الليبرالية ما بعد الحداثية
فئة : ترجمات
الليبرالية ما بعد الحداثية
نقد لفلسفة ريتشارد رورتي السياسية[1]*
ياوو دازهي و إكسيانغ يونهوا
ترجمة: توفيق فائزي*
1. مقدّمة
كانت فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية المراكزَ الاستراتيجية لما بعد الحداثة، وتحتلُّ فرنسا المركزَ الأول، تليها الولايات المتحدة الأمريكية. ويُعدّ ريتشارد رورتي من أكثر ما بعد الحداثيين تأثيراً؛ ففي الدوائر الفلسفية الأمريكية كان شخصية مثيرة للجدل. وفضَّل ريتشارد رورتي أن ينشر أفكاره الخاصة في انتقاداته لأشهر الفلاسفة المعاصرين، وتأويلاته لهم، مثل جون رولز (John Rawls)، ودونالد ديفدسن (Donald Davidson)، لكن يظهر عادةً في غاية السعادة بعرض تأويلاته الخاصة في الوقت نفسه.
إن مصادر فكر ريتشارد رورتي جد مركّبة، وتحتوي مكوّنات عدة، منها الفلسفة التحليلية والهرمنيوطيقا والبراغماتية (Pragmatism). ونظرياته الفلسفية مركبة، مُشكّلة مزيجاً يكمن فيه تنازع. ومثل هذا التنازع يوجد بين فلسفته النظرية وفلسفته السياسية. باصطلاح الأولى يعدًّ ما بعد حداثيّاً وباصطلاح الثانية حداثياً. جعلت هاتان الهويتان رورتي يتخذ مواقف متناقضة من الأنوار؛ فباعتباره ما بعد حداثيّاً انتقد الأنوار بشدة، وباعتباره ليبرالياً دافع عنها بقوة.
2. صنفان من الأنوار:
كانت الأنوار حركة تحررية ذات تأثير شديد. الحداثة (Modernity) والتحديث (Modernization) ومذهب الحداثة (Modernism) نتائج للأنوار التي أعلت من شأن المفاهيم التاريخية التقدمية، وحاولت أن تنجز مثالين عظيمين.
المثال الأول هو اكتساب حقيقة العالم الأبدية. وفي سبيل تحقيق هذا المثال انبثق العلم الطبيعي الحديث وعلم الاجتماع والإنسانيات. كانت المهمة تحديد حقيقة العالم الخارجي الموضوعي، والعالم الداخلي الذاتي، لاكتساب معرفة مناسبة بهما، وبذلك بلوغ حقيقتهما الأبدية في النهاية. ليس مبتغى الفلسفة، في سياق الأنوار، هو المعرفة العلمية، لكن تقديم براهين على ما اكتُشف منها. ومبتغى أكثر أهمية لمثل هذه الفلسفة هو إضفاء الشرعية على العلم الحديث. تَرفع الأنوار من قيمة العلم دون باقي المعارف، وتجعل من الفيزياء أنموذجاً، وكان يُعتقد أن ميكانيكا نيوتن بلغت واقع العالم النهائي، وكشفت الحقيقة الأبدية، لكن فلسفة الأنوار هي من برهن الأمر.
المثال الثاني هو تحرير الإنسانية جمعاء. كان سيؤدي اكتساب الحقيقة، لا محالة، إلى العمل على التحرّر الذي يجسّد مثالاً عاماً في تاريخ الإنسانية، وهو أن كلّ تاريخ الإنسان يتجه نحو غاية مملكة الحرية النهائية. نظريات حديثة متنوعة هي تلك السرديات (Narratives) التحررية: سرديات الخلاص المسيحية من إثم آدم الأصلي عبر الحب والإيمان؛ وسرديات المثاليين (Idealists) التأملية لإنجاز مثال الإنسانية الكلّي عبر جدل تاريخي خاص؛ وسرديات الاشتراكية للتخلص من الاستغلال والاستيلاب عبر جعل العمل والملكية جماعيين؛ وسرديات الليبرالية للتخلّص من العبودية والفقر عبر الديمقراطية السياسية والتصنيع. وتعدّ الليبرالية، في البلدان الغربية الحديثة، السردية المتزعّمة للتحرر.
كانت الأنوار مُصطَحبة بالثورة ضدها. واتخذ مابعد الحداثيين (Postmodernists) جميعهم، من فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) إلى ميشيل فوكو (Michel Foucault)، مواقف نقدية وسلبية تجاه الأنوار. وفي رأيهم لا وجود لحقيقة أبدية ولإمكانية تحرّرٍ للإنسانية جميعها.
يرتبط مثال اكتساب الحقيقة الأنواري بالتأسيسية (Foundationalism)، وأساس الحقيقة هو الواقع. بهذا المعنى، وجب أن تطابق الحقيقة الواقع. يرفض ما بعد الحداثيون الاعتراف بوجود تطابق بين الحقيقة والواقع، كما يتصوّر عامة الناس، وفي نظرهم ليست الحقيقة خالصة كما تصوّر مفكرو الأنوار. من جهة أخرى، تمتّع قول الحقيقة بالأولوية والامتياز ضمن مختلف الأقوال منذ بداية الأنوار، ووجب أن تتناسب الأقوال الأخرى والحقيقة. إذن، فالحقيقة تضطهِد أقوال الجماعات الضعيفة أو الأقلية. يشير جان فرنسوا ليوتار إلى هذا بعبارة «إرهاب الحقيقة الأبيض»[2]. من جانب آخر، صارت الحقيقة ملازمة للقوّة، وتُحرز الحقيقة مجد القوة، وتفعل القوة فعلها باسم الحقيقة. تُنتج القوة عادةً آثار الحقيقة، والعكس صحيح. هذه هي سياسات الحقيقة بعبارة ميشيل فوكو.
إن مثال التحرّر الأنواري مرتبط بالليبرالية التي وعدت بأمور كثيرة مدهشة مثل تحرير النوع الإنساني، إلّا أن بعض ما بعد الحداثيين، مثل ليوتار (Lyotard)، شهدوا أوشفيتز (Auschwitz). وإذا كانت تعهدت الأنوار بتأسيس مجتمع حرّ، فإن بعض مابعد الحداثيين، مثل فوكو، رأوا في المصانع والمؤسسات والمدارس والمستشفيات والثكنات سجناً واسعاً. ومن وجهة نظر ما بعد حداثية تعدّ الليبرالية وعداً لم يُنجز، وسيفشل توخي كلّ من الحقيقة الأبدية وتحرّر النوع الإنساني.
يذهب الحداثيون وما بعد الحداثيون جميعاً إلى أن مثالي الأنوار متلازمان. ويكمن اختلاف رأيهم في أن الحداثيين يتمسكون بشدة بمثالي الأنوار، في حين أن ما بعد الحداثيين، مثل فوكو وليوتار، يعدّونهما خطأي العصر وينكرونهما.
ويُعدُّ رورتي ما بعد حداثياً متحمساً، لكن يختلف اختلافاً عظيماً عن فوكو وليوتار في موقفه تجاه الأنوار. يشير رورتي إلى مثالي الأنوار بوصفهما مشروعين؛ أحدهما: فلسفة الأنوار والآخر سياسات الأنوار[3]. يتوخى الأول الحقيقة الأبدية، والثاني يحاول تحرير النوع الإنساني. وعلى خلاف فوكو وليوتار، اتبع رورتي استراتيجية للفصل بينهما؛ أولاً، يرى في فلسفة الأنوار وسياساتها لُعبتي لغتين (Languagegames) مختلفتين جذرياً، ولا تلازم بينهما. فليس تحرّر النوع الإنساني تابعاً لاكتساب الحقيقة، وليس مُؤسَّساً عليه. لماذا إذن يرى الناس عادةً أنّهما متلازمان؟ يجيب رورتي بأن «هذا الاعتبار قد لا يعني شيئاً أكثر من صدفة تاريخية»[4]. ثانياً، بعد فكّ الرباط بين الخِطَّتين، أنكر رورتي فلسفة الأنوار واعترف بسياساتها. ففي نظره فشلت خِطَّة الأنوار الفلسفية فشلاً نهائياً، والفلسفة التقليدية في اضمحلال، لكن رغم ذلك، أحرزت خطة الأنوار السياسية تقدماً. فمن جانبٍ تعدّ أهداف سياسات الأنوار أهدافاً مرغوباً فيها، وتستحقّ التتبّع، ومن جانب آخر تشير التغييرات، في مجالات القانون وفي المؤسسات، إلى طريق تحقيق مشروع الأنوار السياسي.[5]
توجد سرديتان للأنوار مناسبتان لمشروعي الأنوار؛ إحداهما عن السبيل الذي به يتخلّص العامة من حكم المستبدين المحليين والهمجيين، والأخرى عن الخاصة (أهل العقل) (Intellectuals) وكيف تتخلّص الثقافة المتقدمة الرائدة من النظريات القديمة. بالنسبة إلى رورتي، هاتان السرديتان ليستا مترابطتين؛ إذ تملك كل واحدة منهما معانيها الخاصة المتفردة. فمعنى سردية العامّة هو التحرّر والسعي نحو اليوتوبيا. في مثل هذه اليوتوبيا، لا أحد سيوضع تحت قدم المستبدّين المحليين، أو مالكي العبيد، أو مالكي المصانع؛ لن يُساء معاملة الزوجات من قبل أزواجهن؛ وسيؤدي إلغاء الظلم الاقتصادي والاجتماعي بالناس إلى معاملة بعضهم بعضاً باحترام. أمّا معنى سردية الخاصة (أهل العقل)، فهو الفلسفة وطلب نظرة أكثر اتساعاً وغنىً ودقةً. وتتجلى مثل هذه السردية في كلاسيكيات أُهملت من التاريخ، مثل محاورات أفلاطون، والنصوص والسِيَر البوذية، واعترافات سانت أوغسطين، والمبادئ الرياضية لنيوتن، والبيان الشيوعي لماركس وإنجلز (Engels)[6].
تبيّن إحدى السرديتين تقدُّم التاريخ والمجتمع الإنسانيين، في حين أن الأخرى تبين أن الثقافة تصير أغنى والمعرفة أكثر دقةً. اعترف رورتي بالأولى، وأنكر الثانية. وفي إنكاره سردية الخاصّة وضع حجّتين لدعم دعاويه.
أوّلاً: رغم أن سردية الخاصة (أهل العقل) الفلسفية تُشكِّل قاعدة سردية العامة السياسية، لا تحتاج السياساتُ الفلسفةَ قاعدةً لها. منذ بداية الأنوار كان كلٌّ من الفلسفة والسياسات يتغير بشكل منفصل؛ يعني أن التحولات السياسية ليست هي ما يسبب ما يناسبها من التحولات الفلسفية أو العكس. ينتقد رورتي ما بعد الحداثيين، على شاكلة فوكو، لدفاعهم عن مثل هذه الأفكار؛ يعني لدفاعهم عن أن فلسفة جديدة تعني سياسات جديدة. في نظر رورتي، السياسات طويلة الأمد، في حين أن الفلسفة عابرة بالمقارنة. فبإمكان الفلسفة أن تمحص القديم، في الكثير من الأحيان، لجلب الجديد، في حين أن السياسات يجب أن تستند إلى التقاليد[7].
ثانياً: لكلّ عصر نموذجه الخاص، لكن النموذج الذي يختاره (العصر) اعتباطي. تعدّ فلسفة ديكارت، منذ الأنوار، بدل فلسفة مونتيني (Montaigne) النموذج المهيمن؛ وفي المعرفة تعدّ الرياضيات والفيزياء النماذج المهيمنة بدل الأدب؛ وفي السياسات تُعدّ الأنظمة الديمقراطية هي النماذج المهيمنة بدل نظام وحداني التسلّط (Autocracy). من وجهة نظر المذهب المضاد للتأسيس (Anti-foundationalism)، والمذهب المضاد للماهية (Anti-essentialism)، والمذهب المضاد للكُلِّي (Anti-universalism)، يرى رورتي أن اختيار النموذج كان نتيجة للحظّ؛ بعبارة أخرى، إن فلسفة مونتيني والأدب كان بالإمكان أن يصيرا النماذج المهيمنة في المعرفة الحديثة. وإذا كان اختيار نموذج المعرفة اتفاقياً، فماذا عن نموذج السياسات؟ لماذا يختار الناس اليوتوبيا الديمقراطية الاجتماعية بدل اليوتوبيا الفاشية؟ لقد أنكر رورتي وجود معايير، ونفى دور العقل في الاختيار. وتنصّ وجهة نظره ما بعد الحداثية على أنه لا يمكن اقتراح أدلّة قوية على الاختيار. إذا كان الأمر هكذا، فبإمكانه فحسب أن يحتجّ بالقول: بينما لا نستطيع القول إن اليوتوبيا الديمقراطية الاجتماعية أقرب إلى الفطري وإلى المعقول من اليوتوبيا الفاشية، إلا أن الأولى مرغوب فيها أكثر من الثانية[8]. ماذا تعني «مرغوب فيها»؟ في الواقع، «مرغوب فيها» هي تعبير آخر عن «معقول».
ويقسم رورتي الفلسفة إلى فريقين؛ يتكون أحدهما من عقلانيي الأنوار، والآخر من «نحن ما بعد الحداثيون»[9]. والفروق بين الفريقين منعكسة في مواقفهما من الحقيقة والعقل والواقع. في نظر عقلانيي الأنوار، للواقع الحجيةُ باعتباره الطريقة التي توجد بها الأشياء. والعقل هو الذي يستحق الاحترام لأنه الحس الذي يسمح لنا بإدراك الواقع. ويُفهم العقل في نظر ما بعد الحداثيين بمعنى حوار. يعني العقل أن نرغب في النقاش، أن نصغي إلى وجهات نظر الطرف الآخر، وأن نحاول بلوغ الوفاق.
إن ما سُمِّي عقلانية الأنوار هو مذهب الحداثة، ولا يزال هناك تعارض أساسي بين مذهب الحداثة ومذهب ما بعد الحداثة. ولئن كانت وجهة نظر رورتي ما بعد حداثية، كما اعترف بنفسه بذلك، إلا أنه كان مختلفاً عن مابعد الحداثيين الآخرين، مثل ليوتار وفوكو، في أنه يملك ولاءً أوليّاً للسياسات الليبرالية، ولا يستطيع، من ثمّ، اتباع وجهة نظر ما بعد الحداثية في كلّ القضايا. وبعبارة أدق، كان ما بعد حداثياً حقّاً في فلسفته، لكنّه كان حداثيّاً في سياساته.
3. ولاءان:
منح رورتي ولاءين؛ الأول لمذهب ما بعد الحداثة (Postmodernism) والآخر لليبرالية. جعله الأول يعدّ نفسه ما بعد حداثياً، والثاني جعله يفتخر بالأنظمة الديمقراطية لبلدان شمال الأطلنطي الغنية.
لقد كان ولاؤه لما بعد الحداثة فلسفياً، وللّيبرالية سياسياً؛ فمقاربته الأساسية للأنوار كانت فصل الفلسفة عن السياسات. إذاً، نقدَ فلسفة الأنوار من وجهة نظر مذهب ما بعد الحداثة، مادحاً، في الوقت نفسه، سياساتها من وجهة نظر الليبرالية، ورغم ذلك، حاول أن يمزج الفلسفة مع السياسات الليبرالية ليشكّل «الليبرالية البرجوازية ما بعد الحداثية»، وهو يواجه أحداث زمانه[10]، وعَبَّر الشعار الجديد عن مطلبه الجديد.
لقد وضع رورتي مفهوم «الليبرالية البرجوازية ما بعد الحداثية» بغرض تمييزها عن «الليبرالية البرجوازية الحداثية». وإن مذهب الحداثة هي فلسفة الأنوار. فما هي الفروق بينهما؟ بالنسبة إلى رورتي، هناك لفلسفة الأنوار مشكلتان أساسيتان؛ الأولى تأسيس سياسات الأنوار على فلسفة الأنوار؛ وهذا يعني أنها مؤسسة على ميتافيزيقا ما، وعلى إبستمولوجيا، وعلى مذهب في الأخلاق (Ethics)؛ والثانية كل الألفاظ في فلسفة الأنوار، ومنها الألفاظ السياسية، (تدَّعي) مطابقة الواقع الخارجي، مفترضةً الواقعية (realism) ومذهب المطابقة. الأولى مرتبطة بالتأسيسية، والثاني مرتبط بمذهب التمثل (Representationism). إلا أنه، في رأي رورتي، لا تحتاج الليبرالية أو العدالة إلى أن تتأسّس على أيّة فلسفة، والألفاظ حول الليبرالية والعدالة لا تتطابق مع أيّ واقع خارجي. يسمّي رورتي أحياناً فلسفة الأنوار «عقلانية الأنوار»[11]. والمقتضيات الأساسية لمذهب التمثل هي العقلانية (Rationalism) والكلية (Universalism). مَثَّل هذا الذي سُمي «الليبرالية البرجوازية ما بعد الحداثية» محاولةً لإعادة تفسير الليبرالية بلغتي اللاعقلانية (Irrationalism) واللاكلّية (non-universalism). وإذا كان «مذهب ما بعد الحداثة» موجّهاً ضد مذهب العقل، فإن «البرجوازية» موجهة ضد الكلّية.
والمتهكّمون (Ironists) هم من أعادوا تفسير الليبرالية بلغة اللاعقلانية واللاكلّية. في نظر رورتي، ليس الأبطال الليبراليون مفكرين سياسيين أو نشطاء، لكن بالأحرى شعراء وثوريين يوتوبيين؛ وهؤلاء الذين بإمكانهم تفسير الليبرالية أفضل ليسوا نُظَّاراً؛ بل متهكمين. من هم المتهكمون؟ إن متهكمي رورتي شبيهون بوثنيي (Pagans) ليوتار. المتهكمون تعدّديون، وليسوا موحّدين، وهم لاـ عقلانيون وليسوا عقلانيين، واسميون وليسوا واقعيين؛ وتاريخانيون (historicists) وليسوا كلّيين (univesalists). لا يؤمن المتهكمون بالواقع الخارجي، وبالطبيعة الداخلية للإنسان، وبتقدم التاريخ، وبالحقيقة الأبدية. وفي رأي رورتي، تؤول التعددية، واللاعقلانية والاسمية والتاريخية... إلى أمر واحد، وهو نسبية الإيمان التي تجد لها سنداً في عبارة شمبتر (J.Schumpeter) المقتبسة من لدن رورتي: «أن تدرك نسبية صلاحية اقتناعاتك، ورغم ذلك تدافع عنها بإقدام، هو ما يميز الإنسان المتحضّر عن الإنسان المتوحّش»[12].
نماذج الناظر (theorist) هم الفلاسفة؛ حَوَّل الفلاسفة السياسيون، مثل لوك ورولز، الليبرالية إلى نسق بلغة العقلانية. ونماذج المتهكّم هم الشعراء، وهم من اعتبرهم رورتي أبطال الليبرالية الثقافيين. ويُظهر هذا رغبته الشديدة في طبع الليبرالية بطابع الشعر؛ هذا يعني إعادة تفسير الليبرالية بلغة اللاعقلانية واللاكلّية. وفي نظر رورتي بإمكان الشعر والقصص أن يعبّرا عن الليبرالية أفضل من الفلسفة والسياسات[13]. فهناك علاقة مركبة بين الجماليات والسياسات، علاقة طالما أُكدت من قبل ما بعد حداثيين مثل ليوتار. وعادةً يستمدّ مابعد الحداثيون القوّة من الجماليات لمقاومة السياسات المعاصرة. ويجسّد الأدب فعلاً روحاً أكثر توقداً للثورة. المشكلة هي أن رورتي استخدم الجماليات لحماية الواقع «الليبرالية» عوضاً من مقاومته. وليس بإمكاننا أن نعدّ شعرية رورتي أفضل من فلسفة رولز السياسية.
ليس بإمكان المتهكّمين فهم حقيقة الليبرالية، متفادين تقديم تفسير أفضل لها. كان مفهوم رورتي لليبرالية جدّ بسيط: الليبرالية هي الحرية التي هي ضد «القسوة». ما عدا هذا، لم يخبرنا ماذا تعني الليبرالية. وفي الواقع، الليبرالية نظام إيديولوجي ونظام سياسي في الوقت ذاته. فباعتبارها نظاماً إيديولوجياً تَعُدُّ الليبرالية المساواة والحقّ، وليس الحرية فحسب، أكثرَ القيم السياسية أهميةً. وتدافع الليبرالية، بوصفها نظاماً سياسياً، عن حماية حقوق الإنسان متوسلةً بالديمقراطية وحكم القانون لغاية تحقيق قيم الحرية والمساواة.
تدافع ما بعد الحداثة عن السياسات الشعبوية، وتعُدُّ عامة الناس أبطالاً في مجتمع حرّ. وتُظهر عادةً صبغتها المضادّة للنخبوية، وعبر مضادتها للتيار المهيمن، وللأرثوذكسية وللامتياز وللمركز وللنظرية وللماهية، تنتقد النخبويةَ بدرجات متنوّعة. وعلى سبيل المثال، في انتقادات فوكو للثقافة الغربية، يؤدي الحمقى والمرضى والمجرمون والمثليون دوراً رياديّاً. فقد انتقلت الجماعات التي هُمِّشت إلى مركز الحلبة الفلسفية، ويبدو أن ذلك من أجل مقاومة الحكّام التقليديين، والعظماء والأبطال والفلاسفة والقديسين ومقاومة النخبوية.
يَدَّعي رورتي أنه فيلسوف ما بعد حداثي، وقد عُرِف بذلك، وقدَّم ولاءه لليبرالية. كان ينبغي في الظاهر أن يؤمن بصلاحية السياسات الشعبوية، إلا أنه، على العكس، دافع عن السياسات النخبوية. ونعلم أن المتهكمين، في نظره، هم الأبطال في مجتمع ليبرالي. المشكلة هي من هم المتهكمون؟ يذهب رورتي إلى أنه «في مجتمع ليبرالي مثالي، لن ينفكّ المثقفون (Intellectuals) عن أن يكونوا متهكمين، وقد يكون غيرهم بخلاف ذلك»[14]. إن هؤلاء الذين يُنعتون بالمثقفين يُشار بهم إلى الشعراء والروائيين والصحفيين، وما يتحدث عنه العامة معرفة عامّة، بإمكان المثقفين وحدهم أن يتهكّموا.
يفضل فلاسفة ما بعد الحداثة والسياسيون الليبراليون جميعاً السياسات الشعبوية. لماذا يدافع رورتي عن السياسات النخبوية؟ أرى أن المبرّرات هي كما سيأتي.
أوّلاً، لا يؤمن رورتي بأن غير المثقفين يملكون قدرات سياسية؛ فالسياسات مرتبطة بقدرة الشخص على التأمّل والمساءلة، وتحويل الواقع، أو مقاومته، والشكّ في معتقدات سياسية ما، أو الاحتجاج لها. ويرى رورتي أن المثقفين وحدهم من يملك مثل هذه القدرات، وأن غير المثقفين لا يملكونها. وبصفة عامّة الأكثر أهمية هو القدرة على المساءلة؛ ففي رأيه، لن يشعر غير المثقفين بضرورة الجواب عن سؤال: لماذا أنتم ليبراليون؟ في مجتمع ليبرالي مثالي. الشيء نفسه في القرن السادس عشر، لم يشعر عامة المسيحيين بضرورة الجواب عن سؤال: «لماذا أنتم مسيحيون؟»[15].
ثانياً، لا يعتقد رورتي بوجود أصوات مُضطَهدة. السياسات ما بعد الحداثية سياسات متمردة تحكي صوت المضطَهدين؛ إذ تعبّر سياسات فوكو عن صوت الحمقى والمجرمين والمثليين. ورغم أن رورتي دافع عن تعددية لُعب اللغة، إلا أنه لا يعتقد أن صوت المنبوذين أو الضحايا موجود حقّاً. صار المنبوذون فاتري الشعور بسبب معاناتهم، وهكذا عجزوا عن التعبير من تلقاء أنفسهم. المثقفون هم من عبّر عن صوتهم. إذن فقط الروائيون الليبراليون والشعراء والصحفيون بارعون في فعل ذلك.[16]
أخيراً، دافع رورتي عن السياسات المحافظة، لكنّه التمس سياسات تمردية. كان محافظاً جدّاً سياسياً، ليس فحسب لأنه تماهى مع الليبرالية التي كانت التيار الغالب منذ الأنوار؛ لكن أيضاً لأنه دافع بشدة عن «أسبقية الديمقراطية على الفلسفة»[17]، لكنه باعتباره ما بعد حداثياً فضَّل أيضاً أن يثور. يؤدي مثقفو اليسار في المجتمع الغربي الراهن الدور الريادي في الثورة. ويشير رورتي: «في تصوّري ليس بإمكان المتهكّم أن يستمر له وجود من دون مفارقة بين المعجم الأخير الذي ورثه، والمعجم الذي يحاول أن يبدعه لنفسه. إن لم يكن المتهكم مستاءً في باطنه، فهو منفعل على الأقل»[18]. وُلد المتهكمون متمرّدين، إمّا مندفعين باطنياً من الاستياء، أو خارجيا من الرغبة في السعي ضد التيار.
لقد حاول رورتي أن يمزج بين ما بعد الحداثة والليبرالية، والتهكم والليبرالية المطبوعة بطابع الشعر، أو الليبرالية مُفَسَّرة بلغة اللاعقلانية، بوصفها وسائل لمثل هذه الغاية. ورغم ذلك، لم يبلغ هدفه، فلا فريق رَحّب بليبراليته مابعد الحداثية.
لم يقبل مابعد الحداثيون ولاءه الأوّلي لليبرالية، واعترضوا على رسم خط فاصل وصارم بين الدائرة العامة والدائرة الخاصّة. فرورتي عدّ ولاءه لليبرالية إجماعاً سياسياً، وهذا يعني تحقيق الإرهاب في نظر ليوتار، وهو ما جعله يرى في نظرية رورتي في الحرية نظريةً للاضطهاد. وقد فَصَل رورتي فلسفة الأنوار عن سياسات الأنوار، فأكّد الأخيرة (الليبرالية). في حين رأى فوكو في كليهما إخفاقاً. لم تفِ الليبرالية بعهودها، وما زالت تقرّ تدابير قمعية. في نظر ما بعد الحداثة إن ما يُحتاج إليه حقّاً ليس طبع الليبرالية بطابع الشعر كما اقترح رورتي، ولكن طبع الدائرة الخاصة بطابع السياسات، وهذا يعني إزالة الحواجز بين الدوائر الخاصّة والدوائر العامّة؛ لأن ما يُطلق عليه «الدائرة الخاصة» هو أيضاً مملوء بالرقابة والقمع.
علاوةً على ذلك، لا يقبل الليبراليون التفسير الواهن لليبرالية؛ إذ حاول رورتي أن يقترح نوعاً من الليبرالية من دون تأسيس، إلّا أن مفهوم السلطة يعدّ في نظر أغلب الليبراليين أساس الليبرالية التي مبدؤها الأساسي أسبقية الحقّ على الخير. ويرى رورتي أن الفلسفة نوع من أنواع لعب اللغة، والسياسات لعبة أخرى، ويرى أن الليبرالية ليست شيئاً أكثر من المعجم الأخير الذي فضّله الناس. لا يقبل الليبراليون، مثل رولز ونوزيك (Nozick)، فكرة لعب اللغة هذه؛ إذ تعني، في رأيهم لُعب اللغة هذه، النسبية، وعبارات التهكم تفشل في أداء الفكرة، وطبع الليبرالية بطابع الشعر خارج الموضوع. إن مواقفهم تجاه الليبرالية أكثر جديةً وصدقاً وأصالةً.
إن مفتاح المسألة هو: هل بإمكان اللاعقلانية الدفاع عن الليبرالية أفضل من العقلانية؟ لا أظنّ أن الأمر كذلك. ولم يدافع رورتي عن الليبرالية أفضل من دفاع رولز عنها في (نظرية العدالة). في الواقع، لا يستطيع رورتي أن يقدم إسهاماً ذا بال لنظريات الليبرالية، وليس بإمكان الليبراليين أبداً قَبول تفسيراته لليبرالية.
للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا
_______________________________________________________________
المصادر والمراجع:
Bennington G., (1988), Lyotard. New York: Columbia University Press.
Rawls, J., (1971), A Theory of Justice. Cambridge, Massaschusset: The Belknap Press of Harvard University Press.
Rorty, R., (1989), Contingency, Irony, and Solidarity, Cambridge: Cambridge University Press.
Rorty, R., (1991a), Posmodernist Bourgeois Liberalism, In: Objectivity, Relativism, and Truth. Cambridge: Cambridge University Press.
Rorty, R., (1991b), The Priority of Democracy to Philosophy, In: Objectivity, Relativism, and Truth. Cambridge: Cambridge University Press.
Rorty, R., (1997), Is “Post-modernism” Relevant to Politics In: Truth, Politics and “Post-modernism” Assen: Van Gorcum
[1]- مجلة ألباب العدد13
[2] - Bennington 1988, p.43
[3] - Rorty, 1997, p.35
[4] - Ibid., p.36
[5] - Ibid., p.35
[6] - Ibid., pp. 38-39
[7]- Ibid., p.38
[8] - Ibid., p.44
[9] - Rorty 1997, p. 43
[10]- Rorty, 1991a, p. 197
[11] - Rorty, 1997, p. 43
[12] - Rorty, 1998, p.46
[13] - Ibid., p. 53
[14] - Ibid.,p.87
[15]- Ibid.
[16] - Ibid., p.94
[17] - Rorty, 1991b, p.175
[18] - Rorty 1989, p. 88