المرأة الريفية في تونس: حفريات في المعيش
فئة : مقالات
1- مبدأ إعادة النظر أساس للفهم والإصلاح
يخضع البحث في وضع المرأة الريفية في تونس لتيارين يتصارعان في الظاهر ويتماهان من حيث إخفاقهم في كيفية تناولهم للحالة، والإمساك بزمام الإشكاليات المحيطة بها: الأول هو خطاب الدولة الممزوج بدعاية سياسية، وبإجراءات حينية منتهية الصلاحية في الزمن ونجاعة الفعل. أما الطرف الثاني، فيمثله أساسا الخطاب النخبوي الفوقي الذي ساهم في تشكيل فضاءين؛ الأول خاص بفئة نسوية متعلمة، وحقوقية تقطن المناطق الحضرية، وفضاء آخر مختلف تماما من حيث بنية التبريرات وسياقاتها[1]، والقوى الاجتماعية التي تتحكّم فيه، والتي تؤسّس لمعيش امرأة ريفية "يصلها الخطاب النسوي النضالي بأسلوب عمودي، ساهم بطريقة مباشرة في ضعف الفهم والتقبل والاحتواء من جهة، وساهم في تشكّل وضعية هشّة لفئة نسوية تقطن الداخل والأرياف- تعاني من الأمية، والفقر، والبنية الاجتماعية المتهرئة - تنهك من مكتسبات الحركة النسوية، وتضعها في موقع تشكيك لنجاحاتها من جهة ثانية"[2].
أثبتت حوادث الموت الجماعية المتكررة للنساء الريفيات أن هناك جملة من التّحديات المعيشية تدفع بالضرورة لإعادة بناء ثنائية الاعتراف والاقتصاد في الفضاء العمومي
لذلك، فإنّ المرأة الريفية في تونس تحتاج منا قبل أن نحفر في تداعيات وضعها الحالي لمبدأ إعادة النظر في الطرح والبحث والذي يتشكل من نقطتين أساسيتين:
- علينا أن نعترف أنّنا أمام واقع اجتماعي يلزمه الكثير من التّفكير، والتّفحص والبحث نتجاوز فيه النّموذج الذي ينظّم الحياة الاجتماعية إلى ثلاث مراحل: التّكوين والعمل والتّقاعد إلى نموذج مختلف يشهد فيه الفضاء الاجتماعي الريفي، خاصة مراحل من التأنيث الصارخة في فضاء العمل، وخاصة في المهن الهشّة وغير المهيكلة - اليد العاملة في المصانع نسوية، والعمل الفلاحي نسوي، والعمل الحرفي نسوي...- والتي ساهمت بشكل مباشر في تعميق هشاشة وضع المرأة في فضائها الريفي المختلف من حيث البنية، والدّيناميكيات عن أي فضاء آخر.
- لا يمكن أن نتطرق إلى موضوع المرأة الريفية في تونس دون أن نعترف بإشكالية هذه الحالة الاجتماعية المستعصية من حيث الشكل والمضمون، والذي تتطلب دراسات عميقة وميدانية ومباشرة وأفقية للواقع المعيش لفضاء المرأة الريفية، حتى نفهم نسق التحولات المحيطة بها من جهة، وبين المعيش اليومي لها من جهة ثانية، لنتمكن في النهاية من إقامة استراتيجيات يمكن أن تغير من النسق الاجتماعي والثقافي الذي تعيش ضمنه.
- لقد أثبتت حوادث الموت الجماعية المتكررة للنساء الريفيات أن هناك فعلا جملة من التّحديات المعيشية تدفع بالضرورة لإعادة بناء ثنائية الاعتراف والاقتصاد في الفضاء العمومي، وخاصة فيما يتعلق بخطاب الحركة النسوية في تونس. فلا الاعتراف بحضور المرأة الريفية كفئة نسوية محركة داخل الفضاء العمومي بشكل عام والنسوي بشكل خاص لوحده قادر على تحقيق عدالة اجتماعية منصفة، ولا الاقتصاد لوحده قادر على حماية المساواة الاقتصادية. "تتطلب العدالة الاجتماعية، من أجل تحقيقها، تركيبة متكاملة تجمع بين إعادة التوزيع الاقتصادي والاعتراف".[3]
2- المعيش اليومي للمرأة الريفية: الحالة المستعصية
إنّ واقع المرأة الريفية الغارق في التهميش، والذي ظهر على سطح الحياة الاجتماعية بسبب حوادث الموت الجماعي الأخيرة، ساهم في إبراز طبيعة التناقضات الاجتماعية الجديدة التي انضمت للتناقضات الطبقية القديمة، وظهور فئات وشرائح اجتماعية أخرى أكثر تضررا، فجعلت من ظواهر التهميش والإقصاء برهانا آخر على التجارب التنموية المعوّقة التي كانت تحاول الدولة تصريفها منذ سنوات، والتي فشلت في استيعاب المعيش اليومي لمجموع الفاعلين عموما، والمرأة الريفية خاصة. هذا المعيش اليومي "الذي يصف عالم الدلالات الأولية"[4] الذي تبحر فيه المرأة الريفية والمليء بالتناقضات، والتي تخلّ بالصورة المراد تسويقها عن وضع المرأة في تونس من خلال خطاب يوهم بفرص الاندماج، ليبرر اللامساواة التي تعيشها هذه المرأة المهمشة.
في الواقع، يحيلنا هذا العالم المعيش إلى العالم الواقعي الذي يسمح بوجود وقائع أخرى مغايرة وصادمة، ولكنها وقائع تحيل دائما إلى الواقع الأولي للحياة اليومية لهؤلاء الفاعلين؛ فهي تشكل "لأفق الأشياء، والعالم الحاضر دوما للأشياء التي تعطى في التجربة المباشرة لحياة الفاعلين"[5] المتجذرة في عالم معيش، هو الأساس اليومي للواقع الذي يرتبطون به، قبل أية نظرية أو حتى أي تفكير، والذي يشكّل نظام حياتهم الاجتماعية. والبحث في خارج هذا المعيش، وخارج نظام التبرير الذي تتشكل من خلاله جملة البنى والعلاقات، لا يمكن أن يمسك بأطراف اللّعبة الاجتماعية التي يمارسها الفاعلون، والتي يمكن أن تخضع المجتمع لحالة ذهول وعجز، مثلما يحدث اليوم في تونس بين السلطة العاجزة التي تؤسس لنظام تبرير لعجزها وخطابها الوهمي، وواقع المرأة الريفية الذي يتشكل فيه معيشها اليومي "على قاعدة العلاقات التي تكونها مجموعة من الأشخاص والأشياء"[6]، هذه القاعدة التي تتكوّن أساسا من:
● المسكوت عنه المتمثل أساسا في القطاعات الكثيرة المؤجرة ليد عاملة رخيصة، وخاضعة لنظام التأجير اللامهيكل، ومنها القطاع الفلاحي خاصة.
● المهمّش المادّي والمتمثل في ارتفاع نسب الأمية في صفوف النساء الريفيات، وامتداد ظاهرة تأجير الفتيات القاصرات.
● والمهمّش الرّمزي الذي انتقل بنا من تأنيث الفقر إلى تأنيث الموت ضمن مقوّمات مدينة البيت أو المنزل كما فسّرها بوسوي، والذي يقوم على فكرة أنّ الرابط الأساسي بين الكائنات داخل هذه المدينة هو ما يتأسس على نموذج القرابة، حيث يضحي الفرد بنفسه وبسعادته من أجل سعادة مشتركة، إذ تتوقف عظمة الأشخاص على الموقع الذي يحتلونه داخل الروابط الاجتماعية التي تقوم على التراتبية الاجتماعية، وهذا الأمر ينطبق على المثال الذي قدمه بوسوي حول الملك، باعتباره الأب الذي يضحي بنفسه من أجل رعيته[7]، وهذا الأمر ينطبق على المرأة الريفية التي تضحي بوجودها من أجل إعالة العائلة التي تكون في الأغلب هي معيلها الوحيد، والذي أوصلنا إلى مرحلة التأنيث الثلاثي وهم أساس المعيش اليومي للمرأة الريفية في تونس اليوم.
ساهم واقع المرأة الريفية الغارق في التهميش، في إبراز طبيعة التناقضات الاجتماعية الجديدة التي انضمت للتناقضات الطبقية القديمة، وظهور فئات وشرائح اجتماعية أخرى أكثر تضررا
3- المرأة الريفية: التأنيث الثلاثي
- تأنيث العمل غير المهيكل
يتأسس نظام قطاع العمل غير المهيكل، وخاصة قطاع العمل الفلاحي على قاعدة استقطاب اليد العاملة النسائية. وبالرغم مما يحيط بهذا الحقل من ضعف مستوى التّنظيم وضعف الفصل ما بين العمل ورأس المال، إلاّ أنه يستمد مجال استمراره وقوته، من تقاطع علاقات العمل السّائدة لديه مع علاقات القرابة، والعلاقات الفرديّة والاجتماعيّة، والذي يجعله مستمرا في تشغيل النساء بالخصوص. ومن هنا يمكن أن نفسر ذلك التماثل بين اللاّهيكليّة، وما بين الهامشيّة وبين الفقر. "ومن هنا يعاد اليوم تشكيل المسألة الاجتماعية، حيث أصبح الإقصاء يشمل نطاقات الحياة الاجتماعية كافة، ولم تعد الصراعات الاجتماعية مرتبطة بالعمل، بل هي صراعات تتأسّس حول القدرة على تحقيق الاندماج والخوف من الإقصاء".[8]
- تأنيث الفقر
تعي النساء الريفيات حالة التهميش والدونية المشكّلة لحياتهم اليومية، وهذا ما يدفعهم لتبنّي نمط خاص لذلك المعيش الذي تكون فيه المرأة هي المعيلة الوحيدة للأسرة، والتي تختار فيه هذه الأخيرة نظرا لقلة الفرص المتاحة أن تتجه للعمل في قطاع غير مهكيل، يمكن أن يعرّض حياتها للخطر، ولكنها تدخل في نمط من العلاقات الذي يجعلها تصنع نظام من التبريرات السلوكية التي تفسر من خلالها قبولها لهذا النوع من العمل الذي يزيد من حالة التهميش التي تعيشها، والذي جعلها ضمن قائمة الفقراء الجدد بصيغة المؤنث.
- تأنيث الموت
تحيلنا حوادث الموت التي تعرضت لها النساء العاملات بالقطاع الفلاحي في تونس إلى حقيقة اجتماعية في غاية الأهمية، وهي حالة الموت الاجتماعي الذي تسبق حادثة الموت البيولوجي، هذه الأخيرة ما هي إلا نهاية حتمية لحالة التهميش والمعاناة التي تؤثث المعيش اليومي للنساء الريفيات، والتي دفعتهن إلى اختيار الموت الاجتماعي في قالب العمل غير المهيكل الذي جعل للموت صيغة مؤنثة تنهي مسار التهميش الذي تعيشه نساء الأرياف في مجتمع الفوضى.
[1]- Cyril Lemieux, Sociologie Pragmatique, La Découverte, Paris, 2018
[2]- مبارك فاتن، الحركة النّسوية والمرأة الريفية في تونس: أيّة علاقة؟، ندوة الحركة النسوية، قفصة 2018، ص 12
[3]- Fraser Nancy, Qu'est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution, La Découverte, 2011,p.35
[4]- Rouzel Joseph, Le quotidien dans les pratiques sociales, Éditions CHAMP SOCIAL,1998,p.10
[5]- مبارك فاتن، مرجع سابق، ص 15
[6]- Goffman, Erving. La mise en scène de la vie quotidienne, Tom2, Les relations en public, Paris, Minuit, 1998, p.191
[7]- عبد الإله فرح، السوسيولوجيا البراغماتية لدى لوك بولتانسكي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، أكتوبر 2018
https://www.mominoun.com/articles/السوسيولوجيا-البراغماتية-لدى-لوك-بولتانسكي-6163
[8]- غربالي فؤاد، سوسيولوجيا المعاناة من خلال المعيش اليومي لشباب الأحياء الشعبية: شباب أحياء مدينة صفاقس مثالا، مجلة عمران، العدد16، المجلد الرابع، ربيع 2018، ص 13