الليبرالية الكلاسيكية (الآباء المؤسسون والأزمة)
فئة : أبحاث محكمة
الليبرالية الكلاسيكية
(الآباء المؤسسون والأزمة)
أولاً- الآباء المؤسسون
1- في جذر ليبرالية هوبز
ثمة شك يعتري البعض في ليبرالية هوبز (1679)؛ بسبب موقفه المعادي للتسامح، ولكن الحقيقة أن الرؤية الهوبزية تحمل جذراً ليبرالياً واضحاً، يمكن تلمسه بمزيد من الجهد. يمكن القول إن القلق الذي يحرض الأفراد المتساوين في حالة الطبيعة على التعاقد هو الذي قدح زناد الرؤية الهوبزية.
فحسب هوبز: إذا قطفت عشر تفاحات من شجرة، فأنا بحاجة إلى حفظها في مكان آمن من أجل المستقبل، ولكن المستقبل الآمن يحتاج إلى مصادر لتأمينه وتحتاج المصادر المذكورة إلى وسائل لتأمينها وهكذا. هو قلق دائم يعتري الإنسان الهوبزي الذي يقول لسان حاله للفرد الذي يساكنه المكان نفسه: إنك لا تستطيع أن تقتلني إذا عرفت أنني أقوى منك، ولكنك تستطيع أن تفعل ذلك عندما أكون مستغرقاً في النوم، ويمكن لي أنا أيضاً أن أقتلك إذا عرفت نيتك. فالإنسان الهوبزي في حالة الطبيعة يستطيع أن يفكر بعقلانية، وأن يحسب النتائج ولكنه في قلق لا ينقطع[1].
من هذا القلق حاول هوبز أن يصوغ نظريته السياسية التي يتصدر فيها مبدأ الحق الطبيعي في حفظ الذات، وهو حق يملكه كل فرد بالتساوي[2]. ويبرز تسويد هوبز للعقل، وهو مفهوم من السياق الذي وجد نفسه فيه- في اعتقاده أن السلطة التي تحفظ هذا الحق سلطة صناعية يتوصل إليها الإنسان بعقله، وهي ليست حالة وجد الإنسان المخلوق، لكي يعيش فيها كما افترض أرسطو، وهو يعتقد بسبب تسويده العقل أن طريقة خلق الإنسان للدولة تحاكي قدرة الله على خلق العالم[3]. فليس ثمة إلا سبيل واحد لحفظ الذات المهددة دائماً في حالة الطبيعة، وهي صنع سلطة عليا تفرض قواعد غير قابلة للانتهاك تحكم السلوك البشري[4].
وتظهر ملامح ليبرالية هوبز في شرطيه اللذين وضعهما؛ من أجل صيانة السلم السياسي:[5]
- علينا أن نعتقد أن كل شخص يساوينا، وألا نطلب منه أكثر مما نسمح له أن يطلب منا.
- على كل منا أن يؤمن أن السيادة مصدر للشرف.
ولم يعترف بتفاوت طبيعي بين الناس الذي عده أرسطو طبيعياً، ولم يكن هوبز - بالطبع- غافلاً عن التفاوت بين البشر، ولكن الجديد الذي أتى به هو أن الاختلافات في القدرات بين طبقات مختلفة من البشر هي نتاج مجتمعاتهم، وتعود أسبابها إلى تباين فرص التعليم التي تتاح لهم، وطريقة تقسيم العمل فيما بينهم[6].
طمح هوبز أن تكون نظريته علماً في السياسة، وهو ما يجعلها مغايرة لما سماه: «الحصافة السياسية»[7]، والفرق بينهما -في نظره- أن الحصافة هي معرفة الأحداث، ومعرفة العلاقات بينها، وهي تتأتى من التجربة والتأمل، ولما كان هذا هو معناها وتلك وسيلتها، فهي تجريبية، وموضوعها هو الحكم في الحالات الخاصة.
إنها ليست معرفة للمعايير بمعنى ما ينبغي فعله، وإنما معرفة كيف حدث ما حدث؛ ولذلك فإن التعميمات المستخرجة منها يمكن بسهولة أن تكون زائفة إذا طرأ حدث غير متوقع.
أما العلم، فمعصوم من الخطأ وقوانينه السببية لا تتخلف في أي مكان وأي زمان إذا كان (س) ماء، فهو يغلي عند الدرجة 100 درجة مئوية بالضرورة. ومن نافل القول إن رؤية هوبز للقوانين السببية لا تتفق مع الرؤية المعاصرة التي يستمد فيها القانون العلمي علميته من قابليته للخطأ.
وبناء على رؤيته للعلم السياسي، فهو يعتقد أن مهمة علمه السياسي هي تحديد ما ينبغي أن يفعله الناس بعقلانية، إذا ما أرادوا النجاة بأنفسهم من حالة الطبيعة، حالة القلق الدائم وحفظ ذواتهم[8]، وهو الفرق بين ما هو كائن، وبين ما يجب أن يكون، بين الوقوع والوجوب.
ولا ينفع في نظر هوبز الاستشهاد بوجود مجتمعات بلا سلطة لتفنيد تأكيده ضرورة السلطة؛ لأن هذه المجتمعات التي يسميها «مجتمعات بلا رأس» يمكن أن تستمر في الحياة، ولكنها يمكن أن تدمر بسهولة إذا اتصلت بمجتمعات أكثر تقدماً. هذا علاوة على أن الأمثلة على هذه المجتمعات فاقدة الرأس تدل على أنها مجتمعات صغيرة يرتبط فيها الفرد بعلاقات عائلية وقبلية، يمكن أن تشكل رادعاً للآخر الذي يفكر في إيذائه[9].
وفي محاولته تبرير ما يفترضه من حالة طبيعية هي حالة «حرب الجميع ضد الجميع» يقول إن هذه الحالة تنتج عن أسباب ثلاثة:[10]
- حالة الندرة التي تسبب تنافساً قوياً، فكل منا يريد ما يأكله، ويريد أن يتأكد من امتلاكه الكفاية منه؛ ولذلك فنحن في قلق دائم من أن يحرم بعضنا بعضاً مما نريد أو نحتاج.
- عدم الثقة بالنفس والخوف فكل منا يتوقع ان يؤذيه الآخر.
- والسبب الثالث هو الفخر والخيلاء والطموح الفردي للوصول إلى القمة وعدم قبول غيرها بديلاً.
فإذا تمكن مناظرو هوبز من إيجاد حل للسبب الأول عن طريق تحقيق الازدهار الذي يؤمن لكل فرد ما يريد ويحتاج من دون خوف، وإذا استطاعت العقوبات التي تطبق بالتساوي أن تمنع احتمال الأذى وإيجاد حل للسبب الثاني، فإن الفخر والخيلاء لا يمكن أن يعالجا لا بالازدهار ولا بالعقوبات.
فالميكانزيم النفسي المتمثل في الرغبة التي تتدفق دون توقف، ولا تقبل إلا بالقمة من أجل الفخر والاستعلاء هي التهديد الأكبر للسلام[11]. وهذا التهديد لا يحل إلا باكتشاف قوانين تنظم السلوك تفرضها سلطة، وهذا الاكتشاف هو عينه اكتشاف قوانين الطبيعة[12].
وقد خالف[13] معاصرون لهوبز افتراضه عن حالة الطبيعة التي هي حالة «حرب الجميع ضد الجميع» بالاستشهاد بالإنجيل، وبتعقب التاريخ السياسي كذلك، وكلاهما أثبتا أن الناس لم يعيشوا أبداً عبر تاريخهم بدون ظل حكومة، فحتى المجموعات الصغيرة حكمت بسلطة مطلقة للأب، والسلطات الرومانية كذلك كانت شبيهة بالسلطة الأبوية المطلقة، فرأس السلطة كان قيماً على الحياة والموت بسلطته السياسية.
وأكد معاصرون آخرون لهوبز أن تفنيد فرضيته لا يحتاج إلى تأملات خارج التاريخ الإنجليزي الذي يؤكد أن المجتمع الإنجليزي حكم دائماً ببنية هرمية تحكمها مبادئ، ويتربع على رأسها الملك أو اللوردات، ولكن هوبز كان مصراً على أن بناء النظام السياسي يجب أن يقوم على أساس قوانين الطبيعة، وليس على أساس ما جرى وما كرسته العادات أو الأساطير[14].
وثمة قانون هوبزي أكثر أهمية من البحث عن السلام، وهو الجاهزية للتضحية بحقوقنا مقابل تضحية الآخرين بمثلها[15]. أما القانون الطبيعي المركزي، فهو ضرورة إنجاز البشر عهودهم، وهو مركزي؛ لأنه يتسم بسمتي الأخلاقية والمنطقية، فالمرء ملزم بتنفيذ ما تعهد به في المستقبل مقابل أن يفعل الآخر ذلك، وهذه العهود لا يمكن أن تنجز من دون سلطة:
«العهود بدون سيف ليست سوى محض كلمات»[16].
فإذا اتفق فرد مع آخر أن يضع عشر تفاحات في مكان يعرفه هذا الآخر على أن يضع مقابل هذه التفاحات خمس إجاصات، فإن الفرد الهوبزي سيضع التفاحات شريطة ألا يكون في وضعها ما يهدد حياته، فإذا أخذها الآخر، ولم يضع ما اتفق عليه، فإن عقوبة ستحل به ستفرضها السلطة التي تلزم الكل على حفظ العهود. وإذا وضعها، فإن العملية سوف تتكرر من دون خوف من الغدر[17].
بالطبع، لم يقتنع الكثيرون من معاصري هوبز بقانون حفظ العهد هذا الذي يفترضه هوبز قانوناً طبيعياً؛ وذلك لأن الإنسان عادة لا ينتظر أن يحصل على فرصة مشتقة من طاعة الآخر لقانون طبيعي، ولكنه يقدم على هذا الاهتمام خشية من أن يستغل الآخر فرصة جراء طاعته هو للقانون[18].
اللفياثان الهوبزي، وهو السلطة المطلقة لا يمكن انتهاكها ويحظر التمرد عليها، ولا يشترط هوبز أن تكون سيادة بواسطة مؤسسات، وإنما يمكن أن تكون بالاستحواذ، فالسلطة شرعية حتى لو اغتصبت بالقوة[19].
وهنا تكمن خصوصية من خصوصيات نظرية هوبز، وهي أن حقوق السلطة المستبدة هي نفسها حقوق السلطة المؤسسية، وهو يبرر ذلك بالقول:
«ليس النصر هو الذي يعطي حق الهيمنة على المهزوم، وهو ليس ملزماً لأنه مهزوم، ولكن ما يلزمه أنه دخل في عهد مع المنتصر»[20].
ويصر هوبز على الحق الطبيعي في حفظ الذات، فيمكن للفرد أن يقول لصاحب السيادة:
«اقتلني إذا لم أنجز العهد، ولكنني لا أعدك أنني لن أقاومك إذا حاولت قتلي».
ووفاء السيد بالتزاماته التي تلزم بطاعته هو عهده لنا أنه لن يقتلنا إذا خضعنا له، فإذا فعل ولم يقتلنا فقد أوفى بعهده والتزامه[21]. وللتخفيف من وطأة إطلاقية السلطة الهوبزية يحدد هوبز ثلاثة واجبات للسلطة التي تقع تحت القانون الطبيعي:[22]
- واجبات تنبثق من طبيعة السيادة مثل منعها من الانقسام أو تقييد سلطتها، ويمكن القيام بأفعال تمنع تدميرها مثل نقلها وفق قواعد من جهة إلى جهة، لكن لا يجوز بأي حال التنازل عن أي جزء منها[23].
- واجبات يقرها القانون الطبيعي، وهي تقريباً كل ما يخص الدفاع عن حقوق الإنسان بمعناها اللاحق.
- الصنف الثالث واجبات هي عبارة عن أفعال سياسية قياسية -على حد تعبير هوبز- تتمثل في حق السيادة في الحكم على العقائد التي يجري تلقينها والدفاع عنها.
إن ما يخرق السيادة في نظر هوبز هو تنازلها عن حقها في:
«تعيين الأساتذة وفحص فيما إذا كانت العقائد متوافقة أو غير متوافقة مع السلام»[24].
ومن هنا يمكن فهم قلق هوبز الكبير من إمكانية توريط الدين للناس في صراعات؛ ولهذا لم يجد ضيراً من مطالبة السلطات العلمانية بالتحكم في المؤسسات الدينية، وفرز ما هو ممكن الوعظ به من غير الممكن بالاستناد إلى معيار حماية الناس وتحقيق أمنهم وسلامتهم[25].
وبالطبع، أكد هوبز أحاديته التي تنسجم مع المناخ الذي ترعرعت فيه نظريته، فقد أصر على أن السيادة مصدر لكل القوانين، فلا يحق لأي جسم فرعي أن يدعي ممارسة سلطة مستقلة على أفراده، وقد سبق لوك في مقاله عن الهرطقة، عندما رأى أن لا حق للكنيسة في أن تكون لها سلطة على أعضائها[26]. ومن اللافت للنظر أن نظام هوبز كان أقرب إلى دولة الرفاه، فقد كان نظاماً يضطلع بعبء مساعدة الفقراء والمرضى والكبار العاطلين والعاجزين[27].
ولا نحتاج إلى أن نكلف أنفسنا مؤونة تفكير عميق، لكي نستنتج أن هوبز لم يكن ديمقراطياً، فلا حق في نظره لأحد أن يشارك في سلطة السيادة، فقد أدت الديمقراطيات إلى فوضى وانقسامات حزبية، وقد كان يصف في هذا ما شهده في زمنه[28].
أما حرية هوبز، فقد كانت ذات شقين:
- حرية في حالة الطبيعة وتقتصر على غياب العوائق الخارجية[29].
- وحرية مدنية تظهر في غياب أي وصايا سيادية غير وصايا الحكومة السيادية[30].
فالعقد المصنوع من الخوف على الحياة، والذي يصوغه الناس باختيارهم هو عقد شرعي. أما الحرية والحكومة، فهما متناقضتان ماهوياً؛ لأن دخول الناس مجتمعاً سياسياً يعني -بالضرورة- لدى هوبز التخلي عن كل الحقوق ما خلا الحق في الدفاع عن النفس ضد تهديد مباشر للحياة[31].
ويمكن لنا أن نلمح ملامح ليبرالية في تأكيد هوبز أن للسيادة الحصيفة أسبابها في الاستماع إلى الناصحين، والسماح بعقد النقاشات الكبرى وتنظيم علاقات المجتمع وفق قواعد عامة[32]. ولكن ماذا لو خرقت السيادة القانون الطبيعي؟
هنا يقترح هوبز حلاً يتمثل في أننا يجب ألا نقاوم، ومثال ذلك إذا دعي الإنسان الهوبزي إلى قتل بريء أو تعذيب سجين، فعليه أن يفعل ذلك دون كبير تردد، ولا يجوز له أن يقاوم أو ينخرط في تمرد. فحق العقوبة حق للسلطة اكتسبته بعد صنع الدولة، وهو حق مفروض من طرف قانون مدني يقوم على واجب طبيعي سابق بحفظ العهود[33].
يمكن تلخيص إنجاز هوبز الأساسي في اشتقاق السلطة السياسية ذات السيادة من تصادمات كتلة غير مترابطة من أفراد متساوين، وإزاحته الله تماماً من مجتمع مدني يقوم على مركز واحد للسيادة السياسية. هذا المركز الواحد هو كائن مصطنع تنفخ فيه روح سيادة مصطنعة، ولعل تبصره بطبيعة الإنسان أو تأثره بالمجتمع الرأسمالي للقرن السابع عشر الذي أصبحت فيه المنافسة ديناً للرأسمالية هو الذي أوصله إلى استنتاج أن الإنسان يحركه «ميل عام تشترك فيه الإنسانية كلها؛ أي رغبة دائمة لا تهدأ في حيازة سلطة إثر سلطة، وهي رغبة لا تنقطع إلا بالموت فقط. وليس السبب في هذا دائماً أن الإنسان يأمل في الحصول على لذة أكبر من التي حصل عليها، أو أنه لا يستطيع الاقتناع بسلطة معتدلة، بل بسبب أنه لا يستطيع أن يطمئن إلى كفاية ما يملكه حالياً من سلطة وسائل العيش الجيد من دون كسب المزيد»[34].
والكائن المصطنع ذو السيادة المصطنعة هو الذي يستطيع أن يمنع حرب الجميع ضد الجميع التي لا بد من حصولها بدونه؛ لأن القابليات المتساوية والرغبات المتساوية تذكي الحروب والمنافسة التي تحدد شرطنا الطبيعي. وفي حال الحرب هذه، ستكون العواقب كارثية:
«في ظرف كهذا لن يكون ثمة صناعة لأن ثمارها غير مؤكدة، ولا ملاحة للبحر ولا فائدة مرجوة من استيراد البضائع عبر البحار، ولا عملية بناء واسعة، ولا وسائل للنقل، أو لرفع تلك الأشياء التي تحتاج للقوة، ولا معرفة لنا بوجه البسيطة ولا تقدير للزمن، ولا فنون ولا آداب ولا مجتمع، لن يكون هناك سوى الأسوأ: خوف دائم وتحسب من خطر الموت العنيف، وحياة يقضيها الإنسان منعزلاً، وبائساً، ومقرفاً، ومتوحشاً، وفظاً، حياة قصيرة»[35].
إيمان هوبز بضرورة الحاكم الذي يتمتع بالسلطة المطلقة كان نتاجاً طبيعياً لوجوده في عصر يؤمن بالاستبداد، وعلى الرغم من أن كتاباً كثيرين في عصره أيدوا الحاكم المطلق وضرورته لقمع أعمال الشغب والتمرد، فإن ما ميز هوبز هو دعمه لفرضية الحاكم المطلق بفرضيات راديكالية عن الفردانية، فبما أن كل إنسان وفق وجهة نظره لديه الحق من الطبيعة الذي يعطيه الحرية لأن يستخدم قدراته الخاصة مثلما سيفعل هو نفسه من أجل ان يحافظ على شخصيته الطبيعية، أو بمعنى آخر يحافظ على حياته، وتبعاً لذلك فهو مستعد لأن يفعل أي شيء يتصور أنه -وفق تقديره العقليّ- الوسيلة الملائمة أكثر لتحقيق ذلك.
بناء على تلك الفرضية، فإن الناس لن يستطيعوا العيش بسلام ما لم يرغبوا في التخلي عن «حقهم في الأشياء كلها»، ويقنعوا بدرجة محدودة من الحرية؛ وذلك وفق اتفاق تعاقدي لا يتحقق إلا إذا كان كل فرد على استعداد للاعتراف بأن جميع الناس مساوون له في طبيعته[36].
لن ندعي -ونحن بصدد عرض آراء هوبز- أن ما نلحظه من تأكيد المساواة هو ما نرنو إليه من مساواة سياسية واجتماعية، ولكن الاعتراف لهوبز بأنه كان يركز على حالات الظلم السياسي والاجتماعي ويعدّها نتاج القوانين والمؤسسات البشرية، فبما أن كل إنسان لديه حق طبيعي مساو لحق أي إنسان اخر، فهذا يقتضي أن تكون موافقة الجميع مطلوبة لغرض تأسيس كومنولث جديد يدين له الجميع بالولاء ويخضعون له[37].
إن سلطة صاحب السيادة المطلقة ضرورة؛ لأن الافراد الذين يشكلون ذرات منعزلة متساوية لا يستطيعون العيش بأمان مع بعضهم بدونها، ولكن هوبز يفسح مجالاً واسعاً للمبادرة الخاصة والنشاط غير المنظم.
إن الدولة على سلطتها المطلقة إنما وجدت لتنمي الملكية الفردية وحق الأشخاص في السعي إلى السعادة وسلطة صاحب السيادة في نظرية هوبز عن الواجب سوف تحقق قدراً من الفائدة لفردية أكبر بكثير مما يمكن أن تحققه في حال الفطرة[38].
صاغ هوبز نظرية عن الدولة لا تستند إلى وحي، ولا إلى حق إلهي للملوك، وإنما إلى عقد اجتماعي يفرض حقوقاً تجاه بعضهم البعض، والضامن لتنفيذ مواثيق هذا العقد هو صاحب السيادة بسلطته المطلقة القادرة على معاقبة حالات اللا تنفيذ كلها.
على الغلاف المشهور لكتاب اللفياثان، نجد رسماً يصور جسماً مصطنعاً متكوناً من حشد من الأفراد المصلحيين الذين تكون رغبتهم المحددة هي السعي وراء مصالحهم في شروط الأمن والسلم. هذا الإقرار من هوبز بالمصلحة الفردية جذر ليبرالي هوبزي[39].
ويجب أن يلحظ أن ثمة تفسيراً ثاوياً في الواقع الاجتماعي الذي عاشه هوبز الذي منحت فيه السلطة المطلقة للملك، فقد كان شمال أوروبا مسرحاً لصراع بين طوائف بروتستانتية متخاصمة ترعرعت في التربة الخصبة لمبادئ حركة الإصلاح الديني المتمثلة في الرأي الشخصي والضمير الفردي وكهنوتية جميع المؤمنين، هذه النزعة الذاتية الفوضوية أصابت قلبه بالهلع، وجعلته ينفر منها خوفاً على الوحدة التي رآها ضرورية للسلام، فلا مناص من صاحب السيادة الذي يزيل التأثير المفكك للرأي الخاص[40].
ويثوي خلف كل هذا عمق فلسفي مرتبط باسمية هوبز ولا واقعيته، وإن كانت ليست اسمية صريحة، فقد كان هوبز فيلسوفاً اسمياً، ففي تقسيمه للأسماء عدّ الأسماء الكلية هي مجرد أسماء أما الأشياء فلا تكون كلية، وهو بهذا يناصب الفلسفة الواقعية العداء؛ فالكلي في نظر هوبز كلمة، اسم لاسم يعزى له استخدام معين ويعدّ لغواً القول بوجود أشياء كلية.
وهذا الاسم الكلي الذي عامله الأرسطيون، مخطئون - في نظر هوبز- كما لو كان نوعاً خاصاً من اسم العلم يصنّف وفقاً لعدد أفراد الما صدقات إلى نوع وجنس. أما الكليات الواقعية، فهي ليست ممكنة ولا مطلوبة، بل هي معانٍ ليس لها سوى وضع منطقي نحتاجه في عملية التفكير والاتصال بين الناس لا لتسمية شيء يمكن أن يوجد.
ولكن هوبز جاء بطرح مناهض لما آلت إليه الفلسفة الاسمية على يد دعاتها المتطرفين الذين اعتقدوا أن فئة معينة يطلق عليها اسم منضدة مثلاً لا يشترك أفرادها إلا في الاسم، وهو قول ظاهر البطلان؛ لأنه في هذه الحالة لا مبرر لإطلاق هذه التسمية عليها دون غيرها، ولا مانع من دخول أشياء أخرى في الفئة أو استبعاد أشياء منها. كما كان طرحه مخالفاً لأصحاب الفلسفة الواقعية الذين اعتقدوا أن فئة معينة مثل فئة المناضد يمكن أن تسمى فئة؛ بسبب تجسيدها مثال أفلاطون عن المنضدة، أو لأن أفرادها تملك خاصية أرسطية مشتركة تعبر عن ماهية المنضدة، ولهذا سميت فلسفته الاسمية «الفلسفة الاسمية المعتدلة»، وكان حلّ هوبز الذي أطلق عليه اسم الاسمية المعتدلة قائماً على اعتبار أن الألفاظ والكلمات هي الكليات، ولكنه حلّ يقيم الكليات على أساس التشابه بين الأشياء[41].
هذا الرفض للوجود الواقعي للكليات، وتبني الفلسفة الاسمية -وإن بالصيغة المعتدلة- التي نوهنا سابقاً إلى تكريسها لمفهوم الفردية يمثّل دليلاً آخر على وجود جذر ليبرالي لدى هوبز، وإن لم يكن إلا بشكله الأولي الذي لم يثمر تبنياً لليبرالية السياسية بأشكالها المختلفة التي اتخذتها في المراحل التاريخية اللاحقة.
2- لوك ومركزية الحقوق الطبيعية
يعدّ لوك (1704) أحد ثلاثة وضعوا الأسس النظرية للمفاهيم الحديثة عن الفرد، فبينما عدّ سميث[42] المجتمع المدني مجتمعاً يمكن تنظيمه حول الفرد بطريقة تجلب المنافع للجميع، وأقام برغسون[43] مجتمعه المدني على أساس مشاعر خلقية وقيم مهذبة، اعتقد لوك أن شرعية الدولة، إنما تقوم على قدرتها على حماية مجموعة من الحقوق الطبيعية قبل السياسية[44].
ويتمثل الافتراق بينه وبين هوبز في وصفه الحالة الطبيعية على أنها حالة حرية ومساواة واستقلال، ومن هنا يأتي اختلافه الثاني عن هوبز، فإذا كان البشر عقلاء وأخلاقيين واجتماعيين قبل أن ينتقلوا إلى المجتمع المدني، فإن دولة المستبد المطلق كما رآها هوبز لن تكون ضرورية[45].
وتجدر الإشارة إلى أن الحقوق لدى لوك مشتقة من الواجبات، فالبشر مصنوعات الله، وهم يتحملون عبء واجبات بحكم كونهم مصنوعاته:
«إن خالق البشر كافة صانع واحد قدير على كل شيء لا تحد حكمته، وهم عبيد لرب واحد عظيم بثهم في الأرض بإرادته لكي يقوموا على شؤونه لا شؤونهم. فهم ملكه وخليقته برأهم لكي يطول أجلهم ما شاء، لا ما شاء أقرانهم من البشر. ولما كنا قد وهبنا قوى مماثلة وطبيعة واحدة مشتركة، فقد استحال أن يكون واحدنا مسخراً للآخر تسخيراً يخوله أن يقضي عليه، كما لو كان قد خلق من أجل أغراضه ومآربه، شيمة الحيوانات الدنيا التي خلقت من أجلنا. فكل امرئ مجبر على المحافظة على ذاته وعلى التزام مقامه الخاص وبناء على الحجة نفسها هو ملزم بالمحافظة على سائر البشر ما وسعه ذلك: ما لم يتناف ذلك مع مبدأ المحافظة على الذات فلا يسلب حياة امرئ آخر أو يلحق بها أذى أو يسيء إلى ما من شأنه أن يؤدي إلى حفظها أو إلى حريته أو صحته أو جسده أو أملاكه، إلا في معرض الاقتصاص من مجرم»[46].
إن تأكيد لوك على أهمية العقل يفضي إلى عقيدته بتضافر العقل والوحي في معرفة مقاصد الله، وإن كانت أرومة لوك البروتستانتية تجعله لا يسمح للعقل أن يرقى إلى مستوى الوحي ويظل في نظره محتاجاً إلى الأخير. ويعد البعض لوك أعظم معلم في عصر التنوير؛ لأنه جمع أمرين:[47]
- تقديم شرح معقول للعلم السائد في زمنه بوصفه علماً مشفوعاً بأدلة تؤكده.
- وصياغة نظرية خاصة بالسيطرة العقلية للذات.
والخروج بنتيجة من جمعهما تتمثل في المسؤولية الذاتية العقلانية.
شكلت نظرية الحقوق الطبيعية صميم نظرية لوك السياسية المناهضة للاستبداد المطلق، وكانت مصدراً لفهم جديد للملكية الخاصة، فلكل فرد حق خاص في تملك ما تهبه الطبيعة للمجتمع، وهذا مستمد من الحرية الطبيعية وملكية الفرد لشخصه بالذات[48]. ولم تكن فكرة الحقوق الطبيعية خلقاً من عدم أو ابداعاً للوك، وإنما كانت اشتقاقاً من فكرة القانون الطبيعي التي مرت بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى شكلها الناجز على يد غروثيوس[49].
ويمكن التأريخ لبذرة فكرة القانون الطبيعي بالتزامن مع ظهور فكرة الوحدانية التي أقصت فكرة تقلب الطبيعة بسبب إرادات الآلهة المتعددة، وكرست فكرة وضع المشرع السماوي الواحد لنظام طبيعي ثابت للكون وفرضه على الناس قانوناً ينظم شؤونهم؛ الأمر الذي أفسح المجال للمعالجة العلمية للقانون باعتباره مبادئ ثابتة تحكم العالم الطبيعي[50].
وبسبب الصعوبات التي واجهتها العقلانية المؤمنة بقدرة العقل البشري على استيعاب القوانين العقلية التي تحكم الكون لدى محاولة تطبيقها على السلوك البشري للإنسان الذي يعدم وجود قوانين تحكمه، وتكون طبيعية للإنسان شأنها شأن القوانين التي تحكم الطبيعة لاختلافها بين مجتمع وآخر[51]، فقد تنازع تفسير جوهر القانون الطبيعي مدرستان:[52]
الأولى: تعدّ القانون الطبيعي مقياساً مثالياً يمكن استنباطه بالتعليل والإلهام والإدراك بالبديهة.
والثانية: تقول بمعالجة حقيقية تنطلق من سلوك الإنسان، وترى أن خير برهان على ما هو طبيعي لحكم الإنسان في المجتمع هو القوانين والمقاييس التي تعدّ عامة للجنس البشري في مختلف أنواع مجتمعاته.
وصولاً إلى غروثيوس لا يمكن إغفال المحطات السابقة، فعند الرواقيين ثمة قانون طبيعي عالمي يمكن تحقيقه بالفعل. هذه الفكرة الرواقية كانت الأساس في ظهور القانون الروماني المسمى «قانون الشعوب». أما في المسيحية، فقد أصبح القانون الطبيعي مفروضاً من الله ومفسّراً من البابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية، ثم خطا القانون الطبيعي خطوة مهمة أخرى ساعدت في تبلوره اللاحق مع توما الإكويني والمدرسة السكولاستيكية، وكان الإكويني[53] متأثراً بنظرة أرسطو عن الإنسان بعدّه قادراً على تحقيق التطور الطبيعي في المجتمع السياسي. وقد كرست السكولاستيكية التمييز بين القانون الإلهي الذي لا يعرف إلا بالوحي أو الإلهام والقانون الطبيعي الذي هو برمته قانون عقلي ويمكن فهمه وتفسيره في ضوء العقل البشري دون مساعدة[54].
وكأي منظومة لاهوتية قائمة على الإغلاق العقيدي، لم تستطع السكولاستيكة، إلا أن تصادر على المطلوب، فعدّت الفرضيات غير مختارة على أساس عقلي، وإنما على أساس معتقدات اللاهوت المسيحي، وهكذا فإن العقلانية يمكن أن تجادل بخصوص النتائج المستخلصة من هذه الفروض، ولكنها لا تستطيع أن تنكر الفروض ذاتها.
أصبحت المعالجة مع غروثيوس تركز على الطابع العقلاني لتطوير القانون، هذا القانون الذي يجب أن يطبق حتى لو لم يكن الله موجوداً، والاستدلال الذي اتبعه غروثيوس قام على منطق أرسطي مؤلف من مقدمتين ونتيجة، فصنعة الإنسان تكمن في عقله وهو مشترك للجنس البشري، هذا العقل يفرض نظاماً عقلانياً في الشؤون البشرية ومن هاتين المقدمتين يمكن استنباط نظام عقلاني في الشؤون البشرية من العقل، وهو صالح لكل زمان ومكان[55]. الإنجاز الأهم لفكرة القانون الطبيعي هو إسهامها في تطوير القانون بعدّه مجموعة عقلانية علمية من القواعد الهادفة إلى تحقيق العدالة في الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة.
ولا يمكن إنكار أن فكرة القانون الطبيعي في البدء كانت فكرة محافظة تشجع على طاعة الحكام الذين يملكون السلطة بحكم النظام الطبيعي الصادر عن الله نفسه، ولكن مارسيليوس البادوي[56] لغم هذا الشكل من أشكال الفكرة، عندما قوض المفهوم التقليدي القائل بوجود ميدانين وسلطتين (دينية ودنيوية) ضروريتين لحكم الجماعة المسيحية. وبدأ منطقاً جديداً حول السيادة غير المقسمة، واستبق ذلك ظهور نظريات دنيوية تامة عن السيادة، مما أوصل الفكرة التي سادت في العصور الوسطى إلى نهايتها[57]. بعد ذلك اكتسبت التأييد الفكرة القائلة إن الإنسان امتلك بعض الحقوق الأساسية في حالته الطبيعية، وإنه عندما نشأ المجتمع المتمدن أخذ معه هذه الحقوق إلى وضعه المدني الجديد[58].
وبالعودة إلى لوك الذي أخذت فكرة الحقوق الطبيعية هذه لديه شكلها الأكثر نضجاً وتأثيراً، فإن سلطة الحكومة -وفقاً للعقد الاجتماعي- تُمنح فقط عندما يثق الشعب بالحكام، وأي انتهاك من جانب الحكومة للحقوق الطبيعية الأساسية للشعب تنهي هذه الثقة وتخول الشعب تولي السلطة من جديد، ولأن فكرة الحقوق الطبيعية مستمدة من وجود قانون طبيعي، فهي ملزمة وشرعية بفعل القانون الطبيعي[59].
بدأ لوك بالقول إن لكل فرد الحق في أن ينال رزقه من هبات الطبيعة[60]. أطرت فرضية القانون الطبيعي هذه -التي هي الشرط الأصلي للملكية المشتركة- محاولة لوك لإرساء المجتمع المدني على الحق الطبيعي للملكية الخاصة والاستيلاء الفردي:
«لكنني سأحاول أن أبين كيف يتسنى للناس أن يتملكوا بضعة أجزاء مما وهبه الله للبشر جميعاً ومن دون أي اتفاق صريح بين عامة الناس...... الحق الخاص في تملك ما تهبه الطبيعة للمجتمع مستمد من الحرية الطبيعية وملكية الفرد لشخصه بالذات. أما الاستيلاء الخاص على ذلك الجزء من الطبيعة الذي مزج عمله الخاص به، فهو واقع سابق على الحياة الاجتماعية المنظمة ومستقل عنها. إنه حق للبشر في الطبيعة»[61]. وأحد أهم الاختلافات بين لوك وهوبز أن حال الفطرة عند لوك هي شرط للسلام والإرادة الخيرة والتعاون المتبادل والمحافظة على النفس[62].
الحرية الكاملة والمساواة الكاملة هما الشرط الطبيعي لحفظ المرء، ونتج عن هذا الاختلاف إنكار لوك لضرورة المستبد المطلق لدى هوبز، حيث يؤكد لوك أن البشر كانوا عقلانيين وأخلاقيين واجتماعيين قبل انتقالهم إلى المجتمع المدني. ولذلك، فإن دولة المستبد المطلق ليست ضرورية، وما دفعهم إلى الصراع هو المصلحة الفردية[63].
وقد اقتحمت المصلحة الفردية بوجهها القبيح حالة الطبيعة بعد ظهور النقد، فقد قسم لوك حالة الطبيعة إلى مرحلتين:
الأولى: تملك فيها الفرد ما يحتاجه، وكانت الأرض تكفي لسد حاجاته، ولم يكن لديه حاجة إلى التوفير؛ ولأجل هذا تحققت حالة المساواة.
الثانية: بدأت مع ظهور النقد الذي أغرى الإنسان بادخاره لما يتميز به هذا النقد من خاصية الاحتفاظ بقيمته وعدم الفساد، وبسبب هذا الادخار ظهرت الملكية التي خرقت حالة المساواة وجعلت المصلحة الفردية ظاهرة لا بد من ضبطها[64].
من الخشية من آثار تغول هذه المصلحة الفردية أصبح المجتمع المدني ضرورة لمعالجة هذا العيب القاتل المحتمل في حال الفطرة بأن ينزع السلطة التنفيذية من أيدي الأفراد الذين ينكبون على خدمة ذواتهم، وليجعل هذه السلطة نزيهة بأن يجعلها سلطة عامة.
فالدولة والمجتمع المدني يتكونان من أجل الحرية الفردية والخيار الخاص، وكلاهما موجود من أجل الصالح الخاص والدولة جهاز تنفيذ، فأساس الحياة الإنسانية في الطبيعة والمجتمع المدني هي الملكية الخاصة والدولة هي الجهاز الذي يحميها.
إن سلطة الدولة وحكم القانون يوفران إمكانية السعي وراء المصلحة في شروط من الحرية الفردية والأمن المتبادل، وهذه السلطة وهذا الحكم ضروريان؛ لأن الإنسان الحر لا يتخلى عن حريته حسب تعبير لوك:
«إذا كان الإنسان في حال الفطرة حرّاً جداً وإذا كان هو ذاته السيد المطلق على شخصه وممتلكاته متساوياً مع أعظم السادة وغير خاضع لأي شخص فلماذا سيتخلى عن حريته؟ لماذا يتخلى عن هذه الإمبراطورية ويخضع نفسه لهيمنة سلطة أخرى وسيطرتها؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات بوضوح نقول إنه على الرغم من تمتعه بهذا الحق في حال الفطرة، فإن التمتع به غير مؤكد تماماً، فحقه هذا عرضة للانتهاك على الدوام من طرف الآخرين، فأن يكون الجميع ملوكاً مثله وكل إنسان مساوٍ له، والأهم عدم وجود مراقبين حازمين يحرسون العدالة والمساواة، فإن تمتعه بملكيته في هذه الحال أمر غير مأمون ولا مضمون أبداً»[65].
تسليط لوك الضوء على عمليات المجتمع المدني الاقتصادية جعله يخطو خطوة مهمة، فالدولة الليبرالية المحدودة، وحكم القانون، يتيحان للأفراد الراشدين السعي وراء مصالحهم المتنافسة من دون أن يضطر أحدهم إلى قتل الآخر.
وهو ما لم يتمكن هوبز من استيعابه، ولعل ما عرضناه من إرهاصات ليبرالية لدى هوبز كان ينقصها لكي تتبرعم ما شهده لوك من حضور قوي للأسواق وإمكانية تنظيم المجتمع المدني بواسطة القوى الاقتصادية، وهو ما خطا بالنظرية الليبرالية خطوة مهمة نحو الحقوق الخاصة ومحدودية الدولة.
وبقي أن نشير إلى أن لوك أيضاً كان اسمياً ينكر الكليات الواقعية ويرد المعارف كلها إلى الحس[66]، وهو ما يثير سؤالاً بشأن تناقض تعبر عنه تجريبيته المتطرفة: فكيف يمكن التوفيق بين رؤية لوك الإبستمولوجية هذه التي تظهر بوضوح في كتابه: «محاولة في الفهم الإنساني» والتي تكون المعرفة وفقها نسبية، وبين تأكيده أن الحكم الأخلاقي والسياسي يقيني كما يؤكد في كتابه: «مقالتان في الحكم».؟[67]
ولعل الجواب الذي قدمته إحدى الباحثات في فلسفة لوك يصلح أن يكون جواباً مقنعاً إلى حد ما، فهي تنبه إلى أن لوك قد صنف العلاقات إلى نمطين:[68]
علاقات جزئية: معرفة الإنسان بها نسبية بسبب الطابع الاسمي للمفاهيم واستحالة معرفة الماهيات.
وعلاقات مختلطة: يربط من خلالها العقل بين مفاهيم معينة بروابط منطقية وأخلاقية، وبذلك يستطيع الوصول فيها إلى معرفة يقينية.
ولا بد أن نعزو للتطورات السابقة في المجتمع الإنجليزي دوراً في التحوير الذي أصاب نظريات الواجب الكلاسيكية التي أقيمت لتجاوز انقسامات الصراع[69] من أجل البقاء عندما لم تكن هيمنة الأسواق على المجتمع المدني واقعاً؛ فالنمو المتسارع للأسواق الذي بدأ بالتحول من مفهوم الأرض في العصور الوسطى الذي قام على أنها أساس الوظائف والواجبات السياسية إلى الرؤية للأرض على أنها شيء يمكن بيعه وشراؤه واستخدامه وإساءة استخدامه، أو باختصار كملكية خاصة رأسمالية حديثة.
وبدون الخوض في تفاصيل طويلة عن أسباب هذا التحول في المجتمع الإنجليزي نستطيع أن نقول إن كلمة السرّ فيه هي «السياجات»، فخلال القرن السادس عشر كان الأمر الأهم هو التعديات التي يقوم بها أصحاب الضياع أو فلاحوهم على الأراضي التي كان لسكان الضياع حقوق مشتركة فيها، وتقع ضمن الحقول الزراعية المفتوحة وقد استغلت هذه السياجات بدافع من تحقيق الأرباح من بيع الصوف.
-وهي التجارة الأهم آنذاك في إنجلترا- أو من خلال تأجير أراضيهم لمن يبيع الصوف. إضفاء الصبغة التجارية على الزراعة يعني التحول من السيد الإقطاعي الذي كان في أسوأ الأحوال طاغية لا قانون له، وفي أفضلها أباً استبدادياً أقرب إلى رجل الأعمال الحاد الذي يستغل الموارد المادية للضيعة وعينه على الربح والكفاءة.
كان صغار الملاك القوة الرئيسة وراء سياجات الفلاحين، وهم مجموعة من الرأسماليين الصغار الطموحين الذين يتسمون بالجرأة ويعون بأن لديهم فائضاً كافياً للدخول في مخاطرات كبيرة، ويدركون أن المكسب غالباً ما يكون في الادخار بقدر ما يكون في الإنفاق، غير أنهم عقدوا العزم على انتهاز كل فرصة مهما كان أصلها لزيادة أرباحهم.
جعل هذا التطور المتنامي في قوى السوق الملكية الخاصة حقاً طبيعياً وشرطاً للاستقلال الخلقي، مما ترتب عليه أن الحرية الاقتصادية ترتكز على صميم أي تنظيم اجتماعي مناسب، وأن الدولة يجب أن تكفل أي مستوى من الحرية لجميع الأفراد الذين هم مالكون أحرار ومعنيون بمصالحهم الشخصية[70].
هذه النزعة الفردية التي رعتها حركة الإصلاح وعززتها الأسواق حطمت وحدة العالم المسيحي للقرون الوسطى اللاهوتية، وبالطبع فإن تأثير نيوتن وديكارت اللذين هاجما المعتقدات الجامدة والجهل أعطى دفعة لنزعة التجريب والتحليل عن طريق الانطلاق من الجزئي إلى الكلي وتعميق الدعوى القائلة إن كل فرد مسؤول عن نفسه؛ لأنه هو وحده من يعرف مصالحه؛ مما أزاح تفسير القرون الوسطى القديم للمجتمع المنظم تراتبياً من طرف مصدر خارجي[71].
3- سميث والتوفيق بين الرغبة الخاصة والفضيلة العامة
لقد كانت النقلة التي حققها لوك مشروطة بظروفها التاريخية؛ فالدولة لم تكن قد حققت انفصالها الكامل عن المجتمع، وإن كان قد شهد بداية هذا الانفصال الذي يعني انفصال السياسة عن توزيع الثروة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية.
ولما كان ما تحقق على يد هوبز ولوك في حقل النظرية السياسية، وما تزامن معه من هجوم متوسل بنيوتن على ديكارت للاستبدال بالانطلاق من الكلي إلى الجزئي انتهاج منهج التجريب بالانطلاق من الجزئي إلى الكلي، قد شجع على إخراج اللاهوت من المجال السياسي في عصر اطردت فيه هيمنة الأسواق وانهار الاقتصاد الضمني، فقد أصبح مطلوباً من الدولة أن تشرع الأبواب على مصاريعها للحرية الفردية.
كل هذا كان يجري في سياق تعمقت فيه قيم سبق أن أشرنا إليها من العقلانية والتقدم والحرية، وما اشتق منها من نزعات إنسانوية جاءت بها الحداثة، وأصبح واضحاً تقهقر النظام السابق القائم على النظرة الكلية وعلى مقولة وحدة العالم المسيحي. ولكن النزعة الفردية التي ذكرنا في بداية الكتاب عوامل ظهورها، والتي انتقلت من طور إلى طور أنضج في تبلورها وأخذت بعد قرن من كتاب لوك «رسالة ثانية في الحكم» شكلاً وسم العصر بميسمه، هذه النزعة واجهت اتهاماً فحواه: أن الاستقلال الفردي المحض قد يهدد تكافل المجتمع ومصلحته العامة، وهو اتهام حاول سميث (1790) أن يتصدى له بمحاولة التوفيق بين المصلحة الخاصة والفضيلة العامة[72].
بدأ سميث هجومه على المركنتيلية ليبلور حججه ضد التقييد السياسي للشؤون الاقتصادية وجادل قائلاً: إن السوق الداخلية هي أساس الادخار الوطني. كانت آراء سميث مصبوغة بصبغة القرن الثامن عشر الذي هيمن فيه علم الاقتصاد على الفروع العلمية الأخرى، فقد حفزه التوسع الصلب للأسواق وتغلغلها في العلاقات الاجتماعية إلى التصدي لمسائل الضرائب والعمل والقيمة والسعر وغيرها من المسائل بصورة منهجية[73].
إن حجر الزاوية في نظرية سميث القائمة على المصلحة الاقتصادية الفردية هو تقسيم العمل:
«التحسين الأعظم في قوى العمل الإنتاجية والجزء العظيم من المهارة والبراعة والرأي الذي من خلالها يوجه ويطبق في أي مكان يبدو أنهما من نتائج تقسيم العمل»[74].
«إن مضاعفة الإنتاج مضاعفة كبيرة في كل فنون الصنائع المختلفة نتيجة تقسيم العمل هي التي تنتج الوفرة الشاملة التي تمتد إلى أدنى طبقات الشعب، ويتوفر لكل عامل مقدار كبير من عمله الخاص، ليتصرف بما يزيد عن حاجته هو نفسه، وإن كل عامل آخر يكون في الحال نفسها يتمكن من مبادلة مقدار كبير من بضائعه الخاصة لقاء مقدار كبير من بضائع الآخرين، وهذا ما يعادل الشيء نفسه بما يساويه من سعر كمية كبيرة منها، فهو يزودهم بغزارة بما هو ضروري لهم وبذا تنتش وفرة عظيمة في طبقات المجتمع كلها»[75].
ما يهمنا في رؤية سميث لشبكة الاعتماد المتبادل هذه التي تنظمها السوق هو إعطاؤها معنى حديثاً دقيقاً للحرية الفردية؛ فسميث يعد ملكية الفرد لعمله أساس كل ملكية أخرى، وهي ملكية مقدسة يحرم انتهاكها:
«إن ملكية كل فرد لعمله الخاص، باعتبارها الأساس الأصلي لكل ملكية أخرى مقدسة ومحرمة على أي انتهاك، ويكمن ميراث الفقير في قوة يديه وبراعتهما، وإن منعه من استخدام قوته وبراعته بالطريقة التي يعتقد أنها مناسبة من دون إلحاق الحيف بجاره هو انتهاك سافر لهذه الملكية بالغة القداسة. إنه اعتداء صارخ على الحرية العادلة لكل من العامل وأولئك الذين يعتزمون استخدامه بما أن هذا الاعتداء يمنع المرء من عمل ما يراه مناسباً. أما الحكم عما إذا كان من المناسب تشغيله فيجب أن يترك ذلك لحصافة مستخدميه الذين يمسّ عمله مصلحتهم بدرجة كبيرة»[76].
الافتراض الأساسي عند سميث أن ثمة نزوعاً إنسانياً أساسياً نحو التعامل والمقايضة والتبادل؛ فتعاملات الأفراد فعلاً وراء مصالحهم تترجمها آليات السوق إلى نظام اجتماعي جديد يتكون من ملاك الأرض الذين ينتج عن ملكيتهم مكافأة الريع، والأجراء الذين ينتج عن جهودهم الأجر، والرأسماليين الذين ينتج عن رأسمالهم مكافأة الربح. هذا الافتراض عن نزوع فطري نحو التملك يغفل حقيقة أن الأسواق الضخمة وهيمنتها على المجتمع كانا تطورين حديثين تماماً، ولكنه ساعد على إيجاد برهان اقتصادي وأخلاقي لصالح السعي الحر من طرف الفرد وراء مصلحته الذاتية التي هي شرط للصالح العام.
«إن مراعاة الفائدة الخاصة هو الحافز الوحيد الذي يدفع أي مالك لرأس المال إلى توظيفه إما في الزراعة أو في الصناعات أو في أي فرع آخر من تجارة الجملة أو التجزئة، فالكميات المختلفة من العمل الإنتاجي الدائر، والقيم المختلفة التي قد تضاف إلى الناتج السنوي للأرض وإلى عمل المجتمع طبقاً للشكل الذي يستخدم فيه بهذه الطريقة أو تلك، أقول إن هذا كله لا يخطر على باله أبداً»[77].
واجه سميث الاتهام الموجه إلى نظريات الواجب الكلاسيكية المشار إليه سابقاً عن تهديد استقلالية الشخص العقلاني لتكافل المجتمع بنظرية «النتائج غير المقصودة» التي جسرت الهوة بين الحافز الفردي والنتائج المنهجية.
إن اليد الخفية هي التي تصل الفائدة الخاصة بالرفاه العام؛ فسعي الفرد وراء مصلحته الذاتية يوفر «ثروة الأمم»:
«من خلال سعي الفرد وراء مصلحته الخاصة غالباً ما يشجع مصلحة المجتمع على نحو أكبر فاعلية مما لو أنه قصد ذلك فعلاً؛ فأنا لم أعرف أبداً خيراً كثيراً جلبه أولئك الذين شغفوا بالتجارة من أجل الصالح العام»[78].
4- ليبرالية روسو المشكوك فيها
«ولد الإنسان حرّاً وهو مقيد في الأغلال في كل مكان....... كيف حصل هذا التغيير؟ لا أعرف ما الذي يقدر على شرعنته؟ هذا السؤال وأظن أني أقدر على الإجابة عنه»[79].
هذا ما صدّر به روسو (1778) كتابه «العقد الاجتماعي»، وهي مقولة تنص صراحة على أول فرضية من فرضيات العقد الاجتماعي، وهي أن الإنسان الفرد حرّ طبيعياً، وعلى الرغم من أن هذه المقولة الشهيرة لروسو تصنفه عند البعض على أنه أحد مؤسسي الليبرالية، فإن ثمة من يعترض على نعت روسو بــــ «الليبرالي»[80].
وتحرير محل النزاع بين المتجادلين، إنما يتطلب فهم عقد روسو الاجتماعي، وقبل ذلك وصفه لحال الفطرة، وأخيراً معرفة شاغله الأهم. في وصفه لحال الفطرة يقول:
«كان الإنسان البدائي يمشي مطوفاً في الغابات، بلا صناعة، ولا كلام ولا مسكن، بلا حرب، ولا صلات، وبلا حاجة لأقران، وبلا رغبة أيضاً في إلحاق الأذى بهم، وربما لا يدرك أيضاً فردانية أي آخر، خاضعاً لانفعالاته واكتفائه الذاتي ولتوافق مشاعره وذكائه مع حال الفطرة التي هو فيها لم يكن يشعر بحاجاته الحقيقية، ولم ير إلا ما اعتقد بأن له مصلحة في رؤيته، ولم يحقق ذكاؤه تقدماً أكثر من خيلائه، وإذا حقق اكتشافاً ما مصادفة، فإنه لم يكن قادراً على إيصاله؛ لأنه لا يميز حتى أطفاله. فمهاراته تموت بموته. لم يكن ثمة تربية ولا تقدم والأجيال تتكاثر بلا نفع، وكل واحد يبدأ دوماً من النقطة نفسها، وتصرمت قرون بكل فجاجة العصور الأولى، والجنس البشري موجود منذ القدم، ولكن الإنسان ظل طفلاً أبداً»[81].
ولكن قوانين الحق الطبيعي في رأي روسو تستمد من مبدأين في حال إنسان الفطرة هما:
غريزة البقاء والرأفة وهذا المبدآن يسبقان ظهور العقل[82].
ولهذا يسخر روسو من الصورة التي تصورها الكتب المقدسة للإنسان في حال الفطرة على أنه متلقّ للمعرفة الجاهزة من الخالق، كما يسفّه روسو رؤية هوبز عن فجور هذا الإنسان وطبيعته الشريرة؛ لأنه في نظر روسو إنسان منعزل لا هو بالفاضل ولا بالشرير[83]، وهو يعيش مع أقرانه حالة من المساواة؛ لأن الموارد وفيرة وتزيد عن حاجات البشر في حال الفطرة، وبدافع غريزة البقاء ينتج الإنسان وبدافع الرأفة ينظم علاقاته مع أمثاله من البشر.
أما كيف دخل الإنسان حالة المجتمع، فيصفه روسو بقوله:
«أول إنسان سور قطعة من الأرض، وفكر بأن يقول: هذه لي ووجد أناساً هم من البساطة بما يكفي لأن يصدقوه كان (ذلك الإنسان) المؤسس الحقيقي (الواقعي) للمجتمع المدني»[84].
يتابع روسو وصفه لولوج الإنسان حالة المجتمع:
«كم من الجرائم الكثيرة والحروب والقتل وكم من التعاسات والحوادث المروعة كان من الممكن للجنس البشري أن يوفرها لو أن أحداً بعد أن يقتلع أعمدة الحاجز (المسور لقطعة الأرض) أو يطمر الحفرة (في قطعة الأرض) صرخ في وجه إخوته (في الإنسانية) قائلين: حذار من الإصغاء لهذا المدعي المخادع. إنكم سوف تضلون سواء السبيل إذا نسيتم أن ثمار الأرض تخص الجميع والأرض ليست ملكاً لأحد»[85].
يرد روسو جميع أشكال الحكومات إلى أصل واحد هو التفاوت بين البشر، وهو يعتقد أن هناك نوعين من التفاوت:[86]
التفاوت الطبيعي أو الفيزيائي، وهو يتألف من اختلاف في السن والصحة والقوة الجسدية وغيرها.
والثاني هو التفاوت الأخلاقي أو السياسي، وهو يعتمد على نوع من الاتفاق بين الناس، وهو يتأسس على اتفاق الناس أو على الأقل، له ما يسوغه في قبول الناس به وهو يتألف من الامتيازات التي يتمتع بها البعض على حساب الضرر بالآخرين[87].
وانطلاقاً من هذا التصنيف لنوعي التفاوت، يرد روسو جميع أشكال الحكومات إلى الفروق العظيمة أو الطفيفة التي توجد بين الأفراد الخصوصيين لحظة تأسيس الحكومات، فالفرد الأقوى أسس ملكية، والمجموعة المتساوية في نواح كثيرة، لكنها تختلف عن الآخرين شكلت الحكومة الأرستقراطية، والأكثرية التي أفرادها متقاربون في الحظوظ والصفات، والذين هم الأقل بعداً عن حالة الطبيعة أقاموا الديمقراطية، لكن بالعقد الاجتماعي وسيادة الإرادة العامة يكون الحكم الأفضل وتتحقق المساواة[88].
من تفصيله لمفهوم التفاوت بنوعيه، وتأسيسه لأشكال الحكومات بناء على هذا التفاوت، نستخلص مفهوم العقد الاجتماعي وهو بنصه:
«كل واحد منا يضع شخصه وكل قوته بالمشاركة تحت الإمرة العليا (سيادة) الإرادة العامة وكجسم واحد يتلقى كل عضو باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الكل»[89].
وهذه الإرادة العامة التي تخلى لها كل فرد عن استقلاليته لا تكتسب قيمة أخلاقية، إلا عندما لا يعانيها الأفراد باعتبارها قوة مستلبة وخارجية وقسرية، وإنما يخضعون لها طوعاً، فإقرار كل فرد بالاعتماد الكلي على جماعة أفراد متساوين آخرين يجعل من اعتماده على نفسه شيئاً من الماضي ويدخله إلى مجال الحرية[90].
عبّر روسو عن احتجاجه على الملكية المطلقة التي عاصرها في فرنسا، ولاحظ المسافة الهائلة التي تفصلها عن النظام الجمهوري في جنيف موطنه الأصلي، وقد تمايزت نظريته عن نظريتي كل من هوبز ولوك بسبب اختلاف العصر. فروسو ابن القرن الثامن عشر، وقد عاش في فرنسا التي لم تشهد انتصار الطبقات الصناعية الصاعدة إضافة إلى أنه كان مثقفاً معوزاً ذاق صنوف العذاب إبان حياته الباكرة على يد من عمل لديه وعرف معنى اللامساواة[91].
ومما سبق، يتبين أن اللامساواة لدى روسو تمر بمراحل ثلاث:[92]
الملكية العقارية التي تمثل علة اللامساواة.
ثم العقد الاجتماعي الذي يمثل حرية خارجية للأفراد والتي تتجسد في خضوعهم له، وهو وجود خارجي للحرية يمثل انعكاساً لما هو داخل كل فرد، وهي - بناء على هذا- انتقال من الحرية الطبيعية إلى الحرية المدنية عن طريق استلاب طوعي.
والمرحلة الثالثة هي العسف الذي تمثله الملكية المطلقة التي تعصف بالعقد الاجتماعي.
وهو استبداد لا يقضى عليه إلا بعقد اجتماعي لا يجري فيه التخلي عن الحرية للعاهل كما هو الحال عند هوبز، وإنما يجري التخلي لصالح السيادة الشعبية، لصالح الإرادة العامة[93]. ولا تناظر عملية التنازل عن الحرية الطبيعية هذه في المجال السياسي عملية التنازل عن الملكية في المجال الاقتصادي؛ لأن الاخيرة يجري فيها تنازل مقابل عوض. أما التنازل عن الحرية الطبيعية، فلا يمكن أن يكون له عوض يكافئه[94].
ويمكن فهم رفض روسو لهذا التناظر من تحليل رؤيته لعلاقة الإنسان بالأشياء وعلاقته بالحرية، فعلى حد تعبيره، لا يمكن قبول درجة الثراء التي تتيح لمن يمتلكها أن يشتري غيره: كما أنه من غير المقبول بدرجة الفقر التي تجعل الواقع على تخومها أن يبيع نفسه[95].
ويتضح افتراق روسو عن النظريات ذات المنحى الليبرالي في تفضيله أن تطغى الشؤون العامة على الخاصة في عقول المواطنين، وهو ما يؤسس لمفهوم السعادة العامة التي تمنح الأفراد سعاداتهم الخاصة. ولهذا، فإن روسو يعتقد أن كل فرد سوف يدافع عن الدولة التي تحقق سعادته بما تسنّه من قوانين، وسوف تضيع الدولة إذا لم يكترث الفرد بها وانصرف إلى شأنه الخاص فقط[96].
ولكيلا تلغي الإرادة العامة الفردية يجمع روسو بين صرامة هوبز التسلطية وابتكارية لوك المرنة الفردية؛ فالمواطنون حكام لجهة علاقتهم بالسيادة ومحكومون لجهة علاقتهم بالقانون الذي وضعوه لأنفسهم والتزموا طاعته، وهذا القانون الذي يخضعون له بإرادتهم هو الذي يجعلهم أحراراً، وموضوع القانون ليس صفاتهم الشخصية، بل ما هو عام فيهم[97].
كانت محاولة روسو التوفيقية هذه بين سلطة الإرادة العامة وفردية الواقع معيناً لفكرتين متناقضتين:
- فكرة السيادة الشعبية التي ستغذي أنظمة ديمقراطية وأنظمة استبدادية.
- وفكرة الفرد ممثلاً للطبيعة تجاه الدولة.
وبما أن القانون موضوعه هو العام والمشترك، فإن صفته هي العمومية، وهو يعبر عن الإرادة العامة. أما أداة تنفيذه، فهي الحكومة، وهذا ما يضع الفرق بين الدولة والحكومة[98].
من الواضح مما سبق، أن شغل روسو الشاغل كان إقامة نظام سياسي اجتماعي على أساس مبدأ المساواة بين البشر تختفي فيه مظاهر التفاوت وعقابيلها من ظلم ونزاعات، فحسب ما يقول روبرت نزبت، فإن كتابات روسو السياسية والاجتماعية خاصة مقالته: «خطاب في أصل التفاوت بين البشر»، وكتابه «العقد الاجتماعي» تتمحور حول ثلاث أفكار مركزية:[99]
- كراهيته للمؤسسات الاجتماعية الوسيطة بين الفرد والدولة ابتداء من الأسرة والنقابة والمنطقة وكل المؤسسات التقليدية، مثل جمعيات الصداقة والمساعدات المتبادلة وما شابه.
- محبته محبة تبلغ حد العبادة للفرد المحرر من قيود تقاليد المجتمع القديم وكوابحه وإلزاماته القسرية.
- تعلقه تعلقاً يشبه التكريس الصوفي بفكرة القدرة الشاملة، سواء في شخص المشرع أم المربي أم في الإرادة العامة.
ويصف نزبت من موقعه كليبرالي هذه الأفكار بقوله:
«إنها على التوالي عدمية اجتماعية وفردية مطلقة وعبادة للقوة الشرعية غير المحدودة»، وهو يعتقد أن هذه الأفكار تربط روسو بالمذهب الكلياني[100].
خلاصة الأمر، إن الطاعة في عقد روسو طاعة أفقية وليست شاقولية؛ لأن المتعاقدين هما المجتمع والمؤسسة السياسية. ومن هنا افتراق نظرية العقد الاجتماعي لروسو عن النظريات الأخرى؛ من حيث إن نظريته ديمقراطية في حين أن النظريات الأخرى ليبرالية. وهذا هو السبب في وصف فيتشر لروسو:
«إن روسو لم يكن مفكراً ليبرالياً وفردياً؛ إذ رأى أن حالة الطبيعة لم يكن فيها أفراد إطلاقاً، بل حيوانات من أنواع مختلفة بعضها إنسان بالقوة. والكلام عن الطبيعة في حالة الطبيعة لا معنى له، فقد بدأت ظاهرة الطاعة بعد تطور الإنسان ودخوله المجتمع»[101].
كان عقد روسو ديمقراطياً وليس ليبرالياً، ولكن نزع صفة الليبرالية عنه بشكل مطلق، إنما يصدر عن رؤي ضيقة لليبرالية، فعلى الرغم من اكتشافه نقاط ضعف مميتة في الليبرالية الكلاسيكية واعتراضه على بعض توجهاتها، فإن إيمانه بتشكل المجتمع المدني على يد أفراد أحرار بالقوة ومقولته التي نجدها في مطلع «العقد الاجتماعي»، والمساواة بين البشر التي كان مهجوساً بها دائماً، يجعل من مجانبة الصواب دفعه خارج تخوم الفكر الليبرالي، ويوجب عدّه شكلاً متفرداً من أشكاله وتحويراً ذا شأن على الفكر الليبرالي الكلاسيكي.
5- مونتسكيو والحرية السياسية المشروطة بفصل السلطات
يعدّ كتاب مونتسكيو (1755) الشهير: «روح الشرائع» إحدى النتائج الثقافية لثراء طبقة النبلاء الذي حصّلته من تجارة النبيذ، المادة التي شكلت لفرنسا آنذاك أهمية الصوف لإنجلترا، وإن لم تكن أساساً صالحاً لصناعة الصوف كما هو حال النسيج، ولأن مونتسكيو كان أحد النتائج الثقافية لثراء طبقة النبلاء، فقد كان أحد أفراد جماعة الضغط المؤيدة لصناعة النبيذ[102]، وهو الموقع الذي مثل أحد مفاتيح فهم نظريته التي تبلورت في ظل الصراع الطويل بين الملوك الفرنسيين والأرستقراطية التي تسعى إلى حماية امتيازاتها القديمة، فقد حرمت الملكية النبلاء الاستقلالية الاقتصادية، وكان ثمة عامل موضوعي هو افتقارها إلى الأساس الاقتصادي الذي توفر للنبلاء الإنجليز متمثلاً بتجارة الصوف؛ الأمر الذي ساعد الملكية على توسيع سلطتها، وعلى حرمانها طبقة النبلاء من الكثير من وظائفها القانونية، وعلى التدخل المباشر في شؤونها وزيادة الضرائب والجنود على أراضيها.
ضغط الملوك الفرنسيون على الأرستقراطية التي كانت تعتمد في وجودها على استحقاقات الفلاحين، وليس على الزراعة التجارية عن طريق عقد تحالفات مع البرجوازية الصاعدة، فكان هم مونتسكيو هو الدفاع عن النبلاء وبلاطاتهم وأملاكهم[103]، وقد نبذ فكرة القانون الطبيعي؛ لافتقارها في نظره إلى مستند طبيعي، واعتمادها على فكرة الحقوق الطبيعية التي لا يمكن إثبات وجودها، وبنى محاججته على مفهوم الفضيلة السياسية التي تقوم بدور تحقيق التوازن بين الطبقات الموجودة في المملكة عن طريق ما أسماه «مجتمع المجتمعات»، وهو فدرالية الهيئات الوسيطة التي تخدم التحرر بتقييد كل من السلطة التنفيذية وعنف الدهماء[104].
والأمسّ رحماً بموضوعنا من فكر مونتسكيو هو الحرية السياسية التي شكلت صلب مؤلفه الشهير: «روح الشرائع»، فعلى الرغم من أن فكرة الحرية كانت موجودة لدى الفلاسفة الفرنسيين وحاضرة في استشهاداتهم إلا أنها لم تحثّهم على الاهتمام باجتراح تحليل منظم للمؤسسات السياسية والاجتماعية التي تحميها.
ويشكل مونتسكيو أحد استثناءين أوليا اهتماماً خاصاً لفكرة الحرية، وكان الاستثناء الآخر هو تورغو[105]، والذي تحدث بجرأة وعمل بجد على تطبيق الحرية الاقتصادية[106].
والحرية السياسية مشروطة لدى مونتسكيو بفصل السلطات التي عدّها عبقرية الدستور البريطاني، وكان لوك قد سبقه إلى القول بفصل السلطات، ولكنه جعلها اثنتين تشريعية وتنفيذية، فزاد عليها مونتسكيو السلطة القضائية، واشترط أن تكون في أيد مختلفة، لا في يد واحدة:
«لا تكون الحرية إذا لم تفصل سلطة القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وإذا كانت متحدة بالسلطة التشريعية كان السلطان على الحياة وحرية الأهلين أمراً إرادياً؛ وذلك لأن القاضي يصير مشرّعاً، وإذا كانت متحدة بالسلطة التنفيذية أمكن القاضي أن يصبح صاحباً لقدرة الباغي»[107].
والفكرة الجوهرية الأخرى لدى مونتسكيو، والتي توسل إليها بهيئة لتمثيل النبلاء وهيئة لتمثيل الشعب هي مشروطية تحرر بنية الدولة، فالروابط الثانوية تؤدي دوراً أساسياً، ولكنها لا تستطيع أن تضمن التحرر إلا إذا كانت التقاليد الثقافية تدعمها، وكان القانون يصونها والإطار الأكبر للتقاليد الثقافية هو روح الشعب أو روح الأمة الذي يتجلى في القوانين، وهو خلاصة عوامل عدة كالدين والمناخ والأخلاق والآداب والعادات، وعلى القوانين أن تنسجم مع هذه الروح العامة للأمة، وأن تسهم بدورها في تشكيل مبدأ الحرية.
«إذا وجدت في العامة أمة ذات مزاج أنيس وصدق طوية وبهجة في الحياة وذوق وسهولة في نقل الأفكار، إذا وجدت أمة نشيطة لطيفة داعبة، مجازفة أحياناً، مذياع غالباً، إذا وجد عند هذه الأمة مع هذا وجود وشجاعة وسلامة قلب وشيء من الشرف، وجب ألا يحاول بالقوانين إزعاج أطوارها مطلقاً لكيلا تزعج فضائلها أبداً، وإذا كانت السجية طيبة على العموم فما أهمية ما يوجد فيها من بعض المعايب... فعلى المشترع أن يتبع روح الأمة إذا لم تناقض مبادئ الحكومة؛ وذلك لأننا لا نصنع ما هو أصلح مما نصنع عن رضا متبعين ذكاءنا الطبيعي»[108].
ثانياً- الثورة الفرنسية
1- أثر الثورة الفرنسية في تشكل المفاهيم الليبرالية
من غير الممكن إغفال دور الثورة الفرنسية في سيرورة تطور الفكر الليبرالي؛ فهي الحدث الذي تتوج بالظهور المميز للدولة الحديثة، وصحيح أن البنية الليبرالية للدولة التي حررت الاقتصاد من قيود التوجه السياسي لم تدم طويلاً؛ إذ تطلبت الحروب النابليونية تشديداً للمركزية، ولكن هذه المركزية استطاعت تكريس مفهوم المواطنة بفصلها عن توزيع السلطة السياسية، وجعلها دالة للإقامة في إقليم الدولة، ولم تفض المركزية إلى وأد الإنجاز الأهم للثورة، وهو الفصل الرسمي للسياسة عن الاقتصاد.
يمكن القول إن أهم نتيجتين للثورة الفرنسية هما:[109]
المساواة القانونية أولاً، والحرية الاقتصادية ثانياً.
هاتان النتيجتان اللتان تمخضت عنهما الثورة الفرنسية في علاقة التسبيب والنتوج، وإن كانتا ممكنتين تاريخياً وليستا ضروريتين، فإن تتبع سلسلة الأسباب التي أوصلتنا إليهما يفيد بأن التركيز على المساواة كان رد فعل من حامل الثورة الرئيس وهو الفقراء الريفيون؛ فهؤلاء كانوا يشكلون الغالبية العظمى من الفلاحين الفرنسيين، وليس ثمة فرق جدير بالذكر بين من يملك أرضاً صغيرة لا تقيم أود عائلته، وبين من لا يملك أرضاً مطلقاً وقد عنى التحديث بالنسبة لهؤلاء أن الفلاحين الأثرياء سيحرمونهم من تحقيق مطالبهم التي كانت تتمثل في مطلبين أساسيين:
- الحصول على قطعة أرض لمن لا يملك أو قطعة أرض أكبر لمن يملك.
- الاحتفاظ بالعادات الخاصة بمجتمع القرية، وهي عادات ضمنت لهم مكاناً متواضعاً ومعترفاً به داخل عالمهم الزراعي[110].
وهؤلاء الفلاحون الفقراء مع اللامتسولين كانوا ضحايا السياسات الاقتصادية التي حاول إدخالها تورغو، وهي معادية لمستهلكي الطعام الصغار بما انطوت عليه من تحرير تجارة الحبوب التي أدت إلى رفع الأسعار، فأخذت مطالباتهم أثناء الثورة طابعاً معادياً للرأسمالية ومطالباً بعودة الاقتصاد القديم الموجه[111].
ما يلفت النظر هنا هو أن الطبقة البرجوازية كانت خاضعة للقيود الملكية، ولم تكن هي الدافع لوضع قواعد المجتمع الحديث، ولكنها البيروقراطية الملكية التي ارتبط استبدادها بفشل الزراعة التجارية على عكس ازدهارها في إنجلترا، وقد استطاعت هذه البيروقراطية تحويل البرجوازيين إلى أرستقراطيين عن طريق منحهم ألقاب النبالة بآلية بيع المناصب التي تميزت بها فرنسا، وهو ما دعم الاستبداد الملكي من جهة، وقوّض استقلال الملك من جهة أخرى؛ فبيعهم المناصب وإن كان قد حوّل قوة الدفع البرجوازية لمصلحة الملكية ولكنه أعطى البرجوازيين إحساساً بالهوية الجمعية والحصانة من التأثيرات الخارجية، وأكسبهم روح الجماعة، فأصبحوا لكل ذلك مدافعين عنيدين عن المصالح المحلية والامتيازات المكتسبة، وهي مصالح وامتيازات مرتبطة بملكية الفرد، وقد ظهر ذلك جلياً عندما حاول لويس الرابع عشر إلغاء بيع المناصب ورشوة القضاء، فدافعت هذه البرجوازية المصطبغة بصبغة أرستقراطية باسم الحرية السياسية وحرية الفرد والحقوق الطبيعية والعقد، فكانت طبقة رجعية تساهم في تحريك أفكار ثورية[112].
هذه العلاقة المزدوجة بين البرجوازية والملكية منعت الأولى من النمو بشكل كاف لتسم الثورة بميسمها، فكان لا بد لها من التحالف مع المكون الراديكالي في الثورة، وهو الدهماء الحضريون لكي يرتقوا إلى السلطة[113]؛ فمن المكون الراديكالي جاءت ردة الفعل العنيفة باتجاه المساواة، ومن المكوّن البرجوازي باستقلاليته النسبية وقوته ذات السقف المنخفض بسبب الاستبداد الملكي السابق نتجت النتيجة الثانية الأبرز للثورة، وهي الحرية الاقتصادية.
2- بنيامين كونستانت: ليبرالية توليفية بين روسو ومونتسكيو
مثلت ليبرالية كونستانت (1830) صيغة توفيقية متماسكة بين ليبراليتي جان جاك روسو ومونتسكيو؛ فالأخير لم يكن مكترثاً بعدد الممسكين بزمام السلطة، ولم يعن كثيراً بشكل الحكومة فيما إذا كانت ملكية أم ارستقراطية أم ديمقراطية، وإنما ما يستحق العناية -في نظره- هو الطريقة التي تمارس بها السلطة، وهي تكون ذات شرعية عندما تكون سلطة محدودة[114].
وكما ذكرنا، فإن الحد من السلطة لدى مونتسكيو عن طريق منع تركز السلطة في يد واحدة، فكل حكومة غير محدودة أو تقبض فيها على السلطات جهة واحدة حكومة مستبدة. أما روسو، فقد نقل تأكيد ديكارت وجوب عدم خضوع العقل لأي سلطة خارجية إلى المجال السياسي، فجعل الحكومة الشرعية هي التي تستمد شرعيتها من قانون وضعه الخاضعون لها[115]. وبناء على هذا، فإن الجمهورية في نظر روسو هي وحدها الشرعية؛ لأنها تحقق شرط خضوع الشعب لقانون يضعه بإرادته.
لا يتردد كونستانت في قبول فرضية روسو، ولكنه يقيد سلطة الإرادة العامة ويؤكد ضرورة كونها غير محدودة، ويتخذ من قيد مونتسكيو عن طريقة ممارسة السلطة نقطة انطلاق:
«عندما تتغوّل هذه السلطة على مجالات خارج نطاقها تصبح غير شرعية»[116]. ومن هنا يخرج كونستانت بصيغة للنظام لا هو بالديمقراطي، ولا بالليبرالي. إنه نظام ديمقراطي ليبرالي.
لم ينج روسو من نقد كونستانت؛ لأن بحث روسو عن الاستقلالية جعله يغفل عن إمكانية أن يتحول هذا الاستقلال إلى شرارة صراع بين استقلالية المجتمع واستقلالية الفرد[117]. ولقد وجد كونستانت في نتيجة الثورة الفرنسية المباشرة حجة عدّها قاطعة لإثبات ضعف منطق روسو؛ فقد كان النظام الناشئ عن الثورة الفرنسية ديمقراطياً بمعنى أنه استمد من سيادة الشعب، ولكنه كشف عن وجه استبدادي وصل إلى حدود الإرهاب. فلا يكفي -والحال هذه- أن نطالب بسيادة الشعب، وإنما ينبغي تحديد سلطة الشعب حيث لا تمتد إلى ما هو خارج نطاقها؛ فالشعب يمكن أن يمارس إرهاباً أسوأ من إرهاب الملكية السالفة:
«الشعب ذو السلطة المفرطة لا يقل خطورة عن الطاغية إن لم يكن أخطر»[118].
وعليه، فإن من الضروري بناء سد يوقف الإرادة العامة عند تخوم المجال الخاص بالفرد لضمان حمايته من تغولها، ويشتق كونستانت من هذه الحدود المفروضة على الإرادة العامة نتيجة فحواها: أنه لا يجوز فرض إرادة عامة على شخص واحد يكون على خلاف مع هذه الإرادة في نطاقه الخاص.
هذا النطاق الذي يكون فيه الفرد هو السيد، وهنا مكمن خلافه مع روسو الذي نسي -بحسب كونستانت- أن الإرادة العامة لا يمكن أن تكون مغرقة في التجريد كما أراد لها روسو؛ فهي في الواقع العملي ستودع في أيدي ثلة من الأفراد؛ الأمر الذي يجعل كل أنواع الإساءات ممكنة:
«في تخلي المرء عن إرادته لصالح الإرادة العامة لن يكون متساوياً مع الجميع؛ لأن البعض سيستفيد حتماً من تضحيات الآخرين»[119].
وكذلك لا يكفي فصل السلطات الذي اقترحه؛ ففصله سيكون بلا جدوى إذا لم يمتلك الفرد نطاقه الخاص:
«ليس المهم أن سلطة من السلطات لا تستطيع انتهاك حقوقي من دون موافقة سلطة أخرى، بمعنى آخر ليس المهم أن ممثلي السلطة التنفيذية لا يستطيعون انتهاك نطاقي الخاص إلا بإذن من السلطة التشريعية، وإنما المهم ألا يتحرك المشرع نفسه إلى خارج الحدود التي تخترق حدود نطاقي الخاص»[120].
ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ كيف يمكن ضمان الحرية إذا كانت الطاعة للقوانين وفصل السلطة غير كافية؟
يجيب كونستانت أن ذلك ممكن من خلال وضع دستور يحدد المدى الممكن للقوانين والمدى الممكن لكل سلطة، مع السهر بعين يقظة على بقاء المبادئ الدستورية مصانة في كل لحظة، ويمكن القول إن شغف كونستانت بالدساتير ومشاركته في كتابتها كان نتيجة لرؤيته هذه[121].
لا يستثمر كونستانت مبدأ سيادة الشعب لتحقيق الديمقراطية، ولا المبدأ الليبرالي للحد من السلطة؛ فقد عايش عن كثب استبداد النظام الديمقراطي الناشئ عن الثورة الفرنسية، ولم يقتنع بقدرة سلطة على الحدّ من سلطة من دون نطاق محمي للفرد. نطاق يمكن تعريف الحرية من خلاله بأنها ليست أكثر من سيادة صاحبه الفرد عليه ومنع أي سيادة أخرى. إنها حرية المحدثين التي تفترق عن حرية القدماء التي لم تكن أكثر من منح الأفراد حق تقاسم السلطة. إن المبدأين تجريديان، وهما أشبه بعظام كساهما هو -بما استخلصه من التجربة- لحماً وأحالهما إلى جسد قابل للحياة[122].
الركن الثاني في ليبرالية كونستانت عدا الدستور هو الدين، فهو يضفي على الدين أهمية بالغة، وينظر إليه كعامل محرض للاهتمام بالآخرين على حساب المصلحة الخاصة، ولكنه لا يعدّه أساساً لبناء المنظومة الأخلاقية، ولكنه يستدرك قائلاً إن الأخلاق تصلح رائزاً لتقويم ديانات معينة على أساس مدى اقترابها أو ابتعادها عن السياسة، فكلما كانت أبعد عن السلطة السياسية كانت مفضلة في نظر كونستانت؛ لأنها تقترب من الشعور الديني النقيّ الذي لا تحكمه مصالح طبقة رجال الدين[123].
يولي كونستانت أهمية بالغة للشعور الديني الذي يعده ضرورياً، وهو يؤكد أنه «لا أدري»، ولا يتجاوز لا أدريته إلى الإلحاد الذي يمثل في نظره حالة أسوأ من التطرف الديني، فأن يتحول المرء إلى معاداة الدين وإنكاره؛ لأن هناك من أساء استخدام تعاليمه كمن «يخصي نفسه لأن منحلاً فتك به مرض الزهري»[124].
إن الشعور الديني علاقة بغير المرئي، وهو لا يمكن أن يستبدل به دين إنساني؛ فهو ليس علاقة بين أفراد، وإن العلاقة مع الغيب لم تختف عبر تاريخ البشرية، وهي جزء من هوية الإنسان -من حيث هو- عبر التاريخ. وإذا كان التحرر من السلطة الكهنوتية قد تحقق داخل المسيحية، فإنها لذلك أفضل الديانات، فعن طريق تطورها «انسحب الدين من الحياة العامة وأصبح أقوى داخل الفرد»[125]. وواضح هنا إخلاص كونستانت لأصوله البروتستانتية.
والدولة الليبرالية المأمولة الكونستانتية دولة تضمن حق كل فرد في ممارسة دينه، وتفصل بين العام والخاص «فأن تجعل للسيل الجارف مسارب متنوعة كفيل بأن يخصب الأرض بدل أن يدمرها»[126].
ويذهب كونستانت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير عندما يعد العقد الاجتماعي منطوياً على قابلية حرب الجميع ضد الجميع الهوبزية ما لم يتضمن التزاماً من الأفراد أمام الله؛ أي بإدخال البعد فوق الطبيعي، وما لم يكن ثمة إيمان بخلود الروح. فالالتزام أمام الله يزرع الخوف من العقاب الذي يلزم الفرد بمتطلبات العقد الاجتماعي، والإيمان بحياة أخرى يجعل التضحية بهذه الحياة الزائلة ممكناً، وهي تضحية قد تتطلبها ظروف لا بد منها لكي يمكن وصف المرء بأنه كائن أخلاقي[127].
«إن حياة من دون مستقبل، حياة قصيرة إلى حد أنها تقارب الوهم لا يمكن أن يضحى بها في سبيل المبادئ، بل إن الممكن فقط هو الاستمتاع بكل لحظة فيها لا يقين بقدوم لحظة بعدها، الممكن الوحيد فيها هو الاعتراف من المتع طالما كانت متوفرة»[128]. لأجل هذا لا يتردد كونستانت في إنكار إمكانية فصل الدين عن الأخلاق التي يتحول الالتزام بها إلى مهمة جافة؛ لأن قلة قليلة من الناس هم الذين يقبلون الارتقاء فوق مقتضيات مصالحهم الشخصية.
إن مخارجاً لهذه الحياة وملذاتها الزائلة هو الذي يحرض الفرد على التضحية؛ بمعنى بلوغ الحد الأقصى من الاهتمام بالآخر، وهذه المخارج يمكن أن يكون قيمة كقيمة المجد التي دفعت آخيل[129] إلى تفضيل موت يكسبه مجداً على حياة خلو من المجد، ولكن الفرد المعاصر لكونستانت يجعل هذه القيمة مقصورة على الملذات الشخصية، بينما «ما نفتقده، وما يجب أن نفتقده، هو الاقتناع والحماس والقدرة على التضحية بالمصلحة لصالح المبدأ الأسمى»[130].
3- توكفيل ومعادلة التوازن بين المساواة والحرية
مثل مونتسكيو كان توكفيل (1859) حريصاً على عدم المساس بالتقاليد وعلى احترام العقائد. كان أرستقراطياً فرنسياً، ولكنه لم يكن يخفي عدم رضاه عن سلوك أفراد طبقته الأرستقراطية، وهو ما جعلهم ينظرون إليه كمتنطع كثير الكلام بلا فائدة:
«ففي نيو إنجلند، حيث نشأ التعليم ونشأت الحرية في كنف الدين والأخلاق، وحيث المجتمع مستقر قد أنضجته السنون؛ مما أدى به إلى تكوين مبادئ وعادات راسخة اعتاد الناس أن يحترموا الرجال ذوي العقول الكبيرة والأخلاق العالية ويذعنوا لهم في غير تشكك في نياتهم ومقاصدهم، وإن كانوا لا يقيمون وزناً لجميع الميزات التي تضفيها الثروة والنسب على بعضهم. فلا غرو إن أحسنت الديمقراطية في نيو إنجلند اختيار الرجال أكثر مما تحسنه في أي بلاد أخرى»[131].
وقد ساعدته دراسة القانون واختياره ضمن لجنة لصياغة الدستور في تعزيز قناعته بحكم القانون وفي التمهيد لمشروعه الأهم وهو كتابه «الديمقراطية في أمريكا». فعلى خلاف مونتسكيو الذي اعتقد أن الديمقراطية لا تصلح إلا لدول المدن الصغيرة التي يمكن جعل سكانها يعيشون حياة تقشف وفضيلة، وهو ما يجعل الديمقراطية خياراً صعب التحقق إلا في بضع دول أوروبية في القرن الثامن عشر، وعلى خلاف روسو الذي اقترح أن الديمقراطية ليست خياراً حياً كحكم الطبقة الأرستقراطية الانتخابية كشكل من أشكال الحكومة الجمهورية.
على خلافهما، كان توكفيل مقتنعاً تمام الاقتناع أن الأمريكيين يعيشون ديمقراطية حقيقية يحكم فيها الناس أنفسهم بأنفسهم:
«تطور مبدأ سيادة الشعب... في الولايات المتحدة كل تطور عملي يتصوره العقل، فقد تخلص من جميع الأساطير التي حرص الناس على إحاطته بها في البلدان الأخرى. وتجلى في كل شكل من الأشكال بحسب ما تقتضيه الضرورة. فكان الشعب كله يقوم أحياناً بوضع القوانين: كما كانت الحال في أثينا، وأحياناً يقوم بها ممثلوه المنتخبون بالتصويت العام نيابة عنه، فيعملون باسمه وتحت إشرافه، وهو إشراف يكاد يكون مباشراً»[132]، فقد مثل نجاح الفدرالية دليلاً على أن جهاز الاتحاد يمكن أن يؤسس للجمهورية في غياب الفضيلة الجمهورية التي اشترط مونتسكيو وجودها: «لا يعني إذن عدم وجود حكومة مركزية، كما أكده كثيرون هلاك الجمهوريات في الدنيا الجديدة»[133].
وبينما كان الاعتقاد السائد أن المساواة هي ثمن الحرية، ومثال النضال الانكليزي للقضاء على خطر الاستبداد الملكي مع تجنب الوقع في الفوضى يؤكد قاعدة مقايضة المساواة بالحرية. وإن كان المثال الإنجليزي معبراً عن سياق قبول شعبي بسلوك طبقة أرستقراطية، فإن التجربة الأمريكية تتحدى هذه القاعدة المفترضة، وتثبت أنه من الممكن الحفاظ على حرية المواطنين مع تحقيق أكبر قدر من المساواة في الظروف على الأقل بالمقارنة مع الدول الأوروبية، ويسهب توكفيل في هذه المقارنة بقوله:
«الحق أن في المؤسسات الديمقراطية نزعة خفية تجعل جهود المواطنين تعمل على رفاهية الجماعة، على ما فيهم من رذائل وما يرتكبونه من أخطاء. أما في المؤسسات الأرستقراطية فثم تحيز خفي يدفع المشرفين على الحكم، على الرغم من مواهبهم وفضائلهم إلى أن يعاونوا على زيادة الشرور التي ترهق بني جنسهم»[134].
بصفته ليبرالياً وأرستقراطياً، كان توكفيل مهتماً جداً بالقضايا الأخرى التي تنطوي عليها هذه الأسئلة الكبيرة، فهل يمكن لبلد ما أن يعتز بالحرية بدون أرستقراطية؟ أو هل هناك فرق حاسم بين بلد مثل فرنسا، الذي حقق الحرية عن طريق التمرد بعنف ضد الطبقة الأرستقراطية، وبلد مثل أمريكا، الذي حقق الحرية من خلال أخذ مكوناته من إنجلترا وتكريسها بصورة أبهى في أرض أخرى خلف المحيط؟
كان من المستحيل بالنسبة لفرنسي من أي طيف سياسي ألا يتساءل عما إذا كان يمكن الحفاظ على جمهورية على نطاق الدولة القومية الحديثة، وما إذا كان ثمة شيء يمكن أن يلفت النظر في الأصول البروتستانتية للمستعمرين الجدد يمكنهم من أن يتحولوا إلى متمثلين حقيقيين للديمقراطية.
لم يكن توكفيل غافلاً بالطبع عن معاناة سكان الجنوب، ولا عن وجود أناس يعيشون حياة شقاء على هوامش المدن، ولكنه اعتقد أن الصبغة العامة في أمريكا كنظام سياسي تتسم بسمتي الحرية والمساواة[135]. ولقد أثبت له الأنموذج الأمريكي قصور فرضية مقايضة المساواة بالحرية، وإمكانية تماكنهما في حيز واحد، وأنها لا يجب أن تكون -كما افترض مونتسكيو- ذات شكل واحد هو المساواة في المكانة تحت الاستبداد في تفريط صريح بالحرية كما هو الحال في الاستبداد الشرقي.
ولكن المساواة التي تحدث عنها الأرستقراطي الفرنسي لم تكن مساواة في الثروة والعمل، وإنما مساواة في المكانة وغياب التفاضل فيها بعامل الوراثة وتخلي الأرستقراطية عن قناعتها بأنها يجب أن تكون جزءاً من السلطة الحاكمة. ولقد اعتقد توكفيل أن هذه المساواة هي سمة المستقبل في أوروبا والعالم، وأنها لن تقبل أن تنحسر بعد أن تنتشر. وفسر توكفيل عدم نتوج الحرية عن الثورة في فرنسا في خلو المجتمع الذي ورثته الحكومة بعد الإطاحة بالملكية من توازنات كفيلة بصنع الحرية، وهو ما كان فعلاً مقصوداً للملكية التي أجدبت هذا المجتمع وأفرغته من أي شكل من أشكال المؤسسات المدنية التي يمكن أن تكون منافسة[136].
إن المساواة التي تمثلها الديمقراطية في أمريكا لم تتناقض مع الحرية، وهي ما يؤكد الدعاوى الرافضة لاقترانهما، وإن المساواة قد تكون في نظر الأرستقراطي الفرنسي عدوة للمجد الشخصي والعائلي، ولكنها بالتأكيد عدوة للبؤس، وهو ما يرجح تفضيلها ويبرر السعي لأجلها.
ثالثاً- المنعطف الكانطي والهيغلي
1- مساهمة الحق والذات الكانطيين في الفكر الليبرالي
إن الحرية الليبرالية الكانطية مشتقة في أصلها من تفريقه بين عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها؛ ففي الأول يمكن للذات أن تستمتع بحريتها في التشريع لنفسها وفي طاعة ما تشرعه، وعلى الرغم من أن أسس الليبرالية الكلاسيكية قد بدأت تهتز لعوامل عديدة سنأتي على ذكرها، ولكن أثر كل من كانط[137] وهيغل سواء في إضفاء بعد جديد لمفاهيم الذات والحرية الفردية والمساواة، أم في المساهمة في زعزعة مقولات الليبرالية الكلاسيكية يستحقان أن يفردا بعرض خاص. فقد تعرض مفهوم المصلحة الذاتية لهجوم عنيف من طرف كانط (1804)، أعظم فلاسفة التنوير الذي عدّه غير قادر على تقديم أساس مقبول للحياة الإنسانية[138]، وعلى الرغم من أن حقيقة جوهرية كانت تمثل بؤرة تفكير كانط هي أن البشر ذوات حرة وعاقلة ومسؤولة، ومن هذه الحقيقة يصطبغ كانط بالصبغة الليبرالية، فهو يرى الحرية في العلاقات الخارجية المتبادلة بين البشر، ولا صلة لها بغاية تحقيق السعادة، ولكي تكون كذلك ينبغي أن تكون متعالية على كل الغايات التجريبية، فالمرء لا يكون حراً ما لم يكن متخففاً من عبء غايات مسبقة، فيسعى إلى تحقيق غاياته الخاصة في إطار من الحرية المتاحة لغيره[139].
ومن هنا اشتقّ كانط مفهومه للحق الذي لا يستند إلى غايات مسبقة، وقد وجده في الذات صاحبة الإرادة المستقلة:
«إنها ذات لها غايات، وهي التي يجب أن تشكل القاعدة لكل المسلمات التي ينطلق منها الفعل»[140].
«وما عدا الذات نفسها صاحبة جميع الغايات الممكنة، فلا شيء قادر على أن يكون مصدراً للحق؛ لأن هذه الذات وحدها هي ذات للإرادة المستقلة أيضاً»[141].
لا شيء غير مثل هذه الذات يمكن أن يكون شيئاً يسمو بالإنسان فوق نفسه كجزء من عالم المعنى، ويمكنه من المشاركة في مثل أعلى[142]. وليس المهم هي الغايات وإنما قدرتنا على اختيارها:
«لا يتعلق الأمر هنا بشيء آخر غير الشخصية، أي التحرر والاستقلال من آلية الطبيعة بوصفها قدرة لكائن خاضع لقوانين خاصة»[143].
وقد دعم كانط مفهومه للذات المتعالية بحجتين: إبستمولوجية وعملية:[144]
تقوم الحجة الإبستمولوجية على أساس أنني لا أستطيع معرفة ذاتي عن طريق الاستبطان؛ لأنني بذلك أحولها إلى موضوع للتجربة، وبذلك لن تتجاوز معرفتي معرفة الظواهر؛ لأن الاستبطان لا يمكنني إلا من معرفة ما تنقله الحواس، ولهذا يجب البحث عن شيء آخر غير خاضع للمعرفة التجريبية يقف هناك في الخلف، إنه الذات نفسها التي توحد المدركات الحسية وتجمعها في وعي واحد.
«تلك الفكرة التي تفيد أن التمثيلات الناجمة عن الحدس، والتي هي كلها لي لها نفس المعنى مثل الفكرة التي تفيد أنني أوحد هذه التمثيلات في وعي ذاتي واحد أو على الأقل أستطيع أن أوحدها بهذه الطريقة، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة ليست الوعي بالتأليف بين التمثيلات إلا أنها تفترض إمكانية هذا التأليف، وبعبارة أخرى لا يمكنني أن ادعي أن التمثيلات هي لي إلا إذا استطعت أن أدركها في كثرتها ضمن وعي واحد وإلا سيكون لي ذات هي من الكثرة والاختلاف بحسب كثرة التمثيلات التي أعيها حول ذاتي واختلافها»[145].
أما الحجة العملية، فهي تقوم على أساس أنني كموضوع للتجربة خاضع لعالم الحس المحكوم بقوانين الطبيعة.
أما بوصفي ذاتاً فأنا مقيم في عالم ما وراء الحس الذي لن أكون حراً ومستقلاً بدون الإقامة فيه؛ لأن افتراض عدم وجوده يعني أن تصبح إرادتي مشروطة برغبة أو بغاية، وبهذا تفقد استقلاليتها لكونها معلولة لعلة سابقة، ومن أولوية الذات على غاياتها يستنتج كانط أولوية الحق على الخير[146].
افتراض أن البشر أحرار اضطر إليه كانط؛ لأنه بدون هذا الافتراض لا يكون ثمة معنى للأخلاق، والذي جعل هذا الافتراض اضطرارياً أن إثبات امتلاك البشر لحرية الإرادة مستحيل من وجهة نظره؛ لأن هذا الإثبات يندرج تحت المعرفة النومنية؛ أي معرفة الأشياء بذاتها، وهي على عكس المعرفة الظاهراتية المتصفة بخصائص الزمانية والمكانية والسببية معرفة مستحيلة[147].
وتشمل المعرفة النومنية ثلاثة مجالات هي:[148]
حرية الإرادة، وخلود الروح، ووجود الإله.
من هنا بدأ كانط بافتراض أن البشر أحرار؛ ليقوم بناء على هذا الافتراض بواسطة استدلال عقلي باكتشاف «قوانين الحرية»، وهي القوانين التي تحدد لنا ما ينبغي أن نفعله، وما هي واجباتنا مقارنة بنواميس الطبيعة التي توضح لنا فحسب ما الذي يجري فعلاً في العالم، فجدل أساسي في الفلسفة الكانطية كان محوره أن ثمة اختلافاً جذرياً بين العالم الطبيعي والعالم الأخلاقي؛ أي عالم ما هو كائن وعالم ما يجب أن يكون:
«إننا نجد من وجهة النظر العملية أن درب الحرية هو الدرب الوحيد الذي نستطيع ونحن نسير عليه أن نستخدم عقلنا في كل ما نأتي وما ندع من أفعال، وهذا هو السبب الذي يتعذر معه على أدق الفلسفات كما يتعذر معه على أكثر العقول الإنسانية جهالة أن يجادل في حقيقة الحرية جدلاً سفسطائياً. وإذن فمن واجب العقل أن يفترض مقدماً أنه ليس ثمة تناقض حقيقي بين الحرية والضرورة الطبيعية لنفس الأفعال الإنسانية؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن تصور الطبيعة كما لا يستطيع أن يتخلى عن تصور الحرية»[149].
يقودنا هذا النمط من التفكير بهدي كانط إلى مذهب الواجبات ومنها أن الإنسان يملك، بل ينبغي له أن يمتاز عن غيره بخصائص تتعلق بقدرته على أن يكون حرّاً، وهي قدرة تقع وراء متناول الحس تماماً، وأن يمتاز أيضاً وبشكل محدد بخصائص تتعلق بإنسانيته؛ أي بشخصيته بمعزل عن الخصائص الفيزيائية تمييزاً له عن الموضوع نفسه[150]. ومن الاستدلال العقلي المبني على أساس افتراض الحرية سنصل -بحسب كانط- إلى الفريضة المنطقية، وهي التي تفيد بأن البشر ذوات عاقلة.
الحرية والعقلانية إذن هما الخاصتان اللتان تشكلان أساس كل تفكير أخلاقي. هذه الفريضة المنطقية تقدم معيار الحكم الوحيد الذي سيختاره الكائن التام عقلياً، وهو: «اجعل من القاعدة التي تسير عليها إرادتك مبدأ يوفر القانون الكلي في الوقت نفسه»[151].
يمتلك الإنسان حرية الإرادة من حيث هو نومنية إنسانية، وهذه الخاصية باعتبار تعلقها بالنومنية الإنسانية ليست خاصية تجريبية، فلا يمكن اكتشافها ولا إثباتها أو نفي وجودها من خلال المراقبة. إنها خاصية مفترضة للطبيعة الأساسية للإنسان، وهي تحدد خطاباً معيارياً يتطرق إلى ما ينبغي أن يكون؛ بمعنى أننا إذا افترضنا أن الإنسان- كنومنية إنسانية- كائن يتمتع بالحرية، فذلك يعني جزئياً القول إن الإنسان ينبغي أن يكون حراً، وإنه مؤهل أو له حق أن يكون حرّاً[152].
ما يميز مفهوم كانط عن الحرية بناء على ما سبق، أنه لا يعدها متمثلة في عدم وجود قيود على تصرفات المرء، فهو يعرف الحرية أنها عدم الخضوع إلى قوانين عدا تلك القوانين التي يضعها الإنسان لنفسه، سواء وحده أم بالتعاون مع الآخرين.
برأي كانط لا يعني أن يكون المرء حرّاً عدم وجود أي قيود على تصرفاته، ولكن أن يكون المرء بمنأى عن القيود التي تفرضها إرادات الآخرين الاعتباطية[153]. من هذا الفهم للحرية المتعلقة بالطبيعة الأساسية للإنسان يشتق كانط نظريته في المساواة؛ فلأن الاختلافات بين الناس مسألة تجريبية يتوصل إليها بالملاحظة، فلا أهمية لها إذا وضعت على محك المفهوم السابق غير الخاضع للتجريب، فكل إنسان له قيمة مطلقة، وهي تساوي قيمة أي إنسان آخر[154].
قوانين الحرية التي توصل إليها انطلاقاً من فرضية الحرية تفرض حدوداً على التصرفات الخارجية للناس، ويمكن أن تفرض تلك الحدود بطريقة قسرية؛ وذلك بالاعتماد على مبدأ أساسي مستمد من الفريضة المنطقية هو مبدأ الحق الشامل لجميع البشر الذي يعبر عنه كانط بقوله:
«يتوافق أي فعل مع مفهوم الحق إذا كان لا يتعارض مع حرية أي إنسان، وبما ينسجم مع قانون شامل للجميع أو إذا كان من قواعد السلوك المرتبطة بذلك الفعل ألا تتعارض حرية الاختيار مع حرية أي إنسان، وبما ينسجم مع قانون شامل للجميع، فالحق هو تقييد حرية كل فرد، حيث تتناغم مع حرية كل شخص آخر»[155].
يستخلص كانط من مبدأ الحق الشامل لجميع البشر أولاً: ما يسميه الحق الخاص، وهو المتعلق بعلاقات محددة بين الناس، ويشمل موضوعات الملكية والتعاملات والعقود، كما يشمل بعض الحقوق الواجبة على الأشخاص كحقوق الزوج على زوجته، وحقوق الوالدين على أطفالهما، وحقوق صاحب العمل على من يعمل في خدمته.
وثانياً: الحق العام، وهو الخاصية المميزة للقوانين الخارجية التي تجعل التناغم بين الأفراد أمراً ممكناً[156].
وهذان الحقان متداخلان؛ فلا يمكن أن يكون هناك حق خاص خارج نطاق دولة ذات قدرة على فرض أساليب قسرية تستطيع بها ضمان الحقوق الخاصة للمواطنين[157].
عبر كانط عن تداخل حقلي الحق الخاص والعام بمصطلح: «الاستعداد الاجتماعي للاجتماعي»، وفحواه حسب تعبيره:
«إن الوسائل التي توظفها الطبيعة لإظهار القدرات الكامنة هي التناحر القائم ضمن المجتمع بقدر ما يصبح هذا التنافر في نهاية المطاف سبباً في قيام نظام اجتماعي يحكمه القانون»[158].
فمن التوتر بين رغبة الإنسانية في العيش مع الآخرين، ورغبتها في العيش بمعزل عنهم تظهر الحاجة إلى بناء ميدان عام يدعم الحرية ويحترم الاستقلال الذاتي، هذا الميدان العام هو دولة القانون، وهي وحدها القادرة على التوفيق بين استقلالية الفرد الأخلاقية ومتطلبات النظام العام[159].
هذه الصيغة من حياة الأفراد بعضهم مع بعض ضمن إطار قانون عام هو ما يدعى «الدولة المدنية» الموسومة بالمساواة في النتائج والنتائج العكسية للأفعال التي تجري بإرادة حرة، وهي مساواة تحدد حرية كل فرد بالنسبة للآخر طبقاً لقانون حرية عام. إن الحق الذي يكتسبه كل فرد بالولادة في دولة كهذه هو حق متساوٍ بإطلاق فيما يخص سلطة إرغام الآخرين على استخدام حريتهم بشكل متناغم مع حريته هو[160].
من الفريضة المنطقية استنتج كانط المعادلات السياسية للمتطلبات الخلقية، وهي عبارة عن ثلاثة مبادئ قبلية تشكل أسس ما يسمى الدولة المدنية أو الدولة القانونية:
- الحرية لكل عضو في المجتمع بوصفه كائناً إنسانياً.
- مساواة كل فرد مع الآخرين بوصفه واحداً من الرعايا.
- استقلالية كل عضو في الكومونولث بوصفه مواطناً[161].
هذه الدولة هي أفضل ضامن للقانون الخلقي من أي مؤسسة أخرى؛ لأن تنظيمها يعترف بعلاقة التناقض بين الحرية والضرورة. وهذا الكومنولث يمكن إجبار من لا يرغب في الانضمام إليه على ذلك:
«إن المشكلة الكبرى للجنس البشري الذي تجبره الطبيعة على البحث عن حل لها، هي مشكلة إيجاد مجتمع مدني قادر على تطبيق العدالة بشكل كلي. والغرض الأسمى للإنسان -أي تنمية القدرات الطبيعية كلها- لا يمكن أن تنجزه الإنسانية إلا في المجتمع، والطبيعة تريد من الإنسان إنجاز هذا الغرض، وفي الحقيقة كل غاياته المحددة بجهوده الخاصة. ولا يتحقق هذا الغرض إلا في مجتمع لا يتمتع فقط بأعظم حرية ومن ثم بتناحر مستمر بين أعضائه، بل أيضاً بأدق تعيين لحدود هذه الحرية وصيانتها كيما تستطيع التعايش مع حرية الآخرين»[162].
ولعل هذا القسر يتناقض مع فلسفة كانط السياسية التي تقوم على الحرية والقيمة المطلقة للإنسان، ولكن رفع هذا التناقض ممكن، إذا ما تذكرنا أن حرية كانط هي عدم الخضوع لأي قوانين غير القوانين التي يضعها الفرد لنفسه، سواء لوحده أم جنبا إلى جنب مع الآخرين.
والدولة المدنية هي نتاج عقد أصلي اتفق عليه من قبل الأفراد الذين يصبحون مواطني تلك الدولة، وهذا العقد ليس حقيقة تجريبية أو تاريخية، وإنما هو فكرة يحتمها العقل مثلما يحتم فكرة النومنية الإنسانية[163].
وكما أن الفريضة المنطقية هي المعيار الذي يحكم بموجبه على تصرفات الأفراد، فإن العقد الأصلي هو الوسيلة التي تقرر ما إذا كانت القوانين والسياسات عادلة أو غير عادلة، فإذا ما وجد قانون ليس في الإمكان أن يتفق عليه جميع الناس ضمن حق أصلي فهو قانون غير عادل[164].
إن دور الذات في نظرية المعرفة لم يبرز إلا بفضل تخليص نظرية المعرفة من المطابقة بين المعرفة وموضوع المعرفة، وكما لاحظنا فقد فصل كانت بين المعرفة الشيء وبين الشيء في ذاته، وهو يتبنى الكلية الاسمية بشكل صريح، كسابقه لوك، وهو ما ملّكه أداة أقدر على ترسيخ دور الذات هذا؛ لما ذكرناه من قدرة مفهوم الكلي الاسمي من التخفف من عبء المطابقة، وما تستلزمه من جوهرة للكلي ومنع من تكثير أفراد العموم.
كما أن الافتراق الأهم لكانط عن سميث هو تنظيمه للمجتمع المدني حول مجموعة مشتركة من الغايات على اعتبار أن ذلك أفضل أخلاقياً من تكوينه طبقاً لمتطلبات السوق وعدّ الناس غايات في ذاتها كوسيلة للتوفيق بين الأهداف الجزئية والمتطلبات الخلقية الكلية.
2- هيغل والحل الوسط بين الرؤية الفردية والرؤية الجماعاتية لليبرالية
يتخذ مفهوم الذاتية الذي جعلناه مناط التعلق بين الفردية والليبرالية في الفلسفة الألمانية معان جديدة ينظمها بحث هذه الفلسفة عن المطلق الذي هو غاية الفلسفة بما هي علم الحقائق الضرورية بحسب هذه الفلسفة. وقد ابتدأت هذه الذات بحثها عن المطلق عن طريق وعيها بذاتها كــــ أنا بدئية خالصة أصلية تشيح بوجهها عن الطبيعة على يد فيشته الذي امحت لديه ذات الفرد أمام ذات النسق، وهو ما ورثه تلميذه شيلنغ، ولكنه رجح التوجه نحو الطبيعة على حساب الذات على عكس أستاذه فيشته، وخلفه تلميذه هيغل (1831) الذي حاول التوفيق بين التوجهين السابقين.
وقد أدخل شيلنغ على الذات الفشتية ما ظنّ أن ينقصها، وهو التطابق بينها وبين الموضوع؛ لأنها في نظره قبل أن تعي ذاتها نهجت طريقاً طويلاً استحالت فيه من ذات غير واعية بذاتها إلى ذات واعية، وعلى الفلسفة أن تعود القهقرى لكي تتبع ذلك المسار الذي لن تدرك منه إلا رسومه. ولم يرق لتلميذ شيلنغ النجيب هيغل هذا المطلق الساكن الذي تتوحد فيه الذات مع الطبيعة، فعمد إلى البحث عن المطلق في العالم المتعين عبر فلسفة التاريخ المتضافرة مع تاريخ الفلسفة[165]. كان لا بد من هذا التمهيد الموجز قبل عرض فلسفة هيغل التي مثلت استيعاباً لمفاهيم الليبرالية السابقة من جهة وتجاوزاً لها من جهة أخرى.
لا بد من الإشارة إلى أن هيغل يمثل أحد قطبين شكلا الأفلاطونية المحدثة الجرمانية مع ماركس، وقد كان ذا أثر في هز أسس الليبرالية الكلاسيكية في فلسفته عن الحرية التي استخرج منها حقوق الأفراد بعد أن أعرض عن المادة والتفت إلى الروح عقب إنجاز ما أنجزه في درسه للطبيعة.
والحرية لدى هيغل هي غاية تطور الوعي؛ فليس التاريخ في نظره إلا تطور الوعي بالحرية الذي بدأ في الشرق القديم مقتصراً على سيد وعبيد، وبذلك لم يكن ثمة حرية؛ لأن الحرية لا تتحقق ما لم يعترف بها آخر متمتع بها. وقد تطور الأمر في بلاد اليونان والرومان، حيث وجد أفراد أحرار بالطبع والمولد وآخرون عبيد، ووصل الأمر إلى ذروته المبتغاة مع الأمم الجرمانية التي احتضنت مفهوم الذاتية المسيحي[166]. وليس هذا التطور عبر هذه المراحل صنع الأفراد الذين يجسدونه، وإنما هو فعل العقل الذي يحكم العالم.
وليس ابتداؤنا بهذا إلا لكي نلفت النظر إلى مركزية الحرية والذاتية والجذر المسيحي في فلسفة هيغل، وما لا يحتاج إلى التذكير من كونها مفاهيم تشكل عناصر أساسية، إن في بنية الليبرالية أو في سيرورة تكوينها.
وبعد حديث هيغل عن ملاحظة الطبيعة في: «دروس تاريخ الفلسفة»، يقول مضيفاً:
«ثم رمت الحرية بساطاً للبحث في حقوق الأفراد بالنظر إلى بعضهم بعضاً وإلى المبادئ التي تصدر عنها، كما اعتمدت في البحث عن حقوق الدول تجاه بعضها بعضاً.......... ولقد شرع فقهاء الحق يؤلفون في ذلك تآليف، كثيراً ما استشهد بها المتناظرون تحت قبة برلمان إنجلترا، وطفق المختصون يبحثون في طبيعة الغرائز الإنسانية التي على الدولة أن ترضيها ووفق أي سبل، وذلك كله بغاية استنباط المعرفة بالحق بالتوسل إلى الإنسان نفسه، سواء تعلق الأمر بإنسان الماضي أم بإنسان الحاضر»[167]. فبينما كان استناد السلطة السياسية إلى مبدأ «حق الملوك الإلهي في الحكم» في عهد القدامة أصبح استنادها إلى مبدأ الحرية في عهد الحداثة.
كان النظام القديم يقوم على مبدأين:
- طاعة الأفراد العمياء تجاه سلطة الأمراء المطلقة، حيث كانت إرادة الأمير تشكل قانوناً مطلقاً؛ وذلك كله بتزكية من رجال الدين ومباركتهم.
- حق الملوك الإلهي الموسوي بحسبانهم ظل الله في أرضه وخلفاؤه في الدنيا.
أما الحداثة، فقد قامت على أرضية من البحث العقلي عن الأسس المعقولة والواقعية التي تنهض عليها السلطة السياسية[168].
يعترف هيغل «أن هذا اللفظ 'الحرية' من دون أي صفات أخرى إضافية تبعية هو لفظ مبهم غير محدد وكلمة غامضة لا يعتمد عليها (...)، وعرضة لسوء فهم لا نهاية له وألوان من الخلط والاضطراب والأخطاء لا حد لها، كما أنها عرضة لكل ما يمكن تخيله من إسراف وتجاوز»[169].
الإرادة هي طريق الحرية والإرادة نوعان:[170]
- إرادة الأشياء، إرادة العالم.
- وإرادة الإرادة نفسها؛ أي إرادة الإنسان لما يفعله ولما يجده.
إن هذه الإرادة لا تكون حرة إلا إذا تخلصت من كل الأشياء الجزئية والخصوصية والفردية؛ أي من كل شيء غريب عنها، وكانت إرادتها لإرادتها ذاتها، وإلا فقدت حريتها وتعلقت بالغير.
«الإرادة التي تريد ذاتها لهي أساس كل حق وإلزام، ومن ثمة أساس كل قوانين الحق، وكل أوامر الواجبات وكل الالتزامات المعتمدة، بل إنها هي ما يجعل الإنسان إنساناً؛ أي هي مبدأ الروح الأساسي»[171].
وهذه الإرادة الكلية قبل أن تتحدد وتتعين، فهي:
«في علاقة هوية مع ذاتها غير أنها تريد أيضاً الأمر الجزئي؛ لأنه توجد كما نعلم واجبات وحقوق متعددة مختلفة؛ ولذلك تتم المطالبة بمضمون للإرادة وتعين لها لأن الإرادة الخالصة موضوع نفسها ومضمون نفسها، وهي بالتالي فارغة إنها بصفة عامة إرادة شكلية»[172].
هذه الإرادة المجردة «إرادة الكلي والمجرد» لا تقوم على إرادة أمر محدد بعينه، وإنما تقوم على رفض كل مضمون أنى كان شأنه وكل خاصية وكل امتلاء (تعين) إنها على التحقيق:
«تنحصر في كونها فراراً من كل تضييق، حيث إنها ترى التضييق في كل مضمون والتحديد في كل محتوى، وهي لا تطيق سوى اللاشيء؛ أي الفراغ والعدم إنها 'الحرية السلبية'»[173].
حرية الفراغ هذه يجسدها في حالته النظرية الهندي الذي يتأمل الفراغ لساعات طوال ويبقى سجين المعرفة المحض، معرفة المرء لهويته البسيطة مع نفسه (انا =أنا) مركزاً على حياته الداخلية الفارغة. إنه يريد لفراغ نفسه «يريد براهما» العدم[174].
وتجسدها في حالتها العملية الثورة الفرنسية التي تبرهن أن حرية الفراغ إن انتقلت إلى عمل كانت التعصب الهدام لكل نظام اجتماعي قائم وطرد كل فرد يشتبه بأنه يريد نظاماً آخر وتدمير كل تنظيم يريد أن يبرز إلى النور. فالثورة ادعت أنها تريد دولة وضعية قائمة على المساواة بحيث تكون كل الفروق والاختلافات في المواهب والسلطة قد ألغيت. «ولكنها في الحقيقة قامت على كراهية حادة لكل أمر جزئي، فكانت تريد التجريد فقط ولا تريد شيئاً متميزاً»[175].
غير أن الواقع لا يلبث أن يأتي بنظام معين وتحديد فريد للمؤسسات وللأفراد في حين أن الحرية السلبية برفضها هذا التخطيط، وهذا التحديد الموضوعي تصبح وعياً لذاتها تماماً، وعلى هذا النحو فما تعتقد أنها تريده يمكن ألا يكون لها غير تصور مجرد وألا يكون تحقيقه غير هياج تجريبي:
«لهذا نجد أن الثوار الفرنسيين حطموا من جديد المؤسسات والتنظيمات التي أقاموها هم أنفسهم، ما دام التنظيم أياً كان نوعه يتضارب بقوة مع الوعي الذاتي المجرد بالمساواة»[176].
ولذلك، فإن هيغل يرى أن هذه الإرادة الفارغة لابد لها أن تتعين فتنتقل من الشأن الكلي المجرد إلى النقيض (الشأن الفردي) إلى حريتي أنا التي تستطيع أن تقول: أنا أرفض هذا الأمر المتعين كي أختار هذا الأمر المتحدد، هنا عالم الميول والأذواق والأمزجة الفردية[177].
هذه هي اللحظة الثانية، وهي أساسية بالنسبة إلى الحرية ومهمة، ولكنها لا تشكل كل الحرية، فلا بد من تجاوزها إلى اللحظة الثالثة التي تصبح الحرية فيها هي «أن تريد شيئاً محدداً، ومع ذلك ففي هذا التعين يشعر المرء بنفسه ويرتد مرة أخرى إلى ذاته»[178].
فما أريده إذاً يجب أن يريده الآخرون أيضاً؛ أي يلزم أن يكون صواباً حقّاً وأمراً معقولاً وشأناً قانونياً ومن ثمة، فإن:
«الإرادة لا تكون إرادة حقيقية إلا عندما يتحد ما تريده؛ أعني مضمونها مع نفسها وبعبارة أخرى 'الحرية تريد الحرية'، فهي إرادة لا تريد فقط وللمحة وجيزة، بل هي إرادة تريد الحرية»[179].
وهكذا يتبين أن الحرية لا تكون إيجابية العقل. إلا بقدر ما تكون عاقلة موضوعياً؛ أي كلية فما الحرية العينية بتحكمية فرد يستحيل التفكير فيها وتحقيقها والإنسان يكون حرّاً بقدر ما يريد حرية الإنسان في جماعة حرة.
«فلا وجود لحرية خارج الجماعة أي خارج العقل»[180].
بهذا يتحدد فهم الحرية لدى هيغل أنها عينية؛ بمعنى أنها لا تفارق الواقع وتعلو عليه، وإنما هي تجده معقولاً وتسلك إليه، وهذا الواقع محكوم بقوانين ينبغي عدم القفز فوقها[181].
«فللحرية مضمون موضوعي (المؤسسات)، ولها شكل (معرفة الفرد بأنه فاعل وحر يجد نفسه فيما ينجزه ويحققه)، فلا حرية إلا إذا كانت القوانين عقلية وقام الحق في ذاته قياماً مستقلاً، وإلا إذا كانت الحرية موضوعية متحققة أو واقعية مجربة؛ أي اتخذت صفة 'حرية الملكية'، و'حرية الشخص'، و'حرية العمل'؛ أي مقدرة المرء على استعمال قواه كما يشاء وحرية حصوله على المناصب الإدارية. وهذه القوانين العقلية لا تتحقق إلا بالدولة ذلك أنه حين تشكل الدولة أو الوطن مجتمعاً موجوداً، وحين تخضع إرادة الإنسان الذاتية للقوانين حينها يتلاشى التعارض بين الحرية والضرورة»[182]. فالدولة هي التحقق الفعلي للحرية. وجدير بالذكر أن هيغل قد أعاد فكرة المطابقة بين الذات والموضوع؛ فالذات تتجلى في موضوعها والموضوع هو عين الذات في تجلياتها وصيرورتها، فتصبح الذات موضوعاً لصفاتها والموضوع تجلياً للذات، وهو ما وسمناه بالكلية الواقعية.
مثلت رؤية هيغل حلاً وسطاً بين الرؤية الليبرالية التقليدية القائمة على مفاهيم الفردية، وبين الرؤية الجماعاتية التي ترى أن كل شيء يملكه الأفراد إنما يدينون به لمجتمعاتهم التي يمثلون جزءاً منها، وبذلك يبدون لا مبالين باعتراضات الأفراد المشروعة على مجتمعاتهم. وهو يرفض أي شكل من أشكال الديمقراطية التشاركية، ولكنه بالمقابل يقبل بالعديد من مؤسسات العالم الحديث كمؤسسات قادرة على ضمان الإجماع العقلاني بين المواطنين[183].
وفي نقده للوك وهوبز ونظرية الحقوق الطبيعية التي قامت على أساس أن ثمة حاجات للبشر سابقة لوجود المجتمع المدني. وبناء عليه، فإن هذه الحاجات تصلح لأن تكون لبنات أساسية تشيد على أساسها الحقوق الإنسانية، وهو ما وجد صياغته في عبارة مونتسكيو عن طمأنينة العقل التي تنشأ من رأي الفرد بأمنه[184]، كانت نقطة الانطلاق لدى هيغل لاشتقاق حقوق الملكية من موضع آخر، وهي الادعاء أن هدف الحق هو الحرية؛ الحقوق مستمدة من الإرادة الحرة، وليس من حاجات طبيعية تشتق منها حقوق أساسية؛ فالحقوق الأولى والأساسية هي حقوق الأشخاص، والأشخاص الموجودون في المقام الأول هم أصحاب الممتلكات، وهي نقطة انطلاق مؤسسة لمذهب الحقوق مفارقة بصورة لا تقبل التوفيق لما هو سائد من الانطلاق من بيان حقوق الإنسان الأساسية التي تستمد منها حقوق الملكية[185].
وعلى الرغم من إعجاب هيغل بهوبز الذي طالما نظر إليه كثوري؛ بسبب رؤية هوبز للدولة كخيار فعال نفرض به إرادتنا على الطبيعة التي لم تعد منظمة بشكل نفعي لغايات البشر، ولم تعد -بناء على هذا- قادرة على منح البشر أرضية لأي التزام سياسي[186]. وأصبحت كذلك لا مبالية، وربما معادية للبشر، وخالية مما يسميه نيتشه الراحة الميتافيزيقية؛ ولذلك فهي شيء يمكن غزوه[187]. فإن نقد هيغل للنظرية التجريبية للحقوق يقوم على الصعوبة التي تعترض الأخيرة في الفصل بين الضروري والعارض من دون إدخال افتراضات غريبة:
«تفتقر التجريبية إلى المعيار اللازم لرسم الحدود بين الضروري والعارض»[188] ويؤكد هيغل أن هوبز يحوّل الحاجات المعطاة تجريبياً إلى ملزمة، وهو تحويل لها لا يقوم على دليل، ولا يسوغه تبرير منطقي[189].
وعلى الرغم من أن نظرية الحقوق الطبيعية تصبح في نظر هيغل واعدة أكثر مع كانط وفيتشه[190]، ولكن شكليتهما تجعلهما في مرمى سهام نقده الذي يكاد يكون تعميقاً لنقد روسو لكل من هوبز ولوك[191]؛ فقد أشاد هيغل بروسو؛ بسبب الإعجاب بمبدأ الإرادة كمبدأ للدولة، فالتحرر من السببية الطبيعية هي ما يميز الإنسان[192].
بينما ينظر هيغل إلى أن لوك وهوبز وروسو قد أخفقوا في إدراك أن مصدر الحق ينبغي أن يكون في المساواة غير المحكومة بقوانين الطبيعة[193]. وقد كان فهم هوبز لها أنضج، ولكنه لم يكن كاملاً؛ فهوبز الذي جعل الإرادة أساس كل التزام فشل في التمييز بين الإرادة والطبيعة؛ ولأجل هذا حول وظيفة الإرادة إلى شهوة للتأمل، وهو ما يجعلها غير قابلة للانفكاك عن قوانين السببية الطبيعية وعاجزة عن تحقيق الحرية[194].
والنجاح النسبي الذي حققه كانط في وضع صياغة شكلية محضة للإرادة مكنت من التأكيد الحصري للأبعاد الداخلية للفعل قد نتجت عنه مفارقة تتمثل في ربط الإرادة بالخير المطلق، وهو ما يعيق تمديدها إلى العالم الخارجي للفعل وللمجتمع المحكومين بقوانين طبيعية سببية في لا مبالاة بالاستحسان أو الاستقباح الأخلاقيين. إن شكلانية كانط التي اشتقت أصلاً من التجرد من كل الغايات؛ من أجل العثور على إرادة وقدرة على الاختيار تمثلان العقل العملي هي التي تميز الإنسان عن الكائنات الخاضعة للسببية الطبيعية، فما يميز الكائنات الأخلاقية هو قدرتها على صياغة قوانين تعيش وفقها، وهو ما يثبت كرامة الإنسان وسموّه، وما يشكل تالياً الأساس الصحيح للحق.
وقد أوضحنا شمولية القانون الأخلاقي الكانطي الذي تقود إليه هذه الشكلانية، فلا شيء يمكن تأكيده أو إنكاره، وكل ما هو ثمة مبدأ تصرف يمكن أن يجعل التصرف قانوناً شاملاً، وهو ما يضفي على الفعل الأخلاقي كونية وتجريدية شبيهتين بكونية وتجريدية القوانين الطبيعية الحاكمة للعالم المادي[195].
تمثل رؤية كانط -في نظر هيغل- هذه شكلانية فارغة لا يمكن أن يشتق منها أي مبدأ مهم للواجبات، وإن قصارى ما تصل إليه هو التحول إلى وعظ أخلاقي عن الواجب من أجل الواجب. ولأجل توضيح اتهامه هذا يناقش هيغل مثال كانط الشهير عن الموصى له الذي ترك له الوصي ثروة لا يحتاج ورثته الأغنياء إليها، ولا تشكل بالنسبة إليهم أي فرق، وكان الموصى له في أمسّ الحاجة بعد أن خسر ماله لأسباب خارجة عن إرادته، فهنا يطبق كانط القانون الأخلاقي الشامل الذي يقوم على أن كل هذه الحيثيات لا تسمح باختلاس الوديعة من الورثة؛ لأن ذلك إذا حصل سيفقد البشر الثقة ببعضهم.
فاختلاس الودائع إذا ضمن المختلس عدم إلقاء القبض عليه، ومع وجود الظروف المذكورة سيكون تصرفاً يفضي تعميمه إلى تناقض؛ لأنه سيدمر شروط الثقة، وهو مثال يناقشه هيغل بالقول: إن هذه الشمولية يمكن أن تضمن فقط التناسق أو عقلانية الفعل بصرف النظر عن أي وقائع. ولكن ماذا لو كان العالم بلا ملكية؟ سيسقط استدلال التناسق هذا الذي لا يقوم إلا إذا افترضنا أن الآخرين يحترمون ملكيتنا، ويحرصون على إعادة ودائعنا، ولا أحد يضمن هذا. ومن هنا فإن مبدأ التعميم الكانطي يمكن أن يكون وسيلة لكشف النفاق الأخلاقي، لكنه ليس ذا جدوى ضد الفاعل الشرير[196].
إن رؤية هيغل تتضح بشكل أكبر إذا علمنا أنها ذات شقين:[197]
الأول: أن الأمر القطعي الكانطي غير قادر على إثبات شرعية المؤسسات الموجودة، فهو في أحسن أحواله يمكن أن يميز أنواع الأفعال المستبعدة، إذا كان ثمة فرض مسبق أن ثمة مؤسسات معينة، وهو ما يجعل كانط في نظر هيغل بهلوانياً يستخدم خفة اليد، لكي يذر العالم السياسي الاجتماعي على حاله، وهي محافظة كانطية متجذرة وكامنة.
والثاني: أن تفضيل كانط للاتساق المطلق على عكس الاعتدال والتسوية يخفي تعصباً أخلاقياً؛ لأن جعل الأخلاق حاكمة على السياسات تفرز أحياناً نوعاً من التطرف الذي يتجسد في استبعاد السياسات القائمة على التوفيق الحصيف بين المصالح.
باختصار يعتقد هيغل أن مشكلة مقاربة كانط الشكلانية للحقوق تشتق من محاولته تحديد منطق الحرية الإنسانية بعيداً عن نظام الطبيعة، فتقييد الحرية بفعالية الإرادة فقط يغفل أن العالم لا يحوي إرادات غير مشروطة، وإنما أفعالاً تشكل سلسلة روابط متداخلة في سلسله لا نهائية من الأسباب.
ويعبر نيتشه عن فكرة هيغل الرافضة لحصر الحرية في العالم النوميني بقوله:
«الجوهر الداخلي للإرادة الطيبة لا يمكن رؤيته من الخارج؛ وإلا قد يأتي يوم ينهار فيها من دون أن يلاحظ أحد غيابه كما لم يلاحظ أحد حضوره»[198].
دافع هيغل عن الثورة الفرنسية، وعبر في محاضراته في فلسفة التاريخ أن الثورة قد أثبتت صحة ما يذهب إليه، وهو حق العلم والفلسفة في إعادة بناء العالم، وأن هذه الثورة تثبت عملياً ما أثبته فلاسفة التنوير في النظرية. كانت الثورة الفرنسية الإثبات العملي لمبادئ فلاسفة الحق الطبيعي؛ لأن هذه المبادئ القائمة على حق الناس أن يكونوا أحراراً، لكي يشيدوا مؤسساتهم بما يتوافق مع ما تمليه عقولهم قد تجسدت في هذه الثورة[199].
وهو ما فسر سرور كانط بها، على الرغم مما جرته من ويلات تجعل كل عاقل لا يفكر في تجريبها مرة أخرى، إلا أنها أثبتت أن الفعل السياسي يمكن أن يقاد بسبب أخلاقي بدلاً من المصلحة الذاتية، ولكن قتل الملك كان في نظر كانط خطيئة أخلاقية لا تكفي كلمة جريمة لوصفها، فقد انتهكت أي معنى للحقوق. ولهذا فضل كانط الإصلاح من الأعلى، وعدّ الملوك الحاليين هم الأجدر بقيادة مسيرة الإصلاح[200].
وقد انتصر هيغل للكانطية كنظرية وجدت تطبيقها على السياسات من خلال الثورة الفرنسية؛ لأنها برهنت على حقوق الإنسان[201]. وكتب هيغل إلى شيلنغ قائلاً: «إن الجمهور قريب من المطالبة بمعاملته بكرامة واحترام، وإن استيقاظه على ضرورة التفكير بما ينبغي بدلاً من الانشغال بما هو قائم قاب قوسين أو أدنى، وقد أسرف في تفاؤله عندما كتب أنه يتوقع اندلاع ثورة في ألمانيا»[202].
ولم يجعله رأيه بعظمة اللحظة التي مثلتها الثورة الفرنسية كواحدة من أعظم اللحظات في التاريخ الحديث يغفل عن النتائج العدمية والمأساوية لهذه الثورة التي انبثقت في رأيه من الذاتية الفلسفية، حيث يقول هيغل إن النظام القديم هو ثقافة في الانفصال بين ما تقوله وما هو موجود في الواقع، ولكن هذا الانفصال قد تعمّق عندما تحولت أخلاقيات الإقطاع القائمة على النبالة والشرف إلى أخلاقيات نفاق وغزل وإطراء ومجاملات، وعلى حد تعبيره استبدلت ببطولة الخدمة التي كان الإقطاعي فارسها بطولة الإطراء والتملق[203].
لا شك بأن هيغل مدين في وصفه هذا للنظام القديم لمونتسكيو الذي رأى أن مشاعر الشرف تميز طبقة الإقطاع، ولكن هيغل تجاوز مونتسكيو بكشفه لتحول هذه السمة إلى قبول بالدعة واستمراء للراحة والمتعة[204]. فقد استحال الأرستقراطي الفخور الذي كان يسعى بتهور إلى النبالة والشرف، ولو بالتضحية بحياته إلى برجوازي لا يكلّ عن مراكمة المنافع والأملاك؛ لكي ينأى بوعيه عن الموت. ولقد مثل هذا التناقض بين الأرستقراطي المزدري للراحة، والبرجوازي الذي تصبغه صبغة الخوف من الموت بداية النهاية للنظام القديم[205].
ولقد نتج عن وعي البرجوازي هذا مطالبة بالحرية المطلقة من جميع القيود السابقة، حرية بلا سياق كما يصفها هيغل، توق عدمي إلى النسيان، أو حسب تعبير هيغل الأثير «حرية الفراغ» التي تتزامن مع الرغبة الجديدة في التحرر التام[206].
بدت الثورة الفرنسية لهيغل كمحاولة لإعادة تهيئة الظروف إلى الوئام الاجتماعي والسياسي، وهي بمحاولتها إسقاط العقائد الفلسفية على الواقع قد حددت غايتها بإزالة كل آثار الترانسندنتالية والعوالم المغايرة[207].
والمفارقة -حسب هيغل- أن ما طمحت إليه الثورة من تكريس للخير العام على حساب المصالح الخاصة، وتجذير مفهوم المواطن قد اضطرت إلى صناعته صنعاً؛ لأنه لا وجود له، ولم تجد وسيلة لتجسيد هذا الطموح عبر صنعه صنعاً إلا عبر العنف والإرهاب من خلال نفي سلبي جذري لما هو قائم[208].
فالإرادة العامة التي مثلت الأساس الشرعي الوحيد للحقوق ستفضي إلى عدّ جميع الاختلافات في المواهب زائفة، ولن تكتفي بإلغاء جميع التراتبيات الهرمية[209]، وسيجري إلغاء كل شيء لا يكون نتاجاً للإرادة العامة بما فيها الله، وبذلك ستكون ذروة الثورة هي رعب السلبية المطلق الذي تنتجه الإرادة العامة التي تدمر كل شيء، ولكنها لا تبني جديداً[210].
فكرة الإرادة العامة التي تحمل بذور التدمير فقط هي أن الإنسان يكون حراً فقط عندما يطيع القوانين التي يضعها بنفسه، ولكن بما أن الإرادة العامة نتيجة قرار جماعي، فهي مستحيلة التحديد بجهد فردي؛ لأن كل شخص يرغب في أن يكون حراً عليه أن يشارك على الأقل في صنع القرار، ولا معنى لتفويضه شخصاً آخر لفعل ذلك[211].
ولكن ما يخلص إليه هيغل -والذي يوضح ما تنطوي عليه فكرة الإرادة العامة من قابلية للتدمير- هو أن الحرية تتحقق عندما يكون ثمة إجماع للإرادات، وهذا الإجماع ينتج فوضى باحتمال أكبر بكثير من إنتاجه مجتمعاً؛ لأن كل فرد سينظر إلى نفسه كمطلق مما يفقد البحث عن اتفاق كوني معياره الذي يضمن شرعية النتيجة.
وما تفعله المؤسسات التمثيلية أو الحكم من طرف الأكثرية لن يكون في نظر الأفراد إلا انتهاكاً لحقوقهم غير القابلة للتصرف في التشريع الذاتي من أجل طاعة قوانين من صنع الفرد، وهو ما سينتج عنه حتماً نزاع دائم بين الشعب وحكومته التي ستكون في نظره ممثلة إرادة خاصة تحول بينه وبين مصالحه الحقيقية[212].
إن العجز عن توليد مجتمع سياسي مستقر نسبياً مرتبط في نظر هيغل بمبدأ الذاتية بمعنى أن إفراغ الإرادة من محتوياتها التجريبية أو الطبيعية سيجعل ضامن وثوقيتها هو النقاء الداخلي أو اليقين الذاتي، وسينتج عن هذا التعويل على الإخلاص في النية كجوهر للفضيلة وكمعيار لقيمة العمل أن الحكم على العمل لن يكون بدالة نتيجته وإنما بالحكم على مكنونات القلب[213]. ومن خلال اتخاذ نقاء الفرد معياراً للحق السياسي، ستصبح سياسة الثورة بحثاً لا ينقطع عن المنافقين الذين يخصفون على عورات غاياتهم الخاصة قشرة الفضائل العامة[214].
أصبح النفاق أعظم الرذائل، وأصبحت الرغبة في استئصاله هدفاً، تقول حنة أرندت إنه مستمد من تشبيه الثورة بكاشفة القناع؛ من أجل البحث خلف المجتمع الفرنسي الفاسد عن الإنسان الطبيعي غير الفاسد[215]. هذا الإنسان الطبيعي كان من اختراع روسو الذي يصفه بأنه إنسان شريف غير فاسد تحول إلى فاسد بفعل التاريخ والمجتمع[216]. وقد انصبّ ازدراء روسو على نوع معين من الإنسان التاريخي، وهو البرجوازي الحديث الذي يتملكه حب الذات، ويهيمن على قلبه الشغف بالمظهر ويستغل الآخرين لإرضاء رغباته التي لا حدود لها[217]. إنه -حسب روسو- نمط مغاير للإنسان الطبيعي، فهو خلاف ما يبدو عليه، وهو كذلك يلعب الدور الأكثر سوءاً، وهو دور المنافق. وسعياً من الثوريين لإحياء إنسان روسو الطبيعي، فقد دأبوا على محاولة إعادة صياغة المجتمع برمته[218]. وقد أطلق هذا السعي موجة إرهاب غير مسبوقة انتهت -ويا للمفارقة- بشك الثوريين بأنفسهم وبتحقق نبوءة التهام الثورة لنفسها:
«افتقار روبسبير إلى الثقة بالآخرين حتى أقرب أصدقائه نتج عنه شكوك بنفسه وقد حصل هذا؛ لأنه كان مجبراً بدافع قناعاته عن الفضيلة على تمثيل دور المترفع عن الفساد في الأماكن العامة كل ما ظهر، وعلى استعراض فضيلته، والكشف عن مكنونات قلبه مرة في الأسبوع على الأقل، وهو ما جعله يتساءل كيف يمكنه التأكد من أنه لم يكن الشيء الوحيد الذي يخشى أن يكونه وهو المنافق»[219].
إذن، كانت خصخصة الفضاء العام معضلة كفيلة بالقضاء على الوسائل الممكنة لتحقيق الانسجام بين حرية الإرادة الفردية والحرية العامة ما عدا وسيلة القوة والإلزام؛ فبما أن الناس ليسوا فضلاء، فإنهم يجب أن يجبروا على أن يكونوا أحراراً.
كان حلّ روسو -الذي لم يلق صدى لدى هيغل- من أجل إثبات صحة فكرة الإرادة العامة من خلال إشراك الجميع في عملية صنع القرار؛ وذلك ليس لأن ثمة صعوبة عملية تحول دون ذلك حتى في مدينة صغيرة نسبياً، وإنما لأن مشاركة كل مواطن في المداولات العامة التي يفترض أن تنشئ مجتمعاً تفترض مجتمعاً مسبقاً. وكانت إجابة روسو هي اللجوء إلى شخصية شبه أسطورية للمشرع تشبه شخصية ثيسوس[220]، وهي شخصية قادرة على خلق شعب فعلي[221].
على عكس منظري الحقوق الطبيعية، كان رأي هيغل أن الدول أسست بجهود رجال عظماء، وكان واضحاً أن الأنموذج الماثل في ذهن هيغل هو نابليون كمرمم للدولة التي ذابت وتشظت في أتون الاضطراب الثوري.
تحتاج الدول التي تقودها حكومة دستورية قائمة على أساس القانون وتقسيم المجتمع إلى نطاقات عامة وخاصة إلى قائد بسلطة رهيبة[222]. وبينما قام مفهوم الحياة الأخلاقية لأسلاف هيغل والمفهوم الكانطي تحديداً على افتراض وجود أفراد متساوين مجردين من الأدوار السياسية والاجتماعية، تبنى هيغل مفهوماً مغايراً يقوم على أن الأخلاق تشير إلى فضيلة لا تتبلور إلا بالانتماء إلى مجتمع محدد. فالأخلاقيات لا تترادف مع خيار عقلاني، وإنما هي تشير إلى القوانين الفعلية والمؤسسات القائمة والأعراف؛ فعلى الرغم من ادعاء النظريات الأخلاقية الفردية والعقلانية لأسلاف هيغل التحدث بشكل كوني ولا تاريخي، فإن الحقيقة أن هذه النظريات الأخلاقية تفترض مسبقاً سياقاً اجتماعياً[223].
ويثني هيغل على مونتسكيو الذي قدم مقاربة قريبة لمقاربة هيغل، ولكنه اتبع منهجاً وصفياً تجريبياً في وصف العادات والتقاليد، بينما عمد هيغل إلى تحديد القواعد التي يجب أن يتبعها المجتمع؛ لكي يكون مجتمعاً أخلاقياً عقلانياً، وعدّ هيغل أن مونتسكيو -على الرغم من سبقه- لم يتمكن من الانعتاق من أسر الفردية المنهجية[224]، بينما استطاع هو أن يتخذ الخطوة الجريئة المتمثلة في استشراف العقلانية ليس للأفراد فحسب، وإنما للمؤسسات، وهي عقلانية ترسم إطار العمل الأخلاقي[225].
لا ينكر هيغل القانون الطبيعي، ويظل يعمل ضمن أنموذجه الإرشادي مقترباً تارة ومبتعداً تارة أخرى مع الأخذ بالحسبان تقسيم المجتمع إلى مجال عام ومجال خاص. يهدف الأول إلى الحفاظ على الحياة، ويسعى الثاني إلى تحقيق ظروف الحياة الجيدة التي توجهها الفضائل. وتخدم الأسرة في التقسيم المذكور غايات الضرورة، بينما تنشأ المدينة خارج نطاق الضرورة، فتخدم أهدافاً أعلى للنبالة والشرف والامتياز.
ومن هنا، نجد أن ديكارت وكانط وهيغل -على الرغم من فروقات بينهم- قد طوروا مفهوم الذات الذي كان يتجلى سياسياً في مفهوم الرعية الخاضعة للحاكم إلى مفهوم فاعل يؤسس للذات الحرة المشرعة لذاتها التي تتجلى في مفهوم المواطن. وإن كان الثلاثة ينطلقون من ذات تدرك المواضيع في انفصال عن الشروط الموضوعية التي تؤسسها تأويلات الجماعة للرموز السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
رابعاً- أزمة الليبرالية الكلاسيكية
عرفت الليبرالية الكلاسيكية في نهاية القرن التاسع عشر أزمة كبيرة، بدا تحت وطأتها أن الأفكار الليبرالية التي تم ابتسارها بــــ 'سياسة 'دعه يعمل' من طرف الحكومات المحافظة عاجزة عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية؛ الأمر الذي اضطرها إلى إعادة هيكلة نفسها بين عامي 1880 و1920 في أنموذج حديث قام على تعزيز المعتقدات الأساسية، إضافة إلى تعميم وتعزيز مبادئ تتعلق بالحرية الفردية وقيم المسؤولية الاجتماعية والتضامن والمساواة والصالح العام.
كان العيب الرئيس الذي تسبب في تراجع الليبرالية الكلاسيكية هو «عدم قدرتها على الإحاطة بالنسبية التاريخية؛ فالفرد هو عبارة عن ذرة (حسب مفهوم نيوتن) على علاقة خارجية مع باقي الأفراد. هذا الشكل من الليبرالية تحول وأنتج ليبرالية زائفة، لتصبح بذلك فلسفة: 'دعه يعمل' تعبر عن منطق وقانون طبيعيين»[226].
شهدت نهاية القرن التاسع عشر تراجعاً لليبرالية الكلاسيكية التي هيمنت في بدايته، فانقسم الحزب الليبرالي الإنجليزي إلى:
- ليبراليين محافظين أو الويغز، وهم أرثوذكسيو حرية التجارة.
- ليبراليين معتدلين.
- ليبراليين راديكاليين الذين دعموا التشريعات الاجتماعية التي ستبصر النور عام 1906 بفضل دعم العمال ومساندة حكومة جورج لويد[227] الليبرالية.
وتصدر المشهد الحزب العمالي؛ ما جعل الاشتراكية تبدو على أنها الأيديولوجية السياسية الوحيدة المبشرة بالمستقبل[228].
وقد تسبب في أزمة الليبرالية الكلاسيكية مجموعة عوامل منها:[229]
- نمو الديمقراطية الانتخابية وانتشار الاقتراع العام؛ الأمر الذي سبب لليبرالية ارتباكاً؛ كونها تعاني من ارتياب تقليدي في الديمقراطية.
- تحولات الرأسمالية الصناعية التي ترافقت مع استغلال للطبقة العاملة[230] ساهم في استقطاب حاد بين الطبقات لم تكن الليبرالية الكلاسيكية جاهزة للتعامل معه؛ لأنها كانت تتصور المجتمع كشركة قائمة على التعاون السلمي والتبادل الذي يصب في مصلحة الجميع هذا التصور المثالي تناقض مع وحشية رأسمالية القرن العشرين، وإن كانت الليبرالية في انجلترا بين عامي 1880 و1914 تغذي الصورة المثالية للرأسمالية ولوظيفتها مستخدمة نهجها الفردي التقليدي من دون إدراك للطبيعة الخطيرة للضغوطات التي تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات الكبيرة والمجتمع الرأسمالي التنافسي. وعندما أدركت هذه التحديات حاولت أن تواجه الصراع الطبقي[231] برعاية الطبقة العاملة التي كانت متروكة سابقاً للعمل التطوعي الخاص محاولة بذلك أن تجاري ما تفعله الرأسمالية والاشتراكية، ولكن إدراكها لهذه التحديات جاء متأخراً، ولم تنفع جهود ألفريد مارشال وأطروحات ريكاردو الخاصة بالمستوى المعيشي العادل للعمال في تأخير الأزمة التي دخلتها الليبرالية.
وقد تسببت الأزمة التي دخلتها الليبرالية الكلاسيكية في مجموعة تحولات في الفكر الليبرالي:[232]
الأول: هو بروز مفهوم جديد للفرد ومفهوم جديد كذلك لحقوقه الطبيعية الــــ ما قبل اجتماعية، وكان ذلك تحت تأثير هيغل؛ لأن من أهم دروس فينومينولوجيا الروح هو أنه من المستحيل فصل التنمية الشخصية عن التنمية الاجتماعية، وطبعاً لا يخفى تأثير هيغل المتضمن إدخال التاريخية في الفكر الليبرالي، والتي وسمت بميسمها الليبرالية الجديدة، كما برز مفهوم جديد للحرية كان رائده توماس هل غرين الذي وضع الفرق الشهير بين الحرية السلبية كاستقلالية من القيود، والحرية الإيجابية القائمة على الاستقلالية الذاتية وعلى حرية الفعل والحركة، وهو فارق حاسم ودقيق؛ لأن العوائق التي تواجه الحرية لا تتشابه في الحالتين، فبينما تمثل السلطة الاستبدادية والسياسية والدينية العائق في حالة الحرية السلبية، يمثل غياب وسائل الفعل والقدرة على إنجاز ما يصبو إليه المرء في حياته العائق في الحالة الثانية. وعليه، فإن المرء سيظل يعاني من نقص في الحرية ما لم تتوفر شروط اقتصادية اجتماعية ضرورية لتطوره مثل التربية والصحة والسكن والتعليم.
من هنا، فإن تحرير المواهب الفردية ومساعدتها على تنمية ذاتها من أجل الخير العام هو ما تهدف إليه الليبرالية الحديثة، وهو الكفيل بمواجهة الامتيازات الاجتماعية للولادة والنشأة والوضع الاقتصادي الموروث.
التحول الثاني الأكثر إثارة: هو المتعلق بمفهوم الدولة، فبينما كان تدخل الدولة في الليبرالية الكلاسيكية لعنة يجب حماية الأفراد من عسفه واعتباطيته، راهنت الليبرالية الحديثة على قدرة الدولة على التصرف لمصلحة الجميع وأصبحت هي المعول عليها في تحقيق الرفاهية، وهو ما يجعل الليبرالية بعد الكلاسيكية سلف دولة الرفاه الاجتماعي.
استدعت الليبرالية الحديثة الدولة للتدخل في المجال الاقتصادي لتدجين الإفراط السلبي للرأسمالية والسوق، وهو ما أوحى لكينز بالكثير من أفكاره، كما طولبت الدولة من طرف الليبرالية الحديثة بالتدخل في المجال الخاص والمجتمع المدني كالصحة والتعليم، البطالة، علاقات العمل ونقابات العمال، وهو ما استدعى تخلياً عن العقيدة الليبرالية التي ترفض مبدأ تفويض السلطات وسمح بظهور وكالات إدارية مستقلة تقع تحت إدارة السلطات التنفيذية مثل الضمان الاجتماعي في كل من فرنسا وإنجلترا ومؤسسات إدارة وضبط أسواق المال في الولايات المتحدة.
أما التحول الثالث فهو: المتعلق بالديمقراطية حيث يمكن رؤية دمقرطة الليبرالية ولبرلة الديمقراطية التمثيلية؛ فقد كان ديدن الليبرالية الكلاسيكية الخوف من الديمقراطية التي ارتبطت في الأذهان باستبداد الأكثرية أكثر من ارتباطها بتطور الحريات.
نظرت الليبرالية الحديثة إلى الديمقراطية ليس على أنها حكم الشعب من الشعب، وإنما حكم الشعب من أجل الشعب، وهكذا يصبح بالإمكان لبرلة الديمقراطية بتنقيتها من أبعادها الشعبوية والديماغوجية وعدّها الوسيلة الفضلى لتحقيق قيم الليبرالية.
هذه الأزمة التي لم تجد معها المحاولات السابقة، حرّضت على اجتراح حلول أكثر تبصراً بواقع التحديات التي يطرحها الصراع الطبقي ونمو الديمقراطية الانتخابية، وفي هذا السياق تندرج محاولة جون ستيوارت مل.
[1] - Alan Ryan, op.cit., p. 168
[2]- Ibid.
[3]- Ibid., p. 165
[4]- Ibid.
[5]- Ibid., p. 166
[6]- Ibid.
[7]- Ibid.
[8]- Ibid.
[9]- Ibid., p.167
[10]- Ibid., pp. 168- 169
[11] - Ibid.
[12]- Ibid., p. 170
[13]- Ibid.
[14]- Ibid.
[15]- Ibid., p. 172
[16]- Thomas Hobbes, Leviathan, Edited by C. B. MacPherson (New york: 48, Penguin, 1985), p. 117
[17]- Alan Ryan, op. cit., p. 171
[18] - op. cit., 120
[19] - نلاحظ التشابه الكبير بين هذه الفكرة الهوبزية، وبين جواز إمارة المتغلب في الفقه السياسي الإسلامي.
[20]- Ibid., p. 141
[21]- Ibid., p. 142
[22]- Ibid., p. 216
[23]- Ibid., p. 127
[24]- Ibid., p. 231
[25]- Op.cit., 179
[26]- Ibid., p. 180
[27]- Ibid.
[28]- Leviathan, op. cit., p. 149
[29]- Ibid., p. 145
[30]- Ibid., p. 152
[31]- Op.cit., p.181
[32]- Ibid., p.182
[33]- Ibid.
[34]- Thomas Hobbes, Leviathan, op. cit., p. 150
[35]- Ibid., p.183
[36]- Ibid., p.190
[37]- Ibid., p.202
[38] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص. 161
[39] - انظر إمام عبد الفتاح إمام، توماس هوبز: فيلسوف العقلانية، ط1، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985، ص.ص. 287- 288
[40] - المرجع نفسه، ص. 31
[41] - المرجع نفسه، ص. 224
[42] - آدم سميث (1723- 1790) فيلسوف واقتصادي إنكليزي، يعد أبا الاقتصاد الحديث، وقد عرض نظريته الاقتصادية في كتابه الشهير: «ثروة الأمم» الذي شجع فيه المبادرة الفردية والمنافسة وحرية التجارة.
[43] - هنري برغسون (1859- 1941)، فيلسوف فرنسي يعد من أهم الفلاسفة في العصر الحديث، حاول أن ينقذ القيم التي خشي من أن يطيح بها المذهب المادي، اشتهر بنظرية التطور الخلاق، فبالنسبة إليه الوجود الواعي لا يكون إلا بالتغير والتغير يعني النضج والنضج يعني الخلق المستمر.
[44] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص.. 170- 215
[45] - المرجع نفسه، ص.ص. 171- 172
[46] - جون لوك، مقالتان في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، ط1، بيروت: اللجنة الدولية لترجمة الروائع، 1959. ص.ص. 140- 141
[47] - تايلور، منابع الذات، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2014، ص.ص. 268- 269
[48] - جون لوك، مقالتان في الحكم المدني، مرجع سابق، ص. 20
[49] - غروتيوس (1583- 1645)، قاض هولندي ساهم في وضع أسس القانون الدولي اعتماداً على الحق الطبيعي.
[50] - انظر نيس لويد، فكرة القانون، ترجمة سليم الصويص، ط1، الكويت: عالم المعرفة، 1981، ص. 67
[51] - المرجع نفسه، ص. 68
[52] - المرجع نفسه، ص. 71
[53] - توما الأكوينيي، (1225- 1274): راهب وفيلسوف إيطالي تنسب إليه مدرسة فكرية تشمل اللاهوت والفلسفة تسمى: «التوماوية»..
[54] - نيس لويد، فكرة القانون، مرجع سابق، ص. 71- 75
[55] - المرجع نفسه، ص. 76
[56] - مارسيليوس البادوي، (1275- 1342): فيلسوف إيطالي يعد من الشخصيات المهمة في سياسة القرن الرابع عشر، أهم اعماله هو كتابه الذي ناقش فيه سلطة البابا الزمنية الذي سبب له عداوة الكنيسة.
[57] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص.116
[58] - نيس لويد، فكرة القانون، ص. 78
[59] - المرجع نفسه، 78
[60] - جون لوك، مقالتان في الحكم المدني، مرجع سابق، ص.26
[61] - المرجع نفسه، ص. 25
[62] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص. 172
[63] - المرجع نفسه، 280.
[64] - انظر الطيب بو عزة، نقد الليبرالية، القاهرة، تنوير للنشر والإعلام، 2013، ص.ص. 63- 64
[65] - المرجع نفسه، ص. 245
[66] - جون لوك، مقالتان في الحكم المدني، مرجع سابق، ص. 16
[67] - انظر الطيب بو عزة، نقد الليبرالية، مرجع سابق، ص. 58
[68] - المرجع نفسه، ص. 57
[69] - تجدر الإشارة إلى أن إنجلترا قد طورت دولة فعالة استطاعت فرض سلطتها خلال فترة قصيرة في القرن السابع عشر، ووحدت الفسيفساء الإقطاعية للحكومات المستقلة في كل واحد، وأن التراث الطويل من التنظيم الذاتي الاجتماعي ومقاومة الملكية المتعدية على الأملاك يعود في تاريخه إلى أن الغزو النورمندي قد تم توليفه مع ثقة جديدة للمصالح التجارية لتسيير شؤونها الخاصة بما لا يزيد على ضمانة الملكية في ظل القانون الأمر الذي أزاح الدولة الهوبزية.
[70] - انظر بارنغتون مور الابن، الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية، ترجمة أحمد محمود، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص.. 32- 35
[71] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص. 181
[72] - المرجع نفسه، ص. 179- 182
[73] - المرجع نفسه، ص. 194- 195
[74]- Adam Smith, An Inquiry into the nature and Causes of the Wealth of Nations, Edited by Kathryn Sutherland, Oxford World's Classics (Oxford; New York: Oxford University Press, 1993), p. 13
[75]- Ibid. p.18
[76]- Ibid. pp.120- 121
[77]- Ibid., p. 225
[78]- Ibid., pp. 291- 292
[79] - جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة عبد العزيز لبيب، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص.78
[80] - جون رولز، العدالة كإنصاف، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 24
[81] - جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة يونس غانم، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 110
[82] - المرجع نفسه، ص.100
[83] - المرجع نفسه، ص. 99
[84] - المرجع نفسه، ص. 117
[85] - المرجع نفسه، ص. 117
[86] - المرجع نفسه، ص. 64
[87] - المرجع نفسه، ص. 64
[88] - المرجع نفسه، ص.ص. 147- 148
[89] - جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص. 94
[90] - المرجع نفسه، 94
[91] - انظر فالح عبد الجبار، الاستلاب، (هوبز، لوك، روسو، هيجل، فويرباخ، ماركس)، ط1، بيروت: دار الفارابي، 2018، ص. 39
[92] - المرجع نفسه، ص. 47
[93] - جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص. 72
[94] - فالح عبد الجبار، الاستلاب، مرجع سابق، ص. 52
[95] - جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص. 140
[96] - المرجع نفسه، ص. 192
[97] - المرجع نفسه، ص. 143
[98] - المرجع نفسه، ص. 146
[99] - جون رولز، العدالة كإنصاف، مرجع سابق، ص. 27
[100] - المرجع نفسه، ص. 27
[101] - جون رولز، العدالة كإنصاف، مرجع سابق، ص. 24
[102] - بارنغتون مور الابن، الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية، مرجع سابق، ص. 77
[103] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص. 279
[104] - المرجع نفسه، ص. 280
[105] - اقتصادي ورجل دولة فرنسي كانت سياساته الاقتصادية سبباً أساسياً من أسباب اندلاع الثورة الفرنسية.
[106] - بارنغتون مور الابن، الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية، مرجع سابق، ص. 94
[107] - المرجع نفسه، ص. 94
[108] - المرجع نفسه، ص. 545
[109] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص. 236
[110] - المرجع نفسه، ص.ص. 104- 105
[111] - المرجع نفسه، ص. 100
[112] - بارنغتون مور الابن، الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية، مرجع سابق، ص. 91- 93
[113] - المرجع نفسه، ص. 146
[114]- See Tzvetan Todorov; Alice Seberry, A Passion for Democracy: Benjamin Constant, Algora, New York, 1999, p. 35
[115]- Ibid., p. 36
[116]- Ibid., p. 37
[117]- Ibid.
[118]- Ibid.
[119]- Ibid., p. 38
[120]- Ibid., p. 39
[121]- Ibid., pp. 40- 41
[122]- Ibid., p. 41
[123]- Ibid., p. 167
[124]- Ibid., pp. 168- 169
[125]- Ibid., pp. 169- 170
[126]- Ibid.
[127]- Ibid., p. 171
[128]- Ibid., p. 172
[129] - هو أحد الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية، كان له دور كبير في حرب طروادة، والتي دارت أحداثها بين الإغريق وأهل طروادة.
[130]- Ibid., pp. 171- 174
[131] - ألكسيس توكفيل، الديمقراطية في أمريكا، ترجمة أمين مرسي قنديل، القاهرة: عالم الكتب، 2015، ص. 180
[132] - المرجع نفسه، ص. 62
[133] - المرجع نفسه، ص. 85
[134] - المرجع نفسه، 212
[135] - المرجع نفسه، ص. 279
[136] - ألكسيس توكفيل، النظام القديم والثورة الفرنسية، ترجمة خليل كلفت، ط1، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010، ص.48
[137] - إن المحور الذي تحدثنا عنه كأحد محورين للحداثة وهو محور ارتباط الذات بالمعرفة في انفصال عن نظام المعرفة الأرسطي المسيحي إنما أخذت إحداثياته نسقها على يد كانط الذي مزج بين أطروحتين كانتا سائدتين: أطروحة عقلية تعد المعرفة ممكنة فقط عن طريق العقل وأطروحة تجريبية ترى المعرفة غير ممكنة إلا عن طريق التجربة.
[138] - انظر كانط، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص. 94
[139] - انظر مايكل ج. ساندل، الليبرالية وحدود العدالة، ترجمة محمد هناد، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 42
[140] - المرجع نفسه، ص. 43
[141] - المرجع نفسه، ص. 43
[142] - المرجع نفسه، ص. 43
[143] - المرجع نفسه، ص. 44
[144] - المرجع نفسه، ص. 45
[145] - المرجع نفسه، ص. 46
[146] - كانط، نقد العقل العملي، مرجع سابق، ص. 129
[147] - المرجع نفسه، ص. 81
[148] - المرجع نفسه، ص. 29
[149] - كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، كولونيا، ألمانيا، منشورات الجمل، 2002، ص. 166
[150] - المرجع نفسه، ص. 136
[151] - المرجع نفسه، ص. 83
[152] - المرجع نفسه، ص. 150
[153] - المرجع نفسه، ص. 155
[154] - كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مرجع سابق، ص. 107
[155]- lmmanuel Kant, ((On the Common Saying: 'This May Be True in) Theory, but it Does not Apply in Practice) in: Kant, Kant: Political Writings, Edited with an Introduction and Notes by Hans Reiss, Cambridge university press, 1970, p. 73
[156]- Ibid., pp. 75- 76
[157]- Ibid.
[158]- Ibid., 77
[159] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص. 227
[160]- Op.cit., pp. 75- 76
[161]- Ibid., p. 74
[162] - جون إهزنبرغ، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص. 229
[163] - المرجع نفسه، ص. 230
[164] - المرجع نفسه، ص. 224
[165] - انظر محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيجل، ط1، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008، ص.. 47- 54
[166] - المرجع نفسه، ص. 17
[167] - المرجع نفسه، ص. 268
[168] - المرجع نفسه، ص. 287
[169] - هيجل، العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ط3، بيروت: دار التنوير، 2007، ص. 89
[170] - محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيجل، مرجع سابق، ص.ص. 312- 313
[171] - المرجع نفسه، ص. 314
[172] - المرجع نفسه، ص. 314
[173] - المرجع نفسه، ص. 314
[174] - المرجع نفسه، ص. 315
[175] - فريدريك هيجل، أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، دار التنوير، الطبعة الثالثة، 2007، ص. 271
[176] - المرجع نفسه، ص. 271
[177] - محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيجل، مرجع سابق، ص. 316
[178] - المرجع نفسه، ص. 316
[179] - المرجع نفسه، ص. 316
[180] - المرجع نفسه، ص. 316
[181] - إن الكليّ النظريّ الواقعيّ (من حيث ماهيته) يوحّد بين العقل والوجود، ولكنه يصبح جدلياً مثالياً، أو جدلياً مادياً عندما يدخل التفاعل بينهما، فإذا تغلب العامل العقلي كان مثالياً جدلياً هيغلياً في الأفلاطونية المحدثة الألمانية، وإذا تغلبت المادة صار مادياً جدلياً ماركسياً في هذه الأفلاطونية. ومن السهل التدليل على انتساب كل من هيغل وماركس إلى الأفلاطونية المحدثة؛ فتغليب العامل العقلي أو الروحي لدى هيغل هو عينه تقديم المثل المفارقة الافلاطونية، وتغليب المادة لدى ماركس هو عينه تقديم الصور المحايثة الأرسطي.
[182] - المرجع نفسه، ص. 318.
[183]- See Steven B. Smith, Hegel's Critique of Liberalism, The American Political Science Review, Vol. 80, No. 1 (Mar., 1986), p. 123
[184]- See Montesquieu, Baron de. 1949. The Spirit of the Laws. Thomas Nugent, trans. New York: Hafner, p. 15
[185]- Alan Ryan, op. cit., p. 544
[186]- See Hegel, Lectures on the History of Philosophy. 3 vols. E. S. Haldane and F. H. Simson, trans. London: Routledge & Kegan Paul, 1955, p. 92
[187]- Steven B. Smith, op.cit., p. 124
[188]- Ibid., p.125
[189]- See Hegel, On the Scientific Ways of Treating Natural Law. T. M. Knox, trans. Philadelphia, University of Pennsylvania Press, 1975, p. 64
[190]- Ibid., pp. 70
[191]- See Hegel, political Writings, T. M. Knox, trans. Oxford: Clarendon Press1964, pp. 213- 20.
[192] - فريدريك هيجل، أصول فلسفة الحق، مرجع سابق، ص ص. 156- 157
[193]- Steven B. Smith, op.cit., p.125
[194]- See Hobbes, Leviathan. Michael Oakeshott, ed. London: Macmillan, 1977, p. 54
[195]- Ibid.
[196]- See Hegel, On the Scientific Ways of Treating Natural Law, Translated by T. M. Knox, University of Pennsylvania Press, Pennsylvania, 1975, p. 77
[197]- op., cit., pp. 127- 128
[198]- Nietzsche, Friedrich, The Use and Abuse of History. Adrian Collins, trans. Indianapolis: Bobbs- Merrill, 1957, p. 26
[199]- See Hegel, The Philosophy of History. J. Sibree, trans. New York: Dover, 1956, p. 447
[200]- See Kant, Political Writings. H. B. Nisbet, trans. Hans Reiss, ed. Cambridge: Cam bridge University Press, 1977, p. 145
[201]- Steven B. Smith, op.cit., P. 129
[202]- Op.cit., p. 129
[203]- See Hegel, The Phenomenology of Mind, J. B. Baille, trans. London: George Allen & Unwin, 1966, p. 527
[204]- Ibid., p. 130
[205]- Ibid.
[206] - محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيجل، مرجع سابق، ص. 314
[207]- Op. cit., p.131
[208]- Ibid.
[209]- The Phenomenology of Mind, p. 601
[210]- Ibid., p. 608
[211]- Op. cit., p. 131
[212]- The Phenomenology of Mind., pp. 605- 06
[213]- Ibid., p. 391- 400
[214]- Op., cit, p.132
[215]- See Arendt, Hannah, On Revolution. New York: Viking Press, 1965, pp. 91- 104
[216] - جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مرجع سابق، ص. 173
[217]- Op., cit, p. 132
[218]- Ibid.
[219]- Arendt,1965, p. 92
[220] - الملك الأسطوري والبطل الذي أسس أثينا يطلق على دوره في التاريخ بــــ «التحول الثقافي الكبير».
[221]- Ibid., p. 133
[222]- Ibid.
[223] - فريدريك هيجل، أصول فلسفة الحق، مرجع سابق، ص. 105- 108
[224] - هي وجهة النظر التي تفيد بأنه يمكن فقط فهم الظواهر الاجتماعية، من خلال دراسة كيف تنتج عن دوافع وتصرفات من عوامل فردية.
[225]- Op., cit, p.134
[226] - كاترين أودارد، التطور التاريخي لليبرالية الكلاسيكية، ترجمة ميشيل أ. سماحة، 2013، https://www.lebanese-forces.com/2013/07/07/new-liberalism-2-4/
[227] - رجل دولة وسياسي ليبرالي بريطاني، يشتهر بأدواره في تعبئة الموارد البريطانية في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم قيادة بريطانيا للانتصار على ألمانيا.
[228] - كاترين أودارد، التطور التاريخي لليبرالية الكلاسيكية، مرجع سابق، https://www.lebanese-forces.com/2013/07/07/new-liberalism-2-4/
[229]- المرجع نفسه، https://www.lebanese-forces.com/2013/07/07/new-liberalism-2-4
[230] - جاء في إحدى العرائض المؤرخة عام 1848 ما يلي «هنالك مراقبون لا وجدان لهم ولا ضمير يسومون العمال والعاملات المكلفين بأشغال القسوة الفاحشة بحيث إن عدداً كبيراً منهم يقضون نحبهم تحت الضرب المبرح».
[231] - كتب أحد المعلقين على أثر الفتنة التي اندلعت عام 1831 في مدينة ليون «إن الفتنة التي نشبت في ليون أظهرت للناس أمراً خفياً هو هذا الصراع الخفي في مجتمعنا والقائم بين طبقة الملاكين وطبقة الفقراء المعوزين».
[232]- المرجع نفسه، https://www.lebanese-forces.com/2013/07/07/new-liberalism-2-4