اللغة والسلطة/ نورمان فيركلف ترجمة محمد عناني
فئة : قراءات في كتب
اللغة والسلطة/ نورمان فيركلف
ترجمة محمد عناني
فكرة الكتاب
من البديهي أن اللغة أداة للتواصل من جهة وأداة للفكر من جهة أخرى، هي ترسم إطار العلاقة التي تربط الناس بعضهم بعضا، فإن كانت تلك العلاقة مبنية على العاطفة والحب لا شك ستكون اللغة، ترجمان مختلف العواطف. أما إن كانت علاقة تتصف بالسلطة، فلا شك أن اللغة تكون ترجمانا لمختلف الأوامر التي ينبغي أخذها بجد وبدون تفكير أحيانا. وهذا يعني أن اللغة قالب متعدد الأوجه، قد تأتي في قالب السلطة، وقد تأتي في قالب الاستعطاف، وقد تأتي في قالب يجمع بين السلطة والاستعطاف؛ فاللغة في قالب السلطة لا يعني أنها منفصلة عن قالب الاستعطاف، كما أن اللغة في قالب الاستعطاف لا يعني أنها معزولة عن السلطة، فقد يكون خطاب العاطفة يتضمن بداخل خطاب السلطة والعكس صحيح، اللغة إذن، أداة تُستعمل لتحديد مختلف علاقات التواصل بين البشر (سلطة، عاطفة، حب، رثاء، طلب، خبر، وصف..)، وقد أكدت عديد من الدراسات، أن اللغة قد تكون أداة للسيطرة والتسلط يستعملها بعض الأفراد والمؤسسات لفرض خطاب أو معايير معينة تخدم مصلحة فئة ما، وتحرم البقية من حقها في الاختيار.
الكتاب الذي نحن بصدده "اللغة والسلطة" "يدور حول العمل الذي تؤدِّيه اللغة للحفاظ على علاقات السلطة وتغييرها في المجتمع المعاصر، وحول أساليب تحليل اللغة، حيث تكشف عن هذا العمل بشقَّيه، وحول زيادة وَعْي الناس به، وزيادة قدرتهم على مقاومته وتغييره. وقد وُضع الكتاب حيث تسهل قراءته على مَن لا يتمتع بخبرة سابقة في هذا المجال".[1]
والواقع أن التحليل النقدي للخطاب "قد اجتذب اهتمامًا كبيرًا خارج إطار علم اللغة والدراسات اللغوية؛ فقد سبقت لي الإشارة إلى العمل في مجال الوعي النقدي باللغة، وهو الذي يقوم به المعلمون في المدارس والمؤسسات التعليمية على مستويات أخرى. كما يستخدم التحليل النقدي للغة في شتى العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية لأغراض البحث والتعليم، مثل علم الاجتماع، والدراسات الثقافية، ودراسات أجهزة الإعلام، ودراسات الجنسين، والسياسة والتاريخ وهلمَّ جرًّا. ولأذكر مثالًا واحدًا: قام قسم دراسات المدن في جامعة جلاسجو بتنظيم مؤتمرَين ناجحَين في عام 1998م، و1999م حول "الخطاب والتغير المدني"، و"الخطاب وتغير السياسات"، وكان كلٌّ منهما يستند - إلى حدٍّ بعيد - إلى تحليل الخطاب النقدي وغيره من مداخل تحليل الخطاب. ويبدو أن تحليل الخطاب النقدي قد بدأ يُؤتي ثمارًا تتمثل في تشجيع الباحثين في العلوم الاجتماعية على إدراج تحليل اللغة في عملهم".[2]
أهم موضوعات الكتاب
تعد اللغة نسقا من الإشارات والرموز، ومن خلالها يتحقق التواصل والتفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي. فاللغة ترتبط بالتفكير ارتباطًا وثيقًا، وأفكار الإنسان تصاغ دومًا في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني. الحديث عن اللغة يأخذنا للحديث عن الخطاب؛ إذ يصعب فصل اللغة عن الخطاب. فرغم الفارق الأساسي بينهما، فإذا كان الخطاب هو ممارسة قدرة الحديث وكفايته أو الكلام وطريقته... فذلك يتحقق من خلال من خلال اللغة أي المفردات والكلمات...
إذا عدنا إلى معاجم اللغة، نجد ابن منظور في لسان العرب، عرف (الخطابُ) بأنه مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة، وخطاباً، وهما يتخاطبان، بمعن الخطاب في اللغة كما حدده ابن منظور يقتصر على مفهوم اللغة المنطوقة في حالة المحاورة، ويضاف إلى ذلك اللغة المكتوبة في حالة المراسلة. ويعد "ميشيل فوكو" من أبرز من اهتم بموضوع الخطاب، بالعمل على تحليل طبيعة العلاقة بين اللغة والسلطة في مفهومه للخطاب، فاللغة والخطاب من منظوره لا يقتصر على وظيفة التواصل، بل هو نظام من علاقات القوة التي تشكل كيفية تفكير الأفراد وتصرفاتهم وتفاعلهم مع العالم من حولهم، وهذه القوة لا تحضر بالضرورة بالإكراه، بل من خلال آليات وحالة تواصلية. وفق هذا السياق المعرفي الذي تتقاطع من خلاله مجموعة من التخصصات والمجالات المعرفية يضم الكتاب أهم المواضيع التالية: الخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية. السلطة والخطاب. الخطاب والمنطق السليم والأيديولوجيا. التحليل النقدي للخطاب عمليًّا: الوصف. تطبيق التحليل النقدي للخطاب عمليًّا: التفسير والشرح، وموقع المحلل. الخطاب في التغير الاجتماعي.
هدف الكتاب
المدار الذي يدور فيه هذا الكتاب لا يرتبط كثيرا بمختلف الكتابات والدراسات التي أخذت على عاتها الحفر الفلسفي في موضوع السلطة ومفهومها وتشكلاتها، في علاقة ذلك بمختلف مستويات وأشكال الخطاب، أو تلك الدراسات التي تبحث في موضوع اللغة ونشأتها وتطورها في علاقة كل ذلك بموضوع السلطة، ومفهوم السلطة هنا ليس بالضرورة ذلك المفهوم الذي يفهم منه التحكم وفرض الرأي الواحد، بل يمكن أن تكون سلطة تدور في دائرة الحرية والتعددية والتنوع في الرأي...
فالهدف النظري لهذا الكتاب النظري يرجع إلى خلفية المؤلف الأكاديمية، وهي علم اللغة؛ إذ إن الباحثين في علم اللغة، وخصوصًا في علم اللغة الاجتماعي (الذي كثيرًا ما يقال إنه يتناول "اللغة في سياقها الاجتماعي") قد قالوا الكثير فعلًا عن اللغة والسلطة ولم يوفُّوها حقَّها. فلقد شهدنا - على سبيل المثال - دراساتٍ كثيرةً عن اللهجات الاجتماعية "المعيارية" و"غير المعيارية"، وكيف تعتمد الهيبة المرتبطة بهذه اللهجات على سلطة مَن يستعملها. كما شهدنا أيضًا دراسات عن أساليب ممارسة السلطة في المحادثة وغيرها من صور التخاطب بين الأفراد، وإن كانت دراسات قليلة، وهو أمر قد يدعو إلى الدهشة. والواقع أن هذه الدراسات تنشد - بصفة عامة - وصفَ الأعراف السائدة الخاصة بعلم اللغة الاجتماعي من حيث تفاوتها في توزيع السلطة، ولكنها لا تنشد شرحَ هذه الأعراف باعتبارها من ثمار علاقات السلطة وضروب الصراع على السلطة. والقضية أن الأعراف المذكورة ذات علاقة مزدوجة بالسلطة؛ إذ إنها من ناحية تتضمن أشكالَ الاختلاف في السلطة، ومن ناحية أخرى تنشأ من علاقات محددة للسلطة، وتُنشِئها أيضًا".[3]
أما الهدف العملي لهذا الكتاب، فيتعلق بمحاولة شرح الأعراف القائمة باعتبارها من ثمار علاقات السلطة وضروب الصراع على السلطة. الكامنة في الأعراف التي تُحدِّد التفاعل اللغوي بين الناس، والتي لا يتمتع الناس عادةً بالوعي بها. وقد أورد المؤلف الكثير من الأمثلة من أبرزها، الوقوف عند أعراف "الاستشارة التقليدية بين الطبيب والمريض تُجسِّد افتراضات "منطقية" تعدّ السلطة والمراتبية أمرًا طبيعيًّا؛ بمعنى أن الطبيب يعرف الطب والمريض يجهله، وأن الطبيب في موقع يسمح له بالبتِّ في كيفية التصدي لمشكلة صحية، والمريض لا يتمتع بهذا الموقع؛ وأنه من الصحيح (و"الطبيعي") أن يتولَّى الطبيب اتخاذ القرارات والتحكم في مسار الاستشارة والعلاج، وأن على المريض أن ينصاع له ويتعاون معه، وهلمَّ جرًّا. ومن القضايا الجوهرية أننا نستطيع، كما سوف نرى، أن نجد افتراضاتٍ من هذا النوع كامنةً في الأشكال اللغوية المستخدمة.[4]
فمختلف الدراسات التي يجملها الكتاب تجمع بين المعطى النظري والمعطى العملي المتعلق بمختلف الأعراف والتصورات لدى الناس، والتي تتحول بدون قصد إلى هياكل سلطوية، يتم التواصل من خلالها، إلى درجة أنها تحدد أحيانا نتيجة طبيه العلاقة التواصلية بين الفرد والآخر، بالنظر لموقع كل منهما من الخطاب والوضعية التواصلية التي هو بشأنها؛ بمعنى أن العادات التواصلية قد تتحول إلى سلطة لغوية دون قصد، في هذا السياق يأتي السؤال كيف نتبيَّن الأصفاد التي كبَّلَتنا بها التقاليد؟ فإننا إذا استطعنا أن نتبيَّنَها استطعنا أيضًا أن نكسرَها، وهذا سؤال قد سبق أن طرحه عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي فرانز بوس.
[1] نورمان فيركلف، اللغة والسلطة، ترجمة محمد عناني، مؤسسة هنداوي 2024م، ص. 9
[2] نفسه، ص.11
[3] نفس، ص.15
[4] نفسه، ص. 16