الليبرالية الحديثة (على التخوم بين الفردية والجماعاتية)
فئة : أبحاث محكمة
الليبرالية الحديثة
(على التخوم بين الفردية والجماعاتية)
1- مل والعنصر الاجتماعي في مفهوم الفردية
ورث جون ستيوارت مل (1873) مذهب النفعية من والده جيمس مل ومن صديق والده جيرمي بنتام[1]، ولكنه لم يقتنع باختزال قياس النفع بواسطة مقياس كمي للذة، وإنما أضاف إليه مقياس اللذة النوعي، فليست السعادة مقصورة على الأشياء الممتعة التي تجلب لوحدها السعادة، وإنما تساهم في تحقيق اللذة ممارسة القدرات البشرية الأسمى.
وهو يتهم مذهب النفعية البنتامي بأنه مذهب لا يليق إلا بالخنازير:
«وهذه تهمة تفترض أن الكائنات البشرية غير قادرة على لذات سوى تلك التي تقدر عليها الخنازير...غير أن لذائذ البهائم لا ترضي تصورات الكائنات البشرية للسعادة، فلدى الكائنات البشرية ملكات أسمى من الشهوات الحيوانية وحين تجعل على وعي بها لا تعدّ أي شيء سعادة ما لم يتضمن إشباعها»[2].
وليس دمج الكيف مع الكم البنتامي منبتّ الصلة بقياس القيمة النفعي الذي يقترحه بنتام؛ وذلك لأن النظر الفاحص يكشف عن حكم معياري كامن خلف ما يسميه بنتام: الخاصيتين المكونتين للذة، وهما الكثافة والديمومة، وهو معيار قياس كل منهما ودمجه في مقياس القيمة التي يراد قياسها؛ ولأن ثمة بعداً إمبريقياً ومعيارياً لدى بنتام، فإن مل لا يفعل إلا إضافة الكيف إلى الكم ودمجهما معاً في مقياس القيمة[3].
ويعثر مل على ما يجيب عن سؤال وجيه عن كيفية تقدير هذا الكيف باقتراح حكام هم أشخاص أكفاء تلقوا تربية خاصة؛ ولأن هؤلاء إنما يقيمون أحكامهم على خبرة تجريبية متراكمة مشفوعة بتربية راقية، فإن أحكامهم تكون عرضة للخطأ، ولكنهم إذا كانوا أغلبية، فإن أحكامهم تكون أكثر وجاهة، وهنا نلمح ملمح الديمقراطية النخبوية لدى مل الذي قد يخفف منه الملمح المساواتي في ليبراليته، وهو ملمح يجد تعبيره الأبرز في عدّ مل حرمان أي شخص من تلقي تربية خاصة كفيلة بتنمية قدراته الذاتية انتهاكاً لحقوقه وحرماناً له من أهم هذه الحقوق، وهو ممارسة حريته واستقلاليته الشخصية[4].
ومن جهة أخرى، فإن عدم العصمة من الخطأ في أحكام الفرد لا يفسح المجال للتدخل في أحكامه وسلوكه المبني على هذه الأحكام ما لم يضرّ سلوكه بأفراد آخرين، وهنا نلمح الملمح الليبرالي لدى مل[5]. وقد أصبح الحق في حيازة أي شيء يعني إلزام المجتمع بحماية هذا الحق، وقد وجد مل تبريراً لهذا الإلزام في النفع العام.
وبربط الحق الفردي بإلزام المجتمع بحمايته إلزاماً مشتقاً من النفع العام تحول مفهوم الفرد الذري المعزول ومفهوم الفردية المجردة على يد مل إلى فرد اجتماعي وفردية ديناميكية وتاريخية واجتماعية[6]؛ فالفردية ليست حالة ثابتة، وإنما مشروع في حالة صيرورة، هو مشروع تكوين الذات.
والفرد الذي يعاني حالة التحول والتقدم الدائمة هذه - وفقاً للمشروع آنف الذكر- هو بالضرورة بحاجة إلى الآخر، فهو كائن اجتماعي، وفي هذا التصور الميللي للفرد يقع الافتراق الأساسي لمل عن الليبرالية الكلاسيكية؛ لأنه يدخل العنصر الاجتماعي والعلاقة مع الآخر (الفرد والمؤسسات) في صلب مفهوم الفردية[7].
وقد تمكن مل من البرهنة على هذه العلائقية بواسطة ما أسماه «فن الحياة» الذي تشكل الأخلاق فيه جزءاً من ثلاثة أجزاء تشكل السياسات والاستطيقا جزئيها الآخرين، ولأن الأخلاق لا تستحوذ على كل أبعاد فن الحياة، فإن العلاقة التذاوتية أصبحت لا تقتصر على مجرد علاقة يحددها الإلزام القانوني المحدد للعقاب والجزاء[8].
«إن بين منطقة الواجب ومنطقة الخطيئة ثمة منطقة وسط هو فضاء الجدارة القيمية الإيجابية. ليس من الخير أن يلزم الناس وفق رأي الآخرين بالقيام بكل شيء يستحقون عليه الثناء، وثمة معيار للإيثار يتعين أن يستوفيه الجميع ودرجة تتجاوزه ليست ملزمة، وإن كانت جديرة بالتقدير، وهكذا يلزم كل شخص أن يقيد سعيه وراء أهدافه الشخصية على نحو يتسق مع مصالح الآخرين الحيوية. وتحديد هوية هذه الحدود من اختصاص العلم الأخلاقي فيما تناط وظيفة إلزام الأفراد والجماعات بها بالعقاب واللوم الأخلاقي.
فإذا أضاف الناس إلى استيفاء هذا الإلزام جعل خير الآخرين موضوعاً مباشراً للجهد غير المغرض، حيث يؤجلون أو يضحون من أجله بتحقيق رغبات شخصية بريئة، فإنهم يستحقون على ذلك العرفان والتكريم والثناء الأخلاقي. وطالما لم تضطرهم ضغوطات خارجية للقيام بذلك، فإنه لا تثريب عليهم في الإفراط فيه
حين يصبح ما لم يكن فضيلة سائدة فضيلة سائدة، وبذلك سوف يعدّ ضمن الإلزامات في حين تظل درجة تجاوز ما أصبح سائداً جديرة بالثناء فحسب»[9].
أما تصور مل للحرية، فقد كان تطويراً للتصور الليبرالي الكلاسيكي الذي عدّ الحواجز أمام الحرية، إنما تتمثل في القيود المفروضة إما من طرف: [10]
- الآخر.
- أو بسبب العلاقات بين الأفراد أنفسهم.
- أو بسبب سوء استخدام السلطة.
أما بالنسبة إلــــى مل، فإنه أدرج ضمن القيود الشروط الاجتماعية للوجود الفردي واللامساواة في السلطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما نبه إلى ضرورة الكف عن عدّ الحرية صفة طبيعية للفرد الاجتماعي، وحرض على عدّها مفهوماً علائقياً وضعياً واجتماعياً يشمل وسائل وحرية الحركة، ووسائل وحرية الوصول إلى المصادر الاجتماعية[11].
إن الحرية لدى مل مرتبطة بالعدالة ومرتبطة بالمصالح الأكثر حيوية المصاغة على شكل حقوق، وارتباطه بمبدأ العدالة يرسم الحدود للإكراه الاجتماعي والسياسي الذي يمكن فرضه على الفرد فقط في حال تسببت ممارسته لحريته في إلحاق ضرر بمصالح الآخرين الحيوية[12].
ويشتق من سنم مبدأ الحرية ذروة الحقوق لدى مل، حرية التعبير والتفكير، فهو يعدّهما حقين أساسيين إلى درجة تقربه من المنظور التعددي من حيث افتراضه ضرورة تنقيح الرأي عبر الحوار مع وجهات النظر الأخرى، وعبر مراجعته من طرف صاحبه أيضاً؛ لأن الخطأ سمة ملازمة للإنسان:
«إن العقلاء يوجهون للآخرين دعوة مفتوحة لتحدي أحكامهم والخلاف معها والجدل معهم. إنهم بالاعتراف بإمكانية تعرضهم للخطأ يلتمسون ثقة معقولة في آرائهم عبر التأكد من أن معتقداتهم عرضة لتحدّ وخلاف مباشرين، وبرفع القيود على هذا النحو عن التحديات الموجهة إلى معتقداتهم يطمئنون إلى أن مثل هذه الثقة ممكنة في عالم معقد من البشر الخطائين والمنظورات المتنوعة»[13].
ومبدأ الحرية لدى مل مصدر لقيمتين ليبراليتين جوهريتين، وهما:
الاستقلالية والشخصية الفردية اللذان هما مكونان أساسيان من مكونات التنمية الذاتية للقدرات؛ فالشخصية الفردية تتضمن تطوير هوية أصيلة للفرد، والاستقلالية تعتق الفرد من استبداد الآخرين أو استبداد المجتمع أو استبداد العادة، وهي كلها أنواع للاستبداد تفسد الروح حسب مل[14].
وبهذا التصور للحرية، ابتعد مل عن اختصارها في حرية السوق، وشفع هذا الهجر لهذا التصور بدعوته إلى تدخل السلطات العامة لمساعدة المهمشين، وتأييده للحركة التعاونية، وقبوله بالأطر التي تنظم حقوق الملكية مع وضع حدود وضوابط مثالها فرض ضريبة على الدخل[15].
وعي مل بالأزمة التي تمر بها الليبرالية الكلاسيكية قدح زناد بعض الأفكار ذات الصبغة الاشتراكية التي ظلت ملازمة للعقيدة الليبرالية عن تحقيق الذات والفردية التي هي -حسب تصوره المذكور آنفاً- تحقيق لاجتماعية الفرد. ولذلك، فقد ارتبطت بتصور للديمقراطية يركز على بعدها الأخلاقي الذي يعد بتأسيس مجتمع يتحقق فيه الخير العام والسعادة للجميع عن طريق السماح بتنمية أفضل لطاقة كل فرد.
2- ماكس فيبر: ليبرالية غير ديمقراطية
على الرغم من الجدل حول ليبرالية فيبر (1920) وزعم بعض الأكاديميين أن فيبر ليس ليبرالياً، فإن الحكم الأقرب للصواب أن فيبر ليبرالي، وإذا كان يمكن أن يوصف بالسلب لجهة مفهوم ما، فهو ليس ديمقراطياً، فقد كان معادياً للديمقراطية بوضوح باستثناء أنه يسمح للمواطنين بالتصويت لقادتهم بعد ذلك يجب أن (يخرسوا ويطيعوا)[16]. وصحيح أن فيبر لم يؤيد العديد من البرامج الليبرالية مثل الحكومة البرلمانية أو ممارسات اقتصادية معينة تنضوي تحت رؤية اقتصاد السوق، وهذا ما تسبب في التشويش بصدد ليبراليته، ولكن مل الذي لا تشكل ليبراليته محل جدال وقف ضد أوجه عديدة للرأسمالية[17].
والحقيقة أن فيبر حاول أن يسبر غور العالم الرأسمالي بالنظر إلى جوانبه المظلمة، فاخترع مصطلحاً مفتاحاً هو مصطلح «الترشيد» الذي يعرفه بأنه:
«عملية تزايد الضبط المنهجي على كل مجالات الحياة على أساس تصورات علمية وقواعد ومبادئ عامة تستبعد الولاءات التقليدية والحماس الكاريزمي والوسائل السحرية والمرجعيات المتجاوزة لعالم الحواس والمادة بل والمبادئ الفردية، حيث يدرك الإنسان أن العالم يتحرك وفقاً لقوانين عقلانية مادية قابلة للاكتشاف، لا وفق قوى غامضة غير مفهومة»[18].
وهو «عملية تنميط وفرض للنماذج الكمية البيروقراطية لمراقبة كل مجالات النشاط الإنساني والتحكم فيها، حيث تكون نهاية هذا التنميط السيطرة على كل مجالات الحياة وإفراغ المجتمع من أي دلالة أو معنى وتحويله إلى مجموعة من المعادلات الرياضية، وهي عملية كفيلة بزيادة فعالية المجتمع الاقتصادية، ولكنها تهدد الحرية الفردية، وتحول المجتمع إلى قفص حديدي»[19].
والنتيجة الثانية المظلمة -حسب فيبر- هي نزع السحر عن العالم، وهي إن كانت تحمل وجهاً إيجابياً، إلا أن لها وجهاً سلبياً يتمثل في «خيبة الظن»؛ لأن اعتماد الإنسان على عقله فحسب وإزالة كل الغشاوات التي تراكمت عليه عبر العصور أفقد العالم سحره وجلاله، وجميع عناصر القداسة فيه، وصيرته مادة محضاً و«أصبح كل إنسان ترساً صغيراً في الآلة؛ ولأنه يدرك ذلك سيكون همه الأوحد أن يصبح ترساً أكبر»[20].
أما النتيجة التي سلط فيبر الضوء عليها في سياق نقده لعالم الرأسمالية، فهي مترتبة على النتيجتين السابقتين -نزع السحر عن العالم ودخول الإنسان القفص الحديدي- وهي أخطر شأناً منهما، وهي «أزمة المعنى»، فترشيد العالم وهيمنة القوانين العلمية قد تساعد في التوصل إلى الطرق المناسبة لإنجاز الأهداف الاجتماعية، ولكنها تخلق هوة بين المعرفة العقلانية والحكم الأخلاقي، وهي هوة تخلّف لدى الإنسان عجزاً عن الاختيار بين قيم مطلقة أو اتخاذ قرارات أخلاقية[21].
إن الصراع بين الرومانسية والمثالية من جهة، وقوى الرأسمالية والوضعية والمادية من جهة أخرى هو المحل المناسب لمناقشة ليبرالية فيبر، والتحوير الأساسي في الليبرالية الذي أجراه فيبر هو استرجاع المعنى المفقود عن طريق جعل القيم العمومية ذاتية.
يشير أحد الباحثين المعاصرين إلى أن محاولة فيبر للحفاظ على الليبرالية، إنما تتمثل في تحويلها إلى حكم بنخبة نيتشوية أرستقراطية احترافية تتكيف مع الموقف الأخلاقي لإعطاء حياة أفرادها معنى، وجعل سلطة البيروقراطية داخل القفص الحديدي، وهو ما يجعل السياسات الليبرالية صراعاً بين (أخلاقيات الديمقراطية) و(العدمية الأرستقراطية)، صراعاً بين آلهة وشياطين داخل الفضاء العام؛ وذلك للحفاظ على قيمة الحرية الفردية الليبرالية في الحضارة التكنولوجية الحديثة[22]. وفي حكم النخبة المتكيفة مع الموقف الأخلاقي صيانة بنظر فيبر للديمقراطيات الغربية من استبداد الأكثرية في عصر اختفت فيه القيم العمومية[23].
كما يلقي مومسين بعض الضوء على جذور ليبرالية فيبر البراجماتية[24]:
1- يريد فيبر أن يحافظ على النيتشوية (الأرستقراطية العدمية)، ورغبته هذه نتيجة تأثير المثالية اللوثرية، وتشديد الكانطية الجديدة على الشكلية، ودعوى أن القيم النهائية هي مواد للخيار الشخصي.
2- رغم ارتياب فيبر بالديمقراطية، فإنه يريد أن يحافظ على الديمقراطية الليبرالية، ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذين الأمرين؟
يجيب مومسين بالقول إن فيبر يحاول أن يوائم بين دعاوى المساواتيين ورسالة نيتشه عن النخبوية الأرستقراطية، وهذه المحاولة هي التي تفسح الطريق أمام نسخته الليبرالية المتسمة بالنخبوية؛ فالليبرالية النخبوية لفيبر تجعل الديمقراطية مستحيلة إذا ذهبت إلى أبعد من التصويت من أجل برلمان تمثيلي، وإذا أصبحت غاية بذاتها، وليست مجرد وسيلة لاختيار القادة وإعطاء حكمهم هالة من الشرعية.
3- توصف ليبرالية فيبر أنها ليبرالية رومانسية؛ لأنها دعت إلى خلق شخصية تصنع قيمها وخيارات حياتها ومثلها وتكون مستقلة ذاتياً، ولا يتحقق هذا المجال لهذه الشخصية، إلا بوضع حدود صارمة على الديمقراطية والبيروقراطية.
4- كما أن الحفاظ على هذه الاستقلالية الفردية، إنما يكون ضمن إطار القفص الحديدي، وهو ما يستتبع خلق فضاء للتعددية يفعل من خلالها المرء كل شيء ممكن لإبقاء المجتمع ديناميكياً قدر الإمكان، وهو ما يدفعه بعيداً عن النظام الديمقراطي من أجل أطروحة أخلاقية كانطية لحيادية الدولة، وهو بهذا يوحد الواقعية السياسية مع التعددية الأخلاقية والتشديد الرومانسي على الالتزام بقيم نهائية شخصية.
تتطلب ليبرالية فيبر الرومانسية حفاظاً على التمييز بين الفضاءات الثقافية:
الفن، العلم، الأخلاق، وهو ما يتضمنه التمييز بين الخاص والعام، أو بين المعرفة والقيم، وعلى الرغم من أن هذا التمييز مصمم للحفاظ على التعددية، ولكنه غالباً ما يتطلب واقعية مكيافيلية[25].
ومن الجدير بالإشارة إلى أن الاستراتيجية الفيبرية كان لها تأثيرها على أطروحة «نهاية الأيديولوجيا» في تجزئتها لعناصر الحياة الحديثة[26].
يحول فيبر ليبرالية مل بعدد من الطرق: [27]
- فهو يجعل الميول الرومانسية النخبوية في ليبرالية كانط ومل أكثر وضوحاً وأقل ديمقراطية.
- ويجرد الليبرالية من الإطار المعرفي؛ الأمر الذي يضعف الديمقراطية ويخفف الالتزام الليبرالي بها ويناقش ضرورة النخبوية في الثقافة التي هي عدمية وتكنوقراطية في آن.
3- دوركايم وإرهاصات النزعة الجماعاتية
يعدّ دوركايم (1917) ذروة من ذُرى الفكر الفرنسي الذي يمكن التأريخ لصعوده منذ فلسفة التنوير عبر توكفيل وسان سيمون[28]، وهو داعية إلى ديمقراطية مباشرة تصلح للتطبيق على مستوى جماعة صغيرة[29]، وهو يصلح مثالاً بارزاً على أن للفكر موجات لا تنفك عن التداخل ويفقدها حياتها من يحاول تقسيمها إلى تعاقب مرسومة حدوده بصرامة؛ ففي ربطه الفرد بالمجتمع نلمح تأثراً بهيغل الذي كان صريحاً في التعبير عن كراهيته له، ولكنه مع ذلك يعد هيغلياً بصورة أو بأخرى[30].
لم يفهم دوركايم الفرد إلا في علاقته بالمجتمع، بل إنه ذهب أبعد من ذلك عندما عدّ الأفكار الفردية مشتقة من العلاقات الاجتماعية[31]. ولقد نظر دوركايم إلى المجتمع كنظام تترابط أجزاؤه ترابطاً بنيوياً وظيفياً، وعمل دوركايم على تحويل مملكة هيغل للروح الموضوعية إلى مملكة حقائق اجتماعية أو قوانين اجتماعية يمكن أن تكتشف تجريبياً من خلال الوسائل التجريبية[32].
ونتيجة لذلك، اعتقد دوركايم أن المجتمعات الحديثة تتطور باتجاه شكل تضامن عضوي يتجلى في تقسيم العمل في المجتمع؛ ففي كتابه تقسيم «العمل الاجتماعي» خصص حيزاً ذا شأن لمناقشة سبنسر في ما خص مفهوم التضامن الذي يختلف حسب دوركايم عن التضامن الذي كان يسود في المجتمع ما قبل الصناعي الذي يرتكز فيه التماسك الاجتماعي على مجموعة مشتركة من الشعائر والمعتقدات، وهو نوع التماسك الذي أطلق عليه اسم (التضامن الآلي)، وقد رفض ما أطلق عليه سبنسر اسم «التضامن التعاقدي»، فبينما يعتقد سبنسر أن كل إنسان يستطيع الحفاظ على نفسه من خلال عمله، ويستطيع تبادل ما ينتجه للحصول على منتجات إنسان آخر، ويستطيع مد يد العون والحصول على مقابل، ويستطيع الدخول في تجمع ما لمواصلة مشروع خاص صغير أو كبير دون الانصياع للاتجاه العام للمجتمع في شموليته، وهكذا كان نطاق الفعل الاجتماعي سيضيق ويضيق مع الوقت؛ لأنه لم يكن له سوى هدف واحد هو منع الأفراد من إزعاج وأذى بعضهم البعض..... وفي ظل هذه الظروف فالرباط الوحيد المتبقي بين الناس كان سيتمثل في التبادل الحر المطلق[33].
وقد عدّ دوركايم هذا التضامن التعاقدي ليس تضامناً غير اجتماعي على الإطلاق؛ لأن التبادل «يدخل الناس في اتصال مصطنع؛ لأنهم لا يتغلغلون في بعضهم البعض ولا يلتصقون بقوة ببعضهم البعض»[34].
أما في شكل التضامن العضوي، فإن كل مهنة أو حرفة ستصبح جزءاً من كل تعمل أعضاؤه بشكل مستقل نسبياً، مشبعة بخصوصيتها، ولكنها ذات ضمير جمعي كوني.
ودور المهنة نقل روح المجموعة إلى أعضائها، وعندما تنجز كل مجموعة ثانوية وظيفتها ستكون النتيجة انبثاق شكل قوي للتضامن. ويتمثل الأفراد النظام الاجتماعي لغرض معين هو دعم نمط حياة ما:
«ما كان المجتمع بقادر على إلغاء الفئات أمام الاختيار الحر للفرد من دون إلغاء نفسه، وعلى الرغم من أن الأفراد يستبطنون المعتقدات، وهي العملية التي يقومون من خلالها بحماية النظام الاجتماعي إلا أن هذا لا يعني أن المجتمع يستأصل الهوية الفردية»[35].
«نحن لا نقصد توكيد أن المعتقدات الاجتماعية والسلوكيات تدس نفسها بطريقة واحدة في الأفراد... إذ لا توجد نمطية اجتماعية لا تسمح بنطاق شامل من التدرجي الفردي»[36].
على عكس فيبر كان دوركايم حتمياً عدّ استدخال الأفراد للأدوار والمؤسسات الاجتماعية عملية تجعلها كامنة داخلهم، وفي الخارج أيضاً؛ بمعنى أنها بمجرد إرسائها تمارس تأثيراً مستقلاً على من أوجدوها. وبما أن هذه الحقائق الاجتماعية هي نتاج علاقات بين الأشخاص، فقد كان شغل دوركايم ليس العقل الفردي، وإنما عقل الفرد في ارتباطه بالآخرين؛ أي التعبيرات الجمعية الممكنة للجميع، والتي هي على حد تعبيره -محصلة تعاون هائل- لجعلها بمنزلة حشد من العقول التي ترابطت ووحدت وخلطت أفكارهم ومشاعرهم[37].
أخذ دوركايم بالفهم الفرنسي لمصطلح الفردية، وهو الفهم الذي أبرز تفتيت واستغلال الفقراء، والذي نتج عن تحطم الأواصر الجمعية. ولأن دوركايم بدأ حياته اشتراكياً ملتزماً، فقد عزا إلى الرأسمالية مظاهر عدم المساواة وإضعاف الرابطة الاجتماعية، ولكنه في الوقت عينه لم يؤمن بحتمية ماركس الاقتصادية. وكان من نتائج تشككه في الرأسمالية تذبذبه بين مفهوم للفردية كشكل اجتماعي قائم بذاته، وبين عدّها شكلاً ضعيفاً من أشكال المجتمع[38].
يوضح روبرت نسبت هذا التوتر في تناول دوركايم لمفهوم الفردية: [39]
«في بعض الأوقات جعل الفردية تبدو وكأنها لا مجتمع أو نمط للسلوك والتفكير يظهر كنتيجة عندما ينفصل المرء عن المجتمع، وهي في هذه الرؤية النقيض التام للحياة الاجتماعية. لكن هناك رؤية أخرى للموضوع، وهي التي تظهر من إصراره القوي على أن كل شيء فوق مستوى الحياة الفسيولوجية يشتق من المجتمع.
وفي هذه الرؤية الفردية تصبح الفردية بجانب الضمير الجمعي ذاته شيئاً اجتماعياً في الأصل».
الفردية منتج اجتماعي لدى دوركايم، ففي مقال له بعنوان:
«الفردية والمثقفون»، يقول:
«الفردية نفسها منتج اجتماعي مثل كل الأخلاقيات وكل الأديان. والفرد يأخذ عن المجتمع حتى تلك المعتقدات التي تؤلهه».
ورث دوركايم عن مونتسكيو وتوكفيل وسان سيمون فكرة البنية الاجتماعية التسلطية، التراتبية، والمحكومة من فوق إلى تحت بسلطة خبراء، فالمجتمع الحديث مجتمع تعددي، والديمقراطية في العالم الحديث يجب جدلها مع سلطة الدولة الأخلاقية ومع تضامن جمعي يموقع إمكانها[40].
فسمات الديمقراطية ذات شعبتين: [41]
- مدى فسيح من الضمير الحكومي.
- واتصالات وثيقة بين هذا الضمير وبين الجماهير.
ولأجل هذا يطالب دوركايم بدولة قوية تدخلية يعدّها قوة أخلاقية وبتعليم سلطوي وبجماعات من المهنيين يعلمون الناس الفضائل المدنية[42].
تترادف الديمقراطية لدى دوركايم مع الآراء العقلانية التي تشكل بمجموعها الضمير الجمعي المهيمن، هذا الضمير الجمعي الذي يناشد رورتي في إثنيته المركزية البراغماتية المثقفين بالدفاع عنها عن طريق الدفاع عن التوافق القائم. ولكن دوركايم لا يتفق مع رورتي؛ لأن دعوة الأخير إلى استخلاص الآراء لا تنطوي على ديمقراطية حقيقية؛ لأن هذه الآراء المطلوب استقصاؤها ليست آراء ممحصة[43].
إن علم الاجتماع الدوركايمي متجذر في محاولة لمواجهة تحديين: [44]
- النزعة المحافظة المناهضة للعقلانية.
- والاشتراكية.
والديمقراطية -بالنسبة إليه- مصطلح يشير إلى نوع معين من التنظيم الاجتماعي، ولا ينطوي على حكم أكثرية أو امتياز شعبي. إنه يشير إلى علاقة بين دولة تمثل قوة أخلاقية تحمي حقوق المواطنين (وهؤلاء المواطنين وحدات اجتماعية وليسوا أفراداً منعزلين)، وبين مجتمع مدني هو عبارة عن تنظيمات تحدّ من سلطة الدولة وتمنح الناس ثقافة ديمقراطية حقيقية.
وبذلك لا يعير دوركايم كبير اهتمام للأحزاب ولا لنقاشات البرلمانيين؛ لأن ديمقراطيته في النهاية تختزل إلى تفاعل أفكار ومشاعر بين الحكومة والجمهور.
بل إن دوركايم لا يدع مجالاً للشك بخصوص رفضه لتضمن الديمقراطية لقاعدة الأكثرية عندما يدعو إلى:
«يجب أن تكون الأقلية هي الحاكمة في أي مجتمع متطور، ولا أهمية لكيفية وصولها إلى الحكم؛ لأن اتفاق إرادة الارستقراطية مع إرادة الشعب ذو احتمال أكبر من اتفاق الأقلية المنتخبة، والفرق جد طفيف بين أقلية تحكم مرة وإلى الأبد وبين أقلية تحكم اليوم وترحل غداً عن الحكم»[45].
يختلف دوركايم عن فيبر في الاعتقاد أن الحزبية سوف تفضي بالصراع إلى مجتمع تعاوني تشرع فيه الأنانية والفردية الاقتصادية الباب أمام فكرة هيغلية عن الذات هي في جوهرها ذات اجتماعية، ذات تصوغها عوامل اجتماعية تثوي في أعماقها قوة دافعة هي متطلبات النظام من توازن وتحكم وتكيف.
إن هذه التنويعة الدوركايمية لليبرالية تمنح -بما تنطوي عليه من هذا الفهم للديمقراطية- للدولة أساسها المنطقي[46]. وهذه الرؤية أنموذج لاقتراح كان له حضوره في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو يقوم على امتناع صيانة الديمقراطية من دون دفعها بعيداً عن الديمقراطية الشعبية؛ لأنه لا يثق بالجماهير ويعدّ الفرد حراً فقط عندما يكون تحت ضبط عقلاني، ويكون شاذاً عندما يكون خارج طور الضمير الجمعي، ولا سبيل للقضاء على الحالات الشاذة إلا بالسيطرة والتعليم، فالناس غير النموذجيين - بدالة خروجهم على الضمير الجمعي الذي يجسد الدولة الحديثة- هم مرضى كغير المدربين أو غير الكاملين أخلاقياً. ومن هنا يمجد دوركايم الاحترافية، والتي بدورها تسم ليبراليته بالنخبوية. ولعل تاريخ السياسة الأمريكية قد اصطبغ بهذه الصبغة الدوركايمية زمناً طويلاً. يضفي دوركايم العناصر الرومانسية على الليبرالية المللية، ويقصي الفردية لصالح إعادة صياغة علمية لمفاهيم كانطية وهيغلية عن الاستقلال الذاتي متوخياً دفع علم الاجتماع السياسي خاصته باتجاه الدولة الإدارية التي تتموضع فيها الحقائق الاجتماعية الموضوعية[47].
4- توماس هل غرين والليبرالية الأخلاقية
جاءت أفكار هذا الفيلسوف الذي يعد من أهم مفكري الليبرالية الحديثة في سياق ما يسمى بــــ «الليبرالية الأخلاقية» التي هيمنت في انجلترا، وهي نوع من الليبرالية المتوافقة -إلى حد ما- مع الاشتراكية، وقد أخذت الليبرالية الإنجليزية هذا الشكل؛ لأن مصدرها الأخلاقي يتمثل في البروتستانتية الليبرالية وتحديداً الميثودية[48].
دأب غرين على تطوير أفكار مل، ولكنه ذهب أبعد منه في شجب ظلم حرية التعاقد في ظل تفاوت الشروط الاقتصادية والاجتماعية للمتعاقدين[49]. وقد شكل في شجبه هذا قطباً مضاداً لــــ مل حتى استطاع أن يجتثه ويشكل حوله مجموعة من المفكرين الشباب المؤمنين بأن حل الأزمة التي وصلت إليها الفلسفة الإنجليزية، إنما يكون بالعودة إلى هيغل كنتائج نهائية، ولكن بتوسط كانط الذي شرع لنا باب التفكير في المبادئ الأساسية التي تجعل المعرفة ممكنة[50].
كما كانت أطروحته عن طبيعة الفرد الاجتماعية قريبة جداً من أطروحة معاصره دوركايم، فهو يؤكد أن الرابط الاجتماعي لا ينجم عن التعاقد على طريقة لوك، ولا عن نفعية على طريقة بنتام، وإنما عن اعتراف متبادل بالآخر كغاية في حد ذاته، وعلى عدّ مصالح الآخرين مكمّلة ومكوّنة للمصلحة الشخصية الذاتية[51].
كما استبدل بالفردية الذرية للقرن الثامن عشر رؤية مل للفردية التي تطور وتصقل بفضل المساهمة المستمرة للآخر، وهو ما ساهم بدوره في تأسيسه لحق الفرد تجاه المجتمع الذي يدين له بوسائل تحقيق الذات.
أطلق غرين اسم «الخير المشترك» على التفاعل بين المصلحة الفردية والمصلحة المشتركة، وعدّ هذا «الخير المشترك» أساساً للأخلاق والالتزام السياسيين.
من ابتكارات غرين في البرنامج الليبرالي تمييزه الجذري بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية، فقد وسمت الأولى الليبرالية الكلاسيكية القائمة على الحقوق الفردية، بينما انطوت الليبرالية الحديثة على الثانية التي تؤكد الحقوق المستوجبة للفرد على المجتمع المطالب بتأمين الوسائل الاجتماعية والاقتصادية للفرد؛ لكي يتمكن من تحقيق ذاته وتطويرها. وقد ساهمت هذه المسألة -التي تحولت إلى مسألة مركزية في النقاش الليبرالي للقرن العشرين- في توكيد الطبيعة الاجتماعية للفرد؛ من حيث إنها أكدت ارتباط تطور الفرد بالآخرين وبالمجتمع وبما يقدمونه له[52].
وقد كان توكيد الطبيعة الاجتماعية لازماً ضرورياً من جذر فلسفي كامن في تصور الطبيعة كـ «بنية علائقية» لا يمكن أن توجد فيها الأشياء في انعزال عن بعضها، واحتواء هذه الطبيعة على مبدأ روحي مماثل ومقابل للوعي الذاتي، وبتضافر المبدأين يمكن تبين العلاقات التي تمثل ماهية الظواهر الطبيعية وتمييز الحقيقي الذي تنظمه علاقات لا تتبدل من الوهمي الذي تكون علاقاته عارضة في نفي نهائي لثنائية الشيء في ظاهره والشيء في ذاته الكانطية[53].
أما الحرية، فهي مشتقة من الدوافع التي يحددها الوعي الذاتي، فليس صحيحاً أن هذه الدوافع مفروضة على الإنسان من خارجه، كما أنه ليس صحيحاً أنها لا شأن لها بتوجيه السلوك الذي تحركه إرادة اعتبارية تعسفية.
فالدوافع -عند غرين- هي التي تقف خلف السلوك، ولكنها دوافع يحددها وعي الفرد وتصوره للخير الشخصي[54].
ومن جهة أخرى، فبما أن مبدأ أزلياً موجوداً إلهياً داخل كل إنسان، فهو يمثل رابطة تجعل البشر يسعون إلى تحقيق الخير العام الذي يمكن أن يكون أمراً مطلقاً كانطياً تجب طاعته بشكل غير مشروط إلا في حالات جزئية تبيح انتهاكه لمصلحة عامة، وليس لتحقيق رغبة ذاتية أو لذة شخصية[55].
«أصبح من الممكن تصور الخير على نحو أشد وضوحاً، لا كشيء يمكن أن يكتسبه الفرد الواحد أو مجموعة من البشر أو يستمتعون به وهم يستعبدون الآخرين، بل كنشاط روحي يمكن أن يشارك فيه الجميع لو أنه ارتفع إلى مستوى التحقيق الكامل لملكات النفس البشرية»[56].
ويقترن بهذا التصور للحرية مفهوم الحق الذي لا يكون حقاً لأحد إلا باجتماع شرطين: [57]
- أن يكون مدعيه عضواً في المجتمع.
- وأن يكون أعضاء هذا المجتمع متفقين على أن غايتهم النهائية هي الصالح العام.
وليست الحرية دالة لرغبات الفرد الشخصية، وإنما هي مقيدة بقوانين تتطلع إلى الغاية المثلى، وهي الخير المشترك، وهي قوانين تضعها الدولة وتميزها سمتان:
- أنها متعلقة بالأفعال الخارجية؛ لأنه ليس من مهمة القوانين سبر البواعث.
- وأن تكون غاية هذه القوانين هي تعزيز الغاية الأخلاقية.
ومن هنا تنشأ علاقة التضايف بين الحقوق والواجبات التي تمثل أساس رفض غرين لمفهوم الحقوق الطبيعية لدى سابقيه؛ فهي في نظره تنطوي على تناقض صريح بافتراضها أن البشر امتلكوا حقوقاً في حالة الطبيعة وصاغوا عقداً اجتماعياً لحماية هذه الحقوق، ومكمن التناقض في أن الحقوق لا توجد قبل وجود المجتمع؛ لأن الحق لا يكون كذلك ما لم يكن معترفاً به من الآخر، وهو الاعتراف الذي يمثل وعي أعضاء المجتمع بالصالح العام[58].
ويؤكد غرين أن نتيجة خطيرة تلزم عن فكرة الحقوق الطبيعية السابقة لوجود المجتمع فهي -على حد تعبيره-:
«استهانة الفرد المتأصلة بالدولة وفي الزعم بأن له حقوقاً في معارضة المجتمع بغض النظر عن تأديته لواجباته تجاه هذا المجتمع، وأن جميع السلطات القائمة هي كوابح وعوائق ضد حريته الطبيعية التي من حقه أن يتحداها طالما أمكن أن يكون في أمان»[59].
ومن هذا الاقتباس، يتضح أن الدولة لدى غرين ضرورة؛ لأنها تجسد الوعي الذاتي وعبر قوانينها تتجسد إرادة الناس، هذه القوانين التي تمثل طاعة الفرد لها شرطاً للعيش كموجود عاقل؛ بمعنى الفرد الذي يستطيع ممارسة قدراته من أجل تحقيق المثل الأخلاقي في تعاون مع آخرين يعترفون بحقوقه بوصفه مواطناً في الدولة[60].
ومن مساهماته أيضاً، انتقاده الواسع لليبرالية الاقتصادية، وتأكيده أن السوق مؤسسة اجتماعية كغيره من المؤسسات التي يجب تقنينها وتنظيمها، لكي تعمل لما يحقق مصلحة المجموع، ولكيلا تكون في مصلحة أقلية ما. وقد خلص غرين أيضاً إلى إعطاء شرعية لتدخل الدولة ولحقها في إصدار تشريعات في مجالات الصحة والتعليم والملكية الخاصة وقانون العمل لتقليص الآثار السلبية للحرية الفردية[61].
جهود غرين ومساهماته خلفتها جهود ليونارد ت هوبهوز[62] الذي أدان الليبرالية الاقتصادية التي تقود إلى توسيع الهوة بين الأغنياء والفقراء، واقترح سياسة ضريبية صارمة على أرباح الشركات ودافع عن دور الدولة المطلوب منها تنظيم الحياة الاجتماعية.
أطروحات غرين وهوبهوزالجمعية الفابية[63] ساهمت في الإجراءات التي اتخذتها حكومة لويد جورج في إنجلترا التي أقرت نظام تقاعد للمسنين عام 1908 والتأمين ضد البطالة للمزارعين الأكثر فقراً عام 1911؛ الأمر الذي يجعل الجزم بأن بذور دولة الرفاه قد نبتت في أرض الليبرالية الحديثة، وليس في أرض الاشتراكية، أمراً ممكناً.
5- إيزيا برلين: إرهاصات الليبرالية التعددية بالحوار مع الأموات
الذراع اليسرى التي تعرضت للتلف عند الولادة، والنشأة في بيت يهودي تعرض أكثر من مرة لمضايقات عنصرية، ربما يساهمان في ميل برلين (1997) للاعتراف بالعجز الفردين، إذا ما انكفأ المرء على ذاته وانغلق على منظومته الموروثة[64].
كان تولستوي ثعلباً يعرف أشياء كثيرة وكتب رائعته «الحرب والسلام» عندما كان ثعلباً، ولكنه تحول إلى قنفذ يعرف شيئاً واحداً كبيراً، عندما كتب «آنا كارنينا»، هذا الوصف لتولستوي الذي وصفه به إيزيا برلين؛ لكي يعبر من خلاله عن بغضه للحتمية وولعه باللاحتمية يسلط الضوء قليلاً على ليبراليته.
فالحتمية التي وجهت حكم تولستوي بأنه لا مفر من النهاية البشعة لآنا كارنينا لارتكابها الفاحشة ليست إلا اختزالاً للتنوع، وقسراً للتاريخ على السير في خط مستقيم يأبى أن يسير فيه[65]. حتمية تولستوي هذه في حكمه على مصير آنا كارنينا هي ألد أعداء برلين الذي تتمحور ليبراليته على مركزية الحرية، وعلى أنها مقدمة على الديمقراطية، وعلى المساواة، وعلى العدل التي لا يستلزم امتلاك أي منها أو امتلاك جلها أو كلها التخلص من الاضطهاد، وهي الحتمية التي تصادر على ثقة برلين بالقدرة على الفعل في العالم من طرف الفرد، وعلى التأثير على مجريات أحداثه، والتي تفسر رفضه للرواقية ولدعوتها إلى الانكفاء إلى المعقل الداخلي.
ولم يكن هذا البغض للحتمية إلا بعد حوار طويل مع الموتى بطريقة تخيلية مبدعة تجعل برلين يحضر قارئه إلى مكان حضور الكاتب؛ لاعتقاده أن فكر الموتى يجب أن يستحضر بالطريقة التي تفاعل بها هذا الفكر في عقولهم، وفي سياقاتهم التاريخية المكانية والزمانية[66].
ومن هنا يمكن فهم ولعه بفيكو الذي يعد أحد واضعي الأسس الفلسفية للتعددية، والذي نظر إلى الإنسان من خلال رؤية تاريخية، ومن فيكو -كمرجعية له- تبنى موقفه في أن المجتمعات الإنسانية - بحكم تاريخيتها- لا يمكن التوفيق بين خلافاتها؛ فجزء كبير من حياتها معاش في المخيلة ومرتكز على افتراضات غير منطوق بها لا يمكن أن يدركها من هم خارج هذه المجتمعات، ولا يمكن لهم سبر غور إيقاعاتها ونمط العقلانية الخاص بها.
كما أخذ عنه برلين فكرة أن المجتمع البشري تاريخي، وأن فهم العقل البشري يتم عن طريق إعادة خلق تخيلية، وأن فهم المفاهيم السياسية والأخلاقية التي يصنع بها الوجود هو فعالية تاريخية، فعلى الرغم من وجود طبيعة مشتركة - يعترف فيكو بوجودها ويتابعه في ذلك برلين-، فإن الخصوصيات البشرية نتاج التاريخ الإنساني، وهي مختلفة حكماً[67].
ومن خلال ارتباطه بفيكو، وبفهمه لتاريخية العقل والمفاهيم وبأن الفانتازيا التي اتفقا على أنها تقوم على أن الفلسفة السياسية ليست إلا انعكاساً للتغيرات، أو بتعبير آخر ليست إلا محاولات من الثقافات البشرية المتنوعة لإدراك التجارب السياسية والأخلاقية التي يمر بها صانعو الثقافة ومزجها بالطريقة التي يختارونها، وهي ليست تعريفاً نهائياً يمثل منتهى غاية التحليل الفلسفي كما تفترض الوضعية المنطقية[68].
هذا النوع من المعرفة الفانتازية استمده برلين من فيكو الذي كان يعرفه بأنه:
معرفة عن طريق مواجهة مباشرة للمرء مع أعماقه، أو عن طريق امتلاك بصيرة ممزوجة بقدر من التعاطف مع الآخرين. إن معرفة كهذه، إنما تكتسب عن طريق امتلاك ملكة مميزة من القدرة الخيالية[69].
من خلال هذا الارتباط استحضر برلين الموتى وعقد معهم تحالفات، وهو بصدد صنع ليبراليته التعددية، وخاض معهم حوارات لاستيلاد فضائل ورذائل المجتمعات عن طريق مقارنتها ببعضها باستخدام الثنائيات التي تعود الفكر على استخدامها (تعددية - أحادية، حرية - تسلطية، لا حتمية - حتمية...)[70].
ولع برلين بالفانتازيا وبتاريخية الأفكار والمجتمعات جعلت بعض النقاد يعدّونه مؤرخ أفكار تخلى عن الفلسفة لصالح تاريخ الأفكار، وهو نقد مضلل؛ لأن الحقيقة أنه لم يفعل ذلك، وأن ما تخلى عنه وهاجمه هو ادعاء التحليلات الفلسفية بأن تفسيرها للمفاهيم ذو شرعية أبدية[71].
وفي سياق هذا الشغف باستدعاء الموتى نلحظ علاقة وطيدة مع مكيافيلي الذي عدّ برلين أعماله أصيلة، على الرغم من أن مكيافيلي نفسه لم يدّع ذلك، ورغم أنه أقر أن ما فعله كان تذكيراً بحكام وقوانين الدول المسيحية فحسب. ولكن أصالة مكيافيلي تكمن -حسب برلين- في الدهشة التي تصيب من يتعرف عليه ويدخل معه في حوار كالحوار الذي أجراه معه برلين، فكتابه «الأمير» كان كتاباً صادماً في زمانه حرّم على الروم الكاثوليك قراءته، وفرض على القساوسة الذين يريدون تفنيده أن يأخذوا إذناً لقراءته[72].
والأهم في أصالة مكيافيلي التي ينسبها له برلين هي العداوة التي ناصبها مكيافيلي لأمل الفلسفة الأوروبية الكبير، والمتمثّل في العثور خلف تدفق الفوضى الظاهرة في العالم على عالم من النظام والانسجام، عالم تحلّ فيه الصراعات، وتتزاوج الأضداد وتتلاقح. وهو ما عدّه مكيافيلي وهماً؛ لأن العوالم الأخلاقية مختلفة بصورة تحول دون إمكانية اجتراح صيغ توفيقية بينها، وهو ما يسمه بسمة التعددية الشبيهة إلى حد ما بتعددية فيكو - مرجعية برلين المهمة[73].
وحتى الأحكام الأخلاقية التي قضى بها مكيافيلي على بعض أبطال رواياته أثارت إعجاب برلين، واستشهد بما فعله شيرازي بورجيا (وهو قائد إيطالي عرف بقسوته وبدهائه، واتخذه مكيافيلي نموذجاً في كتاب الأمير) عندما عين رامرو دي أوركو حاكماً عاماً على رومانا لإخضاع شعبها، فاستبد بهم ونجح بقسوته في المهمة الموكلة إليه. ولكن شيرازي بورجيا أمر بشطره نصفين في الميدان الرئيس للمدينة وبجانبه قطعة من الخشب وخنجر ملطخ بالدم؛ لكي يسترضي الشعب الذي كره قسوته، ولكي يوحي أن هذه القسوة ليست من صنعه، وإنما من طبيعة مرؤوسيه. ومن هذا المثال الوارد في كتاب الأمير يستخرج برلين الرؤية القائلة: إن القسوة لا توصف بأنها جيدة من حيث الماهية، ولا توصف بأنها شريرة من حيث الماهية كذلك، وإنما يختلف التقويم لها بحسب الظرف التاريخي، ولا ضير في اتباع وسائل شريرة لتحقيق غايات خيرة في الميدان السياسي[74]. واستدعاء برلين لميت آخر هو جون ستيوارت مل كان لاستثمار تعدديته التي عبر عنها في أطروحة مركزية له تقوم على أن غايات الحياة متنوعة، وقد تكون متناقضة[75].
واستدعاؤه لمونتسكيو؛ لأنه اعتقد أن نظرية فصل السلطات خاصته تعتمد على التعددية الاجتماعية التي تقوم على حتمية التنوع الثقافي، وعلى ضرورة اكتشاف الأساس العقلي للظاهرة من دون أحكام مسبقة وتحيز، وهو ما جعله يحاول تقديم تفسيرات عقلانية للعبودية ولتعدد الزوجات ليس في إطار تبريرهما، وإنما في إطار فهم الأسباب التي يقدمها أصحاب مثل هذه الممارسات.
وتشديد مونتسكيو على وجوب مناقشة المبادئ الأخلاقية في ضوء النتائج الاجتماعية التي تتمخض عنها، وليس ضمن أطرها الفلسفية هو أيضاً دافع آخر حفّز برلين على استدعائه ومحاورته[76].
وانخرط برلين كذلك في حوار طويل مع هردر الذي يبدو أنه كان مقلقاً تصنيفه فيما إذا كان نسبوياً أم تعددياً، ولكنّ ما لفت نظر برلين لديه، وجعله يهتم به هو عدّه الطبيعة البشرية عريكة فخارية لدنة تشكلها الثقافات المتنوعة، وتصبها في قوالب مختلفة، وأن نقطة البداية لأي فلسفة أخلاقية وسياسية تكمن في المجتمع الثقافي ذاته، لا في فكرة الفرد المجرد ذاته، ولا في مفهوم الطبيعة البشرية[77].
حجر أساسي آخر ربما يكون أكثر أهمية من كل ما سبق ذكره، هو فكر هرزن (المفكر الروسي الذي عرف بأبي الاشتراكية الروسية) ففي سياق التشبث بالسياق التاريخي، وبكراهية المطلقات اتفق في حواره مع هرزن على كراهية الأخير للأهداف البعيدة التي يمكن أن تصنع لتسوغ التضحية بسعادة حاضرة. واتفق معه في شكه بالمطلقات، والتي لا تستثني الحرية والعدالة والديمقراطية. وخلص الاثنان في حوارهما إلى أهمية لحظات السعادة الحاضرة وأنواعها الصغيرة الملموسة[78].
استدعاء الأموات الذين تصبغهم صبغة التعددية بتجلياتها المختلفة، والذين يرفضون الكليات والأحكام العابرة للتاريخ والجغرافيا شكّل ليبرالية برلين التي تتسم بعداء مستحكم لليوتوبيا وبشجب للاتحاد الخاطئ بين عقلانية التنوير ومشروعه الإصلاحي، وبين قوى معادية للتنوير -والرومانتيكية في مقدمتها- التي أفرزت - بحسب برلين- حركات توتاليتارية أعاقت التقدم الإنساني، والليبرالية التعددية أكثر من قرن[79].
السمة الأخرى التي يمكن استخراجها من حواراته مع هردر وفيكو -التي عرضنا لها آنفاً- والتي يمكن القول إنها كانت جزءاً من استراتيجية التشكيك باعتقادات محورية في فكر التنوير والحفاظ على بعضها الآخر هي عدم ربط الليبرالية بالحقوق إلا بشكل ذرائعي كطريقة لتعزيز الحرية كقيمة مركزية من قيم الخير[80].
ومن حواره مع هرزن تستخرج السمة الأخرى في ليبرالية برلين وهي الشغف بالحرية الفردية، والذي لا يفند المثل الليبرالية، والذي يجعل الليبرالي ممزقاً بين دافعين: [81]
الأول تشجيع الشباب على تدمير النظام القائم؛ لأنه مفعم بالظلم والقسوة، وهي صفات تناقض تمجيد الفردية التي يعتقد بها هرزن، والتي تقضي بضرورة إنقاذ الأفراد من أي شكل من أشكال الاضطهاد بما فيها اضطهاد الواجب والاختلاط الاجتماعي والتضامن.
والثاني: التعاطي مع النظام الموجود تعاطياً سلمياً تدريجياً بقصد التخفيف من ظلمه؛ لأنه يحتوي على الكثير من القيم الحضارية.
ومن سمات ليبراليته[82] أيضاً أنها ليست ليبرالية التنوير؛ لرفضه لمقولات التنوير المتضمنة وجود أخلاق خالدة يمكن اشتقاقها بالعقل، واعتقاده بأن الإنسان ليس مقولة مجردة، وإنما كينونات بشرية لا نهاية لتنوعها، ورفضه لمقولة التنوير المتضمنة وجود حل شامل ولا نهائي لكل أمراض الإنسانية.
السمة الأخيرة لليبرالية برلين هي تحالفها مع التعددية، وهو تحالف مشروط بالاستناد إلى أسس نفسية وثقافية، وليس إلى أسس فلسفية، ولا يقوم من جهة أخرى إلا إذا كان الأفراد قادرين على التكيف مع النماذج السائدة ببساطة لكي يحافظوا على السلام، وإلا فإن هذا التحالف بينهما يستحيل خصوصاً، إذا كانت طموحات الفرد غير ممكنة التحقيق وغير متماسكة[83].
وبغض النظر عن التحفظات على سمات ليبرالية برلين، فإن طريقته التخيلية المثمرة في الحوار مع الأموات تلهم بضرورة ألا يقتصر الحوار المتبادل على الأحياء، وبأن الارتحال إلى زمان المحاور ومكانه من أجل مقاربة فكره بطريقة أكثر تبصّراً هو ركن أساسي من أركان الفهم العميق الذي يمثل الغاية لكل باحث جاد.
6- كارل بوبر والليبرالية الشكوكية
من ضمن التحولات التي هزت أسس الليبرالية الكلاسيكية رفض المنهج العلمي الذي حكم فكر مؤسسي الليبرالية الكلاسيكية والأوساط العلمية قروناً، ورفض مسار التاريخ الحتمي وفكرة التقدم التي لا شك أنها تثوي خلف رؤى الليبراليين الكلاسيكيين.
وقد يكون الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1994) الذي عانى من عسف وتسلط النجار الذي عمل في ورشته إبان طفولته كما يروي، فقرر أن قابلية التفنيد معيار كل فرض علمي هو أبرز من وضح بصورة لا مواربة فيها رفض المنهج الاستقرائي ورفض حتمية التاريخ التي لا تتخلف[84].
من نافل القول إن «بوبر» كان خصماً عنيداً للتاريخانية[85]، ومن نافل القول أيضاً أنه نذر معظم سنين عمره لتكريس منطق التقدم عبر معيار القابلية للتكذيب[86]. ولكن ما سنحاول تقصيه هنا هو علاقة خصومته للتاريخانية، وفلسفة العلم خاصته بالليبرالية.
إن قاسماً مشتركاً يمكن أن يلحظ بين لا تاريخانيته، وبين منطقه للتقدم، هو رفض الحتمية والتنبؤات غير القابلة للجدل في سيرورة التاريخ، وفي سيرورة العلم. فلا يمكن -بحسب «بوبر»- عدّ التنبؤات الاجتماعية المتجسدة في النظرية الاجتماعية والسياسية لماركس جزءاً من برنامج بحث عقلاني علمي[87].
فالحجة التي يدافع بها أنصار ماركس عن قوانينه التاريخية الحاكمة لمسار التاريخ، والقائمة على أنّ اتّجاهاً ما موجوداً في شروط مبدئية وقوانين صحيحة سوف يستمرّ على حاله لفترة غير محدودة حجة يمكن تفنيدها بمجرد إدخال متغير التدخل الإنساني كما وضّح مل الذي اعتقد أنه مهما كانت «أ» فإنها «أ» دائماً ما لم يتدخل شيء، والمقصود بالشيء علاقات إنسانية من أي نوع، وعلى اعتبار أن التدخل ممكن باستمرار، فإن القوة التنبؤية لقوانين من هذا النوع في الأمور الاجتماعية ضعيفة جداً[88].
وفي محاولته لتفنيد الحجة الماركسية المذكورة آنفاً يقول «بوبر» إن القانون المعبر عنه بالصيغة: x(Fx--Gx) يمكن أن يدوم لفترة طويلة، طالما أن الناس لا يعرفون الأسس التي يعتمد عليها القانون، وعندما يعرفونها ويصبح بالإمكان التدخل فيها لتغييرها يصبح القانون خاطئاً[89].
والمهم في رفض «بوبر» للتاريخانية وروادها -الذين يعدّهم ونظرياتهم كوارث منيت بها البشرية[90]- في موضوعنا هو علاقة هذا الرفض بليبراليته التي تحتل فيها الحرية الفردية موقعاً مركزياً، والتي تتكفّل التاريخانية بمسخها وسجنها في قوانين لا يجد لها الناس تبديلاً ولا تحويلاً، وإصراره على أن افتراض هؤلاء الرواد القدرة على رسم مسار محتوم للتاريخ مجاف للمنهج العلمي، وأن ما نستطيع معرفته من وقائع هو ركيزة يمكن الاستناد إليها من أجل الوصول إلى إصلاح النظم الاجتماعية؛ فالبديل لدى بوبر هو نظرية منهجية تمدنا بالوسائل التي تساعدنا على تجنب النظريات اليوتوبية، وهي نظرية تستخدم التاريخ كمصدر للمعلومات فحسب[91].
أما فلسفة بوبر في العلم، فهي الأخرى تفتح الباب على مصراعيه للتداول والنقد، وتفتح الآفاق على سيرورة تطور لا تنتهي؛ فرفض «بوبر» لمنطق التبرير القائم على المنهج الاستقرائي، والذي عدّه منهجاً لا يصلح لاستخراج قوانين علمية مطردة؛ بسبب القفزة التعميمية التي تشكل ماهيته، واعتماده بدلاً منه على معيار القابلية للتكذيب، والقائم على أن معيار علمية أي فرض علمي هو قابليته للتفنيد، وأنه ما لم يكن كذلك لم يكن فرضاً علمياً يفتح الباب أمام سيرورة لا تنتهي من التقدم العلمي من حلول لمشاكل، ومشاكل تخلقها هذه الحلول، وهكذا إلى ما لانهاية[92]، وهي سيرورة لا نكلف أنفسنا مؤونة بحث شاق لمعرفة صلتها بالحرية كمقوم أساسي، وقيمة سامية من قيم الليبرالية، فمثلما تختبر الطبيعة فرضياتنا العلمية بقسوة، تختبر التطورات في العالم الاجتماعي قناعاتنا واعتقاداتنا الموروثة والمكتسبة. وهذا التفنيد الذي يقوم على قبول الرأي الآخر والتداول في مجتمع مفتوح -حسب ما أسماه «بوبر»- وهو مجتمع يشكل وجوده شرطاً لليبرالية السياسية؛ لأنه لا حرية بدون مجتمع مفتوح قائم على قبول الآراء المتنوعة، وقابل لاختراق حصون الاعتقادات المغلقة، هذا التفنيد لا يمكن أن يتحقق في مجتمع استبدادي مغلق، سواء أكان هذا مجتمعاً علمياً أم غيره؛ لأن العلم الذي ينطوي على قابلية التطور عبر معيار قابلية التكذيب يحتاج إلى مجتمع مفتوح كخلفية، فالتساؤل المتلهف عن حل لمشكلة، وصبر الانتظار للإجابة تتطلب تدريباً اجتماعياً لا يمكن قيامه إلا في مجتمع ليبرالي[93].
ولتوضيح رؤية بوبر عن الحلف الأكيد بين الليبرالية والعلم يمكن الإشارة إلى الخصومة التي كانت بينه وبين «كون» الذي كان داعية للمجتمعات العلمية الاستبدادية المغلقة، والذي كان يعدّ نفسه نموذجاً معدلاً للـــ«بوبرية»؛ على افتراض أنه لا يرفض اختبارات الطبيعة القاسية لافتراضات العلماء، ولكنه يطالبهم بترتيب أنفسهم ترتيباً تسلطياً، وهو شكل تنظيمي لا يتعارض مع تلك الافتراضات، وهذا ما يكفل فضّ التحالف بين العلم والليبرالية، فوضع الفرضيات تحت الاختبارات القاسية للطبيعة ليس مرتبطاً بالضرورة بالحوار، ولا أهمية لواضع الفرضية في مجتمع العلم، بل المهم اختبارها من حيث هي، وهو ما كان «بوبر» يرد عليه بالقول: إن المجتمع العلمي المغلق سيكون راكداً بعد جيل أو جيلين، ولن يعمل إلا على تكرار ما سبق له أن أنجزه[94].
ليبرالية «بوبر» التي ترتبط بلا تاريخانيته، وبمنطق التقدم القائم على معيار القابلية للتكذيب توسم أنها ليبرالية شكوكية؛ من حيث إنها تفترض أنه لا معيار غير قابل للجدل، وهي ليست نظرية في الحقوق غير القابلة للمصادرة.
وتجدر الإشارة إلى أن ليبرالية «بوبر» القائمة على الشكوكية، وعلى عدّ الاحتمال المتزايد الذي هو هدف العلم، والذي يحتاج مجتمعاً مفتوحاً يمثّل الفرد الحر وحدته الأساسية ذات وجه صلة بليبرالية كانط ذات السمة التطورية، والتي ترى أن الطبيعة تخلق لنا مشاكل وحلولها تخلق مشاكل إلى ما لا نهاية. والافتراض -استناداً إلى هذا- أن التطور هو هدف التاريخ. وما يجمع بين الاثنين أن فرض «كانط» المذكور آنفاً فرض ترانسندنتالي كما هو فرض «بوبر» عن الاحتمال المتزايد[95].
فإذا وضعت التطورية مع قابلية الخطأ في بؤرة السياسات المعتمدة في الدولة فسنكفل لكل فرد حداً أقصى من الحرية متوافقة مع حريات الآخرين؛ فعن طريق توخي التطور المستمر، وقابلية الخطأ تصبح الحكومات مضطرة لاستقاء المعلومات عما يريده الناس منهم؛ فبما أن كل فرضية تستخرج حسناتها مما يحدث لها تحت الاختبار وليس بالنظر إلى واضعها، فكذلك الأفكار على الرغم من عدم تساويها في القيمة يجب أن تحترم، وأن لا يصادر حق متبنّيها في طرحها، والتعبير عنها بغض النظر عن وضعه الأكاديمي والاجتماعي، وهو ما تشترطه حاجة الحكومات لمعرفة ما يمنع الناس من أن يكونوا سعداء، ولمعرفة العوائق في طريق الحياة الجيدة، وهو مشروط بعدم المصادرة على آرائهم وأفكارهم[96].
ولم يكن قرب «بوبر» من الكانطية إلا استجابة لرؤيته المشار إليها، والتي تقوم على عدم وجود معيار غير قابل للجدل، وهو ما انبثق عنه عداؤه للوصاية ولسلطة الخبراء، وهو عداء يتفق فيه مع كانط؛ فحيث لا وجود لمثل هذا المعيار، فلا وجود إذن لمعرفة خاصة تمنح من يدعي حيازتها سلطة على غيره ممن لا يمتلكها، وهو السبب نفسه الذي يخلق الهوة بينه وبين مل الذي تخيل عقولاً فائقة تعرف أكثر من غيرها في الاقتصاد والسياسة وفي غيرهما من مجالات الحياة، وهو ما يسم ليبرالية مل بسمة الليبرالية المنافحة عن التنوير العلماني الاستبدادي[97]..
وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أن «بوبر» كليبرالي يطالب بالحرية والمساواة كان منسجماً مع عقلانيته العلمية؛ فهو يطالب بمساواة تدعمها فلسفته؛ لأنها مساواة في إعطاء كل شخص الحقوق السياسية نفسها، والحصانة نفسها؛ لأن هذا لا بد منه لخلق مجتمع مفتوح يكون خلفية للمجتمع العلمي بسماته التي يطالب بها «بوبر»، وهي ليست مطلقة؛ لأن المساواة المطلقة في الثروة والدخل ستدمر أنواعاً أخرى من المساواة، وكذلك الحرية المطلقة التي تلغي أي قدرة على التحكم بأي شيء ستكون كفيلة بالسماح للقوي أن يستبد بالضعيف من دون قيود.
ومن هنا، فإن الأجدر بالليبراليين -حسب «بوبر»- أن يعملوا على تأمين القدر الممكن من المساواة والحرية؛ لأن هاتين القيمتين من الممكن أن يدخلا في بعض الظروف في تنافس مع بعضيهما؛ ولأنه لا وجود لمعيار نهائي يمكننا من معرفة في ما إذا كنا قد استطعنا إيجاد التركيب المناسب من كليهما، حيث لا تجور إحداهما على الأخرى، فإن التجربة والمحاولة التي لا تنتهي هي السبيل الذي لا مناص عنه، والذي يجب أن يتبع في ليبرالية بوبر الشكوكية التي تقترب من كانط بقدر ابتعادها عن مل، وتعدّ الإسقاط السياسي لمنطق التطور بمعيار الدحض المميز له، وللاتاريخانيته التي تتغيّا تحطيم اليوتوبيات الشمولية[98].
7- فريدريش هايك واستدخال الفردي للجماعي
يرتبط اسم هايك (1992) بمجتمع مونت بليران الذي أسس لانطلاقة الليبرالية الجديدة[99]، ولكن الحقيقة أن فريدريش هايك كان متشعب الاهتمامات والإنجازات، حيث لم يقتصر إنتاجه على مساهماته في النظرية الاقتصادية، وإنما امتد ليشمل الفلسفة السياسية والقانونية والنظرية الاجتماعية.
وقد طارت شهرته إلى ما وراء حدود الأوساط الأكاديمية؛ لأنه يعد أحد أبرز دعاة الفلسفة الليبرالية في القرن العشرين، فقد دأب طوال حياته المهنية على الدفاع عن قيم الفردية والمتطلبات الأخلاقية للنظام السياسي والاقتصادي الليبرالي، فيعد «الطريق إلى العبودية» و«دستور الحرية» و«القانون والتشريع» و«الحرية» من بين أهم الأعمال في مكتبة الفكر الليبرالي.
يعير هايك اهتماماً كبيراً لطبيعة الإنسان المؤسسة اجتماعياً، وهو جانب يغفله الكثيرون ممن يصرون على التركيز جهلاً، أو بقصد التشويه على فردانيته؛ ففي تعريفه لليبرالية يقول هايك:
«في ترتيبنا لشؤوننا يجب أن نسعى للاستفادة قدر الإمكان من قوى المجتمع العفوية، وأن نقلل قدر الإمكان من اللجوء إلى الإكراه»[100].
كما يقول: «إن الليبرالية عقيدة حول ما ينبغي أن يكون عليه القانون»، ولأجل الوصل إلى هذه الغاية «علينا إقناع الأكثرية بضرورة احترام قيم معينة»[101].
يفرق هايك بين مفهومين هما النظام والقواعد، ولا بد لفهم فلسفته من إدراك معنى كل منهما لديه، فهو في تعريفه للنظام يقول:
«إنه حالة من عناصر متعددة من أنواع مختلفة ترتبط ببعضها بصورة تجعلنا قادرين من معرفة جزء من الكل أن نكون توقعات صحيحة عن الباقي، أو على الأقل توقعات ذات حظ كبير أن كون صحيحة»[102].
والنظام العفوي هو ما يمثل الأهمية الكبرى لدى هايك، وهو نظام يمثل أكثر قليلاً من نتيجة غير مقصودة للتطور الاجتماعي مع أنه ليس نتيجة تصميم بشري مقصود، وتكون العلاقات ضمن هذا النوع من النظام ذات طبيعة مجردة. ولذلك، فإن هذا النظام نفسه لا يدرك حدسياً ولا يتوضح إلا عن طريق نظرية تبين خصائصه[103].
فالنظام التلقائي، إذن، هو مجرد مصطلح وصفي لما نعتبره «عناصر فردية تتكيف مع الظروف التي تؤثر بشكل مباشر على بعضها فقط، والتي في مجملها لا يلزم أن يعرفها أحد» نتأكد من وجودها عن طريق تحديد الأنماط المتكررة بانتظام، ومثالها المجتمع الذي يتكون من وحدات أصغر لها أغراض مشتركة محددة ويمكن تحديدها، ولكن من دون تحديد غاية واضحة لها[104].
وعلى الرغم من أن هايك يؤكد العجز عن فهم هذا النظام التلقائي، إلا أنه يفتح باباً أمام فهم طابعه العام عن طريق فهم القواعد التي يقوم عليها هذا النظام[105]، بل إن هايك يذهب أبعد من ذلك عندما يقرر أن في مقدورنا إحداث تغيير في هذه القواعد، وهو ما يلزم عنه تغيير في الطابع العام للنظام، ولكن المعرفة تبقى مقتصرة على السمة المجردة بينما تترك الخصوصيات للظروف التي نجهلها[106].
إن لكل عنصر في النظام التلقائي موضعاً محدّداً متخذاً وفق قاعدة محددة، وهذه القواعد لا تعرف بالتعبير عن ارتباطها بغاية محددة، وإنما بواقع الالتزام بها. إنها نمو اجتماعي حقيقي ناتج عن عملية التطور والانتخاب[107].
ويحدد هايك نوعين من القواعد، وهما شكلان من أشكال النظام:
يعرف الأولى بأنها:
«قاعدة عالمية من السلوك العادل تنطبق على عدد غير معروف من الحالات المستقبلية وعلى قدم المساواة على جميع الأشخاص في الظروف الموضوعية التي وصفتها القاعدة»، وهي بحكم تعريفها قواعد تجريدية ومستقلة تماماً. أما النوع الثاني من القواعد، فهو الأطروحة، وهي تعرف بأنها:
«معيار صريح وموجه نحو غاية معينة أعد لتنظيم وتوجيه إجراءات محددة في إطار مؤسسي أو تنظيمي رسمي»[108].
بناء على التمييز بين نوعي القواعد هاتين، يميز هايك بين المجتمع القبلي الذي تحدده أغراض معينة وقواعده تندرج ضمن النوع الثاني المذكور آنفاً، وبين المجتمع الحديث الذي لا تحدده أغراض معينة وتندرج قواعده تحت النوع الأول، وهو على الرغم من عدم ارتباطه بغايات معينة إلا أن قواعده تعمل على تصميم نظام تلقائي تجريدي لا يسعى نحو غاية معينة، ولكنه يعزز كل آفاق تحقيق كل الغايات الخاصة[109]. وفي هذا المجتمع يحكم على الأفعال من خلال مطابقتها للقواعد، وليس بالنظر إلى نتائجها، وهذا هو حكم القانون الذي تعرف به المجتمعات الليبرالية[110].
لا يمكن النظر إلى القواعد التي تحكم النظام العفوي، نظراً لأنها عالمية ومجردة، على أنها آليات وضعت لتحقيق غاية؛ فهي كما أشرنا عالمية ومجردة. هذه القواعد ليست سوى ممارسات، أو بقايا «تراث ثقافي»، وهي في حد ذاتها ليست أكثر من «مجموعة من الممارسات أو قواعد السلوك التي سادت لأنها نجحت على يد مجموعة من الرجال ولكنها لم تُتبنّ؛ لأنه كان معروفاً مسبقاً أنها ستحقق نتائج معينة مرغوبة»[111].
إنها قواعد اجتماعية، وليس من الضروري أن يكون الشخص قادراً على سبر غور أسس البنى السائدة -المؤسسات والممارسات- من أجل لفهم الأساس المنطقي لوجودها؛ لأن كل ما هو مطلوب هو أن تخدم هذه البنى غرضاً ذرائعياً؛ إلى الحد الذي تسمح فيه هذه البنى للعاملين بداخلها أن يحققوا أهدافهم، فإذا تحقق ذلك كانت بنى ناجحة[112].
القواعد الأساسية للمجتمع البشري هي تلك التي تفضي إلى الحفاظ على النظام الاجتماعي واستمراره. وعلى الرغم من أن كل فرد سوف يتفاعل مع الظروف وفقاً لطبيعته الخاصة وفهمه، إلا أن المجتمع لا يمكن أن يوجد إلا بالقدر الذي يقبل فيه الأفراد قواعد ملزمة لهم، وهي القواعد التي تحكم التواصل الاجتماعي[113].
وعلى الرغم من اختلاف الأفراد في كيفية استجاباتهم؛ نظراً لاختلاف طباعهم ومستويات فهمهم إلا أن قدراً من التشابه في الاستجابات للأحداث في مجتمعاتهم ينبغي أن يكون موجوداً، وهو تشابه في الأبعاد المجردة بمعنى المشتركات الكلية بينهم لكي يثمر هذا التشابه نظاماً كلياً[114].
ولضمان التطابق المذكور في حده الأدنى يصنف هايك القواعد إلى ثلاثة أنواع:
- قواعد تتبع بحكم إدراك واحد مشترك للأفراد لبيئتهم.
- قواعد هي جزء من التقاليد الثقافية للمجتمع.
- قواعد يجب فرضها (بالقوة إذا لزم الأمر)؛ لأن مصلحة النظام العام تقتضي ذلك[115].
والأخيرة هي ميدان القانون الذي هو مبادئ مجردة تصمم لجمع وتدوين العادات والمعايير المعقولة[116].
وبقدر ما هو تدوين لهذه الأعراف، فإنه مغاير لها من حيث إنه قواعد سلوك ملزمة ناتجة عن طور المجتمع وهو لا يحدد بغايات معينة[117]، ولكنها تحد دسمات معينة يجب أن يتسم بها السلوك؛ من أجل ضمان المصالح الاجتماعية لكامل المجتمع[118].
يتفق هايك مع مل فيما يتعلق بحاجة كل فرد إلى مجال محمي يُمنع فيه تدخل الدولة أو المجتمع، بينما يلاحظ هايك في دستور الحرية:
«إننا عندما نطيع القوانين، بمعنى القواعد المجردة العامة المنصوص عليها، فلن نكون خاضعين لإرادة إنسان آخر، ولهذا فنحن أحرار»[119]. ولكي يكون السلوك صالحاً لأن يقنن، فهو يجب أن يكون سلوكاً ذا عواقب خارجية[120].
إن قواعد السلوك العادل لا توضع لتشكل مساحات واقية للأفراد تحميهم من تداعيات تصرفات الآخرين، ولكن هدفها تقتصر على تقليل الآثار السلبية المتوقعة للسلوك[121]، وهي تحدد المجالات التي لا يحق للآخرين أفراداً أو مجموعات التدخل فيها واختراقها[122]. وصحيح أن القواعد لا تكون كذلك ما لم تنطبق على الجميع بالتساوي؛ فإنها تؤدي إلى تكوين مجالات فردية -مناطق للحرية يحمى فيها الفرد فيها من التطفل من خلال الإجراءات القسرية للدولة ومن الانتهاك المباشر للآخرين في المجتمع- ويجري تحديد هذه المجالات من خلال اتباع القواعد والاعتراف بالتزامات الفرد تجاه الجميع[123]. ويشتق من المجال المحمي من تدخل الآخرين مفهوم الحق[124].
ولا يحذو هايك حذو مل في جعل المجتمع هو الذي يملي حدود هذا المجال المحمي، ولكنه يعوّل على كون المرء حرّاً في قدرته على استخدام إمكانياته ومواهبه من أجل تحقيق غاياته الخاصة، وبناء على هذا ينبغي لكي يتحقق هذا أن يكون لدى المرء صوت يؤخذ بالحسبان في تحديد ما يجب تضمينه في المجال المحمي[125].
يؤدي هذا الاعتراف بالحاجة إلى درجة معينة من الفصل بين الأفراد عن بعضهم البعض وحمايتهم من تدخل غير مشروع من طرف الدولة إلى فهم الحاجة إلى «قواعد عامة تحدد الشروط التي تصبح بموجبها الظروف جزءاً من المجال المحمي للشخص». «تعمل القواعد كوسائل يمكن من خلالها لكل فرد أن يشكل محتوى مجاله المحمي؛ لأنها تتيح «لجميع الأعضاء تحديد على ما ينتمي إلى مجالهم وما لا ينتمي»[126].
وسبب الخلاف بين هايك ومل في هذه النقطة أن مل يفترض مسبقاً وجود هذا الفضاء غير مدرك، أما في نظر هايك، فهو مشتق من نظام من القواعد والواجبات المرافقة لها[127]. ومع ذلك، يتفق هايك مع مل في أن الفعل الذي يتأثر به فاعله دون غيره لا يجوز حظره، ولا يمثل الانزعاج العام أو التبخيس الأخلاقي له سبباً كافياً لمنعه، فإذا وجد الأفراد الآخرون أن فعلاً ما لا أثر خارجياً له؛ -بمعنى عواقب يتأثر بها غير فاعله- تستحق الشجب، فإن لهم حق التعبير عن رأيهم الرافض للفعل، ولكن الدولة ليست ملزمة بالاستجابة للآراء التي تطلب منع هذا الفعل[128]. كما يحيي هايك مفهوم كانط للواجب القطعي بعده مؤشراً على «معيار واحد يجب أن تتوافق معه قواعد معينة لكي تكون عادلة»[129].
إن الفضائل الأساسية للمجتمع الليبرالي - في نظر هايك- هي «الاستقلال، والاعتماد على الذات، والاستعداد لتحمل المخاطر، والاستعداد لدعم قناعة الفرد ضد الأغلبية، ورغبة الفرد في التعاون الطوعي مع الآخرين»، والأخير ذو أهمية خاصة[130].
ينصب اهتمام الفيلسوف الليبرالي، إذن، على «إيجاد مجموعة من المؤسسات التي يمكن من خلالها حث الإنسان، باختياره ومن الدوافع التي تحدد سلوكه العادي، على المساهمة قدر الإمكان في تلبية احتياجات الآخرين»[131].وتجد صدى كانطياً لدى هايك في عده المجتمع الحر هو المجتمع الذي يقبل الأعضاء فيه مواقعهم كنتيجة لعمل كل منهم، حيث تشكل حرية الاختيار والمسؤولية الشخصية للفرد عن تصرفاته «الجو الذي ينمو فيه المعنى الأخلاقي والذي يجري فيه إعادة إنتاج وإحياء القيم الأخلاقية للفرد بشكل يومي»[132].
ليس للحرية -في نظر هايك- قيمة في حد ذاتها، ولكنها تستمد قيمتها من إتاحتها المجال لتوسيع المرء لقدراته وتمكينه من المساهمة في إضافة تراكم خاص به إلى ما تركه الأسلاف من معتقدات أخلاقية وجمالية[133]. ولا تعني الحرية التصرف وفق القواعد الأخلاقية وإلا كانت إكراهاً[134]، فالمجتمع الحر لا يعمل بوصفه حرّاً إذا أُلزم أعضاؤه بالتصرف بطريقة «متفق عليها، ولكن التصرف بالمقابل ينبغي أن يكون بالاسترشاد بالقيم المشتركة» أو بمعايير وصفها آدم سميث بأنها «بعض القواعد العامة المتعلقة بما هو مناسب فعلاً أو تجنباً»[135].
يتفق هايك مع فيبر في مفهوم العمل الاجتماعي بقناعته بضرورة خضوع الفرد طوعاً للقواعد الاجتماعية.
ومع دوركايم في كون الإنسان كائناً اجتماعياً يستمد وعيه من طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه، ولكن افتراقه عن دوركايم يكمن في رفضه مفهوم التضامن من أجل تحقيق غايات محددة مسبقاً.
ولعل هايك يحقق الخطوة بفعل فيبري يؤسس البنية وفعل دوركايمي تقيد فيه البنية الفعل عن طريق تفاعل جدلي بين البنية والفعل؛ فالفرد خاضع لقواعد اجتماعية بشكل طوعي، وهو ما يعزز حريته بدل أن يقيدها[136].
إن قبول المسؤولية الشخصية والشعور بالالتزام يعدّان عملاً حراً، وليس نتاجاً لدولة قهرية، تطالب بالتوافق مع المعايير الاجتماعية والإقدام على الفعل يعد عملاً حرّاً طالما أن المرء مستعد لتحمل عواقب ذلك الفعل، بما في ذلك عبء النبذ الاجتماعي والخسارة المحتملة للهدف المرجو تحقيقه. المهم أن المسؤولية الشخصية الناتجة عن الواجب الأخلاقي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل الحر الفردي في مجتمع ليبرالي.
ولعل من مفارقات رؤية هايك المثيرة مناصرته للموقف اللاعقلاني؛ بمعنى رفضه للتقليد الغائي الذي تمثل النفعية إحدى أبرز نماذجه؛ وذلك لأن تحديد مصلحة جماعية أمر متعذر في نظر هايك، وهو يؤكد أن مناصرته للرؤية المناهضة للتقليد الغائي العقلاني لا تعني تنازلاً عن العقل، وإنما تحديد عقلاني للمجال الذي يوضع فيه العقل تحت السيطرة، فهايك ينظر إلى الأخلاق كبنية سابقة للعقل؛ لأنها قواعد مجسدة لعادات وثقافة ومعرفة عصر معين، وبما هي كذلك فهي تشكل معايير السلوك التعاوني وطرائق التفكير[137].
وتتضح نقطة افتراق هايك عن النفعية في تبنيه نفعية القواعد لا نفعية الأفعال؛ لأن الأخيرة تحكم على الفعل بآثاره، وهو ما يتطلب بحسب هايك علماً كلياً مستحيل التحقق من جهة، وإفراغ القواعد الأخلاقية من مضمونها من جهة أخرى.
أما نفعية القواعد، فهي لا تتطلب إلا اتساقاً مع القواعد الأخرى التي يتصرف وفقها الآخرون، وهي لا تحكم على القواعد الملتزم بها بما يمكن أن ينتج عنها من هذا الالتزام من عواقب؛ لأن هذه العواقب ليست منبتة الصلة بالتزام آخرين بقواعد أخرى.
ولا يرد على رؤية هايك هذه الاعتراض أنها نفعية مستبطنة؛ لأنها تتوخى منفعة المجتمع؛ لأن النفعية تقوم على أساس تراكم منافع فردية تتخلق من تراكمها منفعة اجتماعية لا بد من تحققها حتى لو كان هذا على حساب حرمان شريحة معينة من منفعتها، وهو ما يجعلها مناقضة للأخلاق. أما نزعته الجماعاتية، فهي تسن القواعد الأخلاقية ليس عبر تفضيلات عقلانية يقتضي معرفة الجميع بعواقبها، وإنما من وراء حجاب للجهل ينتج عنه انطباقها بصورة عادلة ونزيهة على الجميع[138].
وتتجلى جماعية هايك غير المفصولة عن ليبراليته الفردية في افتراضه الكليات الاجتماعية، وهي البنى الواقعية التي لا تعرف بتحليل عناصرها، ولا يمكن إدراك عناصرها بسهولة، حيث يرى هايك أنها نتاج مهارة الإدراك المكتسب للفرد الذي يحيلها إلى تصنيفات من صنع الذهن، ويتدخل في هذه التصنيفات باستمرار مدخلاً عليها تغييرات حسب متغيرات الأحداث.
ولا يعني هذا إنكار هايك للوجود الفعلي لهذه البنى في العالم الماديّ، ولكنه يعتقد أننا لا ندرك منها ماهياتها، وإنما ما يتيحه إدراكنا لها هو مجرد محاكاة تقريبية لماهياتها وإعادة إنتاج مستمرة عن طريق تعديلات يدخلها الإدراك على تصنيفاتها المصنوعة صنعاً بواسطة الذهن[139].
وفيما خص تشكيل المجتمع للذات -في نظر هايك- ينبغي أولاً إدراك تفريق هايك بين المجتمع والجماعي، فالمصطلح الأخير يشير إلى كيان مصمم بشكل مقصود لتحقيق غايات محددة. أما المجتمع، فهو سابق على الذات، وهو ما يكاد يجعل هايك جماعاتياً بحتاً كساندل لولا أنه في اللحظة الأخيرة يبعد هذه الصفة عن نفسه في تأكيده خلافاً للجماعاتيين أن العدل ذو أولوية على الخير[140].
وثمة افتراق آخر لهايك عن الجماعاتيين يتجلى في رفضه وجود مصلحة مجتمعية محددة؛ لأن افتراض وجودها يعني أن المجتمع كل عضوي قادر على تحقيق الأهداف والحال أن المجتمع ليس كذلك، وإنما هو عبارة عن علاقة بين الهويات والقيم والالتزامات المشتركة، وليس أداة مصممة للأغراض الفردية أو الجماعية.
إن المجتمع - ويضرب هايك مثالاً عليه السوق- يعمل وفق قواعد لعبة تتحقق فيها النتائج عبر تلاقح المجهود والفرصة لكل فرد وفق ظروف خارجة عن إرادته[141]. ولا يعدو ما تفعله الدولة -والحال هذه- سوى إنفاذ قواعد اللعبة وتأمين الظروف المواتية للأفراد والجماعات الفرعية لكي يتبادلوا احتياجاتهم[142].
واشتقاقاً مما سبق من رفض للغاية المجتمعية المحددة وإنكار للرؤية النفعية، لا يقبل هايك فكرة العدالة الاجتماعية بحسبانها القيمة التي تتجسد بتحقيق منفعة اجتماعية هي تراكم لمنافع فردية، وإنما هي قيمة تتحدد بدالة الالتزام بالسلوك الصحيح بغضّ النظر عن عواقبه.
إنها التزام بقواعد السلوك، ولأن السلوك لا يمكن أن يكون إلا فردياً، فإن فكرة العدالة لا يمكن أن تكون إلا فكرة فردية، ولا يمكن لها أن تكون فكرة اجتماعية؛ لأن المجتمع سابق على الفرد، وهو ليس مبنياً ولا غائياً[143].
وينسحب رفض هايك للعدالة الاجتماعية على العدالة التوزيعية، وهو يبرر رفضه بحجة يصعب دحضها تقوم على أن اختيار نمط توزيع معين من بين أنماط بديلة يفضي حتماً إلى قسر تمارسه الدولة من أجل فرض البديل الذي تختاره. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن اختيار الدولة لنمط توزيع معين يعني وجود معيار يحدد من خلاله هذا النمط وهذا المعيار لا يمكن أن يكون إلا العدالة الاجتماعية التي يرفضها هايك[144].
في تلخيص لأهم ما سبق عرضه من فلسفة هايك يمكن الاستئناس برؤيته عن انبثاق المجتمعات الحديثة من المجتمعات القبلية التي كانت الواجبات المحددة فيها ممكنة الإدراك، وأن ما جرى من تطوير لها وانتقال إلى مجتمعات كبيرة تتسم بالغفلية في العلاقات بين الأفراد جعل تدوين واجبات وواجبات مقابلة محددة العواقب غير ممكن، وهو ما يضطرنا اليوم -بحسب هايك- إلى سنّ قواعد لا تستغرق في تفاصيل الحالات الفردية العصية على الحصر، وإنما في تحديد مطالب ومحظورات عمومية؛ بمعنى أنها قواعد توجه السلوك بشكل عام.
لا ينكر هايك أن الانتقال من مجتمع قبلي إلى مجتمع مفتوح كان بكلفة أخلاقية تتمثل في تضييق الواجبات تجاه الآخرين[145]، ولكنه يعدّها كلفة لا فكاك منها؛ لأن العلاقات الاقتصادية قد غيرت المنظور الأخلاقي وفرضت تشريع قواعد تعنى بتوجيه السلوك ولا تأبه للآثار، إنها قواعد السوق[146].
ومن هنا يعيب هايك على من يحاولون فرض مثل قديمة مستوردة من واقع عفا عليه الزمن على واقع المجتمعات الحديثة، فهو يرى أن ذلك غير ممكن موضوعياً. ولذلك، فهو يدعو إلى التخلي عن الرغبة العارمة في الأخلاقيات التي توصف بأنها أكثر إنسانية[147]. ويؤكد هايك أيضاً أن محاولة توحيد الرؤى الفردية باتجاه غاية مجتمعية مشتركة ما هو إلا سبيل لخلق مجتمعات شمولية[148].
من هذا العرض لفلسفة هايك يمكن استنتاج موقعه التأسيسي في الليبرالية الجديدة التي سنعرض لها لاحقاً؛ فعدم الاكتراث بالنتائج التي يقول إنها يستحيل معرفتها والدعوة، والحث على تعلم قواعد السوق كفيلة بفهم موقعه هذا كأحد الآباء لليبرالية الجديدة.
8- ريتشارد رورتي والليبرالية التقد مية للولايات المتحدة
يسبب رورتي (2007) نزاعاً بين من يعدّه حداثياً ومن يعده ما بعد حداثي؛ بسبب أقوال له متضاربة إلى حد ما، فبينما ينسب نفسه إلى التيار ما بعد الحداثوي في عبارة من قبيل:
«أشعر بعجزي التام عن اكتشاف نوع الموج العاتي الذي أعلن عنه ليوتار وآخرون حينما أصبحنا ما بعد حداثيين»، يعود ليمتدح بعض أركان الحداثة في مواضع أخرى من كتاباته، ثم تراه يعبر عن ريبته بالحداثة وبــــ ما بعد الحداثة، حيث يقول:
«إن ارتيابنا إزاء ما بعد الحداثة يجعلنا ننزع إلى الارتياب أيضاً بخصوص الحداثة»[149].
والذات التي بدأ تبلورها مع ديكارت ثم تعالت مع كانط، وكادت تدخل في حوار مع الذوات مع هيغل لولا ارتدادها في آخر الحركة الدائرية تصبح مع رورتي - كما سيأتي- ذاتاً عرضية بلا نواة، ومن العبث البحث عن مركز لها.
توصف ليبرالية رورتي بأنها ليبرالية نفعية، وهي تدمج ليبرالية مل وليبرالية فيبر، ولفهم ليبرالية رورتي يجب فهم تقلبات اليسار في أمريكا ويجب الأخذ بالحسبان حياته ومحطاتها، فقد ولد رورتي لوالدين مواليين للحزب الشيوعي حتى عام 1932، ثم انشقا عنه عندما أدركا مدى سيطرة موسكو عليه، ومع ذلك ظلّا ينظران إلى نفسيهما كمثقفين يساريين؛ لأسباب متنوعة أهمها شغفهما بالديمقراطية والاشتراكية. وجدّ رورتي لوالدته كان رجل دين إنجيلي حارب عبادة الجشع، وهو ما يجعل له وجه صلة بمبدأ العدالة الاجتماعية التي يطالب بها اليسار[150].
كان الخطر الأكبر الذي كان يحيق بالديمقراطية الليبرالية الأمريكية الإصلاحية - في نظر رورتي- هو ستالين وعصاباته الشيوعية[151]. كما كان رورتي متمسّكاً بالتزامه الليبرالي الإصلاحي اليساري، وبلا شيوعيته على الرغم من أن غير الشيوعي آنذاك كان يوصف بالرجعي، وقد عدّ رورتي والت وايتمان[152] شاعراً للمجتمع الليبرالي الديمقراطي، وجون ديوي نبياً له، وهو مجتمع لا طائفي ولا طبقي، وهو المجتمع الذي دفع اليساريون الأمريكيون القرن العشرين كله محاولين أن يجسّدوه، وهو مجتمع كان بطله ديوي الذي كان هاجسه الأساسي إنجاز وعد الديمقراطية.
وكان رورتي كـ ديوي يحتقر الايمان بالتشاؤم الذي كان موضة تلك الأيام، واعتقد أن السياسيين اليساريين يجب أن يعملوا باتجاه تأسيس أنواع من التشريعات والسياسات الاجتماعية التي تعمل على تخفيف البؤس البشري وتقليص الفجوة بين الغني والفقير ولا تشجع الجشع لفاحشي الثراء، وفي سبيل ذلك يجب نبذ التنظير والعودة إلى تقليد السياسات الليبرالية اليسارية الإصلاحية التي ينضمّ فيها المثقفون إلى العمال؛ من أجل إحداث تغيير اجتماعي يسهل التعامل مع مشاكل العرقية وعدم المساواة الاقتصادية والبؤس[153].
وعلى عكس ما يُظن من أن رورتي كان عدواً لليسار الأمريكي في فترة من حياته، فقد كان يشيد بفعالية اليسار خلال النيو ديل[154] الذي تصرف أثناءه اليسار بفعالية وبسياسات أمل رورتي أن يراها تزدهر من جديد، ولكن المحافظين ساهموا في تشويه معنى الليبرالية حتى بات بعض السياسيين يخجلون من وصف أنفسهم بالليبراليين[155].
أما اليسار الذي ناصبه رورتي العداء[156]، فهو اليسار الثقافي الذين يفسر ما حدث من جعل الليبرالية وصفاً مخجلاً، فهم وارثو اليسار من المثقفين الأكاديميين، والذين يعدّهم كارثة، وهم المتسببون فيما حصل؛ لأنهم أولوا اهتمامهم الأكبر للدوافع الجنسية الخفية ومشاكل العرقية والمثلية، وأهملوا قضايا الطبقية الاقتصادية، وهو ما يجعل رورتي يصرخ في وجه زملائه اليساريين الأكاديميين «أيها المغفلون إنه الاقتصاد».
فاليسار الثقافي متّهم عند رورتي بالتخلي عن برامج محددة للإصلاح التشريعي والسياسي، وبالفشل في الوصول إلى عقد تحالف مع العاملين والفقراء؛ ولهذا طالبهم أن يتوقفوا عن النشاط في النظرية، وأن يحاولوا نبذ عاداتهم الفلسفية القديمة وإحياء ما تبقى من فخر الأمريكيين بكونهم أمريكيين[157].
من محطات حياته ومن تقلبات اليسار التي عاصرها، وكانت له مواقف متباينة منها يمكن سبر غور ليبراليته التي يساعد أيضاً على فهمها التصنيف الثلاثي الذي وضعه لثلاثة نماذج من المفكرين يمثل كل نموذج منهم تصوراً خاصاً لمفهوم الحقوق الإنسانية: [158]
- نموذج يمثله رونالد دوركين[159]، وهم الذين يطلق عليهم رورتي تسمية القطب الإطلاقي الذي يعتقد بمفهوم للحقوق الإنسانية اللاتاريخية.
- والثاني قطب مستقل يمثله كل من ديوي وجون رولز.
- أما الثالث، فهو صنف مجتمعي يرفض المندرجون تحته النزعة الفردية العقلانية الأنوارية وفكرة الحقوق، ويمددون هذا الرفض على عكس الصنف الثاني إلى الشك في المؤسسات والثقافة الخاصة بالدول الديمقراطية، ويمثلهم ساندل وآخرون.
الصنف الذي ينتمي إليه رورتي، وهو الصنف الثاني وسط بين الليبرالي والمجتمعي، وهو صنف يعتقد أن واجب الدولة يقتصر على إتاحة الفرص، وتقديم أفضل الشروط للجميع وصياغة كل فرد للغته النهائية، وفي الوقت نفسه يعثر فيه على النزعة المركزية العرقية التي أسيء فهمها لدى رورتي، والتي تقوم على عدّ الليبرالية نتاج تقليد ديمقراطي ليبرالي يحتوي على تصور للخير ضمن ما تؤكده الأخلاق الليبرالية. وبتوضيح أكثر، فإن المركزية العرقية عبارة عن ولاء.
مركزية رورتي العرقية محلية تنبع من اهتمامه ببناء مجد أمريكي جديد، وهو مجد يسعى إليه ويدعو إليه على الرغم من أنه يبدو خارج الذوق العام على الأقل بين المثقفين الأكاديميين، ولكنه مقتنع أن الأمة لا يمكن أن تصلح نفسها من دون أن تفخر بنفسها، وما لم تملك هوية تبتهج بها وتحيا لأجلها، وهو سعي للمجد ليس غير منسجم مع الأمل بإنجاز يوتوبيا ليبرالية عالمية كوزموبوليتانية؛ لأنه ولوكان محتملاً أن يأخذ شكل غطرسة قومية عدوانية، لكن غالباً ما تأخذ شكل توق للحياة لمثل أمة، وهي الكفيلة بنظره ببعث السياسات الإصلاحية.
«إن الفخر القومي ما هو إلا نظير لاحترام المرء لذاته: شرط لا بد منه لتطوير الذات. وكما أن إفراطاً في الفخر القومي قد يفضي إلى الامبريالية مثلما يؤدي الإفراط في تمجيد الذات إلى الغرور. وبالمقابل، كما يمكن أن تفضي قلة احترام الذات إلى عجز المرء عن تنمية شجاعته الأخلاقية الكامنة ولكن مثلما يؤدي قلة احترام الذات إلى صعوبة إظهار شخص ما لشجاعته الأخلاقية، فإن نقص الاعتزاز القومي يحيل إمكانية التداول حول القضايا الوطنية أمراً بالغ الصعوبة. إن هذه النقاشات المثمرة لا تصبح واقعاً ما لم يرجح فخر المرء بقومه على شعوره بالنقص لانتمائه إليهم»[160].
المركزية العرقية تكون ضارة في نظره عندما تقوم على قناعة أن كل شخص يجب أن يتبنى قناعاتنا؛ لأنها صحيحة وعقلانية وموضوعية، وليس هذا حال مركزيته العرقية التي يصفها بالمعتدلة؛ لأنها تقوم على اعتقاد بصحة الرؤية وعقلانيتها وموضوعيتها ليس بناء على الافتراض آنف الذكر، وإنما على أساس إجراءات تبرير لا تغفل أن غيرنا لديه إجراءات تبرير لاعتقاداته لا تقل شأناً عن إجراءاتنا. فولاء المرء لاعتقاداته غير منفصل عن انفتاحه على اعتقادات الآخرين من ثقافات أخرى وتسامحه معها[161].
وفي رده على الصنف الثالث، يدافع رورتي عن مجتمعية رولز ويناصب مجتمعية ساندل العداء، فساندل الذي يعد السياسات الليبرالية ناقصة؛ لأنها يجب أن تستند إلى نظرية فلسفية عن الطبيعة يستند هو إلى تفسير فلسفي للذات البشرية ويضع الفلسفة قبل السياسة. أما رورتي، فهو يعتقد أن الفلاسفة الديمقراطيين الليبراليين يدافعون عن السياسات الديمقراطية بوضع السياسات أولاً وتفصيل فلسفة على قياسها، ويقول إن نظرية رولز في العدالة تاريخانية وليست شمولية، وهو لا يفترض تفسيراً فلسفياً للذات البشرية كما يفترض ساندل، لأن الذات لدى رورتي ليس لها نواة، ولا توجد ذات حقيقية يجب على الإنسان أن يسعى لإيقاظها أو اكتشافها[162]. فيرى رورتي الذات كــــ «عديمة المركز»، كـ «احتمال تاريخي» على طول الطريق.
هذه هي الذات البشرية، إنها مجرد شبكة من الاعتقادات والرغبات والعواطف، ولا شيء خلفها، لا ركائز خلفها سمات هذه الشبكة من خلق المجتمع، فلا يملك الناس سوى ما تتم تنشئتهم عليه[163]. وهو يقول -بدافع من أرضيته اللاتأسيسية-: إن الاختيار بين الواجب الأخلاقي الكانطي و«السوبر مان» النيتشوي ليس خياراً ملزماً:
«لطالما اعتقد أنه من اللازم الاختيار بين رؤية كانط ورؤية نيتشه حول الذات ولكن فرويد جنبنا مؤونة هذا الاختيار بتجنبه لفكرة ماهية الإنسان النموذجي؛ وذلك... بانفصاله عن كل من الأفلاطونية المتبقية في كانط والأفلاطونية المقلوبة لدى نيتشه، فالوعي الأخلاقي الكانطي والإنسان الفائق النيتشوي ليسا إلا نموذجين من بين نماذج لتكيف الإنسان، ولا يتجاوزان كونهما استراتيجيتين من بين عدة استراتيجيات للتأقلم مع تربية الفرد العارضة وغير الحتمية»[164].
وفي حين عدّ البعض هذا التفسير للذات تبريراً لاستعباد المجتمع الروحي للناس، فإن رورتي يدافع عن مفهومه هذا بقوله إن الناس يخلقون أنفسهم من خلال إعادة نسج هذه الشبكة من الاعتقادات والرغبات.
«إن ارتباطنا بمجتمعنا، بجماعتنا بتقاليدنا السياسية بتراثنا الفكري - يزداد عندما نرى هذا المجتمع كمجتمع لنا بدلاً من كونه طبيعتنا، كمشكل وليس كمعطى، مجتمع من بين العديد من المجتمعات التي صنعها الناس الرجال الذين صنعوا... ما يجري هو ولاؤنا للناس الذين يشدون أزرنا لقهر الظلام سوية، وليس لتشارك الأمل في التصحيح»[165].
لا توجد إنسانية أساسية أو ذات حقيقية يمكن أن تكون موضوعاً لطموحنا، يوجد فقط تشكل لحيوان داخل الكائن البشري بواسطة عملية تنشئة اجتماعية، والخلق الذاتي نوع من الحرية بالتمرد على هذه العملية، ولكنها حرية ليست موجهة بأي قانون للطبيعة أو العقل[166].
الحرية الأخلاقية هي إعادة تعريف للعارضية للاحتمالية، أما العبودية الأعظم، فتتألف من الطاعة لقيود لا إنسانية مثل الله أو الطبيعة وليست عبودية الخضوع لقيود التخاطب المفروضة بواسطة مجتمعاتنا المتنوعة[167]. وليست المحاولة الفلسفية أو الدينية للهروب من عارضية المجتمع إلا تحويل للكائن إلى آلة مبرمجة وأفراد رورتي الخلاقين يرفضون قيادة من الله أو الطبيعة في تمردهم ضد تنشئتهم، وبدلاً من ذلك يتعهدون بكتابة قصائدهم الخاصة وكل حياة بشرية هي قصيدة[168].
ليس رورتي ليبرالياً أرثوذكسياً؛ لأنه يبحث عن وصف الليبرالية التي من الممكن تكييفها مع رؤى مجتمعية لهيغل وديوي، بينما يكون الفيلسوف عادة مدفوعاً بالحاجة إلى راحة ميتافيزيقية للاعتقاد أن العالم له نظام محسوس معين، لإيجاد شيء لا تاريخي للتمسك به، وليس بإلحاح لا يقاوم للمعرفة[169].
وهو في حسبانه ديوي إحدى أهم مرجعياته الذي بدوره يجد مرجعيته في نظر رورتي لدى هيغل، فإنما يفعل ذلك؛ لأن ديوي -الذي بدأ حياته هيغلياً، وامتزج الأثر الهيغلي لديه بالأثر الدارويني في موقفه البراغماتي الأداتي- جعل الليبرالية أكثر جاذبية لدى الفلاسفة اللاماهويين المعاصرين من خلال تفكيك الجوهر الفلسفي لها وتحطيم فكرة الطبيعة المشتركة ولهذا، فإن براغماتيته تعتبر دفاعاً فلسفياً عن الليبرالية السياسية، وهي كفيلة بجعل السياسة الديمقراطية الاجتماعية مقبولة[170].
وأصالة رورتي في أحد أبعادها تكمن في عدّه الليبرالية البراغماتية نوعاً مختلفاً من الليبرالية السياسية مؤسسة على فكرة مختلفة عن الحرية، فما ماهية هذه الليبرالية البراغماتية الرورتية؟
لا شك أن البراغماتية هي الفلسفة الأمريكية بامتياز، ولكن رورتي قد منحها مضموناً جديداً مشتقاً في الأصل من فلسفة أستاذه ديوي. وكان أكثر ما لفت نظر رورتي فكرة أستاذه عن تعدد مجتمع الباحثين ورفضه لمنطق بيرس[171] القائم على منهج للبحث يضطلع بعبئه باحث فرد، وهو ما يربط براغماتية رورتي ربطاً وثيقاً بالديمقراطية من جهة، ويربطها كذلك باللانسقية واللاتأسيسية من جهة أخرى. ولعل ارتباط سؤال الحقيقة والعقلانية الديوي بفلسفة هايدغر، جعل قراءة رورتي لكل من ديوي وهايدغر قراءة تفرز بعداً منفتحاً على الآراء متسامحاً يمكن أن تلحظه في حوارات رورتي مع مخالفيه[172].
إن البراغماتية موقف ذهني لها ارتباط براغماتي بأي شيء يعمل مع ميل لرفض أنواع الأسئلة الضارة والعقيمة التي يرفعها فلاسفة من قبيل: لماذا تعمل بعض الممارسات ولا تعمل أخرى؟
يبحث البراغماتي -في نظر رورتي- عن تحريرنا من الأمل العصابي الذي يتشوف إلى إمكانية أن تستحضر الفلسفة بطريقة ما لتأسيس ثقافتنا وسياساتنا وحيواتنا الأخلاقية واعتقاداتنا الدينية على أسس فلسفية[173]. وتحريرنا بهذه الطريقة يساعدنا على عيش حيواتنا الأخلاقية بكل إخلاص، والذي هو الآن مكدّر بشكوكية تنبثق من جهود فاشلة لاكتشاف أسس لطريقة الحياة، كما يمتلك البراغماتي -حسب رورتي- ذوقاً «ديوياً» للتجريبية فهو ليس محافظاً، ولا ثورياً، لكنه مصلح اجتماعي فهو ليس محافظاً؛ لأنه ينظر إلى التقليد كمجرد تراكم عبر التجربة والخطأ عادات معينة ومؤسسات وأفكار تناسب الآن مجتمعنا بشكل جيد، ولا مبرر لعدم الاستمرار مع وجود توقع معقول أن الإصلاح الاجتماعي يمكن أن يجعل ممارساتنا وأفكارنا تعمل لصالحنا أفضل من طرقنا القديمة، وهو ليس ثورياً لأنه لا يثق بالدعاوى التي تبرر الثورة فقط بإجبار المواطنين على الحكم على مجتمعهم وفقاً لمعايير غريبة عن المجتمع، ويجب أن تفرض عليه، فالبراغماتي مصلح اجتماعي يجيب عن شكوك حول تبرير طرق حياتنا وثقافتنا السياسية ليس بطلبات سقراطية لمبادئ وتعاريف، وإنما بطلبات ديوية عن بدائل صلبة وبرامج[174].
يصف رورتي مشروعه السياسي للإصلاح بأنه محاولة ديوية لخلق اهتمامات متماسكة مع مشاكل يومية لمجتمعه، هندسة اجتماعية، استبدال للدين التقليدي يقوم به شعراء مبدعون أو حالمون مثل مارتن لوثر كنغ الذين يعطون المجتمع الأمل ولا يقدمون المعرفة الكونية[175].
بالنسبة إلى ورتي يجب البحث لدى البراغماتي عن راحة أخلاقية، عن وسائل تخص ولاءنا للبشر الآخرين، فالفرق بين البراغماتي والأفلاطوني هو السؤال عما يجب التمسك به: الطبيعة أم المجتمع، وهي قضية أخلاقية، وعلينا أن نفكر بمجتمعنا كــــ «لنا» أكثر من كونه للــــ «الطبيعة» كــــ «مشكّل» أكثر من كونه موجوداً، وهو تفكير مشتق من إعادة تحديد معنى المجتمع.
«إن حسنا بالتماهي مع مجتمعنا أفضل من طموح في غير مكانه باكتشاف نقطة بدء عابرة للتاريخ؛ ولذلك يجب التخلص من مفاهيم تقليدية عن الموضوعية، ويجب فهم العلوم الاجتماعية كاستمرارية للأدب، كتفسير للناس الآخرين وتوسيع وتعميق حسّنا بالمجتمع»[176].
«العقلانية العلمية ليست بحثاً عن فهم موضوعي، وإنما هي أنموذج للتضامن البشري، والأخلاق في الليبرالية البراغماتية الرورتية هي أخلاق مجتمع مشروط تاريخياً، والكرامة البشرية اشتقاق من كرامة مجتمع محدد وعيه، فإن الناس الذين يتماهون مع مجتمع أخلاقياً، والذين ينظرون إلى أنفسهم كمواطنين أفضل من مستقلين أو أفراد معزولين وهم سوف يميلون بالتأكيد للاعتقاد بأنهم يجب أن يحبوا ويخدموا ذلك المجتمع»[177].
لا يستجيب رورتي الليبرالي البراغماتي أبداً لفكرة الواجبات الطبيعية أو الفضيلة الإنسانية، ما دامت معتمدة على طموح فلسفي قديم وفاقد للمصداقية لرؤية الكائنات البشرية عارية من كل التراكمات الثقافية والعرفية -فعلى حد تعبيره- لا يوجد شيء للناس ما عدا ما تمّ تنشئتهم عليه، فالكائنات البشرية ليست أكثر مما قام مجتمعها بصنعه، وهذا أحد الأسباب التي يوصف لأجلها بــــ «الليبرالي المجتمعي»[178].
فما هو خطأ لدى الفلاسفة الذين يفعلون العكس هو فلسفتهم الماورائية واعتقادهم أنهم يمكن أن يدعموا دعاواهم بالاحتكام إلى جدالات مؤسسة على أسس صلبة، وهو ما يغاير منحى الليبرالي «الساخري»، وهو الوصف الذي يصف به رورتي أنموذجه الليبرالي، ويعرفه بأنه الشخص الذي يعرف أنه لا يمكن تبرير أفعال البشر واعتقاداتهم وحيواتهم بالاحتكام إلى أسس عقلانية نهائية. الساخري يعرف جيداً أنه توجد بدائل، ولا يؤمن بوجود كلمات نهائية[179].
إنه أقرب إلى الواقعية من الآخرين، وليس كما يتصور -خطأ- أنه المتظاهر بالجهل أو المتهكم على الآخرين. ولتشكل هذا الليبرالي الساخري شروط ثلاثة:
- أن تكون لديه شكوك جذرية ودائمة حول اللغة النهائية التي يستخدمها.
- أن يعتقد أن تفكيره المصاغ بلغته الحالية لا يستطيع تأكيد ولا تبديد شكوكه.
- ألا يتصور أن لغته أقرب إلى الواقع من لغات الآخرين، وأن يكون على اتصال بقوة أخرى غير ذاته[180].
وبينما رأى بعض نقاد رورتي في هذا الوصف نسبوية عدمية، فقد كان رورتي يرد عليهم بأنه مدرك أن عبء النسبوية عبء كبير، ولكن اتهامه بالنسبوية موجه من طرف الذين لا يزالون يتمسكون باعتقاد يفيد أن ثمة أسساً عقلانية نظرية صلبة أو ينبغي أن توجد، ويقول إننا سنكون أفضل حالاً إذا تنازلنا عن كل الحديث عن النسبوية والموضوعية والواقعية وغيرها، وإذا تنازلنا عن فكرة أن النزول إلى العمق في كل الكائنات البشرية يفضي في نهاية الطريق إلى العثور على أساس حقيقي يمكن أن يخدم في تبرير اعتقاداتنا الليبرالية، فرورتي يعدّ الأفلاطونية أكبر أعدائه والكانطية كذلك؛ لأن هاتين الفلسفتين صنعتا التمييزات الفلسفية (مظهر - جوهر، مادة عقل، مصنوع - موجود، ذهني - محسوس...... إلخ)[181]، والتي كانت هواجس الفلاسفة لفترة طويلة، ويدعو زملاءه الفلاسفة إلى التنازل عن هذه التمييزات، وأن يأتوا إلى ثقافة ما بعد فلسفية، حيث يحول الانتباه إلى نقاش للآمال الاجتماعية أكثر من معرفة ما هو موجود هناك، وهو يقول إنه يحمل تراث ديوي الذي يعدّه بطله الفلسفي الذي سبقه إلى طرح شبيه، ويقدم رورتي آلية تساعد في تنفيذ دعوته هي إعادة الوصف للمفاهيم[182].
أما التاريخانية التي يمجدها، والتي جعلته يثني على رولز؛ لأن نظريته في العدالة تعالج موضوعات متنوعة تتعلق بقضايا معقدة مثل الحقوق، القانون، الدستور، ولأن رولز -حسب رورتي- قد تطور في آخر عمره وأصبح أكثر تاريخانية وأقل كانطية، فهي التي تجعله يؤكد أن انبثاق الليبرالية في الغرب حدث سعيد، صدفة تاريخية وفي الوقت نفسه تجعله يرفض كل السرديات الكبرى التي تقترح أنه يوجد قدر في النصر النهائي للحرية الليبرالية، ولذلك ظل ينتقد هابرماس؛ لأنه ظل يتوق لشيء ما مثل أسس كانطية ودعاوى شرعية كونية، ويحثه على إعادة الوصف، فنحن لا نحتاج -بحسب رورتي- إلى عمل نظري حول طبيعة وأساس الليبرالية، وبدلاً من ذلك علينا أن نركز على كيفية تحسين المؤسسات التي توجد في المجتمعات الليبرالية[183]، وإذا طرحت عليه أسئلة من قبيل: [184]
ما الذي يعد قسوة وإذلالاً؟
هل يوجد معيار لتحديد الأشكال المقبولة وغير المقبولة للإذلال؟
ماذا نفعل لحماية الخطاب الحر عندما يحمي نوعاً من خطاب الكراهية الذي يتسبب في الإذلال؟
فإنه يجيب أنها أسئلة غير مهمة، وهي لا تساعد في شيء، وبالنسبة إلى الساخري الليبرالي لا يوجد احتياطي نظري للاعتقاد أن القسوة مرعبة، ولا يوجد جواب عن سؤال:
«كيف نقرر متى نصارع الظلم، ومتى نكرس أنفسنا لمشاريع خاصة؟
أو سؤال:
«متى يمكن للمرء أن يفضل أعضاء عائلته أو مجتمعه على الكائنات البشرية»؟
إن أي شخص يعتقد أنه توجد أجوبة نظرية عن هذه الأسئلة لا يزال في قلبه ميتافيزيقا أو ميثولوجيا، ولا يزال يعتقد بترتيب خلف الزمن يحدد نقطة وجود الإنسان، ويرى رورتي أن روايات ديكنز والصحف فعالة أكثر في جعل الناس يفعلون شيئاً حول بشاعة الظلم الاجتماعي أكثر من آثار أكاديمية لفلاسفة مفتونين بالتنظير الذي كان مهماً عندما كانت الليبرالية تخطو إلى الوجود لكن ذلك الوقت قد مرّ[185].
رورتي منسجم جداً مع نظرة يعزوها إلى هيغل وديوي، وهي أن المبادئ الأخلاقية الكونية مفيدة فقط بقدر ما تكون ثمرة لتطور تاريخي لمجتمع خاص[186]. ومن الفلاسفة الذين يعجب بهم رورتي أيما إعجاب بسبب صلة رحم فكرية تربط بينهما المنظر السياسي مايكل والزر[187]؛ لأنه يجادل أن علينا ألا نفكر بعادات ومؤسسات المجتمعات الخاصة كتراكمات عرضية حول نواة عامة لعقلانية أخلاقية كونية، قانون أخلاقي ترانسندنتالي، وبدلاً من البحث عن نظرية ديمقراطية وليبرالية معقدة يمكن العثور في الروايات والصحف والمقالات ما يمكن أن يخدم أكثر في تقوية وتحسين المؤسسات الليبرالية من آثار اكاديمية للفلاسفة الليبراليين[188].
أما الإنسانية لدى الليبرالي البراغماتي، فهي التصرف وفق القاعدة الأخلاقية التي تنص على أن كل الناس مخلوقات متساوية، واللاإنسانية هي القسوة، فمن اللاإنساني في نظر الليبرالي البراغماتي عدّ بعض الكائنات البشرية سادة الطبيعة، وعدّ آخرين عبيداً بالطبيعة، أو عدّ بعض الناس مدنيين وآخرين برابرة بشكل لا يمكن إصلاحه فحينما ترفع الطبيعة أو الثقافة بشراً فوق آخرين أو تبعد مجموعات عن أخرى يصبح من الضروري تقليص الفروق التراتبية الثقافية والطبيعية بين البشر، وهنا نعود لنلمح أثر البيئة اليسارية الشغوفة بالعدالة الاجتماعية التي تربى في كنفها. ويشتق من مفهوم الإنسانية هذا معنى التضامن الذي تعتمد عليه مجتمعات رورتي الليبرالية، وهو بديل عن الانسجام الكوني الذي لا معنى له؛ لأن التضامن مع الأقران وتعميق الحس بالتعاطف وبمعاناة الناس الذين يتعرضون لإذلال مؤسساتي، والذي هو ناتج إنجازات لأدباء ولصحفيين هو المحتوى الحقيقي للتقدم الليبرالي الأخلاقي. إن فهم رورتي للتعاطف والتضامن يساعد على تقليل اللقب الاستفزازي الذي أطلقه على نفسه بأنه مركزي عرقي على اعتبار أن التضامن الذي يدعو إليه يبدأ في الوطن الذي هو ظاهرة محلية تتمدد بالتدريج[189].
وقد كان للتضامن مركزية في ليبرالية رورتي؛ لأنه الجواب عن السؤال:
ما البديل الأخلاقي والسياسي الصالح موضوعياً للموضوعية والطبيعة الإنسانية المشتركة التي يعدّها وهماً يقود إلى الأنظمة الشمولية ويساند الإيديولوجيات الاستبدادية؟
وهذا التضامن الذي يمثل البديل هو اتفاق تذاوتي يمتد إلى أقصى ما يمكن، اتفاق يحققه مجتمع ديمقراطي يؤمن فيه كل شخص أن التضامن الإنساني هو الأكثر أهمية فعلياً.
«حسب وجهة النظر التي أستعرضها هنا يوجد بالفعل تقدم أخلاقي، وهذا التقدم يسير في اتجاه تضامن إنساني أكبر، ومع ذلك لا ينبغي اعتبار هذا التضامن اعترافاً بذات عميقة أو بماهية الإنسان عند جميع الكائنات البشرية بل يجب النظر إليه على أنه يمثل القدرة على الحكم بعدم كفاية جملة الاختلافات التقليدية، وهي على الدوام كبيرة (كالقبلية، الدينية، العرقية، العرفية، إلخ) مقارنة مع تناظرات وتشابهات تخص الألم والإهانة: أي تلك الملكة أو القدرة على احتواء في حقل الــــ 'نحن' أناساً يختلفون عنا كثيراً»[190].
ولكن من الزائف الاعتقاد أن رورتي متفائل بخصوص آفاق أمريكا كمجتمع ليبرالي؛ فالتوجهات الاقتصادية الأخيرة تظهر أن أمريكا تصبح بسرعة مجتمعاً طائفياً وطبقياً، وأن الفجوة بين مجموعة صغيرة من فاحشي الثراء وبين مجموعة كبيرة من الفقراء تتفاقم[191].
اليوتوبيا التي ينادي بها رورتي لا تعنى يوتوبيا بالمعنى الشائع، وإنما الشكل الذي تجلى في أوروبا، والذي ينطوي على مفهوم للحقيقة كشيء يبنى وليس كنزاً موجوداً ثمة وما علينا سوى اكتشافه:
«إن اليوتوبيا الليبرالية التي أؤمن بها يكون فيها المواطنون أفراداً لديهم شعور بعارضية لغة تفكيرهم الأخلاقي، ومن ثم بوعيهم وبمجتمعهم. إنهم يكونون ساخرين ليبراليين: أشخاص فيهم معيار الحضارة الــــ شومبيتري[192]، أشخاص لا يكون الالتزام عندهم ضد معنى عرضية التزامهم»[193].
وقد تحققت هذه اليوتوبيا في الليبرالية الأمريكية. وفيها تقلب معادلة أفلاطون التي ينصب فيها الفلاسفة كممثلين العقل ويقصى الشعراء الذين ينصبون في ليبرالية رورتي كمواطنين مفضلين؛ لأنهم يوظفون كتاباتهم لصالح الحرية الإنسانية[194].
في بعض استنتاجاته يعطي أسباباً لعدم ترجيحه تحقيق يوتوبيا ليبرالية عالمية، ولكن هذا لا يستلزم أن الآمال بتحقيقها يجب أن تهجر، ولا يعني أن مؤشرات انهيار الليبرالية البراغماتية في أمريكا تبرر التعامل بمنظور التشاؤمية الثقافية، بل بالعكس تعزز عارضية الليبرالية الديمقراطية أهمية الوسيط الإنساني للاستمرار في إصلاح وتحسين المؤسسات الليبرالية الديمقراطية لإبقاء الوعد بمجتمع ليبرالي بلا طبقات ولا طوائف حياً[195].
على الرغم من صعوبة الاعتراض على الكثير مما ينادي به رورتي من مثل العدالة الاجتماعية ونهاية التمييز العنصري، ولكنّ تطبيق المعايير البراغماتية الصلبة التي يطبقها على الآخرين يجعل التساؤل عن كيفية الهبوط من بلاغة المناداة بتقليص الفجوة بين الغني والفقير، وتقييد الجشع إلى أرض التنفيذ مشروعاً؛ لأنه لا يعطينا فكرة عن كيفية إنجاز ما ينادي به، ولا عن آلية ملموسة للإصلاحات الليبرالية، كما أن ما ابتلي به ديوي عانى منه رورتي؛ فهو مشغول بتأنيب أقرانه المثقفين بسبب فشلهم في التعامل مع مشاكل الإنسان أكثر من انشغاله بتطوير طرائق متماسكة لحلّ هذه المشاكل[196].
تحفظ آخر على معالجة رورتي للنظرية، فهو -كما هو واضح- فاقد للصبر مع النظرية التي تحاول تبرير الليبرالية بالاحتكام إلى أسس صلبة وفي الوقت نفسه لا يعتقد أن التنظير اللا أسسي الما بعد حداثي لليسار الثقافي أفضل بكثير؛ لأنه يفشل في التواصل مع السياسات الواقعية[197].
ولكن ليس صحيحاً أن هاتين الطريقتين من التفكير الأسسية والما بعد حداثية هما كل ما يوكل للنظرية من دور، فلو أخذنا مثال تشريع الرفاه الاجتماعي للنيو ديل (الصفقة الجديدة) التي يعدّها رورتي مثالاً ناجحاً؛ ففي هذه الحالة، كان لا بد من مفاوضات حول أسباب الكساد ونوعية الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تساعد في الخروج بالبلد من المأزق، وهي مفاوضات نظرية تضمنت نماذج تنافسية حول ما يجب أن يعطى الأولوية في تشكيل أمريكا. وبهذا المعنى، فمن الواضح أن النظرية قامت بدور تقديم برامج عمل متماسكة، وهي ليست نظرية لخبراء تقنية حياديين؛ لأنها تتطلب تحديد الظلم الاجتماعي لتصحيحه مع قدر غير قليل من التحليل النظري والجدال، وإلا فإن الإصلاح الليبرالي يمكن بسهولة أن ينحط إلى فعالية لا عقلية أو بحث عن إصلاحات سريعة، وعليه، فالنظرية لا تختزل إلى نوعين - كما يفترض- أسسية، وما بعد حداثية[198].
التحفظ الثالث يبدو في تخوفه من نتائج العولمة الاقتصادية على العاملين في أماكن الأجور المنخفضة من دون أن يقدم سبلاً لمواجهة هذه الآثار، ومن دون أن يفصّل نوعية الإصلاحات التي يجب أن تتخذ، ويغفل عن ضرورة البحث عن تفسير نظري، ولو بالحد الأدنى لديناميات العولمة[199].
التحفظ الأخير حديثه عن أن أعداء السعادة الإنسانية هم الجشع والنفاق والكسل، ونصحه بعدم الاستعانة بالفلسفة للتعامل مع هؤلاء الأعداء الواضحين، ولكن أحدهم قد يسأله باللغة البسيطة التي يفضلها:
إن إعادة الوصف التي تتحدث عنها ليست أكثر من غزل، فالجشع ليس سوى ريادة الأعمال الأمريكية، والكسل هو استخدام أوقات الفراغ لكي يبقى الاقتصاد مزدهراً، وما تدعوه نفاقاً هو نوع من الفطنة التي ساهمت في صنع هذا البلد العظيم وعليك أن تفخر بهذه الخصائص التي جعلت ديمقراطيتنا عظيمة وقوية ومرنة. المشكلة أن ليبرالية رورتي تبدو ستاراً بلاغياً يعتّم نوع التفكير الجدي، والفعل المطلوب للإصلاح الليبرالي الذي يدعو إليه[200]. إنها ليبرالية من دون خطط متماسكة تفصيلية للفعل تميل إلى أن تصبح فارغة تماماً كإصلاحات سريعة بدون تصور كامل عملي، وكما وصف أحد الفلاسفة حديث جون ديوي عن قضايا اجتماعية وسياسية بأنه موعظة علمانية يمكن وصف ليبرالية رورتي بالوصف نفسه، فقد لخص رايان ليبرالية ديوي التي يعمل رورتي على تنشيطها والتي تبرر وصف ليبراليته -بعدّها إرثاً لليبرالية ديوي- بالموعظة بالشكل التالي:
«ليبرالية ديوي مختلفة، ليبرالية ملتزمة بالتطور، وتوسيع أذواق البشر وحاجياتهم، وهي تركز على الاستقلال الذاتي للفرد، وهي تفاؤلية مهتمة بالفرد المهجوس بشكل كامل بعائلته وعمله ومجتمعه المحلي وسياساته، الفرد الذي لم يكره ولم يجرّ جرّاً إلى هذه الاهتمامات كحقول لتجربة ذاتية. هذه الليبرالية يمكن أن تكون ترياقاً ملهماً لليبرالية تشريعية قائمة على حقوق، وأداة لشتم الافتتان بالتنظير من طرف نقاد ثقافيين لما بعد الحداثة، ولكن بدون قسوة براغماتية وبرنامج إصلاح متماسك يمكن بسهولة لهذه الليبرالية أن تنحط إلى بلاغة فارغة»[201]. والوصف نفسه يمكن أن ينطبق على ليبرالية رورتي.
المجتمع الليبرالي الذي يدافع عنه رورتي لا تؤسسه نظريات ما وراء الروايات، وإنما فقط الأمل والرغبة في رؤية استمرارية هذا المجتمع؛ ولهذا توسم ليبراليته بالنفعية، وسبب آخر لهذه النفعية التي تسم ليبراليته هو ولاؤه لمنهجية توماس كون المحافظة، حيث إنه يعتقد أنه من غير الممكن رفض الأنموذج الإرشادي ما لم نمتلك بديلاً أفضل منه[202].
يؤكد رورتي ما يلي:
«ليبرالية مل تزود بالقول الفصل على مستوى النظرية عن نظامنا السياسي»[203].
وهنا تثور بعض الأسئلة: [204]
فلماذا لا يأخذ رورتي بالحسبان إمكانية أن تخرج اليوتوبيات الثورية بمفردات نهائية تضع ليبرالية مل جانباً؟
ولماذا لا يستطيع النقد الذي يسمح به لليسار إلى وضع ليبرالية مل موضع السؤال؟
بنظر رورتي، فإن ما قام به جفرسون هو خصخصة الدين حتى يصبح مادة للتطور الشخصي وليس مواطنية سياسية[205]. ففي المجتمع الليبرالي ما هو في أعمق أعماقك غير ذي صلة بحالتك كمواطن.
وفقاً لرورتي، فإن مل وجفرسون أرادا أن يحلّا التوتر بين هذين الجانبين (الخاص والعام) بالطعن بالعقائد الثيولوجية والميتافيزيقية عن الحقوق، الحقيقة، الطبيعة البشرية، وبنظره فإن الطريقة الوحيدة لحل هذا التوتر على مستوى النظرية هي الطريقة المتبناة من طرف ماكس فيبر التي تدعو إلى أن حداثتنا يجب أن تملك القوة على أن تعيش وجوداً منقسماً كما هو حال المجتمع الحديث المنقسم إلى فضاءات ثقافية، سياسية، علمية[206].
يعرض رورتي ولاءه الفيبري في الرسالة التالية:
«بدلاً من اقتراح العودة إلى الدين أو التأمل الفلسفي، إن تمكنا من إعادة السحر إلى العالم، فإن السؤال الذي يجب الإجابة عنه هو: ماذا لو كانت إزالة السحر قد فعلت بنا أذى أكثر من الذي هربنا منه؟
بالنسبة إلى ديوي نزع السحر هو الثمن الذي يجب أن ندفعه من أجل ليبرالية فردية وروحية خاصة. كان ديوي مدركاً -كما هو حال فيبر- أن ثمناً يجب أن يدفع، لكنه اعتقد أنه يستحق الدفع، كما اعتقد أنه لا يوجد منجز ذو قيمة إذا كان الثمن نقصاناً في مقدرتنا على ترك الناس يجربون لوحدهم نسخهم الخاصة من السلام»[207].
إن مزاوجة رورتي بين فيبر وديوي تخفي حقيقة لا نستطيع التكهن بغاية رورتي من إخفائها؛ لأن ديوي كان هيغلياً، وكانت ميوله الرومانسية دائماً خاضعة لمثال هيغلي عن المجتمع، في حين أن فيبر لم يكن يخفي كراهيته لهيغل ورفضه لأي فكرة هيغلية عن المجتمع. وقد ذهب رورتي في محاولة مضللة أخرى إلى أبعد من ذلك عندما ادعى أن مل وديوي كانا شقيقين فكريين، وأن ما فعله ديوي عندما صنع تركيباً جديداً بمزج هيغل ومل فعل مثله مل عندما صنع تركيباً هو مزيج من جيرمي بنتام وصامويل كوليردج[208]. والحقيقة أن ديوي رفض الليبرالية المللية فيما يتعلق بالفردية مثل ما رفض التمييز الحاد بين الفضاءين العام والخاص الذي يصر عليه كل من فيبر وروتي. ومثل هذ التضليل نعثر عليه في ادعاء رورتي بأن ديوي وفيبر اخترعا معاً مفردات الديمقراطية الاجتماعية، ولا نتردد في وصف هذا الادعاء بالمضلل؛ لأنه يتجاهل الاختلافات الجوهرية في نظر كل منهما السياسية[209].
استراتيجية رورتي-فيبر لليبرالية من دون فلسفة تقع على أمل أن التكنوقراط، البيروقراط والقادة السياسيين سيعملون ما بوسعهم لتبرير غايات منفعية، بينما يترك الناس وحيدين في الفضاء الخاص، وهي تتذبذب بين انسحاب رومانسي وتفاؤل بالقدرة على الضبط والتحكم بالأوضاع. إنها خيار بين تطور ذاتي للفرد أو تورط في الفضاء العام، الفضاء السياسي والاجتماعي، فهي تولد صراعاً بين القيم الخاصة والسياسات التكنولوجية، أو أفكاراً من قبيل نهاية الأيديولوجيا[210].
[1] - انظر جون ستيوارت مل، أسس الليبرالية السياسية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996، ص. 13
[2] - The collected works of John Stuart Mill, ed., John M. Robson,33Vol. (Toronto: university of Toronto Press, 1963-91), p. 10
[3] - انظر وندي دونر وريتشارد فمرتون، جون ستيوارت مل، ترجمة نجيب الحصادي، ط1، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011، ص35-37
[4] - المرجع نفسه، ص. 43-45
[5] - انظر جون ستيوارت مل، عن الحرية، ترجمة هيثم الزبيدي، منتدى مكتبة الإسكندرية، ص. 24
[6] - وندي دونر وريتشارد فمرتون، جون ستيوارت مل، مرجع سابق، ص. ص. 91-92
[7] - المرجع نفسه، ص. 118
[8] - المرجع نفسه، ص. 57
[9] - المرجع نفسه، ص. 64
[10] - جون ستيوارت مل، عن الحرية، مرجع سابق، ص. 10
[11] - المرجع نفسه، ص. 76
[12] - المرجع نفسه، ص. 91، 100، 106
[13] - Op.cit., p. 242.
[14] - وندي دونر وريتشارد فمرتون، جون ستيوارت مل، مرجع سابق، ص. 90
[15] - جون ستيوارت مل، عن الحرية، مرجع سابق، ص. 115-121
[16]- See Robert Hollinger, The Dark Side of Liberalism: Elitism vs. Democracy, Praeger, Westport, CT, 1996, p. 13
[17]- Ibid., p.13
[18] - عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، ط1، القاهرة: دار الشروق، 2002، ص. 104
[19] - المرجع نفسه، ص. 105
[20] - المرجع نفسه، ص. 105
[21] - المرجع نفسه، ص. 106
[22] - See Robert Eden, Political Leadership and Nihilism (Tampa: University of Florida Press, 1989), p. 209.
[23]- Op.cit. p. 14
[24] - See Wolfgang Mommsen, The Age of Bureaucracy (New York: Oxford University Press, 1964), p. 95.
[25]- Op.cit. p.17
[26]- Ibid., p.19
[27]- Op. cit. p.22
[28] - سان سيمون (1760-1825): فيلسوف ومفكر اشتراكي فرنسي من الذين مهدوا للثورة الفرنسية، تأثر بأفكاره مفكرون عديدون مثل ماركس وأوغست كونت وجون ستوارت مل.
[29] - Robert Hollinger, p. 18.
[30] - Ibid.
[31] - انظر أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005، ص. 64
[32] - Op.cit.
[33] - انظر نظرية الثقافة، مجموعة مؤلفين، ترجمة علي سيد الصاوي، الكويت: عالم المعرفة، 1997، ص. 211
[34] - المرجع نفسه، ص. 212
[35] - المرجع نفسه، ص. 204
[36] - المرجع نفسه، ص. 204
[37] - المرجع نفسه، ص.ص. 204-205
[38] - المرجع نفسه، ص.ص. 205-206
[39] - Robert A. Nisbet, Emile Durkheim (Englewood Cliffs, N. J.: Prentice-Hall 1965), p. 57.
[40] - See Robert Hollinger, The Dark Side of Liberalism: Elitism vs. Democracy, Praeger, Westport, CT, 1996, p. 20
[41]- Giddens, Durkheim: Selections, p. 199
[42] - op. cit.
[43] - Ibid.
[44] - Ibid.
[45] - Ibid., p. 21
[46]- Ibid. p. 22
[47]- Ibid., p. 22
[48] - كاترين اودارد، الليبرالية «الجديدة» (2-4).. من ليبرالية الأحزاب إلى ليبرالية الأفكار، مرجع سابق، https://www.lebanese-forces.com/2013/07/07/new-liberalism-2-4/
[49] - المرجع نفسه.
[50] - انظر إمام عبد الفتاح إمام، الهيجلية الجديدة، دار التنوير، بيروت، 2011، ص. 240
[51] - كاترين اودارد، الليبرالية «الجديدة»، مرجع سابق.
[52]- المرجع نفسه، https://www.lebanese-forces.com/2013/07/07/new-liberalism-2-4
[53] - إمام عبد الفتاح إمام، الهيجلية الجديدة، مرجع سابق، ص. 246-248
[54] - المرجع نفسه، ص. 263-264.
[55] - المرجع نفسه، ص. 268، 271
[56] - المرجع نفسه، ص. 279
[57] - المرجع نفسه، ص. 283
[58] - المرجع نفسه، ص. 282- 284
[59] - المرجع نفسه، ص. 285
[60] - المرجع نفسه، ص. 286
[61] - كاترين اودارد، الليبرالية «الجديدة»، مرجع سابق، https://www.lebanese-forces.com/2013/07/07/new-liberalism-2-4/
[62] - منظر سياسي ليبرالي وعالم اجتماع بريطاني، يعد من أهم أنصار الليبرالية الاجتماعية.
[63] - جمعية اشتراكية تأسست في لندن عام 1884، بهدف إنشاء دولة اشتراكية ديمقراطية في بريطانيا العظمى. ويضع الفابيون إيمانهم في اشتراكية ثورية بدلاً من الثورة.
[64] - Alan Ryan, p. 396
[65]- Ibid., p. 406
[66]- Alan Ryan, p. 398
[67] - Ibid, p.399
[68] - Ibid.
[69]- Ibid., p. 400
[70]- Ibid., p. 400
[71]- Ibid., p. 399
[72]- Ibid., p. 400
[73]- Ibid., pp.401-402
[74] - Ibid.
[75]- Ibid. p. 40
[76] - Ibid.
[77] - Ibid.
[78] - Ibid.
[79]- Ibid. p. 408
[80] - Ibid.
[81]- Ibid. p. 406
[82]- Ibid, pp.407-410
[83]- Ibid., p.409
[84] - انظر يمنى الخولى، فلسفة العلم في القرن العشرين، الكويت: عالم المعرفة، العدد 264، 1990، ص. 315
[85] - انظر كارل بوبر، المجتمع المفتوح واعداؤه، ترجمة السيد نفادي، لبنان: دار التنوير، 1998، ص. 17
[86] - يمنى الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، مرجع سابق، ص. 318
[87]- See Popper, K. R, The Poverty of Historicism. 2nd ed. London: Routledge and Kegan Paul, 1961, pp.115-116
[88]- Alan Ryan, p. 415
[89]- op.cit, p.415
[90] - كارل بوبر، المجتمع المفتوح واعداؤه، مرجع سابق، ص. 5
[91] - انظر كارل بوبر، بؤس الأيديولوجيا، ترجمة عبد الحميد صبرا، ط1، بيروت: دار الساقي، 1992، ص. 60
[92] - يمنى الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، مرجع سابق، ص. 333-340
[93] - كارل بوبر، المجتمع المفتوح واعداؤه، مرجع سابق، ص.ص. 8-9
[94]- See ``Normal Science and Its Dangers.'' In Criticism and the Growth of Knowledge, edited by I. Lakatos and A. Musgrave. Cambridge: Cambridge University Press, 1970, pp.51-59
[95]- See Reiss, H., ed. Kant's Political Writings. Cambridge: Cambridge University Press, 1970, pp.42-43
[96]- Alan Ryan, p. 420
[97]- Ibid., pp. 415-417
[98]- Alan Ryan, op.cit., p. 413
[99] - Hayek, Friedrich A. von, The Road to Serfdom. Chicago: University of Chicago Press, 1944, p. 370.
[100] - Ibid, p. 21.
[101] - The Constitution of Liberty. Chicago: University of Chicago Press,1960, pp. 103-104.
[102] - Law, Legislation, and Liberty. Vol. I: Rules and Order. Chicago: University of Chicago Press, p. 1973, p. 36.
[103]- Ibid., p. 39
[104]- Ibid., p. 41
[105]- Ibid., p. 41
[106]- Ibid., p. 41
[107]- See What is 'Social'? - What Does it Mean?", in F. A. Hayek, ed., Studies in Philosophy, Politics and Economics. London: Routledge and Kegan Paul. 2013, p. 243
[108]- The Confusion of Language in Political Thought, with Some Suggestions for Remedying It. Occasional paper no. 20. London: Institute of Economic Affairs, 1992, p. 15
[109]- See Notes on the Evolution of Systems of Rules of Conduct", in F. A. Hayek, ed., Studies in Philosophy, Politics and Economics. London: Routledge and Kegan Paul, 1967, p. 110
[110]- Ibid., p. 39
[111]- Law, Legislation, and Liberty, op. cit, p. 17
[112]- Charles R. McCann Jr, p. 183
[113]- Op. cit., p. 44
[114]- Ibid., p. 44
[115]- Ibid., p. 45
[116]- Ibid., p. 98
[117]- Ibid., p. 72
[118]- Law, Legislation, and Liberty, p. 14
[119] - The Constitution of Liberty. Chicago: University of Chicago Press, 1960, p. 153.
[120]- Law, Legislation, and Liberty, op. cit., p. 101
[121] - Ibid., p. 102.
[122] - Law, Legislation, and Liberty. Vol. II: The Mirage of Social Justice. Chicago: University of Chicago Press, 1976, p. 37.
[123] - Charles R. McCann Jr, op. cit., p. 185.
[124] - The Constitution of Liberty, op. cit., p. 139.
[125] - Ibid., p. 140.
[126] - Ibid.
[127] - Ibid., p. 145.
[128] - Ibid., p. 146.
[129] - Ibid., p. 197.
[130] - The Road to Serfdom, op. cit., p. 233.
[131] - Hayk, Individualism and Economic Order. Chicago: University of Chicago Press, 1948, pp. 12-13.
[132] - The Road to Serfdom, op. cit., p. 231.
[133] - Op. cit., p. 394.
[134] - Ibid., p. 79.
[135] - Ibid., p. 187.
[136]- Individualism and Economic Order. Chicago, op. cit., p. 24
[137]- Charles R. McCann Jr, op. cit., p. 192
[138]- Ibid., pp. 192-194
[139]- Ibid., p. 19
[140]- Ibid., p. 197
[141]- See Hayek, The Principles of a Liberal Social Order", in F. A. Hayek, ed., Studies in Philosophy, Politics and Economics. London: Routledge and Kegan Paul, 1967. P. 172
[142]- Law, Legislation, and Liberty, p. 2
[143]- The Principles of a Liberal Social Order, p. 171
[144]- Charles R. McCann Jr, op. Cit., pp. 199-200
[145]- Law, Legislation, and Liberty, p. 90
[146]- Ibid., p. 146
[147] - , Ibid.
[148]- Ibid., p. 147
[149] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، أطروحة مقدمة لنيل درجة دكتوراه في الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة القسطنطينية، الجزائر، 2006، ص. 12
[150]- See Charles Guignon; David R. Hiley, Richard Rorty, Cambridge University Press, Cambridge, England, 2003, p. 124
[151]- Ibid, p.125
[152] - والت ويتمان (1819-1892) شاعر أمريكي وكاتب وصحافي كان إنسانياً، وكان جزءاً من الانتقال بين الفلسفة المتعالية والواقعية، ودمج كلا الرأيين في أعماله.
[153] - Ibid.
[154] - سلسلة من البرامج ومشاريع الأشغال العامة والإصلاحات المالية واللوائح التي أصدرها الرئيس فرانكلين روزفلت في الولايات المتحدة بين عامي 1933 و1936. لقد استجابت لاحتياجات الإغاثة والإصلاح والانتعاش من الكساد العظيم.
[155]- Ibid., p.126
[156] - من حوار مع رورتي أجراه Stossel Scott نشر بمجلة The Atlantic في 23 نيسان/أبريل من سنة 1998 بمناسبة صدور كتابه: (Achieving Our Country: Leftist Thought in Twentieth-Century America)
[157]- Op.cit., p. 127
[158] - انظر محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص. 363
[159] - رونالد دوركين (1931-2013)، فيلسوف ومحامي أمريكي، وباحث في القانون الدستوري الأمريكي، يعد من أهم الفلاسفة القانونيين في المئة عام الأخيرة.
[160]- Rorty, achieving our country: leftist thought in Twitieth country America. Cambridge, MA: Harverd University Press, 1998. P.59
[161]- See Steven Kautz, Liberalism and Community, Cornell University Press, Ithaca, NY, 1995, p. 86
[162]- Ibid., pp. 82-83
[163]- See Rorty, Contingency, irony, and solidarity. Cambridge: Cambridge University Press, 1998, p. 45
[164]- Ibid., p. 35
[165]- Steven Kautz, op. cit., p. 84
[166]- Steven Kautz, op.cit., p. 90
[167]- Ibid., p. 91
[168]- Rorty, Contingency, p. 46, 38, 35
[169]- Steven Kautz, op. CIT., P. 84
[170] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص. 354
[171] - تشارلز ساندرز بيرس: سيميائي وفيلسوف أمريكي. يُعدّ مؤسس الفِعْلانية أو العَمَلانِيَّة مع وليم جيمس. كما يُعد، إلى جانب فرديناند دي سوسير، أحد مؤسسي السيميائيات المعاصرة.
[172] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص ص. 39-40
[173]- Ibid., p. 88
[174]- Rorty, Contingency, 192
[175]- Ibid., pp. 87, 61
[176]- Ibid., pp. 165-66
[177]- Steven Kautz, op.cit., p. 85
[178]- Rorty, Contingency, p.177
[179]- Charles Guignon; David R. Hiley, Richard Rorty, p.128
[180] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص. 355
[181] - Philosophy and social hope. Harmondsworth: penguin, 1999, p. xii.
[182] - Op.cit., p. 129
[183]- Ibid., p.130
[184]- Ibid., p.131
[185] - Ibid.
[186]- Philosophy and social hope. Harmondsworth: penguin, 1999, p. xxxi
[187] - هو المنظر السياسي الأمريكي البارز والمفكر العام، وهو أستاذ فخري بمعهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون بولاية نيوجيرسي.
[188]- Ibid., 132
[189]- Ibid., p.132
[190] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص. 368
[191]- Op.cit., p.134
[192] - نسبة إلى شومبيتر (1883- 1950)، عالم أمريكي في الاقتصاد والعلوم السياسية من أصل نمساوي. اشتهر بترويجه لنظرية الفوضى الخلاقة في الاقتصاد.
[193]- Rorty, contingency, op. cit., p. 97
[194] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، ص. 360
[195] - Philosophy and social hope, op. cit.
[196]- Ibid., p.135
[197] - Ibid.
[198]- See Charles Guignon; David R. Hiley, Richard Rorty, Cambridge University Press, Cambridge, England, 2003, p. 136
[199]- Ibid., p.136
[200]- Ibid., p.137
[201]- Alan Ryan, John Dewey and the High Tide of Liberalism (New York: Norton, 1995), p. 367
[202] - See Richard Rorty, [Thugs and Theorists,] Political Theory 16 (1989).
[203] - Rorty, Contingency, Irony, and Solidarity, p. xiv.
[204] - Robert Hollinger, The Dark Side of Liberalism: Elitism vs. Democracy, op.cit.
[205]- See Richard Rorty, [Epistemological Behaviorism and the Detranscendentalization of Analytic Philosophy,] in Hermeneutics and Praxis, ed. R. Hollinger (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 1985), pp. 89-121.
[206] - See Max Weber, [Science as a Vocation,] in From Max Weber, ed. H. Gerth and C. Wright Mills (New York: Oxford University Press, 1946).
[207]- Rorty, [Priority,], pp. 294, 295
[208] - صموئيل كوليردج (1772- 1843)، شاعر إنجليزي وناقد ومشتغل بالفلسفة. أعلن مع زميله ويليام ووردزوورث بدء الحركة الرومانتيكية في إنجلترا بديوانهما المشترك الأناشيد الغنائية.
[209]- Op.cit., p. 63
[210] - Ibid.