المسألة الدينية بين الفكر التقليدي والفكر الحديث: (قراءة في أعمال داريوش شايغان)
فئة : مقالات
المسألة الدينية بين الفكر التقليدي والفكر الحديث:
(قراءة في أعمال داريوش شايغان)[1]
ينبني فكر داريوش شايغان على فكرة وجود بونٍ شاسع، يبلغ أحياناً حدّ "القطيعة الإبستيمولوجية" (Clivage épistémologique) أو "الثغرة العميقة" (Brèche profonde) بين الثقافات التقليدية والثقافات الحديثة، وهو بونٌ يُرجِعه الفيلسوف الإيراني إلى ما يسميه استبداد (وربما مكر) التاريخ (Tyrannie de l’histoire). فالحضارات أو الثقافات التقليدية تعيش حالة انتقال طويلة (Transition) بين حدث يعتمل ويتهيأ، لكنه لم يفصح عن نفسه بشكل كامل، وبين نظام روحي يتذبذب أو يترنح، لكنه لم يسقط كلية، ولن يعيد نفسه بشكله الأصلي. وبعبارة أخرى، فإن الثقافات التقليدية تعيش توتراً بين "الما لم يحن بعد" (Le pas encore) و"الما لم يعُد قائماً" (Le plus jamais). حالة البين بين هاته ذات النكهة الهيدغرية، عبَّر عنها بشكل آخر محمود درويش في قوله: فلا الأمس يمضي ولا الغد يأتي (حالة فلا ولا).
تتأسس بنيات الروح التقليدية حسب داريوش على نظرة غنوصية للوجود الإنساني قوامها:
-دورات الصعود والنزول.
-الانقسام الثلاثي لقوى الإنسان: جسم/ نفس/ روح.
-العلاقات الحميمية أو الدافئة بين الإنسان والكون، بين الكون الكبير والكون الصغير.
-اعتماد لغة الرموز وإيحاءاتها الواسعة.
-افتراض فضاء خيالي واسع ولامتناهٍ (Espace imaginal) بتعبير الفيلسوف الفرنسي المتفرِّس هنري كوربان.
هذه البنيات الروحية أو الفكرية المشكِّلة للعالم التقليدي، بدأت تتهشم تدريجياً ابتداء من القرن الخامس عشر، نتيجة حدثٍ أساسي حاسم هو ظهور العصر العلمي-التقني، وبدأت الصيغ أو الأشكال الثنائية للفكر المؤدلج تحلّ محلها بعد أنْ كانت أشبه بمجموعة مرايا صقيلة كانت تعكس ضوء الكينونة بشكلٍ شفّاف، لكن الصدمات والتحولات التاريخية والمعرفية العميقة التي حدثت في الغرب جعلت هذه المرايا، بفعل الأشكال الاختزالية الثنائية المؤدلجة، تبدو أقرب إلى "مرايا مكسورة" (Miroirs brisés) تحرف وتشوه (Déforme) نور العالم.
نعم، إنّ الوجه البارز لهذه التحولات هو التحوّلات العلمية التقنية، لكن خلفها تحولات، بل اختلالات أو اضطرابات (Bouleversements) ميتافيزيقية، أدّت إلى قلبٍ كلّي للمنظورات وللرؤى، حرمت البنيات التقليدية من علّة أو من حقّ وجودها (Raison d’être)، ممّا دفع بها إلى التواري في لاوعي الإنسان الحديث.
ونتيجة هذه التحولات، وجد العالم الحديث نفسه مقسّماً بين نوعين مختلفين من الإنسانية: إنسانية الحضارات أو المجتمعات غير الغربية، وهي إنسانية تظلّ منفتحة على لغة الأساطير والرموز بسبب كثافة مخزونها الثقافي، وبسبب انكفائها على ذاتها نتيجة احتكاكها الصادم بالعالم الحديث؛ ثم إنسانية المجتمعات الحديثة المنخرطة في سيرورة التحديث، حيث تتغلّب الخطابات العلمية الوضعية والسوسيوسياسية التي تؤثث الفضاء الثقافي الكوني.
هذان المعطيان الحضاريان وما ينتج عنهما على المستوى الثقافي المتمثل في "تجاور" مستويين ثقافيين متباينين، لكل منهما "منطقه"، وتمثُّلاته، وتصوره للعالم، ومنظومته القيمية، واللذان هما، حسب شايغان، مستويان أو نمطان للحضور في العالم، يعيشان -في حالات "التواصل"- نوعاً من الاصطدام والاحتكاك المولِّد للعنف، كما يعيشان -في حالات الامتزاج والاختلاط- أشكالاً فريدة من الهجنة، وكذا من المخاتلة والمكر الماكر. فعندما تثور بنية حضارية أو ثقافية تقليدية مطالِبَة بالتحرُّر من التأثير الذي تسميه سلبياً، فإنها تفشل وتدخل على الرغم منها في سيرورة تفتُّت داخلي، قد تكون عملية "التغرُّب اللاواعي" وما ينتج عنها من تمزُّقات وجدانية واختلاط معايير وتداخل أزمنة، وتشوش رؤية فكرية وإيديولوجية، تتبلور على شكل وعي شقيّ أو كئيب.
غير أنه يبدو أن التوصيف الاستيفائي لكلٍّ من البنيتين، أمر متعذّر بسبب امتداداته الممكنة، وبسبب الإحالة المتبادلة والتوقف المتبادل بينهما؛ فكلّ منهما تحيل على الأخرى، ولا تكتمل إلا بها وبتحولاتها.
يظلّ الحدث الأساس الذي غيَّر وجه العالم والإنسان والتاريخ البشري في نظر شايغان، هو انبثاق العصر العلمي- التقني في أوروبا في القرن السادس عشر، والذي ولَّد تغيرات حادة وحاسمة في وعي الإنسان عامة بذاته؛ أي بالصورة التي كانت لديه عن ذاته وبمكانته في العالم، والذي يعتبر طفرة ثقافية ثانية حاسمة في كل تاريخ البشرية.
كانت الطفرة الأولى في تاريخ الإنسان قد حدثت بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد، في الفضاءات الثلاثة الكبرى للإنسانية آنذاك:
أولاً في بلاد الإغريق التي ظهر فيها الفلاسفة ما قبل السقراطيون؛
ثانياً في الهند التي أنتجت الأوبانيشاد والبوذية؛
وثالثاً في الصين التي ظهر فيها لاوتسوو كونفوشيوس.
هذه الفترة الصباحية الباكرة الباحثة عن الأسباب والعلل الأولى، شهدت تعايشاً بين الميثوس (Muthos) واللوغوس (Logos)، هذا التوازن سيختلّ تدريجياً فيما بعد، مولِياً أهمية أكبر للعقل على الأسطورة.
أما الطفرة الثانية، فستبدأ في القرن الثامن عشر الميلادي في الغرب، وهي طفرة كيفية ونوعية، أحدثت قطائع ثقافية على مستوى التاريخ البشري. ملمحها الأول كان هو الثورة الكوبرنيكية، المتمثلة في إحلال مركزية الشمس محلّ مركزية الأرض، أو من العالم المغلق المحدود إلى الكون اللانهائي بتعبير الفيلسوف Alexandre Koyré.
الثورة العلمية-التقنية هي في حدّ ذاتها ثورة فكرية وفلسفية عميقة على المستوى الأوروبي أو الغربي عامة، ثم على المستوى الكوني فيما بعد بصدد تصوّر الكون والزمن والمكان والمادة والطبيعة والإنسان، وهي التحوّلات، بل الانقلابات الفكرية التي ستتفحَّص وتتمثَّل وتستثمر الاتجاهات الفلسفية كل نتائجها الفكرية المذهلة، التي يلاحق شايغان تفاصيلها بشغف والتي يمكن إجمالها في العناصر الآتية:
- إخلاء الطبيعة من الروح وإحلال العلاقات الميكانيكية والعلّية محل العلاقات والقوى الروحية.
- استبعاد كلّ غائية من الطبيعة أولاً، ثم من التاريخ في مرحلة لاحقة.
- تمجيد المادة بتصويرها كقوى وعلاقات ومقادير هندسية وعددية قابلة للحساب والترييض، ممّا أعاد لها المكانة والقيمة والرمزية التي افتقدتها في الفكر التقليدي.
- تغيير التراتب الأنطولوجي للعالم وللكون، وفتحه على آفاق وأبعاد لانهائية، وتجديد العلاقة بين عناصر الرابوع: الله- الإنسان- الطبيعة- التاريخ.
- الإعلاء من شأن الذاتية والتمييز بينها وبين الموضوعية، وتأسيس العالم الحديث والعلم الحديث على أساس العلاقة ذات-موضوع.
يجمل شايغان هذه العناصر ضمن حركة كبرى يسميها بالكشف (Dépouillement) الأنطولوجي للإنسان والعالم، وهو الكشف الذي يتخذ صورة كلية (Gestalt) تمارس تأثيراً فكرياً كونياً مركز إشعاعه الغرب الأوروبي (La lumière vient de l’Occident). وهذا الكشف هو عبارة عن أربع حركات أو موجات فكرية كبرى أسست الرؤية الحديثة.
1- إضفاء طابع أداتي على الفكر أو العقل؛ أي تحويله إلى أداة تحليل وكشف بتنظيم المعرفة وضبط خطوات تقدّمها نحو الموضوع، وهو ما يعرف بصيغة أخرى بأهمية "المنهج"، حيث تصبح طريقة اكتساب المعرفة موازية في الأهمية لموضوع المعرفة ذاته، إن لم تكن أهم. فالأساس الفلسفي لمسألة المنهج هو إرساء المعرفة الإنسانية على ذاتها.
2- إضفاء طابع رياضي على الطبيعة، حيث تحوَّلت الطبيعة في منظور العلم الحديث إلى كميات ونسبٍ وعلاقات عددية وهندسية، وليست ماهيات أو جواهر قبلية، وهو ما عبَّر عنه غاليليو بالقراءة الرياضية لكتاب الطبيعة، وعبر عنه السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر بنزع الطابع السحري عن العالم أو عن الطبيعة، وفي ترابط مع ترييض الطبيعة إعطاء طابع تقني للعلم والمعرفة بشكل تدريجي في سياق الانتقال العسير من الفكر التأملي إلى الفكر العلمي الذي يخضع بدوره، ويستجيب لمتطلبات الفكر التقني.
3- إضفاء صبغة طبيعية على الإنسان ذاته؛ أي النظر إليه باعتباره كائناً ينتمي إلى الطبيعة وينحدر منها، ممّا يعني إعادة الاعتبار للجسم والنظر إلى النفس على أنها جملة دوافع وميولات وحاجات عضوية.
هذه النظرة تنقل الإنسان من دائرة السحر (Homo magnus) إلى مستوى الإنسان العارف (Homo sapiens) بالمعنى الأنثروبولوجي، الذي يمهد للإنسان الصانع (Homo faber) في اتجاه الإنسان الصناعي أو التكنولوجي (Homo technologicus).
4- نزع الطابع السري أو السحري (Demagitication) عن الزمن والنظر إليه كآنات متلاحقة مرتبطة بالمكان وبالعلية، بعيداً عن أية إضافات أو إسقاطات. وهذا يعني التمييز بين الزمن التاريخي والزمن الميتافيزيقي، زمن ما قبل أو ما بعد الزمن أو اللا زمن، الذي هو الزمن الإسكاتولوجي، زمن القيامة والحساب والعقاب في المنظور الديني.
هذه الحركات هي أساساً انتقالات أو حركات نازلة (Descendants) من الرؤية التأملية إلى الفكر التقني، ومن الأشكال الجوهرية إلى المفاهيم الميكانيكية-الرياضية، ومن الجواهر الروحية إلى الدوافع الأولية، ومن الزمن اللازمي إلى الزمن التاريخي أو التاريخاني.
هذه الحركات تُحدث ثغرة أو ثُلمة أساسية عميقة (Brèche fondamentale) بين الفكر التقليدي والفكر الحديث، يتعذّر معها التواصل والتفاهم بينهما بمفاهيم واضحة وبمرآة صافية، بل عبر مرايا منكسرة فقط (Miroirs brisés)، لأن هذه الحركات ارتبطت بمجموعة صدمات (Chocs): الصدمة الكوسمولوجية التي غيرت مركز الكون من الأرض إلى الشمس، وفتحت أبواب لا تناهي الكون؛ والصدمة البيولوجية التي أدرجت الإنسان ضمن سلّم تطور طويل المدى؛ والصدمة السيكولوجية التي حفرت أعماق الوعي، وفتحتها على غياهب اللاوعي أو اللاشعور، بل الأفظع من كلّ ذلك أن هذه المغامرة الفاوستية التي نقلت الإنسان، متمثلاً في طليعته من كونه كائناً رائياً (Visionnaire) إلى كونه كائناً ناظراً أو ذا نظر (Visuel)، قد أحدثت كدمات ورضوضاً (Traumatismes) بالمعنى الباتولوجي، تسبَّبت في حدوث "خدوش" و"جروح" نرجسية عميقة في صورة الإنسان عن ذاته.
تكلفة هذه الاكتشافات العلمية التقنية والفكرية هي تكلفة عالية؛ فبالإضافة إلى الخدوش والجروح والكدمات، فإن حركة التحرّر المصاحبة لها حركة ماكرة وارتدادية. فكلّما تحرَّر الإنسان من قوى الغيب ومن الأساطير ومن طقوس الولاء ومن "الأوثان الذهنية" فإنه، دون وعي واضح منه، يخلق سلطاً أخرى وأشكالاً وأنماطاً أخرى ذهنية أو مؤسسية أو ديانات دهرية (Religions séculières) تتغيّا الهيمنة بشكل لا يقلّ استبداداً، وكأن قدر الإنسان هو ألّا يتحرّر من سلطة إلّا ليخضع لأخرى. وهذا ما يفرض على الإنسان ضرورة المضي في سياق استراتيجيا ذات ضلعين: التحرُّر المستمر من الأوهام (Démystification) والإعمال الأقصى للعقل التأويلي (Herméneutisme).
لكنّ التحولات الفكرية والقيمية العميقة التي حدثت في الغرب الأوروبي، وانعكست على كافة مكونات وأبعاد الحياة فيه، لم يقتصر تأثيرها على هذه المجتمعات، بل طالت كلّ المجتمعات والثقافات الإنسانية بما في ذلك الثقافات التقليدية ذاتها. ففي المجتمعات الأولى التي شهدت سيرورة علمنة تدريجية شاملة شكَّلت، بموازاة هذه التحوّلات حسب هابرماس، "إيديولوجيا تقنية" مهيمنة تحمَّلت وظيفة إضفاء المشروعية على السيطرة السياسية. أما في المجتمعات والثقافات التقليدية، فإن رؤى العالم التقليدية أخذت تفقد قدراتها وصلاحياتها وصدقيتها (سواء في جانبها الأسطوري أو الديني الرسمي أو الطقوسي أو الميتافيزيقي)، لتتحول إلى أخلاقيات وإلى معتقدات (إيديولوجية) ذاتية، تدخل في تفاعلات وتسويات مع المحددات والأطر الموجّهة والقيم الحديثة، تنشأ عنها خلائط وتشوهات فكرية واعتصارات وآليات إيديولوجية متعددة الأشكال والألوان والوظائف.
لا ينتهي شايغان في تحليلاته إلى خلاصات ذات نفحة وضعية حاسمة راديكالية تجاه الدين، بل يرى أنه ما زال بإمكان الدين أن يُسهم في الإثراء الروحي للإنسان، إنْ لم يعُد بإمكانه القدرة أو المطالبة بتوجيه النظام الاجتماعي. فقد ولى تاريخياً ذلك الزمن الذي كانت فيه الديانات مصدراً للنظام السياسي، لأن الدين عندما يتمّ تخريجه أو تحقيقه خارجياً في التاريخ، من حيث هو كلية متماسكة، فإنه "سيتلوث بالتاريخ وينحدر (Se rabaisse) إلى مستوى الإيديولوجيات الشمولية (Idéologies totalitaires) التي يطفح بها العصر الحديث".
إن الإنسانية المعاصرة تعيش بحدة داخل "حقل واسع من التجاذبات"؛ أي بين شبكتين كليتين كبيرتين متصارعتين؛ إحداهما نازلة قوامها الاختزال ونزع الدلالات (Dévalorisations)؛ وثانيتهما صاعدة قوامها التضخيم (Amplification) وإعادة التقييم (Revalorisation)؛ وتنتج عن تصارعهما أشكال من الوعي الشقي وخليط هجين من الفكر المؤدلج، وبخاصة في مجال أدلجة الدين، أو إفسال الإيديولوجيات العلمانية ببُعد إسكاتولوجي. ولذلك، فإن من الضروري إيلاء الفوارق بين فضائين أو سياقين ثقافيين مختلفين، يحملان رؤيتين متباينتين أو طريقتين مختلفتين للوجود في العالم، كل الأهمية الفكرية والإبستيمولوجية اللازمة. فإمكان الحوار أو التفاهم بينهما يتطلب الاستحضار الدائم لهذه الفوارق الإبستيمية الكبيرة، مع الانتباه المستمر إلى أن الفكر التقليدي الذي يطلق عليه شايغان أحياناً الفكر الأسطوري الشعري (La pensée mytho-poétique) غير قادر على أن يفسِّر ذاته؛ فهو يحيا من نوره الذاتي، ولا يستطيع أن يتَّخذ مسافة تجاه ذاته، لينظر إليها موضوعياً أو كموضوع خارجي.
مؤلفات شايغان الأساسية:
-Daryush Shayegan, Hindouisme et Soufisme, Éditions de la Différence, Paris, 1979.
-Daryush Shayegan, Qu’est-ce qu’une révolution religieuse, Presses d’aujourd’hui, Paris, 1982.
-Daryush Shayegan, Le regard mutilé, Albin Michel, Paris, 1989.
-Daryush Shayegan, Sous les ciels du monde, Éditions du Félin, Paris, 1992.
-Daryush Shayegan, Les illusions de l’identité, Éditions du Félin, Paris, 1992.
-Daryush Shayegan, La lumière vient de l’Occident, Éditions de l’Aube, Paris, 2001.
[1]- ألقيت هذه المحاضرة في المؤتمر الأول لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: "الدين والثقافة: الواقع والآمال"، المنعقد بتاريخ 25-26 مايو 2013 في مدينة المحمدية، المغرب.