المسجد والحداثة
فئة : مقالات
- إشكاليّة الإسلام والحداثة:
لقيت إشكاليّة العلاقة بين الإسلام والحداثة حظّها من النقاش في كثير من الكتب التي حاولت البحث في علاقة الإسلام بما شهده العالم من تحوّلات جذريّة عصفت بالمنظومات الذهنيّة القديمة، وأسّست لتصوّرات بديلة في العلم والمعرفة والسياسية والاقتصاد والمجتمع والفكر. ولئن سعت بعض المقاربات إلى حداثة الإسلام، فقد سعت مقاربات أخرى إلى أسلمة الحداثة. ولكنْ لا الحداثة قامت في المجتمعات الإسلاميّة ولا استطاع المسلمون إقناع العالم بمشروع حداثيّ نابع من روح الإسلام وتعاليمه، بل على العكس من ذلك ظهرت منظومات فكرّية أكثر انغلاقا صارت ترى في الحداثة استهدافا للدين الإسلاميّ وتأبيدا لضعف المسلمين. ولعلّ أكثر المؤسّسات الدينيّة التي وقع إهمالها في الجدل القائم بين المدافعين عن الحداثة والمتشبثين بالأصول هي مؤسّسة المسجد. فقد تطرّق عبد المجيد الشرفي لقضيّة العلاقة بين الإسلام والحداثة بالاعتماد على تقسيم علميّ نظر فيه إلى في البداية إلى طبيعة الفكر الديني ثمّ راح يبحث عن سبل الحداثة في علم الكلام والتفسير والحديث النبويّ والفقه وأصوله، ثمّ أثار إشكاليّة العلاقة بين دعاة أسلمة الحداثة وتحديث المجتمع وختم بالنظر في قضيّة المرأة.[1] بينما ترتبط الحداثة حسب رأي زكي الميلاد بالجانب الذهنيّ والعقليّ والقيميّ أي البناء الذي يتعلّق بالشكل الخارجيّ. ويرتبط التحديث بالجانب المادّي التي تسبقه زمنا وشرطا... وفي المجال العربيّ هناك من يرى أنّ الذي حصل عندنا هو تحديث بلا حداثة جعل التحديث ناقصا ومشوّها وفوقيّا.[2] فهل يحقّ القول على المساجد؟
2- تحديث بلا حداثة:
إنّ الناظر في أقدم مسجد أسّسه المسلمون ليلحظ أنّه شهد تطوّرا متواترا في بنيته العمرانيّة. فلقد شهد المسجد النبويّ تسع توسعات، كانت الأولى في العهد النبويّ في السنة السّابعة هجريّا. وكانت الثانية في عهد عمر في السنة السابعة عشرة هجريّا؛ وأمّا الثالثة، ففي عهد عثمان في السنة التاسعة والعشرين هجريّا؛ وأمّا الرابعة، ففي عهد الوليد الأمويّ التي بدأ سنة ثمان وثمانين هجريّا وانتهت بعد ثلاث سنوات؛ وأمّا الخامسة، ففي عهد المهديّ العبّاسيّ بدأت سنة إحدى وستيّن ومئة هجرّيا وانتهت بعد أربع سنوات؛ وأمّا السّادسة، ففي عهد الأشرف قايتباي، وهو أحد ملوك مصر بدأت سنة ستّ وثمانين وثمانمائة هجرّيا ودامت سنتين؛ وأمّا السابعة، ففي عهد السلطان عبد المجيد وبدأت سنة خمس وستيّن ومئتين وألف ودامت سبع سنوات؛ وأمّا الثامنة، ففي عهد الملك عبد العزيز سنة تسع وأربعين وتسعمائة ميلاديّا، وانتهت بعد ستّ سنوات. وأمّا التوسعة التاسعة، فكانت في عهد الملك فهد بن عبد العزيز وبدأت سنة أربع وثمانين وتسعمائة وألف وانتهت بعد عشر سنوات. وطوال أشغال التّوسعة تلك شهد المسجد تحوّلات عمرانيّة هائلة شملت مساحته المغطّاة وساحاته ومآذنه وروضته الشريفة ومحرابه ومنبره، فقد وقعت مثلا أشغال ترخيم وتدهين وتذهيب ووقع تركيز نظام قباب متحرّكة وسلالم كهربائيّة وزخارف وأشغال إنارة كهربائيّة وأنجز مشروع تكييف المسجد وتركيز غرف للتحكّم الآليّ، وخصّصت مواقف للسيّارات وأنظمة ميكانيكيّة وكهربائيّة[3]. وبذلك فقد شهد المسجد النبويّ أعصر أنواع التحديث، ولكن هل شهد خلال هذه الحقب - وهو المسجد الرّمز بالنسبة إلى المسلمين - تحوّلات حداثيّة تتعلّق بالبنية والخطاب بدل تعلّقها بالشكل؟
قد يبدو السؤال غريبا بالنسبة إلى متلقّ ألف ثبات المنظومة الدينيّة، فالمسجد في ذهنه فضاء لتأدية الصلاة، وهو يمثّل رأسمال رمزيّ للمسلم؛ لأنّه فضاء تأدية الطّقوس. وقد شاعت تسميته المساجد بيوت الله. ولكن هل كتب على بيوت الله أن تظلّ ثابتة في وظائفها والمجتمع من حولها يتحوّل تحوّلات جوهريّة؟ ألا يصل إلى المسجد من صدى التحوّلات العميقة التي شهدها الواقع الإنسانيّ سوى بعض التقنيات الحديثة كالفرش والقباب المتحرّكة والأنظمة الكهربائيّة والمكيّفات؟ لماذا لا يتكيّف مسجدنا مع تطوّر معارفنا وتغيّر بنية مجتمعنا؟
سنحاول من خلال هذا المقال المتواضع أن نطرح إشكاليّة العلاقة بين المسجد والحداثة دون محاولة فرض رؤية حداثيّة على المسجد ولا فرض رؤية مسجديّة على المجتمع، غايتنا البحث في التفاعل الطبيعيّ بين فضاء المسجد وسيرورة التطوّر الحضاريّ التي شهدها الواقع وطرح أسئلة قد تكون منسيّة بحكم العادة وتواتر مفهوم السنّة أو مهملة بحكم قداسة المسجد وعدم تصوّره فضاء قادرا على قيادة مسار الحداثة الفكريّة في المجتمع.
3- المسجد والمجتمع:
لا بدّ أن ننطلق من الوعي بخطورة دور المسجد في حياة المسلم وفهم علاقة بنيته السّائدة بالمنظومة الفكريّة والاجتماعيّة القديمة. فالمسجد يجسّد المجتمع بكلّ عناصره ومكوّناته. وينقسم إلى محراب يمثّل القيادة الروحيّة للمسلمين، ومنبر للخطابة يجمع بين الوظيفتين الدّينيّة والسياسيّة وصفوف من التّابعين يجسّدون بنية مجتمع ينقاد لقائد واحد ورؤية أحاديّة، ولعلّ ذلك ما يبرّر رفض الفقهاء أن تقام في المسجد الواحد جماعتان، وإنّما يتوجّب على كلّ المصلّين أن يكونوا وراء إمام واحد لا ثاني له. والمحراب في الأصل فضاء لمحاربة الشيطان[4]، وهو بطبيعته كائن رمزيّ يمكن أن يتجسّد واقعيّا جيش كفّار يحاربه المسلمون. ولذلك فثمّة تقاطع جوهرّي بين بنية المسجد وبنية المعركة. للحرب قائدها وصفوف مقاتليها وللصلاة إمامها وموجّه مصلّيها. وشكل الصفوف الذي ينتصب فيه الرّجال في المقدّمة ومن خلفهم النساء والأطفال هو ذاته الصفّ الذي يتقدّم فيه الرجال وراء قائدهم الحربيّ دفاعا عن الإسلام. وإذا كانت الغنيمة في الصلاة رمزيّة فالغنيمة في الحرب مادّية ورمزيّة. ولذلك، فإنّ البنية السلطويّة التي يقوم عليها المسجد هي ذاتها التي تقوم عليها جيوش المسلمين زمن النبوّة وبعدها. أمّا السّواري، فهي للعلماء ويحتلّ كلّ عالم رسميّ معترف به وغير مارق عن السّلطة موضعا في المسجد لنشر تعاليم الفرقة الناجية ومعاضدة دور الإمام في نشر خطاب رسميّ يعبّر عن الصوت الرسميّ. ولعلّ من النتائج الطبيعيّة لهذا التقسيم أن تتّخذ بعض الفرق التي عانت الإقصاء والتهميش وعاشت حياة اجتماعيّة قاسية بسبب الفقر واختياراتها العقائديّة الزاهدة في المادّة لنفسها زاوية من المسجد ومنها نشأت الزوايا التي تعبّر عن جدل تواصل وقطيعة مع المسجد نتيجة سياسة الإقصاء والتهميش الذي مارستها مركزيّة المنبر (السياسية) على كثير من المسلمين. و"كانت الزاوية مجرّد ركن من أركان المسجد يختلي فيه أحد الصّوفيّة أو العبّاد وينفرد من هنا تسميتها بالزاوية واحتفاظ المؤسّسة بالاسم في الفترة اللاّحقة، رغم استقلالها عن المسجد معماريّا وفي وظائفها."[5] وقد عبّر المسجد بدوره عن افتراق الفرق. فراحت كلّ فرقة تبني لنفسها مسجدا فيه بعض الاختلافات العمرانيّة تعبيرا عن اختلافها الفكريّة مع الفرق الأخرى. وظهرت الزوايا الصوفيّة والحسينيّات الشيعيّة تعبيرا عن رفض استبداد أهل السنّة والجماعة بالمنبر والمحراب وما يعنيه ذلك الاستبداد من فرض تأويل قسريّ على المختلفين له انعكاساته السلطويّة.
فهل عبّرت مساجدنا اليوم عن حقيقة التحوّلات التي شهدها الفكر الإنسانيّ؟
4- أسئلة الحداثة في المساجد:
إذا كان متاحا باسم النبوّة وقداسة الوحي الذي يوحى لشخص النبيّ أن يستأثر بالمنبر وأن يكون صوته الأعلى وتعاليمه الأقدس في تصوّر المسلمين. فهل يباح اليوم أن يكون صوت الحقيقة في يد إمام واحد لا شريك له؟ ألم تعكس واحديّة الصوت استبدادا ماديّا ورمزيّا مارسه كثير من الخلفاء تحت غطاء الشرعيّة الدّينيّة؟ وهل معارف الأئمّة تؤهّلهم ليتحدّثوا في كلّ شيء وأن يكون صوتهم الأعلى في كلّ موضوع (السياسة، الأخلاق، التربية، أحوال المجتمع، أحوال الاقتصاد...)؟ ألا يحتاج كلّ موضوع إلى خبير له القدرة على توجيه النّاس توجيها علميّا دقيقا؟ وهل يظلّ المسجد إلى اليوم فضاء يعزل المعارف الدّينيّة التي يحتكرها المتمرّسون بحفظ القوانين الفقهيّة عن المعارف العلميّة التي تؤثّر مباشرة في الوعي الإنسانيّ كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم التربية والاقتصاد والسياسية ...؟ إلى متى تظلّ المنابر في يد أطراف لا تزال تعتبر كلّ "محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلال وكلّ ضلالة في النّار" بل قل هي تعتبر كلّ حداثة في النّار؟ وإلى متى ينسف الأئمّة ما تؤسّسه المدارس الحديثة والجامعات؟
تتطوّر المعارف العلميّة كلّ يوم وتشهد البشريّة اكتشافات جديدة للقضاء على كثير من العلل مثلما أثبت البشر بالأمس كفاءته في قهر كثير من الأوبئة والأمراض. وبعض الأئمّة لا يزالون يحملون وعيا يفرّق بين العلم الديني الذي ينفع والعلوم الدنيويّة التي لا تنفع. إنّه وعي ما قبل دينيّ تستبدّ به الأسطورة ويتلاعب به المشعوذون ممّن لا يزالون ينظرون إلى النصّ القرآني وكأنّه طلاسم سحرة يتولّون تلاوتها على المرضى رقية فيبرؤون. ويقرؤونها على مسامع المصلّين بصوت ساحر فيتأثّرون ولكن قليلا ما يتفكّرون ويتأملون ويجرؤون على نقد ما ساد من التفاسير وإسقاط ما خالف منها قواعد العلم الحديث وحاجات الإنسان. ألم يحن الوقت لتعدّد الأصوات داخل المسجد بدل أن يكره الناس على سماع صوت واحد قد يكون من المنفّرين بحكم سطحيّة أفكاره وبدائيّة طرحه. هذا إن لم يكن من المحرّضين والدّاعين للعنف والمختصّين في زرع بذور الكراهيّة وتزييف حقيقة الآخر المختلف والتمادي في نعته بالكفر والتحريف والضّلال.
ألا يفسّر ذلك ضعف الأثر الأخلاقيّ للمسجد في سلوك المصلّين؟ فهل للصلاة أثر على السلوك المدنيّ للمسلم؟ هل يمكن أن يظلّ الخطاب الذي يتلقّاه المصلّون في المساجد عامّا لجميع النّاس؟ ألا يفترض أن يكون لكلّ جماعة بحسب حاجاتها خطاب محدّد يتولاّه المختصّون.
إنّ ضعف ثقافة الإمام يجعله يسقط في التعميم والتعويل على مصادر غير علميّة للحقيقة، وهو ما يفقده الجرأة على إبداء الرأي في الخطاب الديني. ولذلك فمن شروط النجاح في الخطاب أن نخصّ المتلقّي بما يستجيب أوّلا لآفاق انتظاره، وما يمكن أن يؤسّس حداثة تتجاوز عقدة التبعيّة للماضي وتستثمر قوّة النبوّة، باعتبارها طاقة تجديد وجرأة على تغيير الواقع وليس بوصفها محاكاة لحركات النبيّ وسكناته وتقليدا أعمى للأسلاف بدعوى الحفاظ على الدّين.
ألا يمكن للمسجد أن ينفتح على العلم والفنّ والفلسفة، ويصير فضاء للمعرفة بدل أن يظلّ فضاء للتلقين وسماع القرآن دون فهم معانيه وإدراك مقاصده. ألا يمكن اتّخاذ القرآن ذاته سبيلا للمعرفة ومحرّضا على الاكتشاف والخلق والإبداع؟ ولماذا يكتفي المتديّنون بترديد حروفه دون تطبيق تعاليمه دعوة إلى العلم والبحث وروحا ثوريّة أساسها الخلق والإبداع؟
إنّ الدّعوة الأولى إلى القراءة تظلّ ملحّة في مجتمعات لا تقرأ. والمكتبات التي تضمّ جميع فروع العلم والمعرفة بكلّ اختصاصاتها الحديثة يمكن أن يتّسع لها المسجد. وبذلك يخرج المسلم من ضيق الآفاق وشكلنة الطقوس إلى سعة العلم الإنسانيّ والمعرفة البشريّة المتطوّرة.
لقد اضطلع المسجد بوظائف اقتصاديّة واجتماعيّة شتّى مثل وظيفة التكافل الاجتماعيّ والتواصل وتحقيق المساواة وتحقيق الأمن للغرباء ومراعاة الحقوق المدنيّة والزواج والرعاية الصحيّة واضطلع أيضا بوظائف سياسيّة وعلميّة وثقافيّة[6]، ولكنّ تلك الوظائف تفرّقت بين مؤسسات الدّولة وتلاشت من المساجد، فظلّ مكانا للطقوس وتلاوة الخطب التي كثيرا ما تحمل رؤية متشبّثة بالماضي وقداسته غير قادرة على استيعاب تحوّلات المجتمع وحاجات الناسّ المادّية والرمزيّة.
لقد أضحى تحديث المسجد ضرورة ملحّة ليستعيد أثره العميق في المجتمع وقدرته على إحداث ثورة في الأنفس والعقول رغم وعينا بما في الواقع من عوائق. فلا يزال بعض المسلمين يتنازعون حول شرعيّة رفع اليد أثناء الدّعاء وحكمها الفقهيّ عند "علماء الأمّة"، أو عن موضع اليدين أثناء الصّلاة أو عن موضع صلاة العيد داخل المسجد أو خارجه وغيرها من المسائل الشكليّة التي عرق في بحرها الفقهاء وأغرقوا من ورائهم الوعي الإسلاميّ. ولكن سيأتي على المسلمين حين من الدّهر يدركون فيه أنّ تحديث المسجد بالكهرباء والمصاعد والقباب المتحرّكة ما هو في النهاية سوى ديكور خارجيّ لا يغني ولا يسمن من جوع، بل إنّه كثيرا ما يعبّر عن الرغبة في الرفاهة وتحقيق الغايات المادّية. ولكنّ الحداثة الفعليّة التي يستعيد بها الإسلام مجده وبريقه تبدأ يوم يفتح المسجد أبوابه للعلماء والفلاسفة فاعلين لا منفعلين، ومتكلّمين لا منصتين، ويوم يتحوّل المؤمن من السلبيّة إلى الفاعليّة، فيصبح المسجد فضاء ديمقراطيّا لإبداء الرأي بدل أن يظلّ فضاء للخنوع والتسليم والإيمان الجبريّ الخاضع لاستبداد الصّوت الواحد. وحينئذ ما عاد يهمّ إن جلس المسلم على الأرض أو على الكراسيّ، فكلّ تلك العناصر شكليّة مادامت العقول قد انفتحت كالقباب على العلم وتجاوزت انغلاق أفقها وعتمة سقفها.
[1] انظر: عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، ط1، تونس، الدّار التونسيّة للنشر، 1991
[2] انظر: زكي الميلاد، الإسلام والحداثة من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلاميّة، ط1، بيروت، مؤسّسة الانتشار العربيّ، 2010، ص ص 49- 50
[3] راجع: محمّد إلياس عبد الغنيّ، تاريخ المسجد النبويّ الشّريف، ط1، السعوديّة، مكتبة الملك فهد بن عبد العزيز، 1996، ص ص 37- 103
[4] انظر: نوبى محمّد حسن، عمارة المسجد في ضوء القرآن والسنّة، ط1، مصر، دار نهضة الشرق، 2002، ص 71
[5] نللي سلامة العامري، الولاية والمجتمع، مساهمة في التاريخ الديني والاجتماعي لإفريقيّة في العهد الحفصي، ط1، تونس، منشورات كلّية الآداب بمنّوبة، 2001، ص 124
[6] انظر: المرجع نفسه، ص ص 109- 157