن بطل رواية (المتشائل) لإميل حبيبي، فهو يُداري مأساته بالضحك، ويسعى إلى خلق بديل سيكولوجي عن الفظاعة التي يعيشها على أرض الواقع، كذلك أمكن رصد تصرّفات البطل في رواية (الطريق الوحيد) لـ "عزيز نيسين"، فالأحداث أليمة لكنها قُوربت مقاربة ملهاتية، تدفع القارئ دفعاً ناحية الضحك، رغم معرفته بالمصيبة التي حلّت بالبطل.
بإزاء النموذجين الأول والثاني، ثمة نموذج ثالث في مقاربة المأساة، يشتغل على فكرة تجميل القبيح أو إجراء تعديل جوهري على نمط الحياة الواقعية، وإضفاء نوعٍ من اللذاذة الأدبية على قباحة الفعل الواقعي، بما يجعل من النصّ الأدبي بديلاً عن الواقع المعيش، وذلك بإدخال القارئ في زمن موازٍ، ينتقل فيه من مرحلة الكابوس الحياتي الذي يُمثّل عالَم الشهادة بالنسبة إلى الحدث المأساوي، إلى مرحلة تفريغ حمولة هذا الكابوس، والتحايل على زمنه الحقيقي، بزمنٍ غيبي، ينقل الحدث المأساوي إلى حدث لذيذ، تحديداً لحظة قراءة تفاصيل هذا الحدث. بما يعني – من ضمن ما يعني- أن الأديب يتدخّل، لكي يُحدث تعديلاً على العالَم الذي يعيش فيه، أي أنّه يرفض حدثاً معيناً تجري تفاصيله في هذا العالم، ويحتجّ على صيغته الفاعلة، فيدفعه هذا إلى إنجاز عالم بديل، يعمل فيه على تهذيب الواقع وفقاً لرؤيته، وبما أننا بإزاء الحديث عن اللذة الوحشية أو تجميل القبيح؛ فالتعديل الذي يُجريه الأديب على العالم هو إحداث جرح في بنية الوحشية الواقعية والعمل على تعبئته بالملح اللذيذ!.
إنَّ الجمال الوحشي أو الخراب الجميل أو جعل القبيح جميلاً هو أحد الاستبصارات الأدبية العميقة لموضوعة الألم البشري، واجتراح كبير على مسيرة التطوّر (الجمالي/ المعرفي) الإنساني، لا سيما ما تواضع منه على هيئة نصّ أدبي. فتلك الجمالية المُفتقدة داخل سياقات عمل وحشي على أرض الواقع، تتحوّل في النصّ الأدبي إلى لذاذة معرفية. فالتطوّر الحاصل في بنية النص الأدبي، الذي يُقارب وحشية إنسانية على أرض الواقع، ويعمل على ترميزها في نصٍّ ما، سيضفي جمالاً ما على هذه السيرورة المُرعبة، لكي لا يهلك المرء بإزائها مرتين: مرة على أرض الواقع ومرة في النصّ الأدبي. بل إنه يعمل على تلطيف أجواء المحرقة الواقعية، ويضفي عليها طابعاً لذيذاً. لذا نجد لذة غاشمة في متابعة المأساة الأوديبية، حتى ساعة يعمل أوديب على فقء عينيه، كتكفير عن خطيئة زواجه بأمه وقتله لأبيه؛ فنحنُ ننتظر تطوّر الأحداث بشغف كبير من اللحظة الأولى للقراءة، وصولاً إلى لحظة التشوّف الكبير لأوديب وهو يفقأ عينيه، في مشهد ميلودرامي لا يستدر دموعنا فحسب – كتجلٍّ للمأساة التي حاكاها سوفوكلوس في عمله المسرحي البديع - بل يعمل على استدرار شغفنا بهذا العقاب المُروّع، فنحنُ سعداء بقدرة الأدب على تعطيل مسارات حياتنا الواقعية وزمنها الضاغط، ونقلنا إلى زمنٍ موازٍ، لا نعاين فيه المأساة بصفتها جزءاً من أحداث كثيرة تحفّ حولها، بل بصفتها (الكلّ) الذي تدور حوله الأحداث، وتدفق سيّالة في الزمن الداخلي للنص الأدبي، بما يعزلنا عمّا سواه، لذا يصبح التموضع في زمن المأساة المُتجلّي في النص الأدبي، عملاً لِذّياً بالنسبة إلى القارئ، حتى وإن حدث في هذا الزمن فظاعات مؤلمة لأبطال هذا النص. ولربما أمكن هَهُنا اعتبار فعل القراءة أحد الاستبصارات الكبرى في هذا العالَم، لما ينطوي عليه هذا الفعل من إمكان تجاوزي للزمن الواقعي، وقدرة القارئ على النظر إلى العالَم برؤية مغايرة لما هو عليه أساساً، وهذه المرة بإبداع إنساني خالص.
وأمكن رصد هذا النمط من الوحشية اللذيذة في أعمال شكلّ بعضها انعطافة في تاريخ الأدب العالمي، وكان أحد أبرزها هو مسرحية (أوديب ملكاً) لـ سوفوكلوس، التي لا زالت لا تقرأ حتى هذه اللحظة فحسب، بصفتها تحفة أدبية، بل تجاوزت ذلك واستندت عليها بعض العلوم في اجتراح مفاهيم جديدة، كما حدث مع سيغموند فرويد يوم أن أسّس عليها مفهومة لعقدة أوديب في مدرسة التحليل النفسي. ومنها أيضاً رواية (جوستين) للمركيز دو ساد، والتي شكّلت نمطاً بديعاً من الأدب اللذيذ، الآسر، حتى وهو يُقارب أعمالاً سادية ارتكبها بطل الرواية بحقّ الصبية جوستين، وقد كان لأحد المفاهيم الأساسية في المدرسة النفسية أن يتسقي أساسه من اسم المركيز دو ساد، لاسيما من عمله البديع (جوستين). كذلك أمكن رصد هذا النمط من الأدب الآسر في روياة (فرانكشتاين) لماري شيلي، وفي النماذج العربية لهذا النموذج أمكن رصد تأثير هذا العمل في روياة (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي...إلخ.
وعليه، فنحنُ أمام ثلاثة أنماط من مقاربة المأساة الإنسانية، أولهما وثانيهما قد يؤكدان موقفاً حِدّياً من الإنسان تجاه العالَم (وأنا لا أريد هنا أن أبتّ فيما هو قلق وغير ثابت، بتَّاً نهائياً، بل أبقي على ما أنا بصدده في طور التنامي كما أشرتُ من قبل إلى شيء مشابه)، وتجعله يقف على حدّ من حدوده. في حين أن ثالثهما يضع الإنسان أمام استحقاق شرطه الجدلي، الذي يجعل منه يُعاين المأساة، وهو في قمة نشوته الأدبية، فهو يُفجّر مكامن حُزنه ونشوته دفعة واحدة، فهو في حالة انسحاق داخلي على ما يُعاينه من فظاعات أليمة من ناحية، ويُعاني بسببها على المستويين السيكولوجي والأخلاقي؛ ومن ناحية ثانية يُعاين لذاذة تسري في عقله، فهو بإزاء نصّ أدبي باذخ وساحر، وقادر على عزله عن زمنه الواقعي، ودمجه في الزمن الداخلي للنص الأدبي، إلى حدّ قد يصل بالقارئ إلى أن يتمنى استمرار زمن المأساة النصية، لكي تستمر نشوته العقلية، ليس لغاية التلّذذ بمآسي الآخرين والتشفّي بآلامهم، بل لغاية مُعاينة السحر الأدبي الإنساني، وقدرة الكاتب المُبدع على تحويل زمن المأساة الخارجي، إلى زمن نصّي لذيذ.