المثل الأعلى العلماني
فئة : ترجمات
المثل الأعلى العلماني
لا يتناقض المثل الأعلى العلماني أبداً مع الديانات في حدّ ذاتها، بل مع إرادة السيطرة التي تميّز انحرافها الإكليروسي، مع الشطط السياسي والاجتماعي للتشدّد الديني. في خطاب شهير ضدّ قانون فلّو (Loi Falloux) الذي يؤكّد مراقبة الإكليروس للتعليم (1850)، يتحدّث فيكتور هوغو (Victor Hugo) بهذا الصدد عن «الحزب الكهنوتي»، قاصداً بذلك تمييزه بوضوح عن الكنيسة وعن «الدين الحقيقي». لا يتعلق الأمر إذن بالادّعاء على السلطة الروحيّة والزمنيّة لرجال الدين في إطار الجماعة الدينيّة الخاصّة، حيث تُمارس، وفي الوقت الذي تَحترم فيه حدودها، ولكن تلك السلطة تصبح غير مشروعة عندما يُنسَب إليها، من حيث المبدأ، نفوذ على كلّ الجماعة الإنسانيّة. لا تؤسّس الخاصيّة الغالبة المحتَمَلة لعقيدة ما في مجتمع ما أيّ حقّ سياسي ولا أيّ امتياز زمني، إذا كانت حريّة الضمير بالنسبة إلى الأقليّة والمساواة بين الجميع محترَمَتين.
بالنظر إلى ذلك، يوجد نظاما سلطة متمايزان لهما قاعدتان مختلفتان؛ متمايزان لأنّ لهما وظائف لا يمكن الخلط بينها. إنّ تحديد مبادئ وقواعد الحياة المشتركة بين أناس يبقون، مع ذلك، سادة في فضائهم الشخصي شيء، وممارسة سلطة عقائديّة في تأويل إيمان خاص، وفي تأويل المذاهب المرتبطة به، شيء آخر. أمّا فيما يتعلّق بالقاعدة الخاصّة بهذه الوظائف، فليس لها بطبيعة الحال الحدود نفسها. يتعلّق الأمر، في الحالة الأولى، بالمؤمنين ضمن جماعة دينيّة معيّنة، وفي الحالة الثانية بكلّ سكّان البلد مؤمنين وغير مؤمنين. تخلط السلطة الدينيّة، في نهاية التحليل، بين نظامي السلطة، وتجعل أحدهما تابعاً للآخر: استيطان الفضاء العام. إنّها مُثقَلة بالعنف الخفيّ، أو المعلَن، إزاء كلّ شخص يعتنق عقيدة مخالفة.
عمليّاً ثمّة بعض الأسئلة البسيطة يمكنها أن توضّح هذه النقطة. هل للمرء الحقّ في أن يكون ملحداً أو بروتستانتيّاً أو يهوديّاً، عندما تكون السلطة الدينيّة الكاثوليكيّة مسيطرة على الفضاء العام؟ هل يمكن لمواطن أمريكي ملحد أن يتعرّف إلى نفسه في قَسَم رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة على الكتاب المقدّس؟ وهل يمكن لكاثوليكي أو ملحد أن يشعر بتساوي قيمة القناعات والمعتقدات إذا كانت العقيدة البروتستانتيّة هي المعتمَدة ديناً رسمياً في البلدان الأنجليكانيّة، والمفروضة مرجعيّةً لكلّ الجسم الاجتماعي؟ هل إنّ مسلماً مناصراً للإسلام المستنير، الذي يعبّر عنه التراث الإسلامي الكبير، حرّ في التعبير حيث تكون الأصوليّة المتطرّفة ممسكة بالسلطة؟ هل لامرأة مسلمة ترغب في الخروج إلى الشارع حاسرة الرأس الحريّة في أن تفعل ذلك؟ يُطرح هذا السؤال بالنسبة إلى التأويل الاعتباطي للقرآن، مضاعَف بإرادة وضع مدوّنة قانونيّة انطلاقاً من الصراط الموصَى به (الكلمة العربيّة: شريعة) وليس المفروض. هل يستطيع ملحد من أصل يهودي أن يوجّه حياته الشخصيّة كما يريد إذا كان الأحبار الأرثوذكس المتشدّدون يفرضون في الفضاء العام وصايتهم على الحقّ والمدرسة والذاكرة الجماعيّة؟ تأخذ هذه الأسئلة منعرجاً مهمّاً عندما تريد الأصوليّات الدينيّة، بسبب شغار تركة الحداثة التي تخلط بينها وبين حقّ الأفراد العلماني، العودة إلى التقاليد الأكثر رجعيّة. في هذا المستوى، تُعدُّ مسألة حقوق النساء ممثِّلة لكلّ ما هو مطروح في مجال الحريّة والمساواة والتحرّر، وكذلك في مجال الوقاية من الحروب التي تنتمي إلى عصر آخر. إنّ الرجم بسبب الخيانة الزوجيّة، والحرمان من الدراسة، وتغطية الجسد بالبرقع الأفغاني، وفرض حجاب شفّاف على العينين، هي أمور تمثل الحدّ الأقصى لسلطة دينيّة انقلبت إلى غلو، ولا توجد ديانة من بين الديانات التوحيديّة محصّنة منها إذا أردنا، على الأقل، إعادة إدراج الحاضر في التاريخ الطويل للارتباط الخطير بين الدين والسياسة. يبدو أنّ الثلاثة آلاف شخص الذين قضوا جرّاء تفجير برجي التجارة العالمي (توين تاور Twin Towers) يوم (11) أيلول/سبتمبر (2001)، كانوا صدى للثلاثة آلاف قتيل في سان برتيلمي (Saint Barthélemy) يوم (25) أيلول/سبتمبر (1572). ثمّة في الحالتين، مناخ لانتظار الخلاص (atmosphère messianique)، وعد بالجنّة، حلم متعصّب بالتطهّر والخلاص الجماعي.
لذلك يمكن ملاحظة ما يشبه توجّهاً مألوفاً: كلما صارت ديانةٌ ما مسيطرةٌ «روحيّاً» ديانةً مسيطرةً رسميّاً، فإنّ الديانات الأخرى، وبصفة عامّة الأشكال الأخرى للروحانيّة، تقهر بصور وبدرجات متغيّرة. اضطهاد جليّ أو إبعاد: يمكن أن يتحقق الفصل بطرائق مختلفة. تضمن العودة إلى العلمانيّة للديانات، من خلال استئصال كلّ إيثار عقائدي خاص من الفضاء العام، حريّة ومساواة حقيقيتين حيث لا يمكن لأحدها أن تستحوذ، مستقبلاً، على صفات الهيمنة الزمنيّة المشتركة.
لا يعني الاستئصال، بطبيعة الحال، أنّ القناعات والمعتقدات لا يمكنها أن تمارس أيّ تأثير على تصوّر القوانين المشتركة. ولكن، من حيث الحقّ، لا يمكنها مستقبلاً أن تؤثر إلّا بتوسّط تعبيرٍ حرٍّ مستخدم في نقاش عمومي ومحفِّز للعقول الفرديّة في احترام لحرّيتها واستقلاليّة حكمها. وبعبارة أخرى، ليست السلطات العقائديّة في بلد علماني فاعلين ذوي وضع قانوني معترف به، بل هي أقطاب روحيّة لكلّ مواطن حريّة الاعتراف أو عدم الاعتراف بها كسلطات. زد على ذلك أنّ مبدأ السيادة الديمقراطي لا يمكن أن يقبل بصنفين من الفاعلين: فاعلون فرديّون هُم المواطنون، وفاعلون جماعيّون هُم الجماعات الدينيّة والمذهبية التي تمارس ضغطاً. بهذا المعنى أيضاً تعطي العلمانيّة، في آنٍ واحدٍ، وبالتعارض مع سلطة رجال الدين، معنى للديمقراطيّة ولاستقلاليّة الحكم: السيادة الشعبيّة والسيادة الفرديّة توجدان في العلمانيّة بوصفهما نظيرَيْن ما لم يتدخّل شيء بين الإرادة العامّة والمواطن السيّد على أفكاره. وهذا لا يحكم بعدم الجدوى لا على الأحزاب ولا على الكنائس ولا على الجمعيّات المكوَّنة للمطالبة بالحقوق المنتهكة: الانشغال الوحيد هو إخراج مكان النقاش من النفوذ الحصري لأحد المتدخلين فيه. يتعلق الأمر بإيتيقا تداوليّة وأيضاً بالحقّ العام المتعالي على الجزئيّات لكي تعبّر عن نفسها من دون إكراه ودون تفكيك القانون العام. يمكن مذّاك لكلّ أصناف التجمّعات المذكورة أن تؤدي دور أقطاب تفكير وتدخل في النقاش العمومي المحكوم من حيث المبدأ بقواعد تَستبعد كلّ تكييف وكلّ تضليل مُتعَمّد من أجل إحداث الإقناع. ومرّة أخرى فإنّ التعبير في إطار النقاش العام لا يعني الهيمنة على الفضاء العام. يمكن للكنيسة أن تعبّر علانية عن رفضها لـ «حبّة الغد»(*)، ولكن ليس لها أن تطالب بأن تقع استشارتها كما لو كان لها حقّ الرقابة على تقنينها ونشرها.
إنّ وحدة لاووس، وحدة الشعب، تجمع إذن بين حريّة ضمائر الأفراد الذين يُكوّنونه والمساواة بينهم في الحقوق في نطاق الشأن العام. وكلّ امتياز إيديولوجي أو عقائدي وكلّ غلبة للمصالح الخاصّة يمثل عائقاً أمامها. من هنا يتأتّى القبول الواسع بالعلمانيّة التي تستهدف الوحدة المثاليّة للمجموعة البشريّة فيما وراء أنواع النفوذ المختلفة التي ترتهنها؛ وحدة مثاليّة بالنظر إلى علاقات القوّة والهيمنة التي يمكنها، رأساً، أن تفرّق بين الناس، وبالنظر أيضاً إلى علاقات سوء الفهم التي يمكن أن تنشأ بينهم ما داموا يعيشون معتقداتهم الخاصّة بطريقة غير متسامحة وإقصائيّة بل متعصّبة. بالتأكيد، يجب عدم إهمال الأسباب الاجتماعيّة لعدم التفاهم وللتعصّب الذي يعبّر عنه، ولا يكفي البقاء في مستوى خطاب إيعازي بسيط. ولكن، في المقابل، أليس من عدم المسؤوليّة التخلّي عن المقتضيات التي تجعل الاندماج العلماني ممكناً بتِعلّة أنّها تبدو بلا أهميّة من منظور ميراث اجتماعي معيّن؟ ليس من السهل، إذن، إيجاد ما يوحّد الناس من جهة ما يفرّقهم، وبالرغم من التوترات المتعلقة بالخصوصيّات. إنّ قياس تلك الصعوبة متناسب مع أهميّة الأسباب الفاعلة اليوم. وبالنظر إلى ذلك لا توجد قراءة ناجعة للسبب الاجتماعي أو الاقتصادي. نرى ذلك خاصّة عندما يُنتِج ضعف أو إنهاك المقتضى العلماني، باسم التسامح أو بسبب الشعور النيوكولونيالي بالذنب، آثاراً من شأنها أن تقوّي التوترات الهُوويّة المدعَّمَة والمبرَّرَة من حيث ادّعاءاتها.
أنا إنسان قبل أن أكون مسيحيّاً أو يهوديّاً أو ملحداً. ألا ينطبق ذلك على كلّ «انتماء» اجتماعي، وطني أو إيديولوجي، وعلى الاعتقاد الروحي نفسه سواء كان دينيّاً أو غير ديني؟ إنّه استشهاد ذو حدّين إذا رأينا أنّه في وضعيّات قاسية معيّنة يمكن أن تبدو إنسانيّة الإنسان، الملغاة في الواقع والمستحضرة بطريقة تعزيميّة، مرجعيّة وهميّة أو سخيفة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالارتهان إلى معطى مسبّب للاغتراب، يكون الدور النقدي للمثَل الأعلى تحريريّاً. يجب، إذن، من حيث المبدأ، التخلص من كلّ انتماء دون إنكار الالتزام الخاصّ الذي يطابقه. يتعلّق الأمر باعتبار الكائن الإنساني منتمياً إلى ذاته في المقام الأوّل قبل كلّ تبعيّة، وبأنّ كلّ إنسان يتعالى على ما يتعرّف إلى ذاته فيه الآن وهنا. يتعلّق الأمر، في الوقت نفسه، بعدم الوقوع في خطأ تشخيص أسباب الألم.
يُعيرُ الاختلاف الثقافي أو الديني، الذي يُفترض في الأغلب أنّه غير قابل للتجاوز، اسمه وزيّه للشعور الغامض بالإقصاء الذي يثيره العنف، المذاع والمنَصَّب، الخاص بمجتمع تجاري مُحطِّم لكلّ إحداثيّة وموسوم برُقْيَة حقوق الإنسان المؤلمة وبـ «العيش المشترك»، في حين أنّ قانون السوق على مستوى الوقائع يقود إلى وحدة قاسية؛ ذلك يُبيّن أنّ التخلص من الأوهام (désenchantement) لا يمتّ بصلة إلى العلمانيّة، على الرغم من أنّه يبدو تاريخيّاً معاصراً لظهورها. إنّه أمر يتعلّق بالآفاق. هل تُستعاد فكرة كون حقوق الفرد لا قيمة لها بتعلّة أنّ الليبراليّة الاقتصاديّة المتطرّفة تتصوّرها أساساً في أُفُق المبادرة الاقتصاديّة الحرّة التي ليست في متناول «الخاسرين»؟ تتوافق النزعات الجماعويّة الدينيّة أو العرقيّة والثقافيّة لكي تدفئ ما برّدته «مياه الحساب الأناني الجليديّة»... ولكي تخلط بصورة منظّمة المُثل العليا للأنوار، والحريّات السياسيّة، وقيم الديمقراطيّة والمواطنة، بخراب «الرعب الاقتصادي»، الذي تتحدّث عنه فيفيان فورّستر (Viviane Forrester). إنّها عقيدة مفروضة، نوعاً ما، لمّا كانت الشدّة تجعلها ممكنة ضدّ التضامن الاستبدالي. لقد كان لتدمير الحقوق الاجتماعيّة في بريطانيا العظمى تأثير سحريّ على الجماعات الدينيّة في الضواحي التي انسحبت منها الدولة.
بعد أن توضحت هذه الأمور، لا بدّ من العودة، بمقتضى الواقعيّة، إلى المَثل الأعلى وإلى الاتصال الذي يجب أن يحصل بينه وبين الوضعيّات العينيّة. لمّا كان كلّ الناس يتشابهون ويتقاربون بسبب حرّيتهم المبدئيّة التي هي قوّة استبعاد، بإمكاننا أن نتحدث عن التعالي العلماني. يتعلق الأمر بتضافر إيجابي تماماً بين الاعتراف بالحريّة الفرديّة وترقية ما هو مشترك بين الناس: المساواة والحريّة. العلمانيّة هي إثبات أصلي لتصوّر الرابطة الاجتماعيّة التي لا توحّد الناس إلّا بفصل وعيهم عن كلّ طاعة جزئيّة: يتضمّن الخير المشترك في المقام الأوّل حريّة الجميع، ورفض كلّ تمييز عقائدي. وهو يتضمّن أيضاً الترقية الفاعلة لكلّ ما من شأنه أن يضمن لكلّ واحد شروط قدرته على الفعل، وهي قاعدة كلّ حريّة أصليّة. إذا كانت الليبراليّة الاقتصاديّة المتطرّفة متواطئة مع الطائفيّة الدينيّة التي تبررها، فإنّ التحرّر العلماني يكون جديراً بالثقة بقدر ما لا تستبعد الحياة المدنيّة اقتصاديّاً واجتماعيّاً أولئك الذين هم مدعوون إلى أن يعيشوا بطريقة غير متحيّزة اختياراتهم الدينيّة والثقافيّة في ظل احترام القانون.
الأفق العلماني هو الذي يكتشفه كلّ واحد في ذاته عندما يعتني بمقتضيات فكر متحرّر من كلّ وصاية، ومن شأنه أن ينفتح على الكوني. لا يتضمن ذلك الاكتشاف إنكار المعتقدات والاختيارات الجزئيّة، بل يتضمّن القدرة على تنسيبها، وهي صالحة لتجنّب الانغلاق وعدم التسامح. إنّ عدم التحيز الداخليّ فضيلة علمانيّة قريبة من المأثرة الديكارتيّة: هذه الأخيرة هي، في الآن نفسه، شعور بالحريّة وعزم على استعمالها بشكل جيّد.
لا يقيم التحرّر العلماني تناقضاً بين سجل إنسانيّة حرّة ومتحررة، وكرامة متساوية لكلّ إنسان، وسجلّ الخصوصيّات العقائدية والثقافيّة: إنّه يتطلّب فحسب نوعاً من التمفصل يجعلهما موجودين معاً لدى الشخص نفسه بشكل يقصي موقف التعصّب وعدم التسامح. لا يفترض ذلك التحرّر أن تكون القناعات والمعتقدات في مأمن من كلّ نقد، بل أن يُحترم أولئك الذين يعتنقونها من حيث هم أشخاص. يمكن نقدُ دين معيّن أو شكل إلحادي من الإنسانويّة، وحتى السخرية منه وهجاؤه، ولكن يجب احترام حقّ الاعتقاد وحقّ عدم الاعتقاد والتفكير باعتباره يعبّر عن حقّ أساسي للشخص. يمكن لمسيحي أو مسلم أو لا أدريّ أن يعيشوا معاً في سلام ما دام الاختيار الروحي لكلّ واحد يبقى شأناً خاصّاً؛ أي ألّا يدّعي التحكّم في الفضاء العام. إنْ فَعَل ذلك، فإنّه يصبح عنفاً، وفي النهاية تجريماً مؤكّداً لحريّة التعبير الديني ذاتها. من الخداع، إذن، إقامة التعارض بين حريّة التعبير الديني والعلمانيّة، كما يحصل ذلك أحياناً، والحال أنّهما متوافقان.