المشروع الإسلامي/ الديمقراطي بين القيم والإجراءات: قراءة في التأويلات والمآلات
فئة : مقالات
يتّفق جل الإسلاميّين[1] على أن "دولة الإسلام" حقيقة ناجزة لا محالة، لكنهم يختلفون حول السبيل الممكن والواجب إليها، وتبعا لذلك تتباين مواقفهم من الديمقراطية، باعتبارها أهم أسلوب للتنظيم الدولتي أنجزه الاجتماع البشري الحديث. ولذلك هم مختلفون حول "مقتضى الشرع" بخصوص الديمقراطية، ففي حين يرفضها بعضهم جملة وتفصيلا[2]، بدعوى أنها كفر في المحتوى والأدوات، بحيث أنها في أحسن أحوالها، شكل من أشكال التيسيرات المادية التي تستعلي على حاكمية الله، والتي لا تخفف من جاهلية العصر[3]. وهذا الموقف ملتبس للغاية، إذ ستُبيّن الوقائع أن الإخوان المسلمين غير منسجمين مع مواقف سيد قطب أحد أبرز مفكريهم بهذا الخصوص، بحيث يدافعون عن ديمقراطية على مقاسهم، وهي نظرة أداتية للديمقراطية في جميع الأحوال، تقتضيها الغاية المتمثلة في الوصول إلى السلطة.
ويرى قسم آخر أن لا مندوحة عن الديمقراطية لإحقاق دولة ملائمة للعصر، ولو كانت دولة للإسلام، لكن بعد أن يتم تخليصها من قيمها الدنيوية الدهرية، والتي بحسبهم تصطدم مع قيم الإسلام، فهي دنيا بلا آخرة، ووصمة عار وانحطاط خلقي[4]. ولذلك سنعمد في هذه المقالة إلى مساءلة هذا الموقف عموما من الديمقراطية، من أجل الكشف عن حجم الضرر الذي يُلحقه بالديمقراطية، بصرف النظر عن التمايز الحاصل بين تلك التيارات في موقفهم من الديمقراطية، ومن قيمها والإجراءات التي تحتكم إليها.
أولا: الإسلام وقيم الديمقراطية
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تصادما بين الديمقراطية والإسلام، خصوصا على صعيد القيم التي يبشر بها كلا النسقين، لكن ذلك يتوقف على الزاوية التي من خلالها يتأول هذا الطرف أو ذاك الإسلام والديمقراطية، فبخصوص تأويل الإسلام، لا يجد كل المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسي غضاضة في القول بأنهم هم من يمثل صحيح الإسلام!، أو أن من يعارضهم يعارض المشروع الإسلامي والإسلام[5]. ولذلك فهم لا يتورعون عن الصراع فيما بينهم، بالرغم من سعي كل منهم إلى احتكار مشروعية تمثيل الإسلام، ناهيك عن صراعهم ضد الأنظمة، والتي تتكلم باسم الإسلام أيضا، بحيث يكون الصراع ضدها اعتراضا على استغلال الدين![6].
أما بخصوص تأويل الديمقراطية، فقد يكون مفهوما موقف الرافضين لها معنى ومبنى، لكن الذي يحتاج وقفة هو موقف الإسلاميين الذين يتسامحون بقدر معين معها[7]. فهؤلاء يرون أن قيم الديمقراطية تتصادم مع الإسلام، فهي تتركز في المساواة على قاعدة المواطنة بين جميع أفراد المجتمع في الحقوق والحريات والواجبات. وقيم الإسلام لا تسمح مثلا -في نظرهم- للمرأة أن تحكم، أو أن تتساوى مع الرجال في قضايا الإرث مثلا، ولا تسمح لمن يحكم، في الدولة التي يسعون إليها، أن يحكم إلا بعد مساءلته عن دينه، وعن مدى التزامه الديني!. لذلك فمن المنطقي أن تسفر وجهة نظر كهذه عن تقزيم للديمقراطية، وإحالتها مجرد إجراءات وآليات، تتلخص في الانتخاب وفصل السلط وغيرها مما أصبح شرطا لا غنى عنه لقيام دولة عصرية، لكن بنَفَس إسلامي حسب وجهة النظر تلك[8].
كل محاكمة لعصر سابق بمعايير عصر لاحق، هي محاكمة مجحفة، بقدر إجحاف محاولة إدخال أنساق اجتماعية لعصر معين ضمن قوالب من عصر مضى. لذلك فحينما يوقع الدارسون ملاحظاتهم على المسارات التي قطعها تاريخ الإسلام، يُفترض أن تكون تلك المهمة رهينة بإعادة ترتيب زوايا التاريخ، كي تتضح الرؤية حسب ما هو متاح من معلومات. وفي هذا الصدد يكاد يتفق أولئك ضمنا على أنه بالرغم من وجود مظاهر اجتماعية متعارضة ومتناقضة أحيانا في نفس الفترة، إلا أن الإسلام انتشر بمعنى كان قادرا معه فقط على المساكنة بين الثقافات والأعراق والعادات الاجتماعية، والتي كان يلتقي بها في طريق انتشاره، ولذلك بقيت في الإطار العام تلك التمايزات قائمة بين البلدان التي دخل إليها الإسلام، ولم يتم القضاء عليها لان الإطار الذي انتشر ضمنه الإسلام هو إطار حضاري ثقافي.
مثلا من نُسميهم اليوم مواطنين، كانوا يُسمون طيلة تاريخ الإسلام عامة ودهماء ورعية وغيرها من الأوصاف[9]. وكما سبقت الإشارة يصعب محاكمة نظرة كتلك في سياقها بقيم منتسبة إلى سياق لاحق، لكن المساكنة بين تلك النظرة وبين كل أشكال الإبداع العلمي والأدبي والفني، والتي بها نعرف شكل الحضارة العربية الإسلامية، وبين فقه التحريم وفتاوى التكفير[10]، ومظاهر من قبيل ما يعرف بالاستبداد الشرقي والآداب السلطانية. فالمساكنة بين كل هذه الأمور جميعها تعني بأن نتاجا حضاريا تعدديا كان قائما، وبقي مُقطعا في الموروث الحضاري بشقيه المادي والمعنوي، وإن كانت ذهنية المؤرخ المعاصر تعامله باعتباره ركاما وكفى.
وذلك يعني أن للإسلام وجها حضاريا ثقافيا، بحيث يمكن معه فقط المساكنة بين كل مكتسبات العصور، والديمقراطية أهمها في العصر الحديث، باعتبارها نسقا متكاملا من القيم والإجراءات. وعلى العكس من تلك الرؤية المشار إليها بهذا الصدد، فقد عرف الإسلام خلال تاريخه الطويل نماذجا لمدارس رأت في الإسلام دينا قادرا على استيعاب كل أشكال الوجود الإنساني، ومكتسبات كل العصور دون التقوقع داخل قراءة وحيدة، وتقديمها كصيغة وحيدة للإسلام. فمثلا قد يجد الباحث في فقه المقاصد كما صاغه الشاطبي[11] فرصة ثمينة لاستعادة المعنى الحضاري والثقافي للإسلام، والذي لا يتم تقديمه للعالم فقط كدين وعبادات وأحكام فقهية، بل كقيم إنسانية قابلة للعيش في كل عصر. فالإسلام كان حضارة وثقافة، وليس عقيدة وعبادات وسلوكا فقط، مما جعل أقباط مصر يفضلون أيام الفتح الإسلامي الانتساب إلى الإسلام كحضارة، وأن يعيشوا في كنفه، علاوة على تمتعهم بالأمن[12]، وامتدت هذه النظرة ليتبناها مسيحيون في القرن العشرين[13].
أما بخصوص الأحكام التي يجعلها الإسلاميون العنوان الأبرز لمشروعهم، فهي في مدرسة المقاصد مرتبطة بعللها، وتدور معها وجودا وعدما، وإذا انتفت العلل انتفت معها الأحكام، والقرآن نفسه ربط بين الأحكام وبين أسباب نزولها[14]، تأكيدا ضمنيا منه على أهمية النظر إلى العلة قبل تقديس الحكم. فلا يمكن مثلا اليوم أن نقول أن من لم يحكم[15] بما أنزل الله بخصوص الرق فهو كافر، لأن التشريع وقتها كان يهدف إلى القضاء على الرق، وكأني بأحدهم سيُشرّع الرق من جديد، كي يمنح لآيات عتق الرقبة فرصة تاريخية للتطبيق، بدل التعطيل الذي طالها منذ زمن !.
كان نيتشه يقول أن "السذج فقط من يعتقدون أن غاية الشجرة هي الثمرة، بل غايتها البذرة". وهذا يصدق على الإسلام، فليست الغاية هي الأحكام، وإنما مصلحة الإنسان. لذلك أخطأت حركات الإسلام السياسي المعاصر كثيرا، حينما اعتقدت أن هناك أحكاما غير قابلة للتغيير، وان إحقاقها واجب في كل العصور، فارتبط الإسلام في مخيالهم وسلوكم بجملة عناوين. أما سياق التحولات الموضوعية التي حملتها القرون الماضية، فقد سارت ضدا على مثل هذا التصور، واستمع الناس إلى كل الأصوات القادمة من داخل طبيعتهم البشرية، فكانت المجتمعات العربية الإسلامية فسيفساء لا تزعج إلا من يفهم الإسلام مرادفا للنمطية والتماثل وبالتالي الموت.
ثانيا: الديمقراطية قيم وإجراءات
إذن يتضح أن مشروع الإسلاميين يصطدم أولا مع إسلام الثقافة والحضارة، قبل أن يصطدم مع قيم الديمقراطية، والتي انتشر الإسلام بين الشعوب والأمم بما يشبهها. بل إن وجود الإسلام في رقعة جغرافية شاسعة جامعة بين الأمم والشعوب ترك لنا متحفا من الأعراق واللغات والعادات، على حد تعبير عبد الوهاب المسيري[16]. ولو كان الفاتحون يقدمون الإسلام بصيغة شبه الجزيرة العربية دون سواها، لما بقي التنوع قائما.
ومبعث ذلك الاصطدام، يكمن في القدر الكبير من التشويش الذي لحق مفهوم "العلمانية"، الذي انقسم حوله الدارسون العرب، بين متحفظ على الترجمة، ورافض للمفهوم من حيث الدلالة اللغوية والمحتوى الاجتماعي. وفي هذا المضمار، جاءت محاولة المفكر العربي عبد الوهاب المسيري، الرامية إلى التوفيق، بين الرافضين والمؤيدين، فميز في إطار مشروعه بين العلمانية الجزئية (فصل الدين عن الدولة)، والعلمانية الشاملة (فصل القيم عن الحياة ونزع القداسة عن العالم)[17].
تأسيسا على ذلك، يرفض المسيري العلمانية الشاملة، ويقبل بالعلمانية الجزئية. لكن من حيث واقع الأمر في بلدان أوروبا الغربية، التي أبدعت تلك القيم، فإنه لم يحدث هناك اختفاء للقيم الإنسانية، ولم تختف الأديان، بل ولم يحدث حتى فصل من نمط واحد بين الدولة والدين في جميع بلدان أوروبا، خصوصا الغربية منها، بل صارع الأوروبيون طويلا ذهنية شبيهة بالذهنية التي تريد إضفاء نوع من القداسة على ممارستها للسلطة، وتصوير الدولة "كائنا متدينا مؤمنا"، بل يدعو الناس إلى الإيمان بما يؤمن به، ويضفي تلك القداسة على مخرجاته ضرورة.
تلك النظرة كانت تمثلها الكنيسة، وانتهى الأمر إلى قبول إصلاح ديني، وإلى تنظيم عقلاني للمجتمع استنادا على معيار المواطنة، وصارت هذه الانجازات الحضارية مكتسبات للإنسانية جمعاء، وتطعمت بها منظومة الديمقراطية التي لم تكن فكرة جديدة، ولم تتوقف عن التطور يوما. لكن الإسلاميين في بلداننا بجميع تلاوينهم متفقون على أن تلك القيم العلمانية، سواء أكانت جزئية أم شاملة، تتصادم مع الإسلام، لذلك فالاستفادة من تجارب أوروبا، في نظر من يقبلون بديمقراطية الإجراءات، ينبغي أن لا تتجاوز تبني أساليب الانتخاب وأشكال المؤسسات وغيرها من الإجراءات، والتي لا تفرضها فقط ضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين، وإنما تفرضها شروط العصر، لأنهم يعتقدون أنها إجراءات ينبغي أن تحكمها قيم إسلامية لإقرار أحكام شرعية بُغية التنفيذ. وهكذا انقسم الداعون إلى "الحل" في واقعنا، بين من يريد ديمقراطية كاملة بقيمها وإجراءاتها، ومن يرفضها كاملة، ومن يريد منها الإجراءات فقط، ومن يريد منها القيم والإجراءات معا لكن في إطار جزئي، ويرفضها كاملة في إطار شامل. أما السياق الموضوعي فيكرس الصراع بين كل هذه الاتجاهات من جهة، وبينها وبين عناصر الدفع الأخرى.
الحقيقة المؤلمة أن الديمقراطية التمثيلية تحديدا، والأكثر انتشارا في العالم، لا تستقيم دون الجمع بين القيم والإجراءات، فالقيم الديمقراطية وعلى رأسها قيمة المواطنة بجميع مدلولاتها، هي التي أنجبت الإجراءات وكرستها كتجارب تصون القيم وتحميها وتديمها، بل إن الصراع في أوروبا الغربية عمّر طويلا من أجل الانتصار للقيم التي تتلخص في الإعلاء من إنسانية الإنسان، وضمان عيشه بحرية تامة وكرامة، وعلى التساوي بين جميع أفراد المجتمع، وفق ما تمليه حقوق المواطنة وواجباتها، وما عدا هذا هي تدابير وأدوات. مشروع بدأ مع حركة الإصلاح الديني في عصر النهضة الأوروبية، قادته تطلعات طبقة ناشئة، هدفها الإنعتاق من كهنوت العصور الوسطى[18]. لكن لنفكك المسألة أكثر حتى لا يكون النقاش معياريا ويضيع العمق.
نعرف من دراسة أنظمة الحكم عبر العالم، بأن أنماط الاقتراع، وتقنيات التقطيع الانتخابي، وطبيعة التعددية الحزبية المتبعة في هذا البلد أو ذاك تؤثر على مبادئ ديمقراطية من قبيل الاختيار الحر، وحكم الشعب، والإرادة العامة، والمشاركة السياسية للمواطنين في الحكم والتمثيلية، تلك الإجراءات تؤثر على هذه المبادئ بل قد تقود إلى تقويض القيم الكونية الآنفة الذكر في بلد معين. فمثلا في نظام برلماني أو شبه رئاسي بأغلبية حزبية غير منضبطة، يكون اختيار ممثلين عن الشعب على المحك، بحيث أن تبني نمط اقتراع نسبي[19] سيعني الانتهاء إلى فسيفساء برلمانية وبالتالي حكومات ائتلافية غير منسجمة، في حين تبني الاقتراع المباشر سيعني منع الأحزاب الصغيرة من الوصول إلى البرلمان أصلا، وهي التي تأسست تحت مبرر الإعلاء من قيمتي الحرية والتعدد، وترجمتهما سياسيا![20]، هذا فضلا عن أن أسلوب التقطيع الانتخابي بناء على ما توفره سوسيولوجيا الانتخابات من معلومات، أو ما توفره الدوائر الدولتية بهذا الخصوص، سيعني فوز هذا الطرف أو ذاك[21]. ولا ينبغي انتهاء أن نغفل أن الإرادة الشعبية والاختيار النزيه والحر، لا تعني في الإجراءات أكثر من أصوات صحيحة مقسمة على الأحزاب دون الأصوات الفاسدة، بما يشكل مجموع المسجلين في اللوائح من بين كتلة ناخبة، هي في الغالب تكون محصورة في فئات عمرية ومهنية محددة من بين مجموع السكان/المواطنين، ولا يشترط في الغالب أيضا أي عتبة من عدد المصوتين ينبغي تحصيلها[22].
هكذا يتضح أن الإجراءات التي يشدد عليها الإسلاميون، بوصفها أفضل ما في الديمقراطية، وأكثر أدواتها قدرة على التساكن مع الإسلام، يتضح أنها يمكن أن تُقوض القيم التي أفرزتها، فكيف بقيم أخرى سيتم إلصاقها بها عنوة!!، هذا ناهيك عن أن مختلف تجارب الدول تبين أن أشكالا معينة من النظم الحزبية قد يعصف بقيم كبرى، مثلا في الولايات المتحدة وبريطانيا يستحيل الحصول على فرصة للتنافس على السلطة خارج نظام الحزبين، وهو أمر مخالف لقيمة الحرية، كما تبلورت في الأدبيات السياسية والفكرية الأنوارية.
لكن كل عيوب الإجراءات في النظم الديمقراطية تعقلها القيم التي تحدثنا عنها سابقا، بحيث أن الثقافة القيمية السائدة في مجتمع ديمقراطي معين تفرض على أي طرف يصل إلى السلطة احترام الحريات الفردية، والحريات العامة، وإقرار الحقوق المدنية والسياسية للأفراد، بل إن منطق الأغلبية والأقلية لا يجري اعتماده في الغالب على تلك القضايا وإنما يتم اعتماده بخصوص صياغة السياسات العمومية. ويلخص مارتن لوثر كينغ المسألة بقوله الشهير: "لو كانت الديمقراطية تعني استفتاء الأغلبية على الأقلية لبقي السود في الولايات المتحدة عبيدا إلى اليوم". فمهما حازت الإجراءات عيوبا، ينبغي أن يبقى الرهان على القيم الإنسانية الكونية قائما، لأنها هي التي تملأ ثغرات الإجراءات، أما حينما تضيع، فإنه من الممكن أن يصبح الانتخاب خطيئة، ويجب أن يعاقب عليها مرتكبها بحرمانه منها مدى الحياة !![23].
ثالثا: محدودية الأنساق
جميع أشكال الاقتراع والنظم الحزبية وأساليب التقطيع الانتخابي وطبيعة العلاقة بين السلط، هي بموقع الإجراءات ضمن أسلوب الحياة السياسية الذي يمكن اعتباره ديمقراطيا. وهي أيضا حتى حينما تكون القيم الديمقراطية بمنزلة الروح التي تبعث فيها الحياة، لا تكون بعيدة عن موازين القوى المتصارعة في المجتمع، وعلم السياسة المعاصر يركز بشدة، أثناء دراسة الفاعلين في الحقل السياسي، على تبيُن طبيعة دور ما يعرف بجماعات المصالح. فلا يمكن النظر إلى ظاهرة السلطة السياسية وما يرتبط بها، من اكتساب للسلطة وممارستها وتداولها، بعيدا عن موازين القوى التي تعمل على ترجمة صراعها إلى خيارات في السياسة، بل لا يمكن حصر حتى تلك القوى في الشأن الداخلي لبلد معين، على اعتبار أن المصالح معقدة ومتداخلة، ولا غرابة أن نجد أطرافا خارجية تؤثر على بلد معين، بدءا باختيار ممثلي الشعب، وانتهاء بعملية صنع القرار الذي يفترض فيه أنه قرار ديمقراطي حتى في دولة كالولايات المتحدة.
جماعات المصالح هذه موضوعها الرئيسي هو الصراع في ميدان الاقتصاد، والذي انتهت المدرسة البرجوازية المعاصرة، مع الكينزية وما بعدها في مضماره، إلى اعتبار الدولة حامية له، ومتدخلة لضبط توازناته الكبرى[24]. وبالتالي فلا يمكن إخفاء حقيقة أن الدول التي تعتبر خلال القرن العشرين نماذج للحياة الديمقراطية، على صعيد القيم والممارسات الإجرائية، هي دول تضم أجهزتها المنتخبة، في الغالب، نوّابا ومسؤولين يدافعون عن مصالح هذه الجهة أو تلك، بل إن تلك الجماعات تخترق كافة قنوات التعبير الديمقراطي عن الرأي، وقنوات تشكيل الرأي العام في نفس الوقت من إعلام وفن وحتى منابر أكاديمية[25]. هذا علاوة على أن أعتى النظم الديمقراطية في تلك الدول، لم تستطع في بعض الأحيان أن تنصاع لكونية قيم حقوق الإنسان، عادلة عن أن تتحول إلى أدوات قتل وتشريد وتجويع للشعوب وتقسيم للجغرافيات[26]!.
فكل ما سعت إليه الفلسفة البرجوازية بنموذجيها الأنواري والراولزي، لم يتعدّ نطاق طموحات الفلاسفة، والتي اصطدمت مع القوانين العمياء الآتية من الاقتصاد وقوانينه، وهذه لا مكان فيها للعواطف والأمنيات. وهكذا صارت فرنسا وبريطانيا حاضنتيْ التنوير، هما حاضنتا الإجرام في حق الإنسانية، وصارت الولايات المتحدة التي حلم آباؤها الفلاسفة بالحرية، هي حاضنة الديمقراطية القاتلة الشوفينية على الأسلوب الصهيوني، وهي حاضنة الأنظمة القروسطية طالما أن مصالح من يمسك زمام الأمور في تلك البلدان يريد ذلك. واستحالت أرقى أشكال الحكم رهينة أمزجة ومصالح فئة قليلة من ذوي المواهب والحظوظ، يسميها علم الاجتماع السياسي "نخبا"[27].
لكن هذه النظرة الواقعية للمسألة، وبقدر ما غايتها نزع القداسة عن الديمقراطية/الديمقراطيات من نفوس الديمقراطيين، وإقناعهم بمحدودية الأنساق وزيف مقولة حكم الأغلبية، الذي يصبح حكما أوليغارشيا بفعل الإجراءات المحتومة، ويصبح حكما لصالح من يملك المصالح. هي أيضا تروم التأكيد على أن كل ذلك ليس مبررا للضرب في كونية ومثالية قيمة حق الإنسان في العيش الكريم على قدم المساواة بين الأفراد داخل مجتمع معين، بما يعنيه العيش الكريم من حرية وكرامة وأمن وغيرها، فصعوبة المعادلة، وعدم إمكان تحقيقها، لا تعني رمي طموحات البشرية جانبا، والادعاء أن هناك برنامجا قادرا على الإتيان بالأفضل، وهو لا يأتي سوى بتجارب يُسائلها التاريخ عن الكثير من السلبيات.
خاتمة:
مادامت الديمقراطية منزوعة القداسة، ومشروع الإسلاميين كذلك، فإن المسألة كلها تكمن في وجود "أزمة اعتراف" من الإسلاميين والديمقراطيين، الإسلاميون يرفضون الاعتراف بأن مشروعهم للحكم يمثل فقط وجهة نظرهم فقط، بخصوص الحكم، وبخصوص الإسلام، وأنه قابل للنقد بوصفه إنتاجا بشريا سياسيا، وليس وحيا، فالوحي هو الوحي نفسه، وليس قراءات الناس المختلفة عبر العصور للوحي، والديمقراطيون يصرون على أن "الديمقراطية الغربية الحرة" هي نهاية التاريخ[28]. فمختلف تجارب المسلمين في الحكم عبر التاريخ لم تكن تجارب ناجحة بمعايير أهل الأرض، بل إن دولة صدر الإسلام نفسها لم تَرْسُ على وصفات ناجعة لمعالجة أي معادلة، بدءا بمعضلة السلطة، وانتهاء بمشاكل الناس اليومية. أما ما تلاها فهو ركام من الأحداث، فيها المشرق وفيها المظلم، وحتى أزهى فترات الإنجاز الحضاري لم تخْلُ من حرق كتب عالم، أو صلب عقل جبّار، أو مَظلمة السواد الأعظم من الناس، وبناء القصور الفخمة على أجسادهم.
وبالرغم من أن إجراءات الديمقراطية قد تأتي بنتائج عكسية تسد ثغراتها القيم، فذلك لا يعني أن الثغرات ستنتهي إلى الأبد، لأن أفضل النظم الديمقراطية في العالم ليست ديمقراطية مع الشعوب المستضعفة. فإذا كان العيب يشوب تلك القيم فعلى الأقل الإسلاميون لا يدافعون عن قيم أفضل منها، بحيث أن منظومة قيمهم تباشر الإقصاء داخل أصغر كيان يمكن أن تمسك فيه السلطة، ناهيك عن ما ينتظر باقي البشر، وناهيك أيضا على أن الإسلام يمكن تأويله في اتجاه تبنّي قيم أفضل بكثير من القيم التي يدافع عنها الإسلاميون.
لذلك وجب أخذ أفضل ما في تلك الأنساق، بدل تقديس الآراء في الدين أكثر من الدين نفسه، والذي قد لا يكون جوهره ضدّ التعدّد، أو تقديس الديمقراطية إلى الحدّ الذي تصبح نهاية للتاريخ، فالإنسان أكثر قدرة على الإبداع في هذا المضمار، والتاريخ يمضي على أجساد القتلى مهما تغنّى القتلة بأنهم يصنعون جميلا في قتلاهم، في حين أنهم يصنعون التاريخ من الأجساد المحترقة أو الجائعة إكراما لديمقراطية أو لإسلام مُفصّلين على مقاس ومزاج صاحب المشروع، ولعل ذلك التدافع هو ما يجعل الحياة مستمرة، فهل يعقل أن يبرّر الدين أو الفكر في القرن الواحد والعشرين ذلك بصرف النظر عن قدرته على تغييره؟.
[1] هناك اختلاف حول تسمية هذه التيارات، بحيث هناك تفضيلات عدة ترد بهذا الخصوص، مثلا: الإسلاميين، الإسلامويين، الإسلام السياسي، القوى الظلامية. وهي في العادة استخدامات تأتي تبعا لموقع من يستخدمها، وطبيعة موقفه من هذه التيارات، بحيث يفضل أصحاب المواقف الداعية إلى مهادنة هذه التيارات عبارات ملطفة، في حين يفضل دعاة القطيعة عبارات قدحية ولا تُرضي تلك التيارات في عمومها.
[2] بهذا الخصوص يصعب إيجاد موقف واضح لدى تلك التيارات، بحيث انخرط السلفيون في العملية الانتخابية بعد تشكيلهم حزب النور عقب أحداث 25 يناير 2011، وذلك في تناقض مع مواقفهم من الديمقراطية وما يرتبط من نظم وأشكال حركية.
[3] سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة 1988، ص ص 10-11
[4] عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، ص 11
[5] بدا ذلك واضحا خلال حكم الإخوان المسلمين في مصر، حينما جاهر الشيوخ على مرأى ومسمع من الرئيس السابق محمد مرسي بتكفير المعارضة.
[6] اغناتنكو، خلفاء بلا خلافة، ترجمة يوسف إبراهيم الجهماني، دار حوران للنشر، الطبعة الأولى، 1997، ص ص 6/7
[7] كما سبقت الإشارة يقصد بهم تيارات الإخوان المسلمين، وبعض التيارات الشبيهة بهم مثل جماعة العدل والإحسان بالمغرب.
[8] يرد ذكر هذه الفكرة في أكثر من سياق، وفي أغلب كتب منظري هذه التيارات، يراجع: عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، مرجع سابق، ص 43
[9] محمد أركون، الإسلام: الأخلاق والسياسة، مركز الإنماء القومي، بيروت 1990، ص 116
[10] للإشارة لابن تيمية كتاب يحمل نفس العنوان، ويضم مواقف فقهية من جملة قضايا.
[11] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، دون تاريخ للنشر، (أربعة أجزاء من ضبط وترجمة الشيخ عبد الله دراز أستاذ الأزهر الشريف).
[12] ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية، الجزء الأول، ترجمة نبيل صلاح الدين، الهيئة المصرية للكتاب، 1997، ص 61
[13] كان خصوم ميشيل عفلق يلقبونه بــ "محمد عفلق" استهجانا لكثرة دفاعه عن الإسلام وهو مسيحي، وقد كان يفعل ذلك لأنه كان يفهم الإسلام والعروبة على نحو حضاري، ففي بدايات القرن العشرين، كانت القوى الاستعمارية التقليدية غالبا ما تتدخل في بلدان المنطقة تحت مجموعة من الشعارات، ومن بينها حماية المسيحيين في سوريا مثلا أو حماية الأمازيغ في شمال إفريقيا. وكان ينبري قادة وعلماء ومثقفون من أبناء هذه الأقليات، في الغالب كي يعلنوا انصهارهم ضمن الجسم الثقافي العربي الإسلامي، رافضين وصاية الأجنبي، وحمايته المزعومة لهم. يراجع: باتريك سيل، الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة العاشرة، 2007، ص 58
[14] حول هذه الفكرة تدور أطروحة كتاب المفكر نصر حامد أبو زيد، والذي أثار ردود فعل سلبية في حينه، وتسبب في محنته الشهيرة، نصر حامد أبو زيد، النص، الحقيقة، السلطة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1995
[15] بصرف النظر عن دلالة "حكم" في القرآن.
[16] من حوار بين عبد الوهاب المسيري وسيد القمني، برنامج الاتجاه المعاكس، قناة الجزيرة.
[17] عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002، ص 16
[18] صلاح عيسى، الكارثة التي تهددنا، نشر عيون المقالات، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1990، ص 220
[19] هو نظام انتخابي يتيح لجميع الأحزاب بصرف النظر عن حجمها إمكانية الوصول إلى البرلمان، والمبدأ الأساسي الذي يقوم عليه هو أن كل حزب يحصل على عدد من المقاعد بنسبة ما حصل عليه من الأصوات، وهو أكثر النظم الانتخابية انتشارا في العالم ويناسب نظام التعددية الحزبية، اندرو رينولدز وآخرون، أشكال النظم الانتخابية، دليل المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، الطبعة الثانية، 2010، ص 45
[20] محمد الغالي، حوار مع جريدة الأحداث المغربية، الجمعة 24 نونبر 2006
[21] يكون التأثير أكبر حينما يتعلق الأمر بتكوين البرلمان والحكومة التي تنبثق عنه في أغلب النظم، وذلك بصرف النظر عن التمايزات التي تحصل بين نظم الحكم الأكثر انتشارا، إذ يضعف دور البرلمان والحكومة في أو يقوى في كل نظام تبعا للأسلوب المتبع في فصل السلطات الثلاث عن بعضها البعض، ولذلك نجد تأثير تلك الإجراءات واضحا اشد الوضوح في أنظمة الحكم البرلمانية (بريطانيا) والشبه رئاسية (فرنسا)، نظرا للدور المحوري أو الشبه محوري للبرلمان والحكومة في الحياة السياسية التي تشكل بيئة ذينك النظامين، أما في النظم الرئاسية (الولايات المتحدة الأمريكية)، ففي الغالب يكون الرئيس محور الحياة السياسية والدستورية، ومع ذلك يبدو تأثير تلك الإجراءات سواء في البرلمان أو أثناء عملية الفرز والإصطفافات التي تقود إلى انتخاب الرئيس خلال المراحل المعقدة التي تمر منها عملية الانتخاب تلك، للاطلاع أكثر على هذا الموضوع يراجع: امحمد المالكي، الأنظمة الدستورية الكبرى، مراكش، الطبعة الأولى، 2004
[22] لذلك مقاطعة المعارضة للانتخابات ودعوتها إلى ذلك تصب في مصلحة الطرف الأخر، لأنه يسهل عليه حينها احتساب أغلبية ساحقة كانت ستكسرها أصوات المعارضين.
[23] تكرر حادث "اليوم عرس الديمقراطية واليوم مأتمها" كثيرا بالجزائر ومصر، وكتب له أن يستمر لمدة أطول في السوادن، فمنذ وصول النميري إلى الحكم في السودان شرعت عملية الهدم تلك، وظهرت معها تناقضات شتى في البناء الفكري لمشروع هذه الحركة وسلوكها، يراجع: حيدر إبراهيم علي، أزمة الإسلام السياسي، مركز الدراسات السودانية- الكتاب الأول، الطبعة الثانية، الدارالبيضاء، 1991، ص 79 وما بعدها.
[24] جون كينيث جالبرت، تاريخ الفكر الاقتصادي، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، مجلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد261، سبتمبر 2000، ص 245 وما بعدها.
[25] لفهم هذا الدور في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية مثلا يراجع: جون ميرشيمر وستيفن والت، النفوذ الإسرائيلي في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية، سلسلة ترجمات، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، عدد 17، يونيو 2006
[26] وهو أمر لا يحتاج برهانا إذ واقع الاستعمار على مدار القرنين الماضيين يبينه بجلاء.
[27] موريس دوفرجيه، علم اجتماع السياسة، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 2001، ص 162
[28] حول هذه الفكرة يدور كتاب فرانسيس فوكوياما الموسوم بــ: "نهاية التاريخ"، والذي أثار ضجة إبّان صدوره في تسعينيات القرن الماضي، ويردّد أطروحاته ديمقراطيّو العالم قصدا أو عفوا.