المسيح ومسلمو اليوم
فئة : مقالات
يتطور المعتقد الديني بتطور الإنسان مع الزمن، وتنوع الحضارات التي أقامها على الأرض، والتي كان لرجال الدين دور في نشوئها، كما كان لهم دور في نشوء النزاعات بين الأديان، ووضع الحواجز المعيقة بين بني البشر.
ولو استعرضنا مفهوم الله في الأديان عبر التاريخ إلى الآن، لوجدناه مفهوما متطورا؛ يبدأ بالمحسوس لينتهي إلى المجرّد، و لعل الفكر المجرد هو أعلى قدرات العقل البشري.
كان المسيحيون الأوائل موحّدين على مذهب آريوس، يؤمنون بالمسيح نبيا، وليس إلها أو ابن إله
فالإنجيل لم يكتب في حياة السيد المسيح، إذ كان المسيحيون الأوائل موحّدين على مذهب آريوس، يؤمنون بالمسيح نبيا، وليس إلها أو ابن إله، حتى التئام مجمع نيقية، والذي كان بداية التغريب للدين المسيحي عن منشئه السويّ، وجعله وسيلة بيد رجال الكهنوت بتثبيت نصوص الأناجيل الأربعة في سيرة السيد المسيح، وإدخال معتقد التثليث الذي ابتدعه الكاهن اللاتيني "ترتوليان" في القرن الثاني للميلاد، وجعل رجال الدين والكنيسة وسيطا بين الله والناس، بادعاء أن الوحي لا يزال يتنزّل عليهم، وأن الله لن يغفر للعبد الخاطئ ما لم يغفر له رجل الكنيسة أولا.
إلاّ أن الأمر لم يقف عند هذا الحد في تطوّر عقيدة التثليث، بل مارس العقل المسيحي المستنير نقده لهذه العقيدة. ومع مطلع القرن السابع عشر، بدأت دراسة الكتاب المقدس تعرف منعطفا جديدا تمثل في ظهور حركة نقد نصوصه، وتطبيق مناهج النقد التاريخي والفيلولوجي من طرف النقاد المسيحيين، ومن طرف رجال الكنيسة أيضا، خصوصا بعد النجاح الذي حققه المنهجان المذكوران في دراسة المخطوطات الإغريقية. وتمّ حذف مجموعة من التصورات البدائية، وذلك بتهذيبها وعقلنتها، حتى تساير التطور الحاصل والسقف المعرفي الذي عرفه ويعرفه الفكر الأوربي إلى درجة أن العديد من الفرق المسيحية المعاصرة، تتحرج من ذكر عقيدة التثليث، بل أصبحت تتبنى عقيدة التوحيد وتؤمن بها.
الإشكال المطروح هنا هو: هل العقل المسلم المعاصر، وهو يجادل المسيحية المعاصرة لازال يحتفظ بنفس التصورات السابقة والقديمة لمفهوم عقيدة التثليث، كما أسسها الكاهن اللاتيني "ترتوليان" في القرن الثاني للميلاد؟
يظهر من كتابات المجادلين المسلمين الذين تصدّوا لنقد المسيحية، أنّهم- وخصوصا المتأخرين منهم- قد طالعوا كتب العهدين القديم والجديد، لكنّهم لم يعتمدوا اعتمادا مباشرا في جدلهم إلاّ على بعض النبوات في العهد القديم، وعلى الأناجيل الأربعة من العهد الجديد. كذلك يظهر من كتاباتهم أنهم استعانوا في فهم بعض نصوص العهدين، أو ترجمة بعض الألفاظ فيهما أو تفسيرها، على أقوال من أسلم من أهل الكتاب، وعلى أقوال رؤساء ديانتهم، إذ كثيرا ما نقرأ في كتاباتهم عبارات من أمثال:"أخبرني من أسلم منهم"، "قال لي أحد رؤسائهم"...الخ، بل لقد أسهم بعض هؤلاء الذين أسلموا منهم في الردّ على من بقي منهم على دينه.
بدأت دراسة الكتاب المقدس تعرف منعطفا جديدا تمثل في ظهور حركة نقد نصوصه، وتطبيق مناهج النقد التاريخي والفيلولوجي من طرف النقاد المسيحيين، ومن طرف رجال الكنيسة أيضا
واقتصر المسلمون في جدلهم مع المسيحيين على الرجوع إلى الأناجيل الأربعة، والذي يعود في تقديرنا إلى عدة أسباب منها:
1.أن المسلمين كانوا ولا يزالون يعتبرون الأناجيل هي المصدر الرئيس، إن لم يكن الوحيد للدين المسيحي على غرار القرآن الكريم، الذي يؤمنون بأنه المصدر الأول للدين الإسلامي، فقصروا نظرهم على ما ورد فيها، لتكون الحجج التي يستنبطونها منها دامغة لا سبيل إلى دحضها أو إنكارها.
2.إن صفة عيسى كإنسان وكرسول تبدو واضحة في الأناجيل، بينما تشيع في بقية كتب العهد الجديد عبارات مشوشة.
3.يتكون جزء كبير من كتب العهد الجديد من رسائل بولس الذي يعتبره المسلمون المحرّف الأوّل لدين المسيح الحقيقي، والقائل بألوهيته، فهم لا يعترفون بصفته (الرسولية) التي يضيفها إليه المسيحيّون، ويعتبرون أن رسائله وتعاليمه دخيلة لتزييف دين المسيح، ومن ثم يرفضونها جملة وتفصيلا.
4.انحصرت غاية نظر الكثير من المسلمين في الأناجيل في البحث عن البشارات التي تتضمّنها، والتي تدّل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تكن بقية كتب العهد الجديد متضمنة لمثل تلك البشارات، فقد أهملوا النظر فيها.
5.إن كتب العهد الجديد لم تكن مجموعة في مجلّد واحد كما هو الحال عليه الآن، بل كانت أجزاء متفرّقة، يحتوي كل جزء منها على بعض تلك الكتب، وكان أكثرها شيوعا هي الأناجيل.
اقتصر المسلمون في جدلهم مع المسيحيين على الرجوع إلى الأناجيل الأربعة
وقد كان هذا حال جلّ مواقف المجادلين المسلمين من نص الأناجيل في عصور الإسلام الزاهية؛ أي الفترة الممتدّة من بداية الإسلام وحتى نهاية القرن السابع الميلادي. ثم جاءت عصور التقليد، فلم يخرج الوضع عمّا كان عليه، وبقيت الاتجاهات النقدية تتراوح ما بين الرفض الكامل لنصوص الأناجيل، والقبول الجدلي لها، والقبول الجزئي لبعض فقراتها، حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حيث تغيّرت المواقف قليلا وبدأت تظهر أبحاث ذات نفس نقدي أوسع، بسبب من اتصال المسلمين بأوروبا واطلاعهم على كثير من الآثار العلمية لعصر التنوير في مجال الدراسات النقدية للكتاب المقدّس، وظهور علم مقارنة الأديان وازدهاره.
كما ظهرت في مجال تلك الدراسات النقدية اتجاهات ونظريات متعدّدة، بعضها متطرّف، كتلك التي تدّعي أنّ المسيح عليه السلام شخصيّة أسطورية، وأنّ المسيحية برمّتها قائمة على مجموعة من الأساطير، وبنت وجهة نظرها على غرابة نشأة المسيحية، إذ أنها قد قامت على عقائد من مثل: ميلاد عيسى من غير أب، وكلامه في المهد، وإتيانه بمعجزات ذات طابع خاص مثل إحيائه الموتى، وصلبه ثم قيامته من الأموات، والتثليث، والخطيئة الأصلية، هذا فضلا عن صمت التاريخ إزاء شخصية عيسى عليه السلام، وانتشار كثير من الأساطير المتضمّنة للموت ثم للبعث وكذلك الفداء في البيئة التي نشأ فيها المسيح.
غير أن تلك النظرية لم تحظ باعتبار، لوجود آثار لدعوة عيسى وإن شابتها بعض الأساطير، ولاستحالة أن يقوم دين وينتشر، ويبقى، ويحكم توجّه كثير من المجتمعات، ويكون قائما برمّته على أسطورة أو مجموعة من الأساطير.
وإزاء تلك النظريّة قامت نظريّات أخرى تفسّر قيام المسيحية، منها تلك التي قال بها رنان Renan في كتابه المشهور:(حياة المسيح)(1)، والتي تفسر وجود المسيح ورسالته على أنها دعوة إلى عبادة الإله- الأب- في مقابل رسالة موسى القائمة على عبادة الله العادل، أو أنّها دعوة إلى عبادة الإله- الكلمة.
قامت نظريّات أخرى تفسّر قيام المسيحية...والتي تفسر وجود المسيح ورسالته على أنها دعوة إلى عبادة الإله- الأب- في مقابل رسالة موسى القائمة على عبادة الله العادل، أو أنّها دعوة إلى عبادة الإله- الكلمة.
وقد أولت الدراسات الغربية، ابتداء من عصر النهضة وحتى اليوم ،عناية خاصة بدراسة التراث الديني المسيحي الحافل، ونشره في كثير من اللغات الأوروبية الحديثة، فأصبح من المتيسّر أكثر من ذي قبل الاطلاع عليه والاستفادة منه، بل لقد قام العديد من العلماء الغربيين من أبناء المسيحية بنقد تلك المعتقدات المسيحية غير المفهومة أو المقبولة، طبقا لمناهج متعدّدة، فتناولت أبحاثهم النقدية فيما تناولت: نقد الكتب المقدسة، تاريخ الفرق المسيحية، تاريخ المجامع المقدسة، تاريخ الكنيسة، الإصلاح الديني، الاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش...الخ. وقد آتت الكتابات الجادة ثمرتها المرجوة، فصرفت معظم المسيحيين عن ديانة الكنيسة، فلم يعد لها إلاّ ذلك التأثير الاقتصادي والسياسي الجارف.
إنّ موضوع الجدل الديني الإسلامي المسيحي في موضوع الألوهية(2) جدّ مطروق، وهذا ما يشكّل صعوبة خاصة في إعادة طرحه اليوم، لأنه إن لم يكن هناك قول جديد فما الحاجة إلى إعادة طرحه؟
في بحث أصدره الباحثطريف الخالدي في لندن بعنوان: "المسيح برواية المسلمين"(3)، حصر فيها الأدبيات والأقوال والقصص التي وردت في كتابات المؤرّخين والأدباء والشعراء العرب والمسلمين عن السيد المسيح. ومؤكدا على أن الكتابات التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، قد أبانت عن اهتمام بالغ بشخصيّة المسيح؛ نذكر منها العقّاد في "عبقرية المسيح" 1958، وكامل حسين (في "القرية الظالمة 1954، والوادي المقدس 1968)، ثم تلتها كتابات عن الموضوع نفسه من الجانب الأوروبي والمسيحي، من أهمّها ما كتبه: "روجي أرنلداز"(4)، بعده نشر الأب بورمانس كتابا عن: "عيسى ومسلمو اليوم"، تناول فيه التعثّر الواضح الذي يعاني منه الحوار الإسلامي- المسيحي بصفة عامة، وبصفة أخصّ انعدامَ أيّ جديد في الكتابات الإسلامية المتعلقة بشخصية السيد المسيح.
السؤال المطروح في مجمل هذه الأعمال، هو: لماذا لا نكاد نجد إعادة نظر في هذا الموضوع عند المفسرين المعاصرين أو أصحاب الترجمات الحديثة للقرآن؟ لماذا لا نجد جديدا في الكتابات الحديثة التي تتناول المسائل العقائدية(1)؟
ما تثيره جملة هذه الأعمال جديرة بالبحث والاهتمام، لأنّ السؤال عن سبب إعادة إنتاج نفس الإجابة في مسألة السيد المسيح مهمّ لأكثر من وجه. هذا السؤال موصول من جهة بالفكر الديني في علاقته بالآخر، ثم هو خطير لأنه يمسّ قضايا عقدية في الإسلام، لم تقع مراجعتها اليوم بصفة جوهرية.
هذه الرؤية اللاهوتية للعالَم تهمّش أو تلغي البعد الإنساني في فهم تطور الأفكار، وحركيّة المجتمعات
مثل هذا التساؤل يعنينا بصفة مباشرة وبصفة أوسع، لأن طرح هذه القضايا يصبح أوكد إذا استحضرنا علاقة ثقافتنا الدينية بلحظتنا التاريخية.
من هذه البوّابة، نفسّر جانبا مهمّا من توجّهات العنف، التي تظهر رافعة راية الإسلام والدفاع عن الهوية، والتي لا تزيدها بعض العوامل السياسية إلاّ حدّة أحيانا.
لذلك، ليست غايتنا هنا مراجعةَ الأعمال العديدة التي اعتنت بالسيد المسيح قصد تصنيفها ونقدها، لكنّ هذه الأعمال كانت وستكون في مجملها ماثلة فيما قدّمناه ونقدّمه، وإطارا عامّا يمكّن من المساهمة في قراءة أوسع لشخصية السيد المسيح في الخطاب القرآني.
ما نسعى إليه بالأساس هو معالجة ثقافتنا الدينية التي- سواء وقعت مواجهتها أو التي وقع تجاهلها- تمّ إرساؤها عبر تطور تاريخي قام على مبدإ مركزية لاهوتية صارمة .
مثل هذه الرؤية اللاهوتية للعالَم تهمّش أو تلغي البعد الإنساني في فهم تطور الأفكار، وحركيّة المجتمعات، ومن ثم تتجاهل، لأنها تتصوّر أن الحقيقة يمكن أن تُمتَلك بصفة قطعية ونهائية.
ما نود التوكيد عليه، هو ما ذهب إليه فضل الرحمن في كتابه القيّم: الإسلام وضرورة التحديث(2)، وهو أحد الدعاة إلى ضرورة مراجعة الثقافة الدينية للمسلمين، حين ذكر أنّ معضلة العالم الإسلامي موصولة بأسلوب تفسير القرآن. وتعثّرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة، إنّما ترجع إلى الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه.
* عبد السلام قايقاي باحث من المغرب
لائحة المراجع:
بالعربية:
- فضل الرحمن، الإسلام وضرورة التحديث، نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية، ، ترجمة إبراهيم العريس، ط!، 1993، دار الساقي.
- محمود شلتوت: "الإسلام عقيدة وشريعة"، حمزة أبو بكر خالد حسن : "حياة النبي عيسى".
- طريف الخالدي: الإنجيل برواية المسلمين، دار النهار للنشر، وهو تعريب لكتابه الذي صدر بالإنكليزية :
The Muslim Jesus Saying and Stories in Islamic Literatureعن منشورات جامعة هارفرد،
الأجنبية:
- Renan : La vie de Jésus, 36iem edit, Paris 1956
- Jésus fils de Marie, prophète de l'Islam, Desclée n°13 Paris 1980.) Jésus dans la pensée musulmane, Desclée n°32 ; Paris 1988.
(1) Renan : La vie de Jésus, 36iem edit, Paris 1956
(2) هذا عنوان بحثنا لنيل الدكتوراة.
(3) طريف الخالدي :الانجيل برواية المسلمين، دار النهار للنشر، وهو تعريب لكتابه الذي صدر بالنكليزية :
The Muslim Jesus Saying and Stories in Islamic Literatureعن منشورات جامعة هارفرد،
(4)- Jésus fils de Marie, prophète de l'Islam, Desclée n°13 Paris 1980.) Jésus dans la pensée musulmane, Desclée n°32 ; Paris 1988
(1) محمود شلتوت: “الإسلام عقيدة وشريعة“، حمزة أبو بكر خالد حسن : “حياة النبي عيسى“.
(2) فضل الرحمن، الإسلام وضرورة التحديث، نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية، ، ترجمة ابراهيم العريس، ط!، 1993، دار الساقي.