المستشرقون ومشكلات الحضارة (عرض كتاب )
فئة : قراءات في كتب
يبدو كتاب (المستشرقون ومشكلات الحضارة) من تأليف الدكتورة "عفاف صبرة"، فضفاضاً على المستوى المفاهيمي، وإنْ وشت العنونة بضبطٍ من نوعٍ ما، إلا أن مقاس المتن الداخلي للكتاب غير مُناسب لهكذا عنونة. ففي نهاية المطاف يبدو كما لو أنّ الكتاب قد كُتب لأناسٍ ينتظرون هكذا إجابات على تساؤلات تُؤرق منظومتهم الفكرية. فهو – بطريقةٍ أو بأخرى- كتاب لا يعتمد على تفكيك السرديات الاستشراقية، بما يقتضي الإطاحة بها من الداخل، والردّ عليها من الداخل، بقدر ما هو كتاب يسعى إلى تعزيز وجهة نظرٍ إسلامية قائمة لناحية تبيان أحقيتها بالنظر إليها –هي الأخرى- من الداخل. فداخل الأطروحة الاستشراقية لا يُجلَّى من الداخل، بتفكيك منظومته الانبنائية بذات أدواته، وداخل الأطروحة الإسلامية يُبقي عليه كما هو، وبالتالي تبقى الفجوة قائمة بين الإسلام والاستشراق، فذاك يقول هذا وهذا يقول كذا، وبالنتيجة يبقى الوضع قائماً دون زحزحة أو نتائج واضحة وشفّافة. هذا وقد جاء الكتاب في مقدمة وستة فصول (التطوّر التاريخي لنشأة حركة الاستشراق/ الاستشراق والتبشير/ الإسلام وموقف المستشرقين منه/ المستشرقون والنظم الإسلامية/ الإسلام والعلوم الحديثة/ الإسلام ومشكلات الحضارة والمدنية الحديثة). وقد أتت المقدّمة كمحاولةٍ لاستطلاع وجهات النظر الاستشراقية، ومن ثم ردّ الشبهات عن الدين الإسلامي، فهي تسير – على ما تُفضي في مقدمتها- على درب مَنْ ردّوا الشبهات عن الدين الإسلامي. فقد أثبتت هذه الدراسة – على ما تقول المُؤلِّفة- أنَّ الباعث الأكبر للدراسات الاستشراقية هو الباعث الديني، إذ خاض الغرب تفتيشاً وتنقيباً عن الشرق، لا سيما العالم الإسلامي، في محاولةٍ منهم للطعن في الدين الإسلامي وذمَّاً له، لذا وجب الردّ على هذه الطعونات، ومن ثم تقويم الخطأ الذي أُلْبِسَ غصباً للدين الإسلامي.
أما الفصل الأول (التطوّر التاريخي لنشأة حركة الاستشراق ) فقد تتبعت فيه المؤلفة التطور التاريخي لعلاقة الإسلام بالغرب، وصولاً إلى الاستشراق الحديث. فعلى طول الخط التاريخي كان الاتصال قائماً بين العالَم الإسلامي والغرب. ولقد كان لمناطق حيوية مثل الأندلس وصقلية وبلاد الشام نصيباً أوفر من غيرها في الاتصال بالغرب، فقد كانت بمثابة جسور تواصل ومناطق عبور بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي. ولقد شكلّت مكتبات الأندلس مكاناً أثيراً لدى الكثيرين من العالم الغربي، إذ أكبّوا على تعلّم العربية وترجمة المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية. أما صقلية فقد دخلها النورمان وحافظوا على ثقافتها العربية، فصارت نقطة التقاء مع المسلمين. وفي بلاد الشام تعلّم الغرب من العالَم الإسلامي النظم الزراعية، وصناعة السكر من القصب وصناعة الجلود... ومن ثم تعلّموا اللغة العربية واستعملوها لغةً للتخاطب فيما بينهم. وبالتقادم اهتمت البابوية بدراسة العالم الإسلامي وكل ما يخصه، بهدف النيل من الدين الحنيف الذي ذاع وانتشر. وقد بدأ هذا العمل بدراسة اللغة العربية وتدريسها بالتالي في مدارس إسبانيا وأديرتها وكنائسها وجامعاتها. هذا وقد نشطت حركة الترجمة على أيدي رهبان مثل: جرير دي أولياك وقسطنطين الأفريقي وبطرس المكرم وأدلارد الباني وروبرت الشستري وجيرارد الكريموني. وقد دعمَّت الحركة الاستشراقية من خلال: إنشاء كراسي للغات الشرقية في الجامعات الأوروبية، وإنشاء المكتبات الشرقية، وإنشاء المطابع. ومن خلال – أيضاً- الجمعيات الآسيوية والمجلات الشرقية، والمتاحف الشرقية والمؤتمرات الدولية. وقد جاء ذلك –بحسب المؤلّفة- للطعن في الدين الإسلامي والتعريض به، خدمة للكنيسة والاستعمار، لا سيما إذا ما وضعنا في الاعتبار أن بدايات الاستشراق بدأت على أيدي الرهبان ورجال الدين. وفي مقاربة لطروحات الفصل الأول التي تناولت الاستشراق منظوراً إليه من ناحية تاريخية، فقد جاء الفصل الثاني (الاستشراق والتبشير) ليُكمّل الصورة، لناحية أن الاستشراق بدأ أول ما بدأ كإرهاصٍ لبُعد ديني. فقد حاول الاستشراق أن يتغلغل في النسيج الإسلامي من خلال ممارسته للتأثير في حقل التربية والتعليم. فبداية حاول استغلال المبعوثين إلى الغرب من خلال التأثير الفكري والثقافي على عقليتهم ومحاولة بث الشكوك حول عقيدتهم الإسلامية. أيضاً، عمد إلى إنشاء المدارس - سواء أأشرفَ عليها الرهبان مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عبر التدخّل في كتابة المناهج التعليمية- التي تعنى بالأطفال منذ نشأتهم، والعمل على تنشئتهم تنشئة مسيحية تعزلهم عن دينهم الإسلامي، وتجعل منهم لقمة سائغة في فم الاستشراق.
أيضاً، عمدوا إلى استغلال كل ما من شأنه أن يحقق غاياتهم وينشر عقائدهم ومذاهبهم، مثل استغلال الصحافة والإعلام والنشرات الدورية والمكتبات، واستغلال الطب من خلال إرسال البعثات الطبية إلى المناطق المنكوبة، ونشر تعاليمهم أثناء مزاولة مهنهم. وما إلى ذلك من الوسائل والأدوات التي توصلهم إلى ما يريدون. هذا، ولم يكن لمثل هذه الجهود أن تكون خبط عشواء بالنسبة للمستشرقين والعالَم الغربي، في علاقة مع الدين الإسلامي. فقد كُشفت النوايا عبر الغمز واللمز الذي لا ينتهي حول الدين الإسلامي. وفي محاولةٍ لاستجلاء وجهة نظر العالَم الغربي تجاه الإسلام، جاء الفصل الثالث (الإسلام وموقف المستشرقين منه)، ليكشف عن المستور في علاقة الشرق بالغرب. وقد عمدت المؤلفة إلى نقل بعض من وجهات نظر لِمَن كتبوا بشكل مسيء عن الإسلام، ولآخرين –تحديداً من البحّاثة الغربيين- ليفندوا بعض الطروحات التي أساءت للإسلام والمسلمين. وقد أتت أول هذه الهجومات على القرآن الكريم بصفته تأليفاً من قبل النبي محمد، وليس وحياً من الله. وفي هذا المجال يقول المستشرق "جولدزيهر": "إن محمدا كان في الحقيقة مؤلف القرآن والمخترع الرئيس له". والإدعاء بتأثّر الدين الإسلامي باليهودية، واعتبار النبي محمد صلى الله عليه وسلم تلميذاً لليهود. كما ادعى المستشرق "ريتشارد بل" ساعة قال: "الجانب الأكبر من المادة [مادة القصص في القرآن الكريم]التي استعملها محمد ليفسر تعاليمه ويدعمها قد استمدها من مصادر يهودية ومسيحية". ولم يكن القرآن الكريم هو وحده الذي استهدف من قبل المستشرقين، بل امتدّ الأمر إلى الفقه الإسلامي، فقد زعم المستشرقون بالأثر الروماني –تحديداً القانون الروماني- في الفقه الإسلامي، فالفقه الإسلامي ليس – من وجهة نظر بعض المستشرقين- إلا القانون الروماني مع بعض التعديلات التي تلائم الطبيعة العربية. وهذا ما حدا بالمؤلفة إلى نفي التشابه بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني، من خلال المقارنة بينهما، ومن ثم الوصول إلى النتائج، بما يدحض ادعاءات المستشرقين. والشيء ذاته فعلته مع قضية انتشار الإسلام لناحية تبيان سماحة الإسلام وانتشاره بالحسنى وبدون عنف، فقد ادعّت الدراسات الاستشراقية أن انتشار الإسلام لم يكن له أن يكون لولا السيف الذي أصلت على رقاب العباد، وفي هذا المجال قول المستشرق الانجليزي "نيلسون": "لقد أخضع سيف الإسلام شعوب أفريقيا وآسيا شعباً بعد شعب".
وفي قضية الإسلام والتجديد تعرّض بعض المستشرقين للإسلام ومحاربته للتجديد، فالإسلام بحسب المستشرق "جولدزيهر": "يكره التجديد، وكل بدعة في نظر الجماعة الإسلامية موضع للشك والشبهة، وظهورها مدعاة للأسى إذ إنها تهدد وحدة الجماعة وتؤدي إلى انهيار الشريعة". وهذا الشيء يدفع الباحثة –انسجاماً مع غرضها الرئيس من بحثها وكتبها في الذبّ عن حمى الدين الإسلامي- إلى حشد كثير من الأمثلة والأدلة والحجج الدّالة على حث الإسلام على العلم والإبداع في شتى العلوم والمجالات. وبالانتقال إلى فصل جديد، الفصل الرابع (المستشرقون والنظم الإسلامية)، تواصل المؤلفة دفاعها عن الإسلام وتوضيحها لصورته المشرقة التي حاول الاستشراق تشويهها في أذهان الآخرين. فمما عمل المستشرقون على تشويهه نظام الحكومة الإسلامية وسلطة الخليفة المسلم بصفته خليفة صاحب صلاحيات مطلقة. وانسحب هذا الأمر والتشويه – من قبل المستشرقين- على النظم الاقتصادية الإسلامية، كالزكاة والصدقة والفيء والغنائم والجزية والخراج والضرائب. "فالأموال المادية – بحسب المستشرق فيليب فونداس- في نظر الإسلام هي من أصل نجس شيطاني، ويحل للمسلم أن يتمتع بهذه الأموال شريطة أن يطهرها وذلك بإرجاع هذه الأموال إلى الله". وفي معرض دفاعها بغية خلق نوع من التوازنات البحثية، تعمد المؤلفة إلى إيراد رأي المستشرق "توماس أرنولد" إذ يقول: "لم يكن الغرض من فرض الضريبة على المسيحيين كما يريد بعض الباحثين على الظن، لونا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة، وهم غير المسلمين من رعايا الدولة". وفي باب (الإسلام والملكية) عمدت المؤلفة إلى توضيح نظام الملكية في الإسلام، لناحية اعترافه بالملكية الفردية الناشئة عن سبب مشروع، وشجّع أيضاً على تحصيل المال والانتفاع به، من حيث إنه وسيلة من وسائل تبادل المنافع وقضاء الحوائج، إلا أن الإنسان يعتبر مُستأمنا ومستخلفاً على هذا المال يجب عليه تأدية واجباته تجاه المال، خصوصاً ناحية المجتمع الذي يعيش فيه. أما باب (المستشرقون والنظم الاجتماعية في الإسلام) فقد ناقشت فيه قضايا مثل الفقر والبِر والتكافل العلمي والمرأة المسلمة، وأفضت إلى لمز المستشرقين وهمزهم لهكذا نظم، إلا أن نقاشها تركَّز في العموم على شرح وجهة النظر الإسلامية لهكذا نظم، بعيداً عن أية اقتباسات أو تضمينات لآراء مستشرقين، إلا فيما يتعلّق بوجهة نظر لـِ صاحب كتاب (الإسلام في أثيوبيا) حيث يقول: "وتجارة الرقيق وما تدره من أرباح تفوق حد التصور، تغري كثيرين على احترامها، ولهذا اشتغل بها عد كبير من العرب". فقد احتوى هذا الباب على شروحات واستفاضات من قبل المؤلفة في شرح موقف الإسلام من قضايا شغلت المستشرقين في دراساتهم الاستشراقية، مثل الفقر والبِر وتعدد الزوجات شهادة المرأة وميراثها وقوامة الرجل على المرأة، وغيرها من القضايا.
أما الفصل الخامس والذي وُسِمَ بـِ (الإسلام والعلوم الحديثة) فقد تناولت فيه المؤلفة الدور الإسلامي الريادي في مجال العلوم الطبية والكيمائية والفلكية...الخ وتقدّم تفصيلات وتبيينات بحشد كثير من الآيات القرآنية، بطريقةٍ تُبيّن الدور التأسيسي والسابق زمانياً، الذي لعبه الإسلام في مجال العلوم، رغم ادعاء كثير من المستشرقين محاربة الإسلام للعلم والتفكير والتمعّن في استنباط الأحكام الكونية والقوانين العلمية. وفي تجلية للموقف الإسلامي أمام الهجمة الشرسة للمستشرقين على الدين الإسلامي أتت الآيات القرآنية والشواهد التاريخية كدليل حاسم على بطلان الرؤية الاستشراقية التي حاولت تشويه صورة الإسلام ومنهجه العلمي الراسخ. فلقد احتوى القرآن الكريم على دلالات واضحة فيما يتعلق بالعلم والتفكير، بما يقطع الطريق على أي شك في موقفه من العلم، وقد استحضرت المؤلفة شواهد عديدة على هذا، في كل من علم الجغرافيا الطبيعية وعلم الفلك وعلم النبات والحيوان وعلم الطب وعلم الكيمياء، وفضل العرب والمسلمين في تعليم الغرب المنهجي التجريبي في البحث العلمي. "فتاريخ العلم – على ما تنقل المؤلفة عن أحد المراجع الغربية كتأكيدٍ لما ذهبتْ إليه- يؤكد أن المسلمين في بحوثهم الكيمائية اتبعوا الطريق العلمي بالرغم من معرفتهم أن التجربة لا توصل إلى اليقين الحاسم وليست وثيقة وثاقة البرهان أو القياس ولكنهم وقد كان هذا شأنهم أدركوا تماماً أن مطلب اليقين ليس هدف الكيميائي، أو حتى في متناوله وأن نتائج العلم تخضع لاعتبارات الاحتمال والترجيح كما لم يروا في القانون العلمي صبغة مطلقة تحتم ضرورة صدقه في كل مكان وزمان وتجعل التنبؤ العلمي في المستقبل على نحو ما أظهرته تجربة الماضي والحاضر أمرا محتوما. لذلك نرى المنهج العلمي في الكيمياء الإسلامية قام على المشاهدة المضبوطة، والتجريب المحكم بعكس الطريقة المدرسية التي سادت أوروبا بعد ذلك طوال العصر الوسيط ولا يمكن في واقع الأمر أن نظهر قيمة العرب الحقيقية ومكانتهم العلمية إلا بإظهار الفرق بين المنهجين السالفي الذكر، فإن زملاء العالم الإيطالي جاليليو قد رفضوا في عناد حتى مجرد أن يكلفوا خواطرهم بالنظر في منظاره ليروا ما يتعاقب على الأجرام من تغيرات". هذا بشأن الفصل الخامس، أما الفصل السادس (الإسلام ومشكلات الحضارة والمدنية الحديثة) فقد احتوى على أهم الأفكار الغربية الحديثة التي غيرت معالم الغرب، وكان لها تأثير على العالَم الإسلامي. مثل (نظرية دارون) و نظرية التحليل النفسي والجدل الهيغلي والوجودية والماركسية. وقد تناولت كل أطروحة من هذه الأطروحات وكشفت عن مدى تأثيراتها. فـَ -حسبما تنقل المؤلفة عن سيد قطب-"السائد الآن في العصور الحديثة هو انتشار الحضارات المادية التي تحاول أن تقضي على الإنسان وتحوّله إلى آلة، وتدمر خصائصه فهي تعامله بالمقاييس الحيوانية التي أمكن دراستها في عالم الحيوان". وبدورها تُكمل: "إلى جانب ذلك نجد الإنسان الآن قد أصبح جاهلاً لدوره الذي رسمه له الله سبحانه وتعالى في الحياة، والمعيشة وفي كيفية استغلال طاقات الحياة وكنوزها كلها في التعمير والتنمية والارتقاء". "فمنطقة الخطر في نظرية دارون –بحسب المؤلفة- ليست في كونها لم تبلغ من الناحية العلمية درجة الصحة واليقين، وإنما فيما يتولد من الإيمان بها من نزعات إلحادية وميول تحللية وجودية تربط الإنسان بما على وجه الأرض من غرائز حيوانية وميول بهيمية، وتقطع صلته بما سواها على اعتبار أن الإنسان–كما في نظرية دارون- في الأصل حيوان".وهذا ما يتعارض مع الرؤية الإسلامية للإنسان، فهو إنسان مُكرَّم من قبل الله ، وأجلّ من أن يكون حيواناً بهيمياً.
أما أفكار فرويد التي نادى بها (وكان أبرزها إرجاعه حركة الحياة كلها إلى الطاقة الجنسية وإنكاره لنزول الدين من السماء فهو محض اختراع بشري) وأخذ بها الغرب، "وبذلك أخرجوا الإنسان من الوضع الكريم الذي رسمه الإسلام، ووضعته فيه حضارة الإسلام، وجعلوه يتردى إلى أسفل الدرك في صورة بهيمية حيوانية، فهو يجري وراء شهواته بدون ضابط وبدون نظام.. فلا يعود ثمة فارق بين الإنسان والحيوان". "والعملية الجدلية بموجب نظرية هيغل عملية اجتماعية كلية. وبعبارة أخرى إن الحضارة الإنسانية بكل شعبها وفروعها في كل عصر من عصور التاريخ بمثابة جسد حي أو كائن حي، وليس الأفراد أو الطوائف إلا بمثابة أعضاء أو أجزاء لهذا الجسد، ولا يمكن لفرد من الأفراد أو لطائفة من الطوائف أن تتحرر من طبيعة عصرها الجماعية أو من الروح العامة لمدنية عصرها وحضارته". وهذا يعني أن هذه النظرية تنفي عن الإنسان الإرادة والعقل التي خص الله بها الإنسان عن بقية مخلوقاته، ورفعه من مرتبة الحيوان، وأنه دعا إلى إعماله دائما للتفكر والتدبر لمعرفة عظمة الله عز وجل وقدرته ونعمه على عباده " وتستطرد المؤلفة بقولها: "ولو أن هيغل قد درس القرآن الكريم لما لقي في فهم حقيقة الإنسان وإدراك القانون الأساسي لارتقاء المدنية الإنسانية من العثرات ما قد لقي باللجوء إلى الظن والتمسك بأذيال التخمين". أما الوجودية وبصفتها رافضة للإله، من حيث إن الوجودي – ودائماً بحسب المؤلفة- عدو الإله، فذلك مما يرفضه الإسلام رفضاً قاطعاً. "أما الشيوعية فقد عملت على دراسة الحياة الاجتماعية ففسرت تطور المجتمع وأرجعت حوادثه إلى أسباب مادية بحتة ولم يترك شيئاً للمصادفة والإرادة الإلهية أو للأسباب الخارجة عن الطبيعة، ومن ثم فقد أرجعت كل شيء حتى الدين والأخلاق والفلسفة والقانون والسياسة إلى انعكاسات للأحوال الاقتصادية والمصالح الطبيعية". وفي معرض تفنيدها لطروحات الشيوعية، عمدت المؤلفة إلى تبيان موقف الإسلام من الشيوعية، بطريقة دالة – نهاية المطاف- مدافعة عنه، انسجاماً مع غرضيتها البحثية. وإذا كان النظام الشيوعي يحدّ من الفردية لصالح المجتمع، فقد أتت "الرأسمالية لإطلاق العنان لنشاط الفرد إلى غير حد، وللحرية الفردية من غير قيد، واعتبار الصالح الفردي هو الصالح الأعلى". و"أول ما يأخذه الإسلام على الرأسمالية باعتبارها نظاماً جرب وشهد العالم تطبيقه وآثاره، أن الذي يربح منه طبقة محدودة جداً، وأن هذه الطبقة الرابحة تقبل على الدنيا إقبالا عارماً موصول اللذة ممدود المتعة". "والنظام الرأسمالي –كما تقتبس المؤلفة عن محمد الغزالي- يهوي بالضعفاء والمحتاجين في مكان سحيق".وبما أن أساس الرأسمالية هو الاحتكار، فذلك ما نهى عنه الإسلام لأن فيه إهداراً لحرية التجارة والصناعة، فالمحتكر يتفرد بالسلعة ويفرض ما يشاء من أسعار ويحدد الكمية المباعة ويقتل منافسيه. والمحتكر – بحسب التعاليم الإسلامية- ملعون، ولا يجوز لأي كان احتكار سلع الناس لما يترتب على ذلك من أضرار بالغة.