المشهد السوري بعد السقوط

فئة :  مقالات

المشهد السوري بعد السقوط

المشهد السوري بعد السقوط

البنية بين الشكل والجوهر:

حين ثار المتظاهرون، وسكت أغلب الشعب، هبّ النظام السابق لمواجهة الثائرين السلميين، قتلاً واعتقالاً. هب من دون أن يستفتي الشعب، ولو استفتاهم لأفتوه تأييداً مثلما صوتوا له مرتين بنسبة 95%، طوعاً لا كرهاً. بعدها اختار بعض المتظاهرين طريق السلاح لمواجهته، ولم يستفتوا الشعب كذلك. فلا القاتل ولا المقتول أخذوا رأي الشعب أو إذنه، أو حتى أصغوا إليه. وقد انضم إلى الطرفين بعض حواشي الطريق ووحوشه، ثم استعان كل طرف بأصدقاء إقليميين ودوليين، من دون أن يسألا الشعب رأيه كذلك.

فهما أمر واقع مفروض على الشعب بالغَلَبة والقوة والتوافق الدولي، وليس لهما من شرعية غير شرعية الغَلَبة. دعك من مظاهر الفرح وأصوات التهليل؛ فقد حصل النظام السابق على نسبة أعلى منها، طوعاً لا كرها، وكان- الشعبَ أغلبَه- يتفلسف في فقه تحريم الخروج على سلطة الدولة وفي تجريم الإرهابيين، ويقيم مثقفوه المؤتمرات والندوات الثقافية والشعرية احتفاء ببسالة الجيش العربي السوري ضد المؤامرة العربية- التركية، وتمجيداً لرمزية قائد الوطن المفدى وصموده التاريخي وشجاعته وألمعيته وصدق لهجته... صفات تضيق عنها مساحة الوطن الصغير. فالشعب المقهور شعب ما يزال دون السن القانونية لأخذ صوته على محمل الصدق.

إن التغيير الذي حصل، وما رافقه من تغيُّر شعبي طوعي دراماتيكي، هو تغيير وتغير بنيوي شكلي لا علاقة له بتغير جوهري للبنية. فالبنية واحدة، إنما الذي جرى هو تغيير نظام بنظام.

وقد قال الرسول الكريم: "لا تسألِ الإمارةَ"، وقال: "لا نستعمل على عملنا مَن أراده"...؛ فطالب الإمارة لا يُعطاها إلّا أن تكون غَلَبة.

والأمر الآخر، أننا تحررنا من النفوذ الإيراني، يوم كانت العرب والعروبة تُسبُّ في الشوارع وتُشتم على الجدران وتُخوّن وتبرّأ الذمم منها (ولا سيما ذِمم النخب المثقفة). واليوم نشاهد هذا التخوين ذاته خلا أنه صار تحت النفوذ التركي، ولايةً جديدة بعد الحادية والثمانين.

البنية وتبعاتها السياسية:

كثر قرأوا المشهد السوري الشعبي بعد سقوط النظام السابق قراءة سلبية، لِما شاهدوه من تأييد مطلق للعهد الجديد، وانقلاب كامل على العهد القديم، حتى يُخيل للرائي والسامع أن الشعب كله كان معارضاً لذلك النظام، علماً أن الأمر غير ذلك.

فالشعب السوري بطبيعته شعب أخلاقي مسالم، يميل إلى السكينة والقناعة والرضى، لكن مرحلة الأسد وما خلقته من بطش وتخويف وترويع، جعلت الصمت دِينَ أفواه السوريين وديدن لسانهم، عدا قلة قليلة منهم، وهي التي صنعت ثورته على ذاك النظام، وعلى تلك الحقبة الوحشية. وعليه، فإن أكثر السوريين لم يكونوا في جانب الثورة لا قلباً ولا لساناً، بل كانوا متذمرين منها خائفين على البلد من تبعاتها، بعضهم يخاف انهيار البلد، وبعضهم يخاف على معيشته واستقرار سكينته. وعندما انتهى هذا النظام، كان من الطبيعي أن يصير الجميع معارضاً لتلك الحقبة من التاريخ السوري، إما خوفاً حين يكون المواطن بسيطاً من العامة، وإماً تزلفاً ورياءً عند أغلب الطبقة المثقفة؛ فالْأمر عندهم لم يكن أكثر من تبديل علم بعلم ووضعه على الأعناق أو في السيارات أو على المحلات والبيوت، أو حتى على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه سيكولوجيا بشرية نخبوية معروفة في التاريخ البشري؛ فقد قال يوماً وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز: "كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي".

وبعيداً عن كل هذا المشهد المتبدل الذي هو ترجمة لعهد الخوف والتزلف والنفاق، والذي هو ترجمة بنيوية شيدها التسلط والطغيان، بعيداً عن ذلك، فإن الوجه الآخر للمشهد يعبر عن وداعة هذا الشعب وميله الشديد، بل المبالغ به، إلى الرضى والقناعة.

وأما فيما يخص تعيير الجميع للجميع تلميحاً، ومن دون تسميات بأن الكل انقلب على عقبيه وصار يدعي الثورية. فحين يُدقِّق المدقق في المشهد، سيجد أن أغلبية المتباهين لم يكونوا معارضين على الحقيقة، وإنما هم ضمن بنية حركية وبيئة اجتماعية وسياسية فرضت عليهم، رغماً أو طوعاً من دون أن يدروا أو يتنبهوا أو تنبهوا وتغافلوا، فرضت عليهم وضعهم السياسي، فمَن كان في المناطق المحررة ومِن المهجرين فليس بمستغرب أن يصير معارضاً، ومَن كان يعيش في تركيا أو قطر، فلا يعد معارضاً حين يمالئ سياسة الدولتين وموقفهما من النظام السابق، كذلك الأمر ينطبق على من يعيش في موسكو أو القاهرة أو الرياض...

إن المُعارض مَن ينطلق منطلقاً وجودياً يصنع من خلاله موقفه الرافض الذي اختاره إرادة وخياراً ابتدائيين أخلاقيين، فتجلى عن اختياره موقف تبناه وسلوك يماشيه، وليس معارضاً ذاك المؤيد للمكان الذي يعيش فيه، أو للبنية التي يعتاش على حركتهان وينطوي ضمن منظومتها، ولو كانت بنية معارضة ضمن مكان معارض.

فينومنولوجيا الابتهاج:

كان الجابري قد قسم دوافع الغزوات والفتوحات الإسلامية إلى ثلاثة: العقيدة والقبيلة والغنيمة. وهذا بناء على قراءاته لكتب التراث، وخاصة التوحيدي.

ونحن يمكن أن نطبق هذه الدوافع الثلاثة على أي تغيير بنيوي سياسي في دولنا العربية.

وهذا ما يمكن اختباره على حالة التغيير في سوريا، وما جرى من سقوط النظام السابق والتمهيد لعهد جديد؛ فالمتابع للأحداث يمكن أن يحصر المبتهجين بالسقوط أنهم ينطلقون من أحد الدوافع الثلاثة السابقة.

فبعضهم ابتهج بسقوط النظام بدافع عَقَدي؛ إذ يرى فيه نظاماً علمانياً، منافياً للتكوين البنيوي للإسلام الذي يتجسد بالتوحيد بين الدين والدولة، وهؤلاء هم قلة لا يشكلون نسبة يمكن حساب حسابها. وبعضهم ابتهج من منطلق قَبَلي طائفي، يرى فيه خلاصاً من حكم أقلية تسنمت زمام القيادة والسيطرة على البلاد منذ أكثر من خمسين عاماً، منذ عهد الأسد الأب، بل منهم من يرجعه إلى زمن الانقلاب البعثي على السلطة سنة ثمان وستين. وهؤلاء ذوو نسبة كبيرة تشمل شريحة واسعة من الشعب السوري. وأما البقية، فهم يرون في العهد الجديد غنيمة يمكن أن يفيدوا من خيراتها؛ فهم في سباق إلى إعلان التأييد وإشهار الابتهاج بهذا العهد الميمون، وهؤلاء في غالبيتهم العظمى من النخبة المثقفة، وأغلبهم كان مستفيداً من العهد السابق أو مستظلاً بحزبه الحاكم، فهم عصبة انتهازية لا تخجل من سلوكها المكشوف، حالهم حال لصوص النهار الذين لا يردعهم عيب ولا يمنعهم حياء، وإنما قد شمروا عن دَنِيَّتِهم ابتغاء غاياتهم، وقد غسلوا حياء وجوههم.

هذه ثلاثة دوافع ظهرت عقب السقوط. وأما دافع الحرية، فهو الغائب المفقود الذي لا يتوافر في المجتمع السوري في هذه المرحلة، إلا إذا استثنينا الأقليات في نطاق ضيق يخص الملبس والعادات الاجتماعية ليس أكثر؛ وذلك لأن السوريين المبتهجين، هم معظمهم، يتوجسون خشية وعدم ثقة بأصحاب الأمر الواقع، الذين أغلبهم ينتمون إلى تيارات سياسية أصولية؛ فهذا الابتهاج والتأييد يستحيل أن يكون بحثاً عن الحرية من إناء لا ينضح إلا أصولية سياسية راديكالية.

إن الحرية المنشودة ما تزال تنظر إلى غد أفضلَ وتنتظره؛ لأن يومها الذي حلمت به وانتظرته طويلاً جاء فارغةً جعبتُه من جوهر الحرية. هذا اليوم الذي لم تبن منه بوادر تلك الحرية إلا في سب النظام السابق ولعنه، في منظر شبيه بسقوط نظام البعث العراقي ورموزه، ما عدا ذلك فهي جعبة مخرومة آخذة بالنقصان، وهي حرية وضعت مظاهرُها الشعبَ أمام حرج أخلاقي ومظهر خادش للجمال وحيائه. وكأن لسان حالها ينطق من قاموس النظام السابق الذي يتهم رعيته بأن قيمهم الجمالية والأخلاقية لا تجيد من الحرية إلا السباب واللعن والطعان.

جاء هذا اليوم ولا تعزية فيه خلا أنه لا يمكن أن يكون يوماً مكروراً من العهد السابق. وما يزال الأمل بالأفضل رجاء مأمولاً، ولا سيما أن سوريا الجديدة أمام امتحان عدم الوقوع في تبعية إقليمية جديدة، ورهان العودة إلى الحضن العربي الذي طال بُعدها عنه.

ماذا يجري وسيجري في سوريا

سوريا من دون "الأقليات" بلد قليل خيره، سوريا من دون "الأقليات" أقلية...

وأما مفاهيم التشبيح والوصولية والطائفية، فهي مفاهيم سياسية تدور مع السياسة والساسة، حيث دارا؛ فلكل زمان شبّيحته ووصوليّوه وطائفيّوه. ومثلما كان تنظيم الدولة الإسلامية لا يمثل طائفته، فمجرمو المعتقلات لا يمثلون طوائفهم كذلك، حتى لو سُكت عنهم، وهي حالة نفسية معروفة في علم النفس.

والأهم أن أشد ما يثير العجب هو تظاهر السوريين بالاستغراب حيال ما تكشّف من معتقلات النظام السابق...!!!، علماً أن الشعب السوري كان يعرف ما يجري، ويسمع به من المعتقلين الذين كانت لهم أعمار لم تنقضِ بعد، ومن التقارير التي لم تأت مشاهد السجون، إثر السقوط، بشيء جديد عليها، لكن هذا الشعب كان حاله حال ذاك المشهد الذي وصفه مصطفى خليفة في رواية القوقعة (حين كان المعتقل في إحدى سيارات الأمن يُنقل من فرع إلى فرع، فرأى من نافذة السيارة العشاق والمتنزهين والمارة وكيف علامات الرضى والقناعة على وجوههم وهم يسيحون في الأرض مرحاً؛ فقال: "ألأجل هؤلاء أنا وغيري معتقلون....!").

إن ما حصل في معتقلات الأسد، لا يزيد هولاً عمّا حصل في معتقلات صدام (وأكثرنا يترحم عليه اليوم؛ إذ الأعمال بخواتيمها)، وهو لا يختلف عما حصل ويحصل في كل "سجون شرق المتوسط".

فالمعتقلات أخوات ظالم واحد، هو الطاغية، مهما تعددت وجوهه، ديناً وطائفة وتوجها وبلدا...

ومن أهول منغصات هذا العهد الجديد، أن صانعيه الذين لم يبخلوا بأرواحهم لأجل ملء ساحات المظاهرات وشوارعها، إما ماتوا قنصاً أو في المعتقلات، وإما يعيشون حالات نفسية مضطربة، أو استشهدوا في ساحات القتال.

واليوم يحتفل ساكتو الأمس ولازمو بيوتهم الذين كان أغلبهم يسخر "من هذه الصبية السوقية المغرّر بها" التي كانت تملأ تلك الساحات.

جوهر التغيير ومبدؤه

بعيداً عن الغوغائيّة:

أوّلاً: النظام السابق لم يكن خائناً ابتداءً ولا عميلاً، ولم يثبت عليه هذا (دعك من الاتهام السياسي، فالقائمون على السلطة اليوم كانوا إرهابييّ الأمس)...لكنه كان نظاماً شمولياً دكتاتورياً فقط.

ومَن ثار عليه لم يثُر؛ لأنه كان نظاماً خائناً أو عميلاً، بل ثار لأنه نظام دكتاتوري فاسد ظالم.

والثورة، يومئذ كانت هناك ثورة، كانت ضد نظام لا ضد أشخاص... هذا يعني أن التغيير يجب أن يكون في بنية النظام لا في الأشخاص (زيد بعبيد). وهذا يعني أن السلطة الدكتاتورية على العباد وتخويفهم وحدها كافية لموجبات الثورة والتغيير، ووحدها كافية لإزالة الشرعيّة عنها.

ثانيا: حزب البعث العربيّ لم يكن حزباً نكرة، بل كان بنية فلسفيّة تقوم على أسس إحيائية عروبية؛ فجدير بنا بعثها، لا اجتثاثها اقتداءً بالتجربة العراقيّة الطائفيّة.

ثالثاً: كل السوريين كانوا ضحية أكثر منهم جناة فاعلين، وكل الأطراف ارتكبت اخطاءً وجناياتٍ، فإما صفحاً ورحمة وعفواً يشمل الجميع، وإما تقصياً يشمل الجميع كذلك، فلا أحد فوق العدالة. ومَن كان يدافع عن النظام السابق، كان يرى أنه يدافع عن وطن؛ فالوطنية مفهوم فينومنولوجي نسبي، يخضع لاعتبارات القوة أكثر من خضوعه لاعتبارات المنطق.

رابعاً: هناك كثر ممن لم يتجاوزوا الرأي والعاطفة تجاه النظام السابق أو بعض رموزه، فهم مفجوعون. وعاطفتهم حق لهم، فلم تجرِ عدالة السماء ولا أعراف أهل الأرض على تجريمه.

خامساً: كل الشعب السوري لا يتمنّى أن يفيق ذات صباح، ليكتشف أن ثمن التغيير شراءُ رضى الكيان الصهيوني وصداقته، وإنْ كانت بوادر ذلك ليست ببعيدة.

أخيراً: حين يغادر الطغاة يتركون خلفهم شعباً جائعاً خائفاً منافقاً جباناً (وقد بانت معالم هذا واضحة يوم السقوط). والسوريون شعبٌ جديرٌ بسياسة تخرجه من دائرة خوفه الوهميّة...

وآخِراً: سوريا ما تزال رهينة المحبسين الأصولية الإقصائية، والتبعية غير العربية. لذلك على العرب المسارعة إلى انتشال سوريا من براثن الضياع والتبعية، ومن ثَمّ احتضانها؛ فلا نريد استبدال تبعية أجنبية بتبعية أجنبية أخرى... نريد سوريا قلب العروبة النابض.