المجتمعات العربيّة وصراع المرجعيات
فئة : مقالات
المجتمعات العربيّة وصراع المرجعيات([1])
ربمّا سيكون من الأولى، وضع النقيضين (البدائيّة والحداثة)، جنباً إلى جنب، حتى نفهم الإطار/الأُطر المعرفيّة التي تحدد نمط حياة كلّ مجتمع، ومدى اتساقها مع الحقبة الزمنيّة والمكانيّة من جهة، ومقدار التقدم الذي وصلت إليه الأنا المفكرة: أي العقل، من جهة أخرى.
ابتداءً، يمكننا أنّ ننظر إلى تاريخ الاجتماع البشريّ وفق مرحلتين رئيستين: المرحلة البدائيّة، ومرحلة الحداثة وما بعدها. ولكلِّ مرحلةٍ طابعٌ خاص وشروطٌ تاريخية ملحة وإطارٌ معرفيّ يسير البشر وفق مقتضاه، وهذا الإطار يحدد نظرتهم إلى العالم الميتافيزيقيّ والفيزيقيّ على حدٍّ سواء.
ماهية المرحلة البدائيّة؟
سواء آمنا بنظريّة التطور أو بنظريّة الخلق، فهذا لا يمنع من الإقرار بالمرحلة البدائية التي عاشها البشر استناداً إلى البحوث الأنثربولوجيّة أو بحوث علم الآثار، ومسألة متى بدأت الحياة البشرية وكيف، مسألة لا تهمنا في هذا المقام، وإنما سنبحث في أهم خصائص هذه المرحلة ونقيضتها – أي مرحلة الحداثة – لكي نفهم موقعنا من الإعراب بات أين، ونعي التحديات التي تنتظرنا، وحتمية الاصطراع مع بعض السرديات الباليّة لتخطيها.
لآلاف السنين، كان البشر في إفريقيا وأمريكا الجنوبية يجاهدون في سبيل صراع البقاء، وهذا الصراع هو سمة الطّور الأول من النُّشوء، وفقاً لأدبيات علم الاجتماع. غير أنّ لظروفٍ طبيعيّة معينة، المناخ أنموذجاً، ولظروفٍ ماديّة، شح الحاجات الفسيولوجيّة أنموذجاً، انتقل البشر على أثر ذلك من نمط الصيد والتنقل المستمر وحياة الكهوف إلى نمط الزراعة والاستقرار وحياة القرى. وهذه الانتقالة التاريخيّة رغم أنها خلّصت البشر من نمط التنقل المستمر وشح الموارد، ومنحته الوفرة في الغذاء، إلّا أنها أضافت الكثير من التحديات التي أصبح من الواجب على البشر مواجهتها للوصول إلى "السعادة" المنشودة؛ فالإنسان بدأ عملية التفكير، عندما انتقل من حياة الكهوف إلى حياة القرى: حيث بنى حضارته التي نعرفها.
إنّ البشر في ديدنهم يسعون للوصول إلى الحقيقة، هذه الجزئية الغامضة في حياتهم. ولكن إذا لم تتوفر الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة، سيلجؤون إلى مختلف السبل والطرائق، رغم اعوجاجها وعدم منطقيتها - بمنظورنا الحداثويّ - حتى يشبعون غرائزهم الكامنة؛ أي اكتشاف الجزء الفارغ من الكأس.
هناك الكثير من الدراسات الأنثروبولوجيّة التي سلطت الأضواء على أصول الجماعات البشريّة وتاريخها وعاداتها وتقاليدها وطقوسها، كما هو الحال في مناطق من قارة آسيا وأستراليا وإفريقيا والمناطق الشمالية للقطب الشمالي في القارة الأمريكية "الإسكيمو". ومن النتائج التي تم التوصل إليها أن البشر ليسوا كلّهم على نمطٍ واحدٍ من التفكير ولا نوع واحد من العقليّة.
تشير الدراسات إلى أنّ تلك المجتمعات البدائيّة تتميز بعقليةٍ خاصة تختلف كثيراً عن عقليّة المجتمعات المتحضرة، فهي لا تعترف بمبادئ العقل ولا بالعمليات العقليّة الاستدلاليّة؛ لذلك سمّاها عالِم الاجتماع الفرنسي ليفي برول بـ"عقلية ما قبل المنطق". إنّ الإنسان البدائيّ لا يصدق في الغالب إلا بما يراه ويلمسه، وأفكاره لا تتجاوز حواسه؛ إذ هي لا تعترف بقوانين المنطق مثل: (قانون الذاتيّة)، لكلِّ شيء خصائص ومميزات ثابتة تبقى ثابتة أثناء التغيُّر؛ فالإنسان يبقى إنساناً سواء كان صغيراً أو كبيراً مريضاً أو سليماً، و(قانون التناقض)، ويعني "النقيضان لا يجتمعان"، فلا يمكن أن يكون الإنسان في آنٍ واحد عاقلاً ومجنوناً، و(قانون السببيّة)، وهو ردّ الحوادث إلى أسبابها الطبيعيّة، كأن نرد سبب غليان الماء أو تبخره إلى وجود درجة معينة من الحرارة. سأل المكتشف الأمريكي روبرت إدوين بيري (1856 - 1920) رجلاً من الأسكيمو: "بماذا تفكر؟"، فأجابه: "ليس هناك داعٍ للتفكير، فعندي كمية وافرة من الطعام!".
مِن نافل القول، إنّ المجتمعات البدائيّة تمجد الجماعة ووحدتها، وتنبذ الفرد وحقوقه، فالفرد هذا جزء لا يتجزء من الجماعة، وحقوقه هي حقوق الجماعة، سواء كانت ذات أبعاد دينيّة أو عرقيّة، لذا يصبح الفرد مهمشاً في ظل الأطر المعرفيّة هذه، ولا معنى لخصوصيته وحريته.
وفيما يتعلق بمسألة الانتماءات، نجد أنّ هويّة الإنسان البدائيّ تستمد قوتها من عوامل وراثيّة غير إراديّة، مثل العرق أو الدِّين أو اللون... يكسبها الإنسان بمجرد ولادته، والمجتمع البدائيّ هو الذي يكرّس الانتماء إلى هذه الهويّات الضيّقة، ويدعو إلى التعصب إليها، نتيجة غياب "العقد الاجتماعيّ" بين أفراده.
أما قضية الخير والشر، فإن نظرة الإنسان البدائيّ إليها هي نظرة ثنائيّة ضيّقة، لا تعترف بالحقيقة النسبيّة؛ فالإنسان جُبل على الخير كما يظنون، وهم يفسرون الشر بأنه نتاجُ قوى خارقة تربض في خارج هذا العالم الماديّ.
إنّ الإطار المعرفيّ الذي يُحدد نمط حياة المجتمعات البدائيّة وأسلوب تفكير أفراده، يستند في قوته على مصدرٍ خارجيٍّ ماورائيّ، بسبب أنّ العمليات العقليّة البدائيّة التي يستخدمونها لا تستسيغ عملية فهم هذا العالم المشؤوم من داخله وبالأدوات الماديّة التي يوفرها، وسبق أن ذكرنا فُويْق أنّهم لا يؤمنون بسلطة العقل والمنطق، فهي سلطةٌ مفسدة للذوق والأخلاق!
يعتقد بعض الباحثين الأنثروبولوجيين أنّ ما تطور بعد غيره ليس هو الأكثر ارتقاءً فحسب، بل الأفضل أيضاً، وكلمة الأفضل هذه كلمة تقويمية فيها مزالق قد لا يسلم منها أحد، ولكن عندما نستخدم مصطلح المجتمعات أو الشعوب البدائية نعني أنّ هذه الشعوب هي، بالمقارنة مع ما نحن عليه، غير متطورة([2]).
فمثلاً يتصف الأسكيمو والأستراليون الأصليون... بالكرم والود والتعاون أكثر من اتصاف غالبية أعضاء المجتمعات المتمدنة (الحداثويّة)، لذلك يكون الأسكيمو والأستراليون الأصليون، بمعاييرنا نحن حول هذه الأمور، أفضل منا.
ماهية الحداثة؟
كما هو الحال في أيّةِ ظاهرةٍ تنتمي إلى العلوم الإنسانيّة، يُثار حولها الجدل والنقاش، وتختلف الآراء حول ماهيتها، ذلك لأنّها علومٌ نسبية لا يمكن ضبطها، وربما سيستغرب بعضهم من القول إنّ العلوم الطبيعيّة أيضاً، باتت الحقيقة النسبيّة تحكم مناهجها، ويمكنُ القول إنّ هذا العصر الذي نحن بصدده، أزاح جانباً وبلا عودة الحقائق المطلقة، وعزز حتمية الحقائق النسبيّة.
بغض النظر عن الجدل القائم حول سؤال الماهية، يمكن القول إنّ الحداثة Modernity بدأت فعليّاً، كما نظن، مع الصراع الذي دار بين عالِم الفلك والفيلسوف الإيطالي غاليلو (1564 - 1642) من جهة، والمدرسيين ورجال الدِّين من جهةٍ أخرى، ذلك لأنه صراعُ مرجعياتٍ فكريّة([3]). وهذا الصراع يطرحُ سؤالاً وجوديّاً: السلطة لِمَنْ؟ للعقل أم للغيب؟ ولكن الأمر كان محسوماً في حقبة غاليلو، لذلك تم تعذيبه وتهديده بالقتل، لأن سلطة الغيب كانت تمتلك القوى الماديّة القادرة على فرض إرادتها ومنطقها بالإكراه. إنّ غاليلو بدأ ثورة العقل الحديث، ورغم أنّه تراجع عن النتائج العلميّة التي وصل إليها، ولكنه عرى السلطة الغيبيّة، واستغلال رجال الدِّين لها.
عندما تتوفر الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة اللازمة للتغيير، وتتناقض الأُطر المعرفيّة مع بعضها بعضاً، يصبح الصدام أمراً لا مناص منه، لأنّه صدام الوجود أو عدمه، وهو صدام مَنْ يستحوذ على عقول الناس وأفكارهم ومصالحهم. هذا حدث في التجربة الأوروبيّة مع الحداثة، حيث برزت الطبقة البرجوازيّة الناشئة بُعيْد الثورة الصناعيّة في أوروبا وبريطانيا تحديداً، ولإثبات سطوتها وتفردها، اصطدمت مع السلطة الغيبيّة الممثلة بالكنيسة، والمتحالفة مع نمط الانتاج الإقطاعيّ، وأرست نمط إنتاجها الرأسماليّ، بعد تسويةٍ تاريخيّة حدثت بين النقيضين، إذ أُجبرت السلطة الغيبيّة على ترك "الفضاء العام" لمصلحة سلطة العقل، وهذا هو جوهر العلمانيّة، لا كما فهمها المتزمتون.
الحداثة بهذا المعنى، تدل على أنّها ثورة على الماضي والتراث معاً، وهذه الثورة ليس هدفها الانتقاص أو التقليل من شأن الأجداد وما وصلوا إليه، ولكن الهدف هو الاحتواء والسيطرة على الطبيعة وإخضاعها لمشيئة الإنسان العاقل، وهذا الإنسان الذي نقصد، بات بفضل الحداثة وعقيدة التنوير، مركز الكون وجوهره، ولا معنى لأي سلطةٍ خارجة عن عالمهِ، كما كان سائداً في المجتمعات البدائيّة.
وحين نقول إنّ الحداثة ثورة، لن نبالغ في ذلك؛ فالمتتبع للحقبة الزمنية الممتدة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، سيكتشف أنّ ثمة تحولاتٍ بنيويّة شهدتها أوروبا، ابتداءً من عقلنة العالم، ورفض الهالة الماورائيّة، والتأكيد على قيمة الإنسان وحريته، وتعزيز مبدأ الذاتيّة، وقيمة العلم كونه المصدر الأسمى للمعرفة، وبماديّة الطبيعة، والميل إلى النظرة التفاؤليّة والابتعاد عن نقيضتها التشاؤميّة، وغزارة الإنتاج "الرأسماليّة"... باختصار إنّها – أي الحداثة – تحولاتٌ بنيويّة شملت أنماط الإنتاج والثقافة والمعرفة، وتحمل صفة أساسيّة: الثورة البيضاء على كلّ ما هو بدائيّ.
نظّر للحداثة العديد من الفلاسفة والعلماء، وشكلوا الأساس النظريّ والعمليّ الذي قامت عليه هذه الثورة البيضاء، ابتداءً من غاليلو ونيوتن وكبلر وبيكون، ومروراً بمنظّري العقد الاجتماعيّ مثل هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وهيغل، إضافةً إلى ديكارت الذي مذْ صرّح بمقولته الشهيرة: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، بات الإنسان هو مركز الكون، ولا يوجد هناك مَنْ يمتلك سلطةً أعلى من سلطة العقل والمنطق؛ أي أنّه نقل السلطة من الذات الإلهية إلى الأنا المفكرة.
بفضل هذا الإطار المعرفيّ الحديث، وصلت الحضارة إلى قمة تطورها وتقدمها، نتيجة الاستجابة إلى تحدياتِ "توينبي" الملحة، بعد أنّ توفرت الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة اللازمة، وما وصلت إليه البشريّة في القرون الستة الماضية، يفوق ما أنجزته المجتمعات البدائيّة كمّاً ونوعاً على مدار تاريخها الطويل.
وعلى الرغم من المنجزات الكبيرة التي حققتها الحداثة، إلّا أنّ ثمةَ اتجاها فكريّا برز في أوروبا مع الألمانيين فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، ومارتن هايدغر (1889 - 1976)، اللذين انتقدا الإطار المعرفيّ للمجتمعات الحداثويّة، وهذا الاتجاه بات يسمى بما بعد الحداثة، وهو في جوهره نقدٌ للحداثة نفسها، ولن نخوض هنا في حيثياته، لأنّه مرحلةٌ متقدمة تخص وعي الأمم المتقدمة لذاتها.
أين موقعنا من الإعراب؟
لا مناص من القول، إنّ الغرب سبق الأمم الأخرى في سعيه نحو الحداثة، وتمكن من تخطي الأُطر المعرفيّة البدائيّة. ليس لأنّهم متفوقون جينيّاً أو عرقيّاً كما يظن العنصريون، ولكن بسبب توفر الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة، قبل غيرهم من الأمم، لذلك عندما توفرت تلك الشروط في دولٍ مثل اليابان أو الصين أو الهند أو دول شرق آسيا... نجحوا في إحداث تحولاتٍ بنيويّة انعكست إيجاباً على واقعهم المعيش. وهذا الطرح يكون مناسباً للرد على سؤالٍ يُردد باستمرار: لماذا الغرب سبق الأمم الأخرى في حداثته وتقدمه؟
لم يقف العالم العربيّ مكتوف الأيدي إزاء هذه "الثورة"، وإنما بدأ مبكرّاً – وقبل غيره من الأمم المتخلفة وقتذاك - في سعيه نحو استيعابها وهضمها ومحاولة فهم ماهيتها، وبدأ المشروع النهضويّ العربيّ مؤسس مصر الحديثة: محمد علي باشا، ففي بداية القرن التاسع عشر، أرسل هذا الأخير بعثات مصريّة إلى فرنسا، للاستفادة من تجربتها الحداثويّة، وهذا الفكر يتسم ببعد النظر واستشراف المستقبل واعترافٌ لابدّ منه بتأخرنا وبتقدمية الآخر.
وامتداداً لمشروع محمد علي باشا، برزت أيضاً في القرن التاسع عشر نهضة فكريّة إصلاحيّة سعت إلى عقيدة التنوير والحداثة([4])، ساهم في التنظير لها مفكرون من أمثال محمد عبده، وعبد الرحمان الكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، وفرح أنطون، وأحمد الشدياق... إلّا أنّها نهضةٌ قُتلت في مهدها ولم يُكتب لها النجاح، نتيجة عوامل معقدة.
سؤالٌ يُطرح دوماً: "لماذا تأخر العرب؟". قلنا إنّ النهضة العربيّة قُتلت في مهدها نتيجة عوامل معقدة، منها خارجيّة – تصبّ في مصلحة الدول الحداثويّة – ومنها داخليّة ساهم فيها المستفيدون من هذا الانحطاط الحضاريّ، ونحن نظن أنّ العوامل الداخليّة كانت أشدّ وطأةً، وذلك إيماناً منّا بضرورة نقد الذات قبل نقد الآخر، والذي أقصده من جملة العوامل الداخلية تلك التي تتسم بالجمود الفكريّ الذي بدوره يُعدُّ العدو الأول للحداثة.
برزت إزاء النهضة العربيّة – بغض النظر عن اختلاف منطلقاتها وطرائق تحقيق عقيدة التنوير والثورة الحداثويّة – حركة راديكاليّة ومنغلقة على الذات في النصف الأول من القرن العشرين، متمثلة بالفكر الإخوانيّ الهدام، بقيادة سيد قطب ومَنْ لف لفه، وشكلت هذه الحركة الإطار المعرفيّ الذي يستند عليه أصحاب الفكر الإقصائيّ، الذين يعتقدون أنّ لا خير في الأمة إلّا إذا عادت إلى ديدنها، عن طريق مبدأ "الحاكميّة" الذي جاء به قطب.
يقف هذا الخطاب على النقيض من الثورة الحداثويّة ويناصب العداء لها، سواء أُطرها المعرفيّة أو القيم والمبادئ النبيلة التي نادت بها، مثل، نقدّ التراث ورفع هالة التقديس عن كلّ ما هو ماضويّ ووضعه تحت سلطة النقد والتمحيص، وتحكيم العقل وتفضيله على النص، وجوهريّة الإنسان ومركزيته الكونيّة، إضافةً إلى سردياتٍ كبرى مثل الديمقراطيّة والعلمانيّة...
نتيجة هذا الرفض التام لمنجزات الحداثة، وتفوق الخطاب الراديكاليّ على حساب الحركات التقدميّة، تأخر العرب عن السير في ركب الأمم الحداثويّة، وما زاد الطين بلة، مجيء الأنظمة السياسيّة العربيّة بعد مرحلة الاستقلال "الشكليّ"، وعملية تبنيها سياسات "ترقيعيّة"، هدفها تقليد الغرب واستهلاك المنجزات الماديّة للحداثة، تخديراً لعقول السواد الأعظم من الناس وإيهامهم بأنّهم ماضون نحو الأفضل، وهذا حدث دون حسم السرديات الكبرى التي تخطاها الغرب مُنذْ القرن السادس عشر!
فأصبحت المجتمعات العربيّة لا تعرف مِن الحداثة إلّا قشورها، ويظن العرب أنّ استخدام الأدوات التكنولوجيّة أو التشدق بالألفاظ والمفاهيم الحداثويّة يجعلهم بالضرورة حداثويين، ولكنهم في الواقع بدائيون في تفكيرهم وأُطرهم المعرفيّة، ومدنيون في هيئتهم الخارجيّة، وهذه مشكلة عويصة تنشئ صراعاً نفسيّاً لدى الفرد بسبب ازدواج منظومة القيم وتناقضها مع بعضها بعضاً.
أكدنا ونُكرر مرةً أخرى، أنّ الحداثة ثورة بيضاء تفرض تحولات بنيويّة على مختلف الأنماط سواء الإنتاجيّة أو المعرفيّة أو الثقافيّة، إنّها ثورةٌ ترفض الأُطر المعرفيّة للمجتمعات البدائيّة المتركزة على الماورائيات، وتقدس الإنسان، وتسعى إلى تفسير العالم والمضي قدماً في فهمه بواسطة العقل، إنّها تحسم صراع المرجعيات لمصلحة الإنسان... والحداثة هذه لا تتجزأ، ومَنْ يُريد أن يسير في طريقها يأخذها كاملةً، كإطارٍ معرفيٍّ متجانس، وإلّا أصبحت بدائيّةً محسنة.
يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، إنّ الحداثة مشروعٌ مازال قيد الإنجاز([5])، وبإمكان كل الأمم المساهمة فيه عبر إبداعاتهم، ما يجعلنا نحن العرب نتحرج إذا ما سُئلنا: "ما الإسهامات التي قدمها العرب إلى البشريّة؟!".
[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 42
[2] انظر: أشلي مونتاغيو، البدائية، ترجمة: د. محمد منصور، عالم المعرفة، أيار 1982م، ص 13
[3] انظر: هشام الغصيب، مقال بعنوان: الحداثة وما بعد الحداثة، موقع الحوار المتمدن.
[4] انظر: أحمد برقاوي، الفكر العربي الحديث، منشورات جامعة دمشق، 2013 - 2014
[5] يورغن هامبرماس، الحداثة مشروع لم يكتمل، ترجمة: فتحي المسكيني، تبيُّن، ع1، صيف 2012، ص 183 - 196