اللغة والكينونة الإنسانيّة
فئة : مقالات
يؤكد دو سوسير، في محاضراته في "علم اللسان العام" التي جُمعت ونشرت بعد وفاته سنة 1915، أنّ الفكر بلا لسان لغوي مجرد كتلة عديمة الشكل، وعماء دامس لا يمكن التمييز فيه؛ فلكي يحصل تميز ووضوح في الفكر لا بدّ له من أن يسكن ألفاظ اللغة وكلماتها؛ أي لا بدّ له من انقسام وتجزئة؛ أي انتقاله من "حالة اتحاده واتصاله السديمي" بحسب تعبير دو سوسير إلى الاستدخال في كتل مجزأة يهبها له اللسان اللغوي. ويرى مؤسس اللسانيات "دو سوسير" أنّ الفكرة لها في تداولها اللساني مقابلها اللغوي، في شكل صيغة صوتية محددة، ويعتقد أنّ ثمّة تلازماً داخل اللسان اللغوي بين الفكر واللغة، ويشبّه هذه العلاقة التلازميّة بوجهي الورقة النقدية، حيث لا يمكن قطع أحدهما دون قطع الآخر. والواقع أنّ هذا التصور الذي يرى صلة اللغة بالفكر صلة متلازمة، ويرى أنّ الفكر بلا لغة كينونة غير مميزة، وملفوفة بالإبهام والغموض، ليس موقفاً جديداً يعبّر عنه للمرة الأولى فرديناند دو سوسير، بل في تاريخ الفكر الفلسفي مواقف مشابهة تنتقد هذا الفصل بين المعطيين الفكري واللغوي.
فعند الفيلسوف الألماني هيجل، نقرأ: "إنّ الكلمة هي التي تهب للفكر وجوده السامي، والأكثر حقيقة". ويضيف "إنّ الفكر من دون لغة هو حالة غامضة لا يمكن أن تضاء إلا بفضل الكلمة"، بل اللغة في نظره هي التي تمكن العقل من ممارسة فعل التفكير، فنحن كما يقول هيجل: "نفكر بالكلمات وفيها"، أو بعبارة أخرى إنّ العقل بلا لغة لا يمكنه أن يَعْقِل ويفكر.
ويرى أنّ الوظيفة الحقيقية للغة هي نقل العقل من "عالم الأشياء السديمي" غير المميّز إلى عالم الكلمات، عالم أكثر معقولية. ولهذا، ينتقد هيجل موقف الفيلسوف "لايبنز" الذي قال إنّ اللغة الهيروغليفية أفضل وأكثر أمانة في التعبير، إذ على العكس من هذا الموقف يرى هيجل أنّ اللغة الأبجدية أقدر من اللغة الهيروغليفية وأفضل منها، لأنّ هذه الأخيرة أكثر قرباً من عالم الأشياء، فهي لغة حسيّة ملتصقة بترسيم ظواهر الوجود المادي بدل تجريدها في أشكال لغوية. وعلى الرغم من كون هيجل يرى أنّ "كل ما هو عقلي فهو واقعي، وكل ما هو واقعي فهو عقلي"، فإنّ قوله هذا لا ينفي ما أثبتناه سابقاً من إعلائه عالم الكلمات على عالم الأشياء، حيث إنّ عبارته ذاتها فيها أولوية وسبق للعقلي على الواقعي، هذا فضلاً عن أنّ مفهوم الواقع في هذه العبارة الهيجلية الشهيرة قد التبس فهمها على كثير من الكتّاب والباحثين، حيث ظنوا أنه يقصد بالواقع الشيء المحسوس، بينما هو يقصد "التحقق الفعلي"، وهذا معنى هيجلي عميق يحتاج فهمه إلى استحضار منطقه؛ أي منطق التناقض والجدل والصيرورة.
غير أنّ هيجل ليس وحده الذي نجد عنده هذا الإدراك لضرورة اللغة للتفكير، بل إنّ هذه العلاقة التلازمية بين فعل التفكير وفعل التعبير، وانطباع اللغة بالفكر، والفكر باللغة، يمكن أن نلمسها في المحاورة الشهيرة للمنطقي مَتَّى بن يونس مع السيرافي التي أوردها التوحيدي في كتابه الممتع "الإمتاع والمؤانسة"، إذ كان الأساس الاستدلالي الذي استند اليه السيرافي لنقد مَتَّى الداعي إلى استدخال منطق أرسطو إلى الثقافة العربية الإسلامية، هو أنّ منطق أرسطو لا يمكن فصله عن اللغة اليونانية ونحوها. يقول أبوسعيد السيرافي: "أنت إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية" ... وبهذا كان "السيرافي" يعبّر ضمنياً عن كون النظام اللغوي يؤثر في طريقة التفكير، وأنّ ما يبتدعه مفكر من طرائق وأساليب لتنهيج عملية التفكير لا ينفصل عمّا نجده في النظام اللغوي الذي يفكر به، لأنه أصلاً لا يمكن أن يفكر خارج اللغة.
وهذا الموقف في تفسير علاقة اللغة بالفكر هو ما نجده حاضراً بقوة في الفكر الفلسفي المعاصر، ولكن على نحو متطرّف جدّاً، فالفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" يقول في كتابه "الكلمات والأشياء": "أتكلم لأوجد، فإذا بي أنمحي خلف اللغة التي أتكلمها". وعندما نفتح كتاب هيدغر "السير نحو الكلام" سنجد أنّ أوّل عبارة يبتدىء بها هيدغر متنه هذا هي "الكائن البشري يتكلم"، وفي هذا نوع من إعادة تعريف ماهيّة الكائن الإنساني، فبدل العبارة التقليدية "الإنسان حيوان عاقل"، أصبحنا نقرأ "الإنسان حيوان لغوي"، أو بتعبير "إرنست كاسيرر": "الإنسان حيوان رامز"؛ أي مبدع للرموز .
لكنّ الفكر الفلسفي المعاصر لن يقف عند هذا المستوى المحدّد للكائن الإنساني، بل سيذهب في الإعلاء من شأن اللغة وتأثير سلطتها إلى حد الجبرية، ونفي إرادة الإنسان. ولذا، فإنني رغم اعتقادي أنّ أهم ما يميز الكائن الإنساني ويحدده هو أنه كائن رامز، يبدع الرموز ويشتغل بها ويعيش داخل فضائها، فإنّ هذا الاعتقاد لا يذهب بي إلى الانسياق وراء الفلسفة المعاصرة في ثوبها الهيدغري وبعض تجلياتها البنيوية والما بعد - حداثية، القائلة إنّ الإنسان ليس ذا إرادة في استخدامه وإبداعه الرموز. فالفلسفة البنيوية لا ترى "الإنسان كائناً يتكلم اللغة"، بل تراه كائناً "تتكلمه اللغة".
صحيح أنّ كل لغة تمثل نوعاً معيناً من تقطيع العالم وإعادة تنظيمه وفق ألفاظها وبنياتها التركيبية، ويمكن القول أيضاً مع "فون هيمبوليت": "إنّ كلّ لغة تحتوي على ميتافيزيقا خفيّة، بشكل لا يجعلها تسهم في التعبير عن الفكر، بقدر ما تشرطه وتشكله"، غير أنني أضيف أنّ هذا الإشراط ليس مطلقاً. وإذا كان "رولان بارت" في درسه الافتتاحي الشهير ألحّ على أنّ كلّ لغة لها سلطة على الذات المتكلمة، مرتكزاً للاستدلال على فكرته هذه على أنّ لكل نسق لغوي قوانينه وقواعده التي تفرض على الذات المتكلمة الخضوع لها، منتهياً إلى أنّ علاقة الكائن الإنساني باللغة علاقة استلابية؛ أي تسلبه حريته في التفكير والتعبير. فإنّ هذا الاستدلال التبس عليه ابتداء بمفهوم الحرية الإنسانية، وحقيقة الإرادة، فليست حرية الإنسان واقتداره على الفعل والاختيار هي خلو وجوده المجتمعي والطبيعي من كل القواعد والشروط، بل إنّ الكينونة الإنسانية تمتاز بالأخص باستخدام الشروط وفك الإكراهات.
وخلاصة القول، إنّ الفكر الفلسفي المعاصر، بتسييده المطلق للغة على الذات، ينتهي مع "فوكو" و"رولان بارت" إلى ما يمكن نعته بأنه نوع من "الجبريّة اللغويّة" النافية للحريّة الإنسانيّة.