اللقاء الحواري الثالث عشر، حول كتاب: "ما بعد الإسلام السياسي" مع المؤلف: الباحث محمد محفوظ
فئة : حوارات
اللقاء الحواري الثالث عشر، حول كتاب: "ما بعد الإسلام السياسي"
مع المؤلف: الباحث محمد محفوظ
الجمعة 30-11-2024
"العلمانية في التجربة العربية المعاصرة ارتبطت بالاستبداد"
تقديم: دة. ميادة كيالي
حوار: حسام الدين درويش
كلمة دة ميادة كيالي
أهلاً وسهلاً بكم جميعاً في هذه الندوة الحادية عشرة من سلسلة ندوات مؤمنون بلا حدود، والتي نفخر من خلالها بتقديم نقاشات فكرية تعرّف بأهم إصدارات المؤسسة، وتسهم في إثراء الحوار الثقافي والفكري في العالم العربي. نتناول اليوم واحداً من الإصدارات المميزة لمؤمنون بلا حدود، وهو كتاب "ما بعد الإسلام السياسي"، تأليف الدكتور محمد محفوظ، والذي تناول فيه بعمق فكريّ وتحليل نقدي مرحلة الإسلام السياسي، تحولات هذه المرحلة، وأفق ما بعدها.
الدكتور محمد محفوظ، باحثٌ وأكاديمي مختصّ في الفكر السياسي والاجتماعي. له إسهامات بارزة في دراسة التحولات الفكرية والسياسية في العالم العربي والإسلامي، مع التركيز على العلاقة بين الدين والسياسة والمجتمع. يُعرف بأسلوبه النقدي العميق، وقدرته على الربط بين المعطيات التاريخية والواقعية، مما يجعله أحد أبرز الأسماء في هذا المجال.
في الحقيقة، أفردت مؤسسة مؤمنون بلا حدود عدة مشاريع بحثية ودراسات عميقة حول قضايا الإسلام السياسي والتطرف الديني. وتشمل هذه المشاريع سلسلة "الإسلام السياسي"، التي تم إنجازها بإشراف الدكتور نادر حمامي، وللأهمية أوردها على عجالة: التكفير في خطاب الإسلام السياسي، عمار بنحمودة؛ الإسلام السياسي ومنظومة التربية، بدر الدين هوشاتي؛ الإسلاموية الشيعية السياق والأسس والخصائص، علي صالح مولى؛ الذرائع في خطاب الإسلام السياسي، سعيد ناشيد؛ القوامة الدينية في خطاب السلفية، رباب كمال؛ الإسلام السياسي والحركة الإصلاحية، محمد الهادي الطاهري؛ المرأة ومنزلتها لدى محمد قطب، سماح حمدي. إضافةً إلى إصدار سلسلة "التطرف الديني"، التي أشرف عليها العديد من الأساتذة؛ أذكر منهم الدكتور أنس الطريفي، والدكتور بسام الجمل، والدكتور صابر السويسي، والدكتور الطيب بوعزة.
وتأتي هذه الإصدارات في إطار جهود المؤسسة لتعميق الفهم النقدي للحركات الإسلامية، وتقديم رؤية معرفية متوازنة حول قضايا الإسلام السياسي في سياقها الفكري والاجتماعي، كما أنها تسهم في تعزيز النقاش الأكاديمي حول التحولات الجذرية التي تشهدها الحركات الإسلامية، وتركز على البدائل التنموية والاجتماعية التي تليق بالمرحلة الجديدة.
ينطلق كتاب اليوم، "ما بعد الإسلام السياسي"، من قناعة أساسية مفادها أن مرحلة الإسلام السياسي بدأت مع الثورة الإيرانية عام 1979، التي أسقطت نظام الشاه، وأرست نظام الجمهورية الإسلامية. ويرى الكاتب أن هذه المرحلة تسير نحو نهايتها، منذ ما يعرف ببداية الربيع العربي في 2011، كما يشير إلى أن انتهاء الإسلام السياسي لا يعني اختفاء الحركات الإسلامية، بل يشدّد على أن النزعات الأيديولوجية في طريقها للتراجع، لتحلّ محلّها توجهات اجتماعية تتبنّى مشروعات التنمية وبناء دولة الإنسان.
يتألف الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول رئيسة وخاتمة. تسلط المقدمة الفلسفية الضوء على العلاقة بين الإنسان والأيديولوجيا، وتوضح أن الإنسان ليس خادماً للأيديولوجيا، بل على العكس؛ إذ يجب أن تكون الأيديولوجيا في خدمة الإنسان لتعزيز تطوره المادي والمعنوي. وتناقش المقدمة أيضًا، الآثار السلبية للأيديولوجيات التي تسيطر على الفرد، وتؤكد أهمية تحرير الإنسان من قيودها بما يخدم استقراره ورفاهيته.
وعناوين الفصول الثلاثة للكتاب هي: 1-العرب ودولة الإنسان؛ 2- الحرية أولاً ودائماً؛ 3- الطريق الجديد. ويطرح الكتاب عمليًّا ثلاثة محاور رئيسة للمستقبل: 1-التخفيف من الطابع السياسي للإسلام: من خلال تقليص السعي للوصول إلى السلطة، والتركيز بدلاً من ذلك على التأثير الاجتماعي والتنمية. 2- بناء دولة الإنسان: عبر الالتزام برؤية دستورية وقانونية تحترم التنوع الثقافي والاجتماعي، وتشجع على دولة مدنية تضمن الحقوق والحريات. 3- الاهتمام بمشروعات التنمية: بدلاً من سياسات الهدم والتركيز على الوصول إلى السلطة، يجب أن تكون الأولوية لمشاريع البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
والآن أترك إدارة الحوار للدكتور حسام الدين درويش، قصد إثراء النقاش حول موضوع هذا الكتاب المهم، وفتح المجال لتبادل الأفكار والرؤى. أشكر لكم حضوركم، وأتمنى لكم ندوة ماتعة ومفيدة.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا دة. ميادة، ومساء الخير للجميع، وللدكتور محمد محفوظ. أودّ تهنئتك على كتابك الذي ظهر ضمن القائمة الطويلة التي أعلنت اليوم للكتب المرشحة للفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع التنمية وبناء الدولة. وأنا أتطلع إلى مناقشة الأطروحات المهمة التي يتضمنها هذا الكتاب، الذي يتناول موضوعات شديدة الأهمية والراهنية، سبق لي شخصيًّا أن تناولتها من منظورٍ مختلفٍ، لكن الأطروحات أو الخلاصات الرئيسة في الحالتين كانت متشابهة إلى حدٍّ كبيرٍ.
كالعادة، سأدخل مباشرة في صلب الموضوع، وأسألك، دكتور محمد، عن الأطروحة أو الأطروحات الأساسية في هذا الكتاب، وعما أردت قوله فيه.
د. محمد محفوظ:
شكرًا دكتور، باسم الله الرحمن الرحيم، أودّ أن أقول في هذا الكتاب الفكرة التالية: على المستوى الفكري والسياسي، وتطورات الوضع العربي، أنا أتحدث عن المجال العربي، لا أتحدث عن العوالم الأخرى، أتحدث عن تجربة الربيع العربي، وتداعيات هذه التجربة على صعيد الإسلام السياسي.
أردت أن أقول إن النزعات الإيديولوجية هي نزعات مشظية لأيّ مجتمع من المجتمعات، وكلّما نخفف من النزعة الإيديولوجية، نستطيع أن نصل إلى جوامع مشتركة على المستوى الفكري والمعرفي والاجتماعي والسياسي. لذلك، لو تأملنا كثيرًا في هذه النقطة، فنحن في حاجة إلى فك الارتباط بين ظاهرة العلمانية والاستبداد؛ لأن العلمانية في التجربة العربية المعاصرة ارتبطت بالاستبداد؛ فالتجربة ذات أفق سياسي محدود وضيق؛ لأنه بالاستبداد غابت الكثير من القوى الاجتماعية الحقيقية وتداعيات غياب الحرية في الواقع العربي، وبالذات في الأنظمة والحكومات التي التزمت بأفكار علمانية، ووصلت إلى نتيجة نهائية، ولأن أغلب الحضور من تونس، فالمثال القريب إلى الذهن هو التجربة التونسية في ما قبل الربيع العربي؛ أنا لا أتحدث عن التجربة على الخيار العلماني، أنا أتحدث عن ارتباط هذا الخيار بقيمة الاستبداد، بنظرية الاستبداد. أنا أعتقد أن التجربة العلمانية في تونس، وهي أنجح تجربة في العالم العربي، ويكفيها إنجازًا وفخرًا أنها أسست دولة في تونس، بينما كل التجارب العلمانية في العالم العربي لم تنتج دولة، أنتجت سلطة، وبون شاسع بين السلطة والدولة؛ السلطة، المواطن العربي لا يعرف منها إلا الأجهزة الرقابية. أما الدولة، فهي مؤسسة ثابتة تطلّ على الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعيشي. فالتجربة العلمانية في تونس، ارتبطت أحد إخفاقاتها الرئيسة بتبنيها نهج الاستبداد السياسي، ومن ثم لم تفسح مجالًا لكلّ القوى الاجتماعية الموجودة في الشعب التونسي كي تبرز، لا على المستوى القانوني، ولا على المستوى السياسي؛ فنحن بحاجة إلى فك الارتباط بين الخيارات العلمانية في العالم العربي، وظاهرة الاستبداد. لذلك، حتى في مشروعات الحداثة والتحديث، نستطيع أن نقول بشكل مختصر، إنه في التجربة العربية ليست لدينا حداثة، بل تحديث ضد الحداثة؛ فكل المجتمعات العربية طالتها عناصر تحديثية، بينما قيمة الحداثة لم تكن موجودة في العالم العربي، وأقصد قيمة الحداثة التي تنطلق من موقف نقدي من الأفكار. فالتحديث بشكل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، التزمت به كل الدول، والمشكلة الحقيقية أن تكون ظواهر التحديث مضادة لظواهر الحداثة، والسبب في تقديري يعود إلى التزام الخيارات العلمانية في العالم العربي، أو في التجربة التونسية تحديدا بارتباط علماني، وهو ارتباط ليس مقصودًا، حتى أبرئ صناع هذه التجربة من ظاهرة الاستبداد. لذلك، أصبحت هذه التجربة معادية للجمهور، وإن استطاعت أن تمتلك جزءًا من المجتمع؛ إذ أغلب المجتمع في تونس كان مغايرًا لهذه التجربة.
وتفيد الفكرة الثانية – تجربة الإسلام السياسي التي أنتجت أيضا، ظاهرة الإسلام السياسي – أن هناك الكثير من ظواهر التدين ضد الدين. وحينما تكون ظواهر التدين ضد الدين تكون مشكلة، وأبرز مثال وأوضحه هو التجربة العراقية الحديثة. بعد 2003 بعد احتلال أمريكا للعراق، وتشكل نظام سياسي جديد فيه، أستطيع أن أقول إن هذه التجربة أنتجت حالة غير طبيعية من الاستبداد، وهو فساد أنتجه الإسلام السياسي، فأغلب المتورطين بالفساد في العراق ينتمون إلى حركات إسلامية. نحن إذن، أمام ظاهرتين سيئتين؛ ظاهرة الخيار العلماني الذي ارتبط على مستوى التجربة، أنا لا أتحدث على المستوى الإيديولوجي، وإنما على مستوى التجربة، بالاستبداد وتبنى خيارات استبدادية على الصعيد السياسي، وعلى صعيد إدارة الحكم، وعلى صعيد طريقة التعامل مع القوى السياسية والاجتماعية الموجودة في هذا المجتمع أو ذاك.
د. حسام الدين درويش:
انطلاقًا من تأكيدك على وجود هاتين الظاهرتين المرصودتين في الواقع: ارتباط واقعي بين العلمانية والاستبداد من ناحية، ووجود ظواهر سياسية، عنيفة أحيانًا، باسم الدين، باسم الإسلام، من ناحيةٍ أخرى، كيف يمكن فهم الأطروحتين الأساسيتين في الكتاب: أطروحة أولى حول "ما بعد الإسلام السياسي"، وأطروحة ثانية حول وجود ارتباطٍ بين الإسلام والديمقراطية، ويبدو أن ذلك الارتباط هو أحد أشكال الخلاص، أو ربما الشكل الأمثل للخلاص الذي ينظِّر له الكتاب؟
د. محمد محفوظ:
أفترض أن تغيير طبيعة الدول في التجربة العربية المعاصرة يوصلنا إلى هذه النتيجة، الدول العربية في غالبها تأسست على بنية عصبوية، وهي بنية ضيقة وطاردة لمجموع من القوى لجزء من المجتمع العربي؛ فبنية الدولة لا تنتج ديمقراطية، ولا تنتج إسلاماً متسامحاً مع الديمقراطية، لماذا؛ لأنها بنية عصبوية ومغلقة، لا تستطيع أن تنتج علاقة ودّية وإيجابية بين الإسلام كدين في هذه المنطقة. أنا لا أتحدث عن الشكل السياسي لهذا الدين، أتحدث عن الدين بوصفه قيماً أساسية في المجتمعات العربية، لا أتحدث عن الشكل السياسي أو التعبير الإيديولوجي لهذا الدين، وإنما أتحدث عن القيم الأساسية للدين، ومجتمعات العالم العربي. لذلك، لم نتمكن من بناء نموذج إيجابي بين الديمقراطية والإسلام، وأنا أحمّل المسؤولية لطبيعة وبنية الدولة في العالم العربي؛ لأنها طاردة. وأرى أن الإشكال الحقيقي يتجسد في العالم العربي في بنية الدول العربية؛ لأن بنية الدول العربية بينة مغلقة وعصبية لا تستطيع أن تؤسس لعلاقات إيجابية مع الرأي الآخر، مع الديمقراطية مع الحداثة، حتى على صعيد العلاقة مع التكنولوجيا الحديثة، مع الإعلام الحديث، لا زالت العلاقة قلقة على هذا الصعيد.
د. حسام الدين درويش:
هناك طريقتان رئيستان للتعامل مع هذه التيارات الإسلامية (السياسية). فمن ناحية أولى، هناك طريقة النبذ والإقصاء والقمع والمنع والحظر. والكتاب ينتقد، منذ التوطئة، هذه الطريقة، ويحمّلها جزءًا من مسؤولية تدهور الأوضاع والمآزق والتوترات في العالم العربي. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، هناك طريقة التضمين، الاستيعاب. وأنت تتبنى بوضوحٍ هذه الطريقة، وتدعو صراحةً إلى انفتاح السلطات السياسية على هذه التيارات وفسح المجال لها للنشاط العلني؛ لأن ذلك سيسهم، من وجهة نظرك، في استقرار الحياة السياسية والاجتماعية، وتهذيب نزعات التيارات الإسلامية، وخلق مسافة بينها وبين التوجهات العنفية، وبناء الأوضاع السياسية على أسس الحرية والديمقراطية، وصيانة حقوق الجميع في العمل والتنافس في المجال العام. ومن الواضح أنك تسوغ رأيك من منظورٍ ديمقراطيٍّ ولمصلحة الديمقراطية، وليس من منظورٍ أيديولوجيٍّ إسلاميٍّ أو دينيٍّ. أرجو أن تشرح لنا وجهة نظرك في هذا الخصوص؟
د. محمد محفوظ:
أتحدث من نقطة أساسية، هي سيادة المنطق النسبي في السياسة وفهم الدين؛ فالمشكلة الحقيقية هي أننا لا نستطيع أن نقوم بعمل سياسي بمنطق مطلق، وإنما بمنطق نسبي. لذلك، أنا أقول إنه أفضل طريقة لسيادة الخيار العلماني في العالم العربي هو فسح المجال للإسلاميين. أنا أرى كل التجارب الإسلامية ستكون نتائجها النهائية أقرب إلى الفهم العلماني. الإسلام في تجربته السياسية لا يجعل الإنسان مغلقاً، وإنما يوصلنا إلى منطق نسبوي في النظر إلى الأمور، والمنطق النسبوي هو بداية الخيار العلماني. لذلك، أرى أنه من مصلحة العالم العربي، ومن مصلحة كل القوى في العالم العربي الثقافية والسياسية والاجتماعية، أن تتبنى المنطق النسبي في النظر إلى الأمور. ومن الخطأ أن نتعامل مع الدين بمنطق مطلق لا يرى حدود المكان، ولا يرى طبيعة التضاريس، وتأثيرات الزمن الذي يعيش في هذا الدين. لذلك، تبني المنطق النسبي يوصلنا إلى نتيجة تنبي الخيار العلماني في العالم العربي. بالمناسبة، بعض المفكرين حينما تحدثوا عن الخيار العلماني، وتجاوزوا الكثير من الإشكاليات، تحدثوا عن العلمانية المؤمنة، حتى لا تكون علمانية متوحشة ضد الدين، حتى تُنتج تجربة علمانية ليست على منوال التجربة الفرنكوفونية في فرنسا، وإنما على مستوى التجربة الأنجلوسكسونية في بريطانيا.
د. حسام الدين درويش:
لا أعرف إن كان هناك من حاول تصنيف فكرك وفقًا لثنائية "علماني مقابل ديني"، لكنني أرى أن مثل هذه المحاولة لن يكتب لها النجاح. فأنت تتبنى العلمانية وتؤسس لها من منظور إسلامي، وتتبنى أو تدافع عن الإسلام وتؤسس له من منظور علماني. ففكرك أكثر تعقيدًا وتركيبًا من أن يتم تناوله من زاوية مثنوية الديني والعلماني. في المقابل، أنت تميّز بين الدعوي والسياسي في التيارات الإسلامية، وتشدد على الاختلاف بين منطق الدعوة ومنطق السياسة، وتبيِّن أن ما يمكن أن ينجح في الدعوة، قد لا ينجح في السياسة، والعكس صحيح. حدثنا عن التمايز بين المنطق المعياري المبدئي للدعوة والمنطق البراجماتي الواقعي للسياسة، وعن ضرورة الفصل بينهما، وأهمية قيام تيارات الإسلام السياسي بنقد ذاتي لتجربتها، في هذا الخصوص، من وجهة نظرك؟
د. محمد محفوظ:
أتحدث عن تجربة فكرية إخوانية في سوريا، لكونك من حلب. لو نقارن بين الفكر الذي طرحه السباعي في بداية الأربعينيات والخمسينيات، وفكر عصام العطار، وفكر سعيد حوّى، وينتهي بفكر محمد الجولاني، الذي يدير الآن إدلب، سنجد مستوى التباين، وأن هذا الفكر يتراجع على الصعيد الجوهري، لا يتقدم، وسبب هذا التراجع هو أن مصطفى السباعي كتب عن اشتراكية الإسلام، ولا يستطيع سعيد حوّى رحمه الله، أن يقابس الفكر الحديث بهذه الكيفية التي قابس فيها مصطفى السباعي، ولا يستطيع محمد الجولاني أن يكتب في السياقين نفسيهما، لماذا؟ لأن الفكر الإسلامي، والذي أنتجه مجموع الإسلاميين في التجربة السورية، يتراجع على المستوى الجوهري. لذلك، أنا أتيت بأسماء تشكل حالةً انحداريةً، لا تشكل حالة صعود فكري، قطعاً. ما كتبه مصطفى السباعي يختلف عما كتبه عصام العطار، وحتى على مستوى التجربة؛ تجربة عصام العطار تختلف عن تجربة سعيد حوّى، ولكن أنا أقول إن سعيد حوّى هو الذي أسس الجانب الأيديولوجي لأفكار التطرف في سوريا، ولا أحمّل المسؤولية إلى محمد الجولاني في الفترة الأخيرة، أحمّلها بالدرجة الأولى إلى ما أنتجه سعيد حوّى على هذا الصعيد. لذلك، أنا أرى أن أحد إخفاقات الربيع العربي أو أحد الأسباب التي أدت إلى إخفاق الربيع العربي، هو الفكر الإسلامي نفسه.
د. حسام الدين درويش:
يمكن القول إن كتابك نفسه هو أحد نتائج الربيع العربي. فلم يكن لهذا الكتاب أن يكتب، بهذه المضامين، وهذه التوجهات، وهذه الأفكار، لولا الربيع العربي؛ فهو متأثر بالربيع العربي، وأحد نتائجه. في المقابل، الربيع العربي موضوع للبحث والنقاش والنقد، في هذا الكتاب. فأنت تشدد على أحقية الربيع العربي في الوجود، وعلى وجود أسباب موضوعية أدت إلى وجوده، وعلى أنه لم يحصل اعتباطًا أو صدفةً أو نتيجةً لمؤامرة (خارجية)، من ناحيةٍ، وتقرّ بالمآلات السلبية لهذا الربيع، وأنها لم تكن بمستوى الطموحات أو الرغبات. حدثنا عن الأسباب او العوامل التي أفضت إلى المآلات السلبية المذكورة؟
د. محمد محفوظ:
أعتقد أن الإسلاميين في التجربة العربية، لم تكن روافع حقيقية لإنتاج طموحات الناس، طموحات الشعب العربي، طموحات الشعب العربي إلى مزيد من الحريات، إلى المزيد من الديمقراطية، وإلى المزيد من العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولكن فكر الإسلاميين في الربيع العربي أنتج ما يناقض ذلك. لذلك، أنا أرى أن ما وصل إليه الربيع العربي، إنما يعود إلى مشكلتين أساسيتين؛ استمرار الاستبداد السياسي، حيث استطاع المستبد السياسي العربي أن يعاود حكم العالم العربي بعد فترة زمنية وجيزة التي حكم فيها الإسلاميون، وأحمّل الإسلاميين مسؤولية عدم إدارة الحكم الذي وصلوا إليه، وسمحوا لغير الإسلاميين أن يعودوا إلى الحكم، وأنا لا أتحدث من ناحية إيديولوجية، وإنما أتحدث أنهم سمحوا باستمرار ظاهرة الاستبداد السياسي. وبالمناسبة، فأنا أرى أن أنجح تجربة إسلامية على الصعيد الفكري، هي تجربة الاتجاه الإسلامي في تونس.
د. حسام الدين درويش:
دعني أنوّه بالتوازن الذي يتسم به موقفك من المثنويات أو الثنائيات الأيديولوجية، وتجاوزك للتخيير الزائف بين طرفيها. فعلى العكس ممن ينتقد الإسلاميين لصالح الاستبداد أو ينتقد الاستبداد لصالح الإسلاميين؛ أنت تقوم بالنقد المزدوج، ولا تتردد مطلقاً في الحديث عن مسؤولية الاستبداد السياسي، بوصفه أصل الشرور، فهو "بكل صنوفه يضرّ بالاستقرار، ويهدد النسيج المجتمعي، ويعمق الفجوات بين المواطنين، ويزيد المحن على كل المستويات". لكن نقدك للبنية الاستبدادية لا يجعلك تنكر كل فاعلية للناس، عموماً، ومن ضمنهم النخب. وأنت تحمِّل هذه النخب، جزءًا مهمًّا من المسؤولية، وأنه كان يمكنهم وينبغي لهم أن يفعلوا أفضل بكثير مما فعلوه، لكن نخب ما بعد الربيع العربي، لم تكن بمستوى التحديات، ولم تكن بمستوى المرحلة لكي تقود، لم تكن نخبًا بالمعنى المعياري على الأقل؛ أي كما يجب أن تكون. وثمة نقد خاصٍّ توجهه لنخب التيارات الإسلامية تحديدًا، مع تشديدك على تفاوت أداء هذه النخب بين بلدٍ وآخر، كالاختلاف بين نخب التيارات الإسلامية في تونس ومصر، على سبيل المثال. ما رأيك في هذه المسائل عمومًا، وفي مسؤولية نخب التيارات الإسلامية خصوصًا؟
د. محمد محفوظ:
سأتحدث عن نقطة بسيطة، نحت المفكر المصري عصمت سيف الدولة، مصطلحاً أرى من المناسب ذكره في هذا المجال، مصطلح الاستبداد الديمقراطي؛ ويعني الإسلاميين الذين حكموا في مرحلة ما بعد الربيع العربي، سينتج في أحسن الفروض ما سمّاه عصمت سيف الدولة، الاستبداد الديمقراطي. أنت تقول ما تريد، وأنا أفعل ما أريد، وهذا استبداد ديمقراطي، والذين وصلوا إلى الحكم من الإسلاميين في ظاهرة الربيع العربي، أنتجوا هذه الظاهرة. الآن الشعب التونسي، ويسمح لي الإخوة في تونس، فسحوا له المجال أن يقول كل ما يريد أن يقوله، ولكن الدولة لا تدار بهذه الكيفية؛ الدولة فيها عقد كبيرة تدار بحسّ تدبيري راق، وحسّ مؤسسي راق، لكن هذه الظاهرة أنتجت ما سماه عصمت سيف الدولة بالاستبداد الديمقراطي. على المستوى الديمقراطي توجد انتخابات، ولكن هذه الانتخابات ماذا تنتج؟ والقوى السياسية التي تصل بعد الانتخابات، هل تتمكن من بناء ديمقراطي حقيقي في هذا البلد أو ذاك؟ إنها تنتج ظاهرة تعيد صياغة الاستبداد بقفازات ناعمة، وهذه هي الظاهرة التي أنتجتها التجربة الإسلامية على مستوى الربيع العربي.
د. حسام الدين درويش:
ثمة ثنائية أخرى مهمة في كتابك أودّ أن أسألك عنها وعن كيفية توفيقك بين طرفيها: ثنائية التشابه والاختلاف بين الأوضاع في البلاد العربية المختلفة. فمن ناحية أولى، أنت تتحدث عن وجود تشابهٍ عامٍّ بين أوضاع الدول العربية، من حيث البنية أو الأساس أو الجوهر، وهذا التشابه يسمح بالكثير من الأحكام العامة أو التعميمات بخصوص تلك الأوضاع. لكن، ومن ناحية أخرى، أنت لا تنكر وجود الكثير من الاختلافات المهمة بين الأوضاع المذكورة، بل إنك تبرز هذه الاختلافات أيضًا أحيانًا. ويبدو الأمر وكأن هناك بنية واحدة عامة، مع وجود اختلافات في فاعلية الفاعلين السياسيين، من النخب. حدثنا عن هذه الاختلافات، وعن فهمك أو تفسيرك لوجودها، رغم أن الوضع العام متشابه إلى حدٍّ ما؟
د. محمد محفوظ:
على المستوى البنيوي، إحدى ضحايا كل الحكومات المصرية هي عدم بناء دولة حقيقية؛ يعني التجربة الناصرية تجربة حقيقية في مصر، ولكن هذه التجربة لم تتمكن من بناء دولة في مصر؛ هذه الدولة أصبحت أقرب إلى السلطة؛ بمعنى علم الاجتماع السياسي أقرب إلى السلطة وليس الدولة. مع العلم أن مفهوم الدولة في مصر مفهوم عميق، والمجتمع المصري تاريخيًّا حكمته دولة واحدة. أنا هنا أتحدث عن ضرورة التفريق بين فكرتين أساسيتين؛ أن الشعبية التي أوجدها عبد الناصر في ذلك الوقت، لم تستند إلى الديمقراطية، بل غاب مفهوم الدولة الحقيقي، فينبغي لنا أن لا نعتمد على شعبيتنا كقوى سياسية أو فكرية؛ الشعبية بدون التزام ديمقراطي مؤسسي يؤدي بنا على نتائج كارثية، وأمامنا أيضا تجربة مفارقة بين السلطة والدولة، ينبغي أن نفرق حينما نتحدث عن الدول، نفرق بين السلطة والدولة؛ لأن الدولة أكثر استقرارًا، وحيوية من مفهوم السلطة. أستطيع أن أقول بضرس قاطع، إنه في كثير من التجارب العربية المعاصرة، نحن نمتلك سلطات ناجزة ودولة لم تكتمل بعد.
د. حسام الدين درويش:
تشدد، في كتابك، على الترابط العضوي بين مفاهيم المواطنة المواطن الوطنية، فلا معنى للمواطنة من دون وجود مواطن. فهذا المفهوم ليس له معنى إن لم يتجسد في أفراد هم مواطنون فعليّون. ولا معنى للحديث عن الوطنية من دون وجود مواطنة ومواطن. كيف يمكن توضيح هذا الترابط عمومًا؟ وما مدى حضوره في الفكر الإسلامي الحديث؟
د. محمد محفوظ:
أنا أدّعي أن الفكر الإسلامي الحديث لم ينتج أفكارًا تدعم مفهوم المواطنة في العالم العربي. تحدث عن الوطنية كمعنى رومانسي، ولم يتحدث عن المواطنة كحقوق وواجبات سياسية وقانونية. لذلك، نتمكن من القول إننا جميعا وطنيون، جميعا نحن كعرب كلّنا نعتز بأوطاننا، ولكننا لسنا جميعاً مواطنين؛ نشعر أن مستوى حقوقنا وحقوقنا الدستورية والمؤسسية منقوصٌ فيها. لذلك، يغيب مفهوم المواطنة في مجتمعنا. ومفهوم المواطنة يختلف جذريًّا عن مفهوم الوطنية، نحن جميعا وطنيون؛ لأننا نعتز بأوطاننا ومساقط رؤوسنا، ولكن هذه الوطنية إذا لم يبن عليها مشروع مواطنة، فنحن سنعيش الإشكاليات التي يعيشها العالم العربي اليوم، هذه نقطة أولى. النقطة الثانية التي أودّ قولها من مصلحتنا كمجتمعات عربية أن نعيد الاعتبار لمفهوم الوطنية والمواطنة في التجربة المعاصرة. الوطنية الآن حقائق سياسية ودستورية، لا أستطيع أن ألغي أو أتجاوز هذه الحقائق الدستورية والسياسية، وإصلاح الجزء مقدمة لإصلاح الكل؛ فنحن كوننا أجزاءً في الوطن العربي الكبير والواسع، نعيش الكثير من الإشكالات والمشاكل. لذلك، فالوضع العام بشكل عام وشامل سيء؛ في حاجة إلى أن نعيد الاعتبار إلى مفهوم المواطنة بالدرجة الأولى كحقائق سياسية ودستورية. والوطنية لا تساوي شيئاً أمام قيمة الديمقراطية كحقيقة دستورية وسياسية واجتماعية، وهذه الإشكالية هي التي ينبغي أن نعود إليها باستمرار، هذه نقطة أولى. النقطة الثانية على مستوى الأطلس الأنثروبولوجي، المجتمعات العربية كلها متنوعة ومتعددة، الغالبية من المسلمين، ولكن حينما نأتي إلى هذه الغالبية الإسلامية، تتفرع هي الأخرى مذهبيًّا. لدينا أقليات مسيحية في العالم العربي، عليهم واجبات ولهم حقوق، نحن في حاجة إلى أن نعيد الاعتبار لطريقة إدارة التنوع والتعدد الموجودة في العالم العربي. بالمناسبة أنا الآن أكتب كتاباً عن طبيعة العلاقة بين الشيعة العرب وإيران، كنت أعتقد أن هذه الإشكالية هي مكملة لإشكالية ما بعد الإسلام السياسي. فإذا ما اكتمل هذا الجزء، سوف أتمكن من بناء رؤية أكثر شمولًا، وأكثر عربية إذا صح التعبير، من العلاقة بين إيران كدولة مجاورة للعالم العربي، وبين الشيعة العرب، وإشكالية طبيعة العلاقة بين النظائر المذهبية.
د. حسام الدين درويش:
أنت تعلم أن مفاهيم المواطنة والمواطنة والوطن والدولة (الحديثة) هي مفاهيم علمانية؛ بمعنى أنها ليست قائمة على أساس الدين. وقد كان الطهطاوي وبطرس البستاني من أوائل من تحدثوا عن هذه المفاهيم في العالم العربي، في القرن التاسع عشر. ففي النصوص المجموعة تحت عنوان "نفير سوريا"، شدد بطرس البستاني على وحدة السوريين وانتمائهم إلى كيان سياسي واحد، يتجاوز اختلافاتهم الدينية والطائفية، بوصفهم مسلمين ومسيحيين ودروز ... إلخ. فمفهوم الوطنية، بهذا المعنى، كان أصلاً لتجاوز الاختلافات والانقسامات والفتن والاضطرابات الدينية، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، لست متأكدًا من رأيك في مشكلة التيارات الإسلامية في التعامل مع مفاهيم الوطن والدولة...إلخ، فهي تفضل مصطلح "الأمة الإسلامية". ومشهورةٌ الكلمة التي أطلقها مرشد الإخوان المسلمين في مصر "طز في مصر"؛ لأن هناك شيئًا أكبر، هو الأمة الإسلامية. أنت أشرت إلى سوء تعامل الدولة مع التيارات الإسلامية وممارستها الإقصاء والقمع...إلخ، لكن التيارات الإسلامية تنظر إلى الدولة القائمة نظرةً سلبيةً يغيب عنها الاعتراف والتقبل أو حتى القبول. فإلى أيّ حد ترى أن هناك مشكلة في فكر التيارات الإسلامية بخصوص مفهوم الدولة وواقع الدولة؟
د. محمد محفوظ:
أنا أحمّل بالدرجة الأولى مؤسسة الدولة؛ أرى أن مؤسسة الدولة في كل العالم العربي لم تنتج مشروعاً وطنيًّا، والوطني هنا بمقاس كل دولة على هذا الصعيد، أين المشروع الوطني للحكومة المصرية؟ أين المشروع الوطني لأيّ حكومة عربية؟ لا يوجد مشروع وطني؛ يعني الدول أبقت الحواجز النفسية والسياسية والاجتماعية. نحن ما دمنا نتحدث أن المجتمع متعدد ومتنوع، فهو في حاجة إلى مشروع اندماجي. من المعني باندماج المجتمع في رؤية وطنية واحدة وفي مشروع وطني واحد؟ أي دولة عربية تبنت مشروعاً وطنيًّا لمجتمعها؟ لا توجد أي دولة عربية تبنت مشروعاً وطنيًّا لبلدها، لدمج مجتمعاتها، أيّ مجتمع فيه من هذا الطرف ومن ذاك الطرف. أنا حينما أتحدث عن مشروع، كيف ندمج المختلفين على الصعيد الوطني، كيف نقرّب بين المتنوعين على الصعيد الوطني، غاب المشروع الوطني، وأحمّل بالدرجة الأولى مؤسسة الدولة.
د. حسام الدين درويش:
وبالدرجة الثانية؟
د. محمد محفوظ:
أحمّل الإسلاميين.
د. حسام الدين درويش:
أنا لا أستفزّك لتحمِّل الإسلاميين مسؤولية ما أيضًا، فهذا ما جاء في كتابك بوضوحٍ. وكتابك يتحدث عن حاجة هؤلاء الإسلاميين إلى ممارسة النقد الذاتي، وإلا ستتدهور أحوالهم أكثر فأكثر. وأنت تبين أن هذا التدهور ليس نتيجةً لقمع الدولة أو السلطات الحاكمة فحسب، بل هو أيضًا نتيجة لأقوال وأفعال نخب التيارات الإسلامية. فرؤيتك ليست رؤية بنيوية مطلقة، فهي تفسح المجال لفاعلية ما للذوات في هذه البنية. أنت تقول إن الدولة، الاستبداد، الأنظمة مسؤولة بالدرجة الأولى، لكنك لا تقصر مطلقًا في الحديث عن المسؤولية من الدرجة الثانية، مسؤولية النخب المعارضة عمومًا، ولا سيما نخب التيارات الإسلامية.
لا يتضمن كتابك نظرة مطلقة السلبية تجاه الأيديولوجيا. أنت تقول إن الإيديولوجيا هي لخدمة الإنسان، ويمكن أن تكون مفيدة، ومن حيث المبدأ، الإيديولوجيا ليست سيئة. لكن الأيديولوجيا تصبح سيئة، عندما تأخذ شكلًا قمعيًّا إقصائيًّا، و/ أو تسخر الإنسان لأجلها، وتوظفه ليكون قاتلًا للمختلف معه أو معها. وهذا بالتحديد ما تنتقده، أليس كذلك؟
د. محمد محفوظ:
نعم صحيح، وأمامنا تجربة ما يسمى بالدول التقدمية في العالم العربي، كيف تعاملت الدول التقدمية في العالم العربي وأنتجت هذه التجربة؟ هل وحّدت المجتمع في طريقة إدارتها له، أم زادته فرقة وتمايزًا عن بعضه البعض. التجربة الديمقراطية طرحت شعارات كبيرة وواسعة، ولكن ما أنتجته تحول أشبه شيء إلى إدارة مزرعة، أنا لا أقول شركة بل مزرعة، والمزرعة أقل رتبة من الشركة، وإدارة ليست مزرعة أو شركة، تحتاج إلى إدارة مختلفة عن هذا. لذلك، التجربة التقديمة هي تجربة، أنا أعتقد هي التي أسست لظاهرة الربيع العربي كسبب جوهري لما يسمى بالربيع العربي، فما أنتجته الدول التقدمية التي تلخصت في الأمين العام لهذا الحزب أو ذاك الحزب، تجربة ماثلة أمامنا في الكثير من الدول والمناطق.
د. حسام الدين درويش:
أنت لست ضد الإيديولوجيا في حد ذاتها، وإنما الإيديولوجيا عندما تأخذ هذا الشكل أو ذاك من الإقصاء والعنف. وحتى الانتماءات الدينية أو الطائفية أو انتماءات ما قبل الدولة أو ما دون الدولة؛ أي أن يكون الشخص سنيًّا أو شيعيًّا أو درزيًّا أو علويًّا أو مسيحيًّا ...إلخ، أنت لا تراها أمرًا سلبيًّا من حيث المبدأ. ما تنتقده بشدة، وتؤكد سلبيته، هو تغليب تلك الانتماءات على الانتماء الوطني أو الانتماء إلى الدولة الوطنية، وتشدد على أن هذه الظاهرة السلبية موجودة لدى منتمين إلى كل الأديان والطوائف والمذاهب، وليست محصورةً بدينٍ أو طائفةٍ أو مذهبٍ بعينه.
د. محمد محفوظ:
أستاذي، صدر لي كتاب في بداية الربيع العربي من دار الانتشار في لبنان أسميته؛ الطائفية والعنف والتحول الديمقراطي، وكنت أرى أن الطائفية من معوقات أي تحول ديمقراطي يجري في أي تجربة عربية؛ لأن النظرة إلى الطائفية نظرة سيئة؛ أولا، ينبغي ألاّ نتعامل مع وجودنا كطوائف متعددة ومتنوعة كحالة سلبية، هي حالة إيجابية إذا ما تعاملنا وأدرنا خلافاتنا بطريقة إيجابية، ولكن هذه الطائفية بالمعنى المذهبي، دعني أسميها التعدد المذهبي، التعدد المذهبي لو أدرناه بطريقة إيجابية، سيكون مصدرًا من مصادر الثراء المعرفي والاجتماعي. وإذا ما أدرنا الطائفية كنتيجة من مشاكلنا الأمنية والسياسية، وتعاملنا مع التعددية المذهبية بوصفها ملفًّا من ملفات الأمن الوطني والأمن القومي، أنتجنا ظواهر سلبية ستسهم في تأكيد هذا الانتماء في مجتمعاتنا العربية. كيف نتمكن من بناء رؤية جامعة لأوطاننا العربية؟ هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجهنا في العالم العربي، لا نستطيع أن نغير التاريخ، ولا نستطيع أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء، والحقائق الاجتماعية حقائق عديدة بطبيعة الحال، اجتثاثها من أيّ مجتمع ليس بالسهولة التي نتوقعها. ولذلك، ينبغي أن نتعامل مع حالة التعددية المذهبية في المجتمعات العربية برؤية مختلفة عما هو سائد؛ هذه التعددية واقع حقيقي في مجتمعاتنا العربية. هذه الظاهرة أنتجت عنفاً، وكذلك متغيرات، هل نستطيع أن ننكر أن المسيحيين في العالم العربي كانوا روادًا للنهضة العربية الحديثة؟ هل نستطيع أن نتحدث عن النهضة العربية بمعزل عن المسيحيين في العالم العربي؟ لا نستطيع، هم مسيحيون، ولكن أنتجوا إصلاحاً في التجربة العربية المعاصرة، وعلى الصعيد السياسي أيضاً. لا أستطيع أن أتعامل إلا بعقلية الاستيعاب والاحتواء لكل المكونات والتعبيرات الاجتماعية والسياسية... التجربة الآن في لبنان، كلّنا في العالم العربي قد نتحدث عن إشكالية تغول الدولة في مجتمعاتنا العربية، إلا الدولة في لبنان، الدولة تعاني من حالة رخوة وضعف. لذلك، نتحدث عن المجتمع الذي يتقوى ضد الدولة، ولا نتحدث عن الدولة التي تقمع المجتمع، وإنما نتحدث عن الواقع الاجتماعي في لبنان، وهو واقع طائفي تغلب على مؤسسة الدولة؛ فنحن أمام مفارقتين حقيقيتين؛ مفارقة الدولة الصلبة التي قمعت التعددية في مجتمعاتنا العربية، والدولة الرخوة التي أدت إلى صعود طائفية ومذهبية واجتماعية متغلبة على مؤسسة الدولة. فنحن لا نتمكن من إدارة الواقع العربي بدولة صلبة طاردة لقوى المجتمع الحي، ولا نستطيع أن ندير مجتمعاتنا العربية بدولة رخوة تتوزع بين انتماء طائفي بهذه الاتجاه، وانتماء طائفي باتجاه آخر. المجتمع العربي ينبغي أن يدار بنفس إيجابي، يأخذ بعين الاعتبار مفهوم الشراكة السياسية، وبالتالي كل من يشارك وكل من يقبل المشاركة في هذه التجربة، ينبغي أن يُفتح له المجال، ولا نتعامل مع مفهوم الشراكة السياسية في العالم العربي بنفس الغالب والمغلوب، وإنما نتحدث بنفس القادر على تقديم شيء لهذا المجتمع.
د. حسام الدين درويش:
يشدد الكتاب على أن الاختلاف ليس أمرًا واقعاً، نحن مكرهون على التعامل معه، بوصفه مشكلة ينبغي معالجتها والتخلص منها، بل هو أمرٌ إيجابي يمكن وينبغي الاغتناء به. فعلى سبيل المثال، ليس هناك مشكلة، من حيث المبدأ، في وجود طوائف متعددة، المشكلة في وجود الطائفية تحديدًا. ما هو مثيرٌ وربما مستفزٌ للتفكير هو أنك في سياق الحديث عن الاختلاف وضرورة التفاعل الإيجابي معه، تشيد بنهج الفقه، وبالرؤية الفقهية في التعامل مع المسألة. أنت تعلم كم هو شائع وسائد ومهيمن، حاليًّا، نقد الرؤية الفقهية ونقد الحضور الفقهي، حتى أصبحت كلمة فقه متصلة، في أحيانٍ ليست نادرةٍ، بمعاني الجمود والقهر والأحادية ورفض الاختلاف. فيا حبذا لو أنك تشرح رؤيتك للتعامل الفقهي مع الاختلاف وإشادتك به؟
د. محمد محفوظ:
حينما أتحدث عن الفقه، لا أتحدث عن الحق والباطل، أتحدث عن الصح والخطأ، منهج الفقه لا يقودنا إلى منهج الحق والباطل، بل يقودنا إلى الاختلافات الطبيعية، خطأ وصواب. لذلك، أتمنى أن يسود المنهج الفقهي؛ لأنه يعتمد على ثنائية الخطأ والصح، ونبتعد عن النهج الإيديولوجي الذي ينطلق من الحق والباطل. نحن جميعا قد نختلف في وجهات النظر، ولكن اختلافنا ليس على قاعدة الحق والباطل، وإنما على قاعدة الصح والخطأ؛ فهذا يجنبنا الكثير من الإشكاليات السياسية والاجتماعية التي تتعلق بالأمن الاجتماعي لمجتمعاتنا، الأمن الاجتماعي يتعلق بالدرجة الأولى كيف ننظر إلى الآخر من خلال نظرتنا إلى ذواتنا.
د. حسام الدين درويش:
دعني أتفق معك، لأختلف معك بعدها. من ناحية أولى، أنت بالفعل تشيد بالفقه في سياق التمييز بين التخطيء والتكفير، وتقول إن الفقه يقودنا إلى التخطيء، وليس إلى التكفير، وتعطي أمثلة معروفة عن فقهاء يشددون مع الحديث النبوي القائل: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر"، فهم يقرّون دائمًا بإمكانية الخطأ. لكن، من ناحيةٍ ثانيةٍ، أنت تعلم كم من الفتاوى والأحكام التكفيرية قد صدرت وتصدر استنادًا إلى رؤى فقهية ومضامين فقهية وأحكام فقهية.
د. محمد محفوظ:
دعني أتحدث عن نقطة أخرى، وهي حينما ننظر إلى تجربة الفقهاء الذين أنتجوا تكفيرًا، لم يلتزموا بمنهج الفقه، هم صحيح فقهاء، ولكن حينما تحدثوا عن التكفير، لم يتحدثوا عن التكفير بمنهج فقهي، وإنما تحدثوا عن التكفير بمنهج مغاير للفقه. لذلك، أعود وأكرر أهمية الالتزام جميعاً بالمنهج الفقهي الذي يعتمد على ثنائية الخطأ والصواب، وأهم شيء أن نبتعد عن ثنائية الحق والباطل. أنا وإياك نختلف، ولكن لا أستطيع أن أقول، ولا تستطيع أنت أن تقول إننا نختلف بين حق وباطل، بعض الفقهاء أنتجوا تكفيرًا، يعني تعاملوا مع الموضوع بحق وباطل. لذلك، وبالمناسبة، أرى أن الشيخ ابن تيمية هو أحد المسؤولين عن إنتاج هذه الظاهرة، وأن المنهج الذي اعتمده، لم يكن منهجاً فقهيًّا أصيلًا. هذا لا يلغي أهمية المنهج الفقهي، وضرورة العودة إلى هذا المنهج بوصفه هو الخيار المناسب في هذا السياق، ولكن المنهج الفقهي لا يعتمد على ثنائية الحق والباطل، وإنما يعتمد على ثنائية الخطأ والصواب.
د. حسام الدين درويش:
لا يكتفي الكتاب بتشخيص المشاكل وأسبابها ونتائجها، بل يقوم، أيضًا، باقتراح أو تقديم الحلول لتلك المشاكل والأسباب والنتائج، فيتحدث، في هذا الصدد، عن أهمية وضرورة الحرية والعدالة والمساواة. ومن حيث المبدأ، قد لا يختلف اثنان على أهمية هذه القيم؛ لكن ما قد يُختلف عليه بشدّةٍ هو الرؤية المعيارية التي تقدمها، والتي تتحدث لا عن الترابط بين الإسلام والديمقراطية، وعن إمكانية اتساق الإسلام مع الديمقراطية، فحسب، بل أيضًا عن أن الديمقراطية، في العالم العربي، لا يمكن أن تكون إلا إسلامية. وانطلاقًا من ذلك، تؤكد أن عملية الإصلاح التي ينبغي أن تحصل، في العالم العربي، في أسرع وقتٍ ممكنٍ، ينبغي أن تسير على عجلتين: الإسلام والديمقراطية. هل يمكن أن تشرح ذلك الترابط الضروري، من وجهة نظرك، بين الإسلام والديمقراطية، في عملية الإصلاح في العالم العربي؟
د. محمد محفوظ:
بالمناسبة في عام 1996، صدر لي كتاب في المركز الثقافي العربي، عنوانه: الإسلام ورهانات الديمقراطية، وقد صلت إلى هذه النتيجة، الإشكاليات التي نتحدث عنها، أن الإسلام مناقض للديمقراطية. أنا أعتقد أن هذه إشكاليات تعوق الإسلاميين والمسلمين، وتعوق الفكر الديمقراطي في الوسط العربي. لذلك، أرى أنها إشكالية غير واقعية. وبالتالي، لا يمكن أن نتقدم على الصعيد العربي إلا بجناحين؛ جناح الإسلام من جهة؛ لأننا لا نريد أن ننتج تجارب مناقضة للدين الإسلامي كقيم ومبادئ ومثل عليا، ولا يمكن أن نصل إلى هذا الجناح إلا بجناح الديمقراطية.
د. حسام الدين درويش:
اسمح لي هنا بسؤال يبدو مشاكساً، لكنني أراه ضروريًّا وملحًّا في هذا السياق. أنت ضد منهج أو الرؤية التكفيرية؛ تكفير الآخر، من ناحيةٍ، وتتبنى ثنائية الدين وأنماط التدين، من ناحيةٍ أخرى. ووفقًا لتلك الثنائية، ثمة أنماطٌ مختلفة من التدين، وهي ليست مختلفة عن الدين ومغايرة له فحسب، بل هي، في بعض الأحيان على الأقل، مضادة ومناقضة للدين. وسؤالي هنا، أليس هذا شكلًا من أشكال التكفير؟ فعندما أقول لشخصٍ ما، إن نمط تدينك ليس دينًا، ليس إسلامًا، ألا يعني ذلك أو يتضمن أنني أكفره؟
د. محمد محفوظ:
أودّ القول إن الدين متعال على كلّ زمان ومكان، وقيم الدين متعالية على كل زمان ومكان؛ ما نعيشه نحن من الدين هو الذي نسميه تديناً ونمطاً دينيًّا؛ هذا النمط قد يكون منسجماً مع قيم الدين، وقد يكون مغايرًا لقيم الدين، وقد يكون مناقضاً لقيم الدين. أنا حينما أقول توجد أنماط دينية مناقضة لقيم الدين، لا أمارس التكفير بهذا المعنى، إنما على حسب فهمي للدين الإسلامي. وقد تحدثت في هذا، حينما نتجت ظاهرة العنف الديني؛ ففي فترة زمنية قريبة أنتج العالم إشكالية العنف الديني، وكنت أرى أن هذا العنف لا يستند على رؤية دينية صحيحة، ولم أتبنّ فكرًا تكفيريًّا في هذا الإطار، وإنما كلّ ما استطعت قوله، إن الدين بريء من هذا التوجه، وأن الدين لا ينسجم مع هذا التصرف. ولذلك، سميت هذا التصرف نمطاً من أنماط الدين، ولكن ليس هو الدين، والدين مناقض لذلك. لذلك، حينما أستخدم أنماط التدين للهروب من فكرة التكفير، لا أستطيع ولا أمتلك الجرأة المعرفية، ولا العلمية أن أصف شخصاً من الأشخاص بأنه والعياذ بالله كافر.
د. حسام الدين درويش:
أنت لا تصفه بذلك، لكن ألا ترى أن حديثك عن أن نمط تدينه مناقض للدين ويتضمن تكفيرًا؟ يتضمن كتابك نقدًا للرؤية الثقافوية، وهي الرؤية التي ترى في الثقافة، في الدين، أو في المجتمع، جذور العنف، ويتبنى رؤيةً أخرى لجذور العنف الديني في المجتمعات العربية والإسلامية، هل يمكن شرح هذه الرؤية؟
د. محمد محفوظ:
أنا أنظر إلى الموضوع من زاويتين؛ وأحمّل، بالدرجة الأولى، السياسي في العالم العربي. فالسياسي أسهم في إنتاج ظاهرة العنف، حينما أغلق الطريق أمام التعبيرات الديمقراطية والحرة أمام الآخرين، ما دفعهم إلى تبني خيارات عنفية. وأحمّل الدولة والسياسي بالدرجة الأولى مسؤولية ذلك. النقطة الثانية أن هناك تفسيرات ثقافوية، على حسب تعبيرك، هي التي أسهمت في إنتاج هذه الظاهرة. نحن بحاجة أن ننظر إلى الموضوع بمنظار مركب من بعضه البعض، لا أتحدث عن سبب وحيد، وإنما أتحدث عن أسباب وعوامل مركبة أنتجت ما نسميه ظاهرة العنف الديني. الإشكالية الحقيقية حينما نتعامل مع هذه الظاهرة بوصفها نتيجة خيار واحد، أو نتيجة سبب واحد. أنا لا أتحدث عن سبب واحد، وإنما أتحدث عن ظاهرة مركبة، فهوياتنا جميعا مركبة، وعلى الصعيد الثقافي هوياتنا مركبة، وعلى الصعيد السياسي أيضا هوياتنا مركبة. لذلك، لا أتحدث عن سبب وحيد، ليس ضمن نظرية الحتمية النهائية في الموضوع، وإنما أقدم رؤية مركبة من بعضها البعض، تؤدي إلى نتيجة أن هناك ظاهرة نسميها العنف الديني، وهي ظاهرة ليست إيجابية، بل أسهمت في تعميق وتعزيز تعويق المجتمعات العربية في النهوض والتقدم.
د. حسام الدين درويش:
يميّز الكتاب بين مرحلتين/ لحظتين فكريتين/ سياسيتين مرت بهما التيارات الإسلامية بمستويات متفاوتة: لحظة بناء الجسور بين الإسلام والسياسة في الخمسينيات حتى السبعينيات، ولحظة الصحوة الإسلامية وبناء الجسور بين الإسلام والديمقراطية، وهي مستمرة حتى الآن، ولم يحصل حتى الآن قبول كامل بقواعد اللعبة السياسية وقبول فعلي بالديمقراطية، لدى الإسلاميين. ويتضمن الكتاب دعوة إلى تحول الإسلام السياسي أو التيارات الإسلامية من الأصولية إلى المدنية، وإبرازًا لضرورة هذا التحول. فما الذي تعنيه، بهذا التحول الذي يحصل ويجب أن يحصل، من وجهة نظرك؟
د. محمد محفوظ:
سأتحدث عن فكرة أساسية واحدة، حينما ننظر إلى طبيعة الإسلاميين في النظر إلى مفهوم السياسة، سننظر أن هذا المفهوم مرّ بمراحل عديدة. في الخمسينيات والستينيات، كان الجهد الفكري الحقيقي، هل الإسلام يتضمن مفهوماً سياسيًّا أو لا يتضمن، كانت المعركة تتعلق بهل في الإسلام سياسة أم لا؟ حينما انتهت هذه المرحلة في نهاية السبعينيات، بدأت مرحلة هل الإسلام ينسجم مع الديمقراطية والحرية؟ وصارت الإشكالية مختلفة، ونتذكر حينما أصبح محمد خاتمي رئيساً في إيران، وكتب مجموعة كتب هي في سياق التأكيد على أهمية كيف يكون الدين مساندًا للحرية والديمقراطية. تجاوزنا المرحلة الأولى عبر زمن مرحلة المصالحة بين الدين والسياسة، ودخلنا في مرحلة المصالحة بين الدين والحرية. ويبدو لي أنه بعد الربيع العربي، سندخل في مرحلة المصالحة بين الدين والتنمية، لماذا؟ لأن هذا هو جزء طبيعة التطورات الفكرية في المجتمعات العربية. نحن لا نتحدث عن تطور فردي، وإنما نتحدث عن تطور اجتماعي كامل؛ فالتطور يطبعه مفكرون لا شك، والمفكرون أفراد، ولكن هذا التطور ليس طريقه للصعود طريقاً مستقيماً، وإنما قد يكون دائريًّا. لدينا بعض التأخر، وهو تقدم في الوقت نفسه، وإشكاليات تتعلق بالتقدم. لذلك، فأسئلة التقدم هي الأسئلة المهمة، ليست الأسئلة التي تؤبد الواقع السيء أو تؤبد التخلف، وإنما هي أسئلة التقدم التي نحن بحاجة إليها. لذلك، حينما ننظر إلى الموضوع من المصالحة بين الدين والسياسية، إلى المصالحة بين الدين والحرية، وننتهي إلى المصالحة بين الدين والتنمية. لماذا واقعنا التنموي في مجتمعاتنا العربية واقع سيء، يعاني في كثير من العالم العربي من ظروف اقتصادية سيئة، وإحدى الخواصر الرخوة في مجتمعاتنا العربية أنها مجتمعات اقتصاديًّا ومعيشيًّا تعاني من إشكالات حقيقية وبنيوية. لماذا لا نصالح بين الدين والتنمية، وندخل الوازع الديني في مشروعات التنمية. لذلك، حينما أتحدث عن التحول المدني بهذا المعنى، بعيدًا عن المضاربات الإيديولوجية في صناعة الدول، ينبغي الاهتمام ببناء الإنسان، وأن الدولة الأساسية عليها أن تهتم ببناء الإنسان بالدرجة الأولى. لذلك، سميتها دولة الإنسان لتجاوز الانتماءات الإيديولوجية المختلفة، فحينما نتمكن من بناء دولة الإنسان، سنتمكن من مشروعات تنموية حقيقية، نستفيد من كل الفرص، ونستفيد من كل الإمكانات المتاحة في الواقع العربي. ومن هذه الإمكانات الوازع الديني حينما نستثمره، وندخله في مشروعات تنموية حقيقية.
د. حسام الدين درويش:
لديّ سؤالٌ يتعلق بعنوان الكتاب "ما بعد الإسلام السياسي"، وهو، في الوقت نفسه، عنوان القسم الأخير من الفصل الثالث. فلماذا تم اختيار عنوان جزء من فصلٍ عنوانًا للكتاب، مع أن معظم أجزاء الكتاب تتحدث عن الإسلام السياسي؟ وما الاختلاف بين هذا المفهوم الذي تقدمه، ومفهوم ما بعد الإسلاموية الذي تحدث عنه آصف بيات وأوليفر روي؟
د. محمد محفوظ:
للإجابة عن السؤال الأول، أرى أن ما بعد الإسلام السياسي كعنوان، هو الذي ينبغي أن تكون المرحلة القادمة وبحاجة إلى المزيد من الجهود الفكرية والثقافية والمؤسسية، حتى يتبلور أكثر على المستوى الفكري والثقافي والسياسي، مرحلة ما بعد الإسلام السياسي. لا أدّعي أن هذا الكتاب وفّر إجابات مقنعة ونهائية، وإنما أدعي أن هذا الكتاب وفر مجموعة أسئلة، هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات متنوعة ومتعددة من خلال هذه الإجابات المتعددة والمتنوعة، نحن نراكم من تجربة الوعي العربي بهذا الاتجاه، وحينما نراكم من تجربة الوعي هذه، سنصل إلى حقائق جوهرية على كلّ مستوياتنا العربية والإسلامية.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، كلامك في هذا اللقاء ولَّد لدى بعض الحاضرين الانطباع بأنك تبالغ في تحميل المسؤولية للدولة عن الأوضاع السلبية في العالم العربي، مع العلم أن كتابك يتضمن نقدًا شديد اللهجة للإسلاميين وتحميلهم جزءًا من المسؤولية. فما ردّك على الأستاذ عبد العزيز، ومن يرى أنك تفرط في تحميل الدولة المسؤولية في هذا الخصوص؟ وماذا عن الرؤية الشائعة التي قدمها د. صابر، والقائلة إن الإسلام السياسي ذو جوهر واحد مهما تعددت مظاهره، وإن هدفه هو إقامة دولةٍ دينيةٍ؟
د. محمد محفوظ:
حينما نتحدث عن مفهوم الفواعل السياسية، نتحدث عن الدولة بوصفها الفاعل رقم واحد، وحينما نحمل الدولة مسؤولية قصوى في هذا الموضوع لا نلغي مسؤولية الآخرين، ولكن نرى أن الدولة تتحمل مسؤولية رقم واحد في هذا الموضوع، وهذا لا يعني أن رقم 2 و3 غير موجود. وبالنسبة إلى الدكتور صابر، دعنا نقول بشكل قاطع، لا يوجد مصطلح دولة دينية، مصطلح دولة دينية أنا أعتقد خاطئ، لا توجد لدينا دولة دينية، حينما يحكم الإسلامي في أقصى التقادير لغويًّا، تجوزًا نقول الحكم الإسلامي، ولكن ليس على المعنى الواقعي، وإنما على معنى التجوز، نحن نقول حكم المسلمين، حكومة دينية أو دولة دينية، أنا أعتقد ليست موجودة في أي تجربة من التجارب، لا أحد يدعي أن هذه هي تجربة الدين.
د. حسام الدين درويش:
حتى الإسلاميين يرفضون مصطلح الدولة الدينية، وينادون بدولةٍ إسلاميةٍ. هذا هو حال الإسلام السياسي، السنّي، على الأقل.
د. محمد محفوظ:
حتى الإسلام الشيعي يقول ذلك، ومن ثم الدولة الدينية عندنا إشكالية ثيوقراطية في الموضوع؛ فبالتالي لا أحد يتبنى مصطلح الدولة الدينية. أيضا د. صابر، أتمنى ألا ننظر إلى الإسلاميين بمنظار نمطي. صحيح الإسلاميون جوهرهم الفكري والإيديولوجي يقترب من بعضه البعض، ولكن حينما نريد أن نحكم على أي تجربة ينبغي أن ندقق في تفاصيلها؛ هناك نسخ متعددة للإسلاميين في هذا الموضوع. لذلك، ينبغي أن نفرق بين الإسلاميين، ولا نعدّ التجربة الإسلامية بشكل عام، تجربة واحدة على هذا الصعيد، وإنما هي تجارب متعددة على حسب النسخ والظروف السياسية والمجتمعية الموجودة في هذا البلد أو ذاك البلد.
لا شك أننا في حاجة إلى وعي جديد للدولة ووظائف الدولة، والإنسان بوصفه متحركاً ومفتوحاً، أنا أراه هو بنية الدولة الجديدة التي نريدها حقوقاً ووجودًا، هو الإنسان نفسه، لا نريد دولة معادية للإنسان وحقوق الإنسان، وإنما نريد دولة تنطلق من الإنسان وتعود إلى الإنسان، وهذا الإنسان سيبقى متحركاً ومفتوحاً في كل زمان ومكان. ودور المجتمع المدني على هذا الصعيد، دور حيوي وأساسي وبحاجة إلى جهود كثيرة، ولكن هذا الموضوع يدخلنا في موضوع آخر يتعلق بدور المجتمع المدني.
قيمة الدولة ستبقى، ما تقدمه الدولة في أي مجتمع هي القيمة الأساسية والحقيقية؛ الدولة التي تقدم منجزات ومكاسب، سواء على الصعيد السياسي أو المعاشي أو الاقتصادي، ستبقى دولة محترمة ومقدرة. أما الدولة التي لا تقدم إلا أفكارًا ونظريات كبرى، ولكن واقع مختلف عن ذلك، ستبقى غير محترمة، وإنما ستبقى دولة مرذولة، إذا جاز التعبير، وليست محترمة على هذا الصعيد.
دة. ميادة كيالي:
في كتابكم "ما بعد الإسلام السياسي"، أشرتم إلى ضرورة بناء "دولة الإنسان" التي تحترم التنوع الثقافي والاجتماعي وفق رؤية مدنية. ما هي أبرز العقبات التي تواجه تحقيق هذه الرؤية في العالم العربي؟ وكيف يمكن تجاوزها في ظل التحديات الأيديولوجية والسياسية الراهنة؟
د. محمد محفوظ:
أعود إلى ما قاله المفكر الفرنسي باشلار؛ العلم خطأ مصحح، العلم سيبقى خطأ مصححاً، حينما نكتشف العلم من خلال إبداع مبدع، ونحن نصحح خطأ قائماً في المجتمع. لذلك، نظر باشلار إلى مفهوم العلم بوصفه خطأ مصححاً، هذا ما أردت أن أقوله للدكتورة ميادة على هذا الصعيد.
د. حسام الدين درويش:
أود الإشارة إلى أن هذه الندوة، حتى في صيغتها المكتوبة، ليست بديلًا عن قراءة الكتاب. وفي كل الأحوال، لم تغطِّ الأسئلة التي طرحت سوى جزءٍ يسيرٍ من مضامين الكتاب. وأرجو أن يكون ذلك واضحًا للجميع، حيث لا تطلق الأحكام الجازمة على الكتاب إلا بعد قراءته. فالغرض من هذه الندوات إثارة الأسئلة والنقاشات والتشجيع على قراءة الكتاب، وليس أن تكون بديلًا عنه. ويتساءل الصديق العزيز أمين اليافعي إن كنت ترى أن "الإسلام (السياسي) هو الحل"؟ وثمة سؤال عن كيفية التعامل مع ثنائية الدولة والمجتمع، ومفهوم الإصلاح الثقافي او الإصلاح الديني؟
د. محمد محفوظ:
ليس الإسلام هو الحلّ، الإيمان هو الحل. أنا في تقديري، سيبقى الإيمان هو الحل، نحن في حاجة إلى مجتمع مؤمن يتجاوز كل هذه التداعيات والتعبيرات. أنا لا أتحدث عن الإسلام السياسي أو غير السياسي، الإيمان مطلوب وهو الحل، لا أتحدث عن الإسلام هو الحل، وإنما الإيمان هو الحل.
بالنسبة إلى ثنائية الدولة والمجتمع، ومفهوم الإصلاح، أعتقد أننا نحن بحاجة إلى مفهوم الإصلاح الثقافي، والإصلاح الثقافي أوسع نطاقاً من مفهوم الإصلاح الديني. أنا أحمّل مسؤولية الإصلاح الثقافي كجزء من إصلاح الوضع القائم بين الدين والدولة. لا أحتاج إلى إصلاح ديني على هذا الصعيد، وإنما إلى المزيد من الإصلاحات الثقافية، وأنا أعتقد أن الإصلاح الثقافي سيقودنا إلى فهم ديني مختلف. المجتمع المتقدم على هذا الصعيد، يفهم الدين بطريقة مختلفة عن المجتمع المتخلف، المجتمع ومقدار ثقافته إصلاحية أو غير إصلاحية، ينعكس هذا إيجاباً أو سلباً على فهمه للدين. لذلك، أنا أقول المربط الأساس على هذا الصعيد، إطلاق مفهوم الإصلاح الثقافي، وإنتاج المزيد من الدراسات والأبحاث التي تقدم رؤى جديدة في ما يتعلق بالإصلاح الثقافي، هذا فقط دكتور.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا. أرى ضرورةً الإشارة إلى أن مفهوم الإصلاح كان، على الأرجح، من أكثر المفاهيم المستخدمة في الكتاب. لكننا لم نعطِ هذا المفهوم حقه من النقاش في هذه الندوة. ويشدد الكتاب على أن الإصلاح المطلوب ليس ثقافيًّا فحسب، بل ينبغي أن يكون سياسيًّا ومؤسساتيًّا وقانونيًّا أيضًا، وأن هناك ضرورة قصوى للبدء به في أسرع وقت ممكن. هذه مسائل لم نتحدث عنها كثيرًا، رغم أنها مركزيةٌ ومحوريةٌ في الكتاب. وكما قلت الغرض من هذه الندوة، بالإضافة إلى مناقشة الكتاب ومضامينه وإبرازها، الحض على العودة إلى الكتاب؛ وليس أن يكون بديلًا عنها.
شكرًا جزيلًا لجميع من أسهم بحضوره ومناقشاته في إغناء هذه الندوة. والشكر الأكبر يذهب، بالتأكيد، إليك الدكتور محمد على تفاعلك الطيب مع مجريات هذه الندوة. وعلى أمل أن نلتقي بك في معرض الرياض. وكما بدأنا مسكًا مع دة. ميادة، نختمها مسكًا معها، تفضلي دة. ميادة.
دة. ميادة كيالي:
أودّ أن أعقب، نحن، يا دكتور محمد، نحتاج إلى إيمان بلا حدود. أشكرك على هذه الندوة التي كانت حوارية، أجبت فيها عن أسئلة، وطرحت وأثرت أسئلة كثيرة، ربما نتركها إلى مناسبة مناقشة الكتاب القادم الذي سيصدر قريباً عن مؤمنون بلا حدود، كما أشكر د. حسام على طرحه لمفاصل عميقة من الأسئلة، وتغطيته للكتاب بشكل ممتاز، والشكر لكل المتداخلين. أنا سعيدة جدًّا بنجاح هذه التجربة التي تخلق فضاءً حرًّا نلتقي ونتناقش فيه، لنخرج كل ما في أذهاننا من أفكار حول واقعنا وحول ما نطمح إليه في المستقبل. شكرًا جزيلًا لكم جميعًا.