المستقبل أمانةُ الّذين لم يولدوا بعدُ
فئة : مقالات
هل تملك الحياة - حقًّا - مستقبلًا لنا؟ الحياة أمانة الآلهة الأخيرة بين أيدي الفانين، لكن، هل يوجد واجب إيكولوجيّ على الأحياء تّجاه الذين لم يولدوا بعدُ؟ وهل يمكن للتكنولوجيا أن تكون مسؤولة عن نفسها أخلاقيًّا؟
- في كتابه "مبدأ المسؤوليّة" (1979م)[1]: رسم هانس جوناس الملامح الفلسفيّة لاستشكال جديد تمامًا للمسألة الخلقيّة، يدور حول المسؤوليّة إزاء المستقبل، مستقبل الحياة على الأرض؛ إذ يفترض أنّ "واجبًا جديدًا قد ظهر؛ هو ما يلخّصه مفهوم المسؤوليّة"(ص17)، وينطلق من ملاحظة "الفراغ الحاصل نتيجة النّزعة النّسبيّة الرّاهنة حول القيم"(ص16)، وهو إشكال لا يمكن أن ينحلّ إلّا بسؤال ميتافيزيقيّ حول نوع جديد من الأمر القطعيّ، يتعلّق هذه المرّة بضرورة "الحفاظ على وجود النّاس في المستقبل"(ص16)، والانزياح الّذي وقع هو من أخلاق مركّزة على القيمة الخلقيّة للفعل من منظور حقّ الغير في الحياة، إلى أخلاق موضوعها الجديد هو الأفعال التكنولوجيّة، الّتي لها بُعد مستقبليّ يهدّد نمط الحياة الإنسانيّة الّتي نعرفها إلى حدّ الآن، وهي أخلاق ترتبط بنوع من المعرفة "التّوقّعيّة" الّتي تتخطّى كلّ ما نعرفه إلى حدّ الآن (ص17).
هكذا، فإنّ بناء نظريّة في المسؤوليّة هو مهمّة فلسفيّة عاجلة، تفرضها الحضارة التكنولوجيّة بوصفها نمط الحياة الجديد على الأرض، الّذي سيستمرّ إلى أمد غير معلوم، وهو ما قاد جوانس إلى تقديم تعريف جديد للإتيقا: هي "الإتيقا الّتي تقوم على منظور المستقبل العالميّ"(نفسه)، وليس الفرديّ، وحسب تعبير جوانس؛ فإنّ كتابه، هو: "tractatus technologico-ethicus"، "رسالة في التّكنولوجيا والإتيقا"(ص18)، وهو ربط مثير لأنّ موضوع الأخلاق التّقليديّة لا علاقة له بالتقنيّة، وإنّما بالفضائل أو القيم.
ينقسم كتاب "مبدأ المسؤوليّة" إلى ستّة فصول، هي تواليًا:
1) "في تغيير ماهيّة الفعل البشريّ".
2) "في مسائل الأسس والمنهج".
3) "في الغايات وموقعها داخل الكينونة".
4) "في الخير والواجب والكينونة: نظريّة المسؤوليّة".
5) "المسؤوليّة اليوم: المستقبل المهدَّد وفكرة التقدّم".
6) "في نقد الطّوباوية وإتيقا المسؤوليّة".
علينا أن نعلم من معنى هذا التّوصيف المنهجيّ الخطير: أنّ ماهيّة الفعل البشريّ قد تغيّرت بلا رجعة، ينبّه جوناس إلى أنّ التّصوّر التّقليديّ للفعل كان قائمًا على فرضيّة مقبولة لدى فلاسفة الأخلاق عامّة، ألا وهي: "أنّ التّقنيّة محايدة من وجهة نظر إتيقيّة"(ص27)، وأنّ موضوع الأخلاق الأساسيّ هو الإنسان تجاه الإنسان؛ أي أنّ الأخلاق التّقليديّة قائمة على "مركزيّة إنسيّة" لا جدال فيها، وذلك انطلاقًا من أنّ "ماهيّة" الإنسان لا تتغيّر، وأنّ الخير والشّرّ قيم ملتصقة مباشرة بالفعل نفسه(ص ص 27- 28)، فكلّ أخلاق تقليديّة: هي أخلاق تتعلّق بعلاقة دائمة وحاضرة بين الفاعل والفعل الّذي يقوم به، هما يعيشان في "حاضر مشترك"(ص28).
يقول جوناس: "إنّ الأحياء في العصر الحاضر، هم - وحدهم - الّذين لهم الحقّ في سلوكي، بقدر ما يؤثّر فيهم بالقيام به أو بتركه، وإنّ العالم الأخلاقيّ إنّما يتألّف من المعاصرين، وأفقه المستقبلي ينحصر في مدّة حياتهم المتوقّعة"(ص28)، وهذا ينطبق- أيضًا- على المكان: هي أخلاق الجوار والعداوة والقوّة والضّعف في حيّز قريب.
من ثمّة كانت المعرفة المطلوبة في الأخلاق معرفة متاحة للجميع؛ معرفة الإرادة الطّيبة (كانط)، وليس معرفة العلماء أو الخبراء (ص29)، ويستشهد جوناس - هنا - بأقوال عديدة ساقها كانط عن نوع المعرفة الخلقيّة، خاصّة، كيف أنّها لا تحتاج إلى أيّ علم أو فلسفة كي يكون المرء فاضلًا أو شريفًا (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، القسم الأوّل)، وقد كانت الأخلاق التّقليديّة تفترض دومًا نوعًا من المعرفة غير النّظريّة (معرفة الهنا والآن)، كي تُترجم في البراكسيس اليوميّ للنّاس، وكان الإنسان التّقليديّ يتصوّر أنّه مسؤول - فقط - بشكلٍ قصديّ وإراديّ عن فعله بحدّ ذاته، أمّا ما ينجرّ عن فعله من "نتائج تالية" أو مستقبلية؛ فهو يقع خارج مسؤوليّته(ص30).
قال: "على وجه الدّقّة، لأنّ الخير الإنسانيّ، متى عُرف في طابعه الكلّي، هو - نفسه - بالنّسبة إلى كلّ العصور، فإنّ تحقيقه أو انتهاكه قد حدث في كلّ زمان، وموقعه التّامّ؛ هو العصر الحاضر دائمًا"(نفسه).
إنّ مهمّة الفلسفة - حسب جوناس - أن تستبصر "الأبعاد الجديدة للمسؤوليّة"(نفسه)، ذلك أنّ كلّ الوضعيّة التّأويليّة للأخلاق التّقليديّة قد تغيّرت تغيّرًا حاسمًا: كان القدماء يشعرون بأنّهم في حماية الآلهة؛ أي في "حضرة" الآلهة، لكنّ الآلهة - حسب جوناس - لم تعد حاضرة كما كان يشعر سوفوكليس في التّراجيديا اليونانيّة، فالمشكل الجديد؛ أنّ الفعل والفاعل والمفعول تقطّعت بهم الأزمان، ولم تعد تربطهم علاقة القرب أو علاقة الحاضر، والحضارة التّكنولوجيّة تدفع البشر إلى القيام بأفعال تجاه الطّبيعة تؤدّي - في النّهاية، أي في المستقبل البعيد - إلى تدمير شروط الحياة على الأرض، وهكذا، فإنّ الفاعل لن يكون موجودًا حين يؤدّي فعله إلى نتائج كارثيّة على الأجيال في المستقبل، وعندئذ، علينا أن نسأل فلسفيًّا: كيف نقيم المسؤوليّة على فاعل انقرض منذ أجيال، وانفصل - بشكل مباشر أو حاضر - عن فعله المضرّ بالحياة؟ هذا هو معنى تغيّر ماهيّة الفعل البشريّ: إنّه فعل مؤجّل إلى المستقبل. وفاعله لن يكون موجودًا حتّى نحاسبه، ثمّ انقطع الحبل بين الفاعل وفعله، ولم يعد بإمكان مفهوم المسؤوليّة التّقليديّ أن يفسّر لنا الأساس الأخلاقيّ لما يحدث في الحضارة التّكنولوجية.
ويعرض جوناس مجموعة من مظاهر التغيّر في ماهيّة الفعل البشريّ، ويورد أسبابها العميقة:
- هشاشة الطّبيعة أو قابليّتها للتّأثّر (vulnérabilité) (ص ص 31- 33)؛ لأوّل مرّة تصبح الطّبيعة هشّة وحسّاسة إلى هذا القدر، بسبب السّيطرة التقنيّة عليها، وهو ما صار مبحثًا قارًّا بنفسه تحت مسمّى "الإيكولوجيا"، ما رفع النّقاب عن نوع جديد تمامًا من المسؤوليّة عن أفعالنا: نحن مسؤولون لأوّل مرة عن "المحيط الحيويّ للكوكب بأكمله"(ص31)، وليس عن مجرّد فعل خلقيّ فرديّ، قال جوناس: "إنّ الطبيعة، من حيث هي موضوع للمسؤوليّة الإنسانيّة، هي شيء جديد - بلا ريب - يجب على النّظريّة الإتيقيّة أن تفكّر فيه"(ص32).
- الدّور الجديد للمعرفة في الأخلاق (ص ص 33- 34): ثمّة هوّة مزعجة ظهرت بين المعرفة التّقنيّة الّتي تمكّن البشر من الفعل في الطّبيعة، وبين "المعرفة التّقديريّة" (prévisionnel) لنتائج الفعل في المستقبل، وهو مشكل إتيقيّ من نوع جديد.
يجب على الإنسانيّة أن تعترف بجهلها إزاء نتائج التّكنولوجيا على الحياة في المستقبل، وعلى هذا الاعتراف بالجهل أن يصبح جزءًا من الإتيقا(ص33)، ولم يكن يُطلَب من أيّ أخلاق - في الماضي - أن تأخذ في الاعتبار "الوضع العالميّ للحياة الإنسانيّة والمستقبل البعيد ووجود النّوع نفسه"، وهذا يدفع إلى تطوير تصوّر جديد للحقوق والواجبات لم تعرفه أيّة نظريّة أخلاقيّة تقليديّة.
- حقّ إتيقيّ مستقلّ للطّبيعة(ص ص 34- 35)؛ هذا انقلاب خطير جدًّا في الأوّليّات الأخلاقيّة: لم تعد الطّبيعة مسخّرة للبشر أو لمصلحة البشر؛ بل على البشر أن يتحرّروا من مركزيّتهم البشريّة، وأن يعترفوا للطّبيعة بحقّها في أخلاق من جنس وجودها، لم يعد الكوكب مجرّد "أمانة" بين أيدي البشر؛ بل ربما هو يمتلك "شيئًا من قبيل الادّعاء الأخلاقيّ إزاءنا، ليس فقط من أجل الخير الخاصّ بنا؛ بل أيضا من أجل الخير الخاصّ به، والحقّ الخاصّ به أيضًا"(ص34)، وهذا الانقلاب من شأنه أن يؤدّي - حسب تعبير جوناس - إلى "مراجعة ليست قليلة الشّأن لأسس الإتيقا".
إنّ الجديد هو: أنّ التّكنولوجيا أصبحت "مهمّة" أو "رسالة" (vocation) جديدة للإنسانيّة(ص ص 35- 38)؛ ففي الماضي، كانت التّقنيّة مجرّد تغلّب أداتيّ على الضّرورة الطّبيعيّة، أمّا اليوم - مع التّطنولوجيا - فقد "تحوّلت التّقنيّة إلى اندفاعة لامتناهية للنّوع البشريّ نحو الأمام، وإلى مشغله الأكثر أهمّية"(ص ص 35- 36)، وقد انتصر (homo faber) على (homo sapiens)، ثم "حصلت التّكنولوجيا على دلالة إتيقيّة بالموقع المركزيّ الّذي أخذته - منذ الآن - في الحياة الذاتيّة للغايات الإنسانيّة"(ص36)، لقد نُصّبت "بيئة اصطناعيّة"؛ حيث يتدرّب النّوع البشريّ على تغليب جزء منه (السّيطرة الوظيفيّة على الطّبيعة) على بقيّة الأجزاء الأخرى، أصبح النّوع البشريّ ضحيّة نجاحه، وصار الإنسان كائنًا "برنامجيًّا" يختزل ذاته في "قدرته" التّكنولوجيّة وسلطته على الطّبيعة.
قال جوناس: " ولكن "هو"، من يكون؟ لا أنت ولا أنا؛ بل الفاعل الجمعيّ والفعل الجمعيّ، هو الّذي يلعب دورًا هنا، وإنّ المستقبل غير المحدّد، وليس الفضاء المعاصر للفعل، هو الّذي يوفّر الأفق الوجيه للمسؤوّلية"(ص37).
هذا الوضع يفرض صياغة أوامر أخلاقيّة من نوع جديد، فقد كانت الأخلاق تتحاشى مجال الإنتاج الأداتي، ولكنّ الإنتاج التكنولوجي اجتاح مجال الأخلاق، فصار عليها أن تخضع ماهيّة الإنتاج التّكنولوجيّ إلى مساءلة فلسفيّة، فيجب على الأخلاق أن تستعمل "سياسة عموميّة" مناسبة للغرض، قال: "إنّ الماهيّة المتغيّرة للفعل البشريّ قد غيّرت الماهيّة الأساسيّة للسياسة"(ص37).
لقد دخلت الإنسانيّة في حضارة تكنولوجيّة نصّبت "مدينة عالميّة باعتبارها طبيعة ثانية" للبشر، وفرضت واجبًا جديدًا على كينونة الإنسان في العالم(ص ص 37- 38)
- إنّ الحد الفاصل بين "المدينة" (polis بالمعنى اليونانيّ) والطّبيعة قد أُلغيَ، والفاصل بين الطّبيعيّ والمصطنع قد زال؛ إذ إنّ الطّبيعيّ ابتُلع في دائرة المصطنع، ولذلك؛ صار مطلوبًا - لأوّل مرّة - أن تنتصب محكمة تطالب بسنّ "قوانين تفرض على المدينة العالميّة أن تقبل بها، حتّى يوجد عالمٌ بالنسبة إلى الأجيال البشريّة في المستقبل"(ص38)
[1]- Hans Jhons, Le Principe responsabilité. Une éthique pour la civilisation technologique. Trad. Par Jean Greisch (Paris: Flammarion, Collection Champs Essais/ Les Editions du Cerf, 1990).