اللغة وأدوار المرأة المتجددة: نافذة لفهم التحولات المجتمعية

فئة :  مقالات

اللغة وأدوار المرأة المتجددة: نافذة لفهم التحولات المجتمعية

اللغة وأدوار المرأة المتجددة: نافذة لفهم التحولات المجتمعية

مقدمة

تعكس اللغة كأداة تعبيرية تصورات المجتمعات وتطوراتها، إلا أنها قد تتحول إلى وسيلة تُكرّس أدواراً محددة وتقاوم التغيير. ففي سياق قضايا المرأة، تلعب اللغة دوراً محورياً في تشكيل الوعي تجاه مكانتها وأدوارها المتجددة. من هنا، تبرز الحاجة إلى تأمل العلاقة بين اللغة وتمثيل المرأة، ومدى قدرة الخطاب اللغوي على استيعاب حضورها المتنامي في مختلف المجالات. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي انعكاس لقيم المجتمع وثقافته، وتطورها يعكس مدى استيعاب المجتمعات للتحولات التي تطرأ على أدوار المرأة.

لقد لفت انتباهي صديقي د. حسام الدين درويش خلال تقديمه لي، حين استخدم لقب "مديرة" للتعريف بي، رغم حرصه الشديد على الالتزام بقواعد اللغة التي لم تشتق منها صيغة "فعيلة" على غرار "فعيل"، وتجاوز بذلك ما لا تقبله اللغة التقليدية، ما أثار لديّ استفهاماً في كيفية انعكاس اللغة على أدوار المرأة، ومدى قدرتها على مواكبة التغيرات التي تشهدها اليوم. ربما كان مفهوما أن اللغة التقليدية لم تتضمن صيغًا مؤنثة لبعض الألقاب المهنية، بحجة أن المرأة في الماضي لم تكن تعمل في تلك المهن، فلم تكن هناك "مديرة" ولا "حاكمة" ولا "ضابطة شرطة" ولا "قبطانة سفينة" ولا "كابتنة طائرة". ولكن اليوم، بعدما شغلت المرأة كل هذه المناصب وأكثر، فما هي الحجة التي تبقينا متمسكين باستخدام صيغ المذكر للإشارة إليها في أدوارها القيادية؟

اللغة كمرآة لتحولات المرأة

يعدّ تطور اللغة انعكاساً طبيعياً للتحولات الاجتماعية، ومع ذلك، لا تزال بعض البُنى اللغوية تحمل آثاراً ذكورية متجذرة، تبرز بشكل واضح في الألقاب المهنية والتعبيرات المستخدمة للإشارة إلى النساء. فعلى سبيل المثال، كان غياب الصيغ المؤنثة لبعض الوظائف مبرراً تاريخياً في ظل ندرة النساء في تلك المناصب، ولكن اليوم، بعد أن باتت المرأة تشغل مناصب قيادية ومهنية متنوعة، يصبح من غير المنطقي الاستمرار في تجاهل تأنيث هذه المسميات.

ويظهر هذا التناقض بشكل واضح عند مقارنة التطور اللغوي في مجتمعات مختلفة؛ إذ نجد أن بعض اللغات الحديثة قد تبنّت تغييرات مرنة في التسمية، مثل إضافة صيغ مؤنثة للمهن، بينما لا تزال لغات أخرى، ومنها العربية، تواجه صعوبة في تقبل مثل هذه التعديلات. إن التمسك بالأشكال اللغوية التقليدية يُظهر مقاومة للاعتراف بالتغيير الاجتماعي، مما يجعل اللغة في بعض الأحيان أداة تعزز التصورات النمطية بدلاً من أن تعكس الواقع الجديد.

إن هذا الواقع يجعلنا نتساءل عن مدى مرونة لغتنا في التكيف مع الحاضر؛ إذ أصبحت المرأة طرفاً أساسيًّا وشريكاً في بناء المجتمعات وصناعة القرارات. لذلك، فاللغة التي كانت تُستخدم لتكريس أدوار محددة في الماضي، مدعوة اليوم لأن تكون أداة تعبير تعكس تطور دور المرأة وتنوعه، بما يدعم مبدأ العدالة والمساواة في التعامل معها.

وضعت منشورًا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تناولتُ فيه استخدام نون النسوة في اللهجة الشامية عند مخاطبة الجموع المختلطة من الذكور والإناث، مثل: "كيفكن؟"، "اشتقنا لكن"، "أهلا بكن". فجاءتني ملاحظة من أحد الأصدقاء حول اقتراحي المازح بتعميم هذا الاستخدام، ليحلّ محلّ التعميم السابق باستخدام جمع المذكر السالم. أنهيتُ منشوري بسؤال: "ما رأيكن؟"، فردّ الصديق قائلاً: "كلّ المودة والاحترام لشخصكِ الرائع، سيدتي"، وقد وضع عبارة "شخصك الرائع" بين ظفرين، ثم سألني: "إذا تكرّمتِ، كيف يمكننا تأنيث هذا التعبير؟"

هذه النقاشات اللغوية، وإن بدت بسيطة أو غير جدّية، تفتح بابًا واسعًا للتفكير في استخدامات اللغة ومدى ارتباطها بالموروث الذكوري في بعض مصطلحاتها. كما تسلّط الضوء على تساؤل أكبر: كيف تعكس لغتنا رؤيتنا للمرأة؟ وهل يمكن للغة أن تكون أداة تعبير عن أدوار المرأة المتجددة بدلًا من تكريس التصورات التقليدية عنها؟

المرأة من موضوع إلى ذات فاعلة

غالباً ما يتم تناول قضايا المرأة من منظور الحماية أو الدعم، وهو ما يعكس رؤية ترى فيها كياناً يحتاج إلى المساعدة بدلاً من الاعتراف بها كفاعل رئيس في المجتمع. إن التحول من النظر إلى المرأة كـ"موضوع" إلى كونها "ذاتاً فاعلة" يتطلب إعادة صياغة الخطاب الموجه إليها، حيث لا يقتصر فقط على الحديث عن حقوقها التقليدية، بل يشمل دورها في مختلف القضايا المجتمعية والسياسية والاقتصادية.

المرأة اليوم ليست مجرد متلقٍّ للتغيير، بل هي جزء أساسي منه، تشارك في صناعته وصياغته. ومع ذلك، لا يزال الخطاب السائد يستخدم لغة تصف المرأة في سياق العاطفة أو الحماية بدلاً من التركيز على مساهماتها الفعلية في مختلف المجالات. وهذا يستدعي تحولاً في طريقة التحدث عن المرأة، حيث يتم الاعتراف بدورها القيادي والريادي في المجتمع.

ضرورة تغيير نوع الخطاب

حين ننظر إلى اللغة المستخدمة تجاه المرأة، نجد أنها تعكس غالباً نظرة تقليدية تضعها في إطار أدوار محددة سلفاً، سواء كانت تلك الأدوار أُسرية أو اجتماعية. لكن الحقيقة أن المرأة اليوم تؤدّي أدوارًا متنوعة، من القيادة إلى الفكر والإبداع، ومن العمل السياسي إلى الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية، لذلك تقتضي الحاجة ضرورة تحقيق العدالة والمساواة عبر إعادة النظر في الخطاب المستخدم تجاه المرأة؛ وذلك عبر:

1- التعامل مع المرأة كشريك في الحلول، بدلاً من تقديمها كضحية تحتاج إلى المساعدة.

2- توسيع نطاق النقاش ليشمل مختلف قضايا المجتمع، وعدم حصره في قضايا المرأة التقليدية فقط.

3- تبني لغة تعكس التنوع والديناميكية، بدلاً من استخدام عبارات تعبر عن الامتنان لدورها.

إن تطور اللغة لا يمكن أن يحدث بمعزل عن تطور المفاهيم الاجتماعية؛ فإذا كنا نرغب في تعزيز المساواة، فلا بد من أن يكون خطابنا متسقاً مع هذه الرؤية. فعلى سبيل المثال، بدلاً من الإشارة إلى نجاح المرأة في مجال معين بوصفه "إنجازاً نسائياً"، ينبغي أن يُنظر إليه كجزء طبيعي من التطور الاجتماعي الذي يعكس قدرات الأفراد بغض النظر عن جنسهم.

اللغة أداة لبناء واقع جديد

قال الفيلسوف بول ريكور: "اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي بناء للواقع". وإذا كانت اللغة قادرة على تشكيل التصورات المجتمعية، فإن تطويرها لمواكبة التغيرات الحاصلة في أدوار المرأة يعد خطوة أساسية في بناء مجتمع أكثر عدالة وشمولية. في هذا السياق، أشارت الباحثة فاطمة المرنيسي في كتابها "ما وراء الحجاب" إلى أن الخطاب اللغوي الموجه للمرأة غالباً ما يكون جزءاً من منظومة الهيمنة الثقافية التي تحد من دورها، مما يستدعي خطاباً جديداً يرسخ مفهوم الشراكة الحقيقية بين الجنسين.

إن تطوير اللغة لا يقتصر فقط على إضافة صيغ مؤنثة للكلمات، بل يمتد إلى إعادة النظر في السياقات التي تُستخدم فيها هذه الكلمات. فعلى سبيل المثال، في بعض المجتمعات، لا يزال يُستخدم مصطلح "امرأة قوية" للتعبير عن الاستثناء، مما يوحي بأن القوة ليست صفة طبيعية للمرأة. في المقابل، نجد أن الرجال لا يوصفون بـ"أقوياء"؛ لأن القوة تُعدّ جزءاً طبيعياً من تكوينهم الاجتماعي. هذا التفاوت اللغوي يكشف عن تصورات ضمنية تعكس تحيزات ثقافية ينبغي تجاوزها.

خاتمة

ليس الهدف من هذا الطرح مجرد تسليط الضوء على قضية لغوية، بل هو دعوة إلى إعادة التفكير في الطريقة التي نرى بها المرأة من خلال لغتنا، وإلى تبني خطاب جديد يعكس مكانتها المتجددة في المجتمع. إننا في حاجة إلى تجاوز الخطابات التقليدية التي تُقصي المرأة أو تضعها في أدوار محددة، والعمل على صياغة لغة تعترف بها كفاعل حقيقي في بناء المستقبل.

فإصلاح اللغة ضرورة بالغة الأهمية لتعزيز المساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية؛ وذلك باستخدام لغتنا كأداة لإعادة تشكيل التصورات المجتمعية، وتمكين المرأة من لعب دورها الكامل في صناعة المستقبل.


مقالات ذات صلة

المزيد