المعتزلة والتنوير وقيم الحداثة

فئة :  مقالات

المعتزلة والتنوير وقيم الحداثة

المعتزلة والتنوير وقيم الحداثة

دأب كثير من الباحثين على الترحم على الحقبة التي تصدر فيها المعتزلة ذات عصر مسرح المشهد الفكري والعقدي الإسلامي بوصفها –كجماعة وحسب وجهتهم النظرية- أرخبيلا فكريا إبستمولوجيا تَكَّون بمعزل عن غالب منجز الفكر الإسلامي، المرتبط بشكل حرفي بالنص المقدس، وتفسيراته اللغوية، التي ما تنفك تفسر الماء بالماء للحقيقة؛ ما معناه الدخول في سرداب دائري مغلق لا يفضي إلى معنى تأويلي جديد.

ولذا، صار من الإكليشهات الثابتة لدينا التباكي على العصر المعتزلي، بوصفه عصر أنوار إسلامي غابر تم ضربه في مقتل من قبل قوى الفكر الرجعية، سواء أكانت سلفية حنبلية، أم أشعرية وماتريدية.

فهل تحت مبضع التحقيب التاريخي الموضوعي، كان المعتزلة حقيقة دعاة تنوير؟

النشأة والأطوار

ترجع السرديات التاريخية التقليدية نشأة المعتزلة كفرقة كلامية إلى "واصل بن عطاء"، تلميذ الحسن البصري، الذي اختلف معه في قاعة الدرس حول مصير مرتكب الكبيرة ميتافيزيقيا، حيث رأى واصل أنه خالد في نار أبدية، عكسا للرؤية الفقهية السنية، بينما يُعزي بعض الباحثين الشيعة نشأة المعتزلة كفرقة إلى علي بن أبي طالب، وابنه "محمد ابن الحنيفية"، بينما يرجع بعض آخر من البحثة نشأة المعتزلة إلى "الجعد بن درهم" "وجهم بن صفوان" أول من قالا بخلق القرآن، ومارسا جهدا تأويليا في محاولة خلخلة منظومة الفقه والعنعنة التقليدية التي كُرست إبان الحكم الأموي، وهو ما دفعا ثمنه لاحقا؛ إذ ذُبح "الجعد" ذبح الشاة صبيحة عيد الأضحى في المسجد كقربان بشري دموي، يعيد استنساخ القربان المقدس المكرس في الوثنيات والطوطميات البدائية.

وعلى كل، فإن هذه الآراء تعد تبسيطا مخلّا في فهم دوافع نشأة هذه الفرقة؛ تبسيط نجده بشكل عام في التأريخ لنشأة الفرق الكلامية الإسلامية، في بطون كتب الفرق والملل والنحل، التي يلجأ مؤلفوها إلى فكرتي الفرقة الناجية؛ ونظرية المؤامرة. النظرية الثاوية في قاع العقل السلفي التي يستخدمها دائما لتفسير تفاجئهِ بظهور طوفان فرق الكلام في العصرين الأموي والعباسي، والذي لم يستطع تفسير ظهورها عن طريق مقدمات وسياقات أنثربولوجية وسوسيولوجية وسياسية وفكرية جديدة أفضت إلى ظهور هذه الفرق، فلجأ إلى تفسيرها عن طريق نظرية المؤامرة.

والثابت أن المعتزلة فرقة ظهرت في أواخر القرن الأول الهجري، وانتهت كجماعة في القرن السادس الهجري، وكفرقة كلامية اختلفت بداياتها عن نهايتها عن أواسطها، كما اختلفت آراء منظريها في ما بينهم، فبينما جنح "أبوهُذيل العلاف"، و"النظام"، وأبو "عمروالجاحظ" ناحية الفلسفة اليونانية في استعمالها كأقيسة، وكانوا أكثر جرأة في نقد اللامعقول كالمرويات التي تتحدث عن الجن، أو رواية الحجر الأسود التي انتقدها الجاحظ، أو مناقشة الإعجاز اللغوي في القرآن بعقلانية شديدة كما فعل النظام والقاضي عبد الجبار، كان فقيه كالزمخشري أقل تأثرا بالفلسفة وأكثر تأثرا بالبلاغة العربية، وأكثر تحفظا في نقد المورث، وهذا يدل على تباين الأفكار النسبي داخل الجماعة الاعتزالية.

ومن الثابت أيضا أن المعتزلة بلغت فتوتها الفكرية والسياسية في العصر العباسي الأول، ولا سيما في فترة حكم الخلفاء "المأمون" و"المعتصم" و"الواثق" الذين أطلقوا أيديهم في ملاحقة خصومهم، ما عرف بمحنة خلق القرآن، ليستدير الخصوم مرة أخرى مدعومين بالخليفة "المتوكل" في الثأر لما لحقهم من تعذيب وتنكيل وملاحقة، وهكذا حَشر المذهب نفسه حشرا في أتون العمل السياسي. هذا الاستدار مكن خصومهم الحنابلة من التمدد لدى العامة مستغلين مظلوميتهم في تصدير أنفسهم بوصفهم الرعاة الرسميين للقراءة الحرفية المحافظة للنص المقدس وحتى اللحظة هذه.

الضربة القاصمة الحقيقية للفكر الاعتزالي حين انشق "أبو الحسن الأشعري" الذي استخدم نفس الأقيسة العقلية والمنطقية في نقد المذهب الذي مارسه دهرا طويلا، ما جذب رواجا هائلا لفرقته الجديدة، والتي اعتنق أصولها أفواجا من الفقهاء والمحدثين والأصوليين.

استخدام الأشعري لنفس الأسس المنطقية والفلسفية الاعتزالية أوقعه هو نفسه في تناقض فطن إليه فقيه كابن تيمية، في مثل قوله في مسألة خلق القرآن، التي يفسرها الأشعري بالتفرقة بين كلام الله النفسي القديم، وكلام الله المحدث المنزل، وهي مسألة بعد جهد جهيد تفضي حرفيا إلى القول بخلق القرآن، كما صرح بذلك "البيجوري" الفقيه الأشعري صراحة، وبقول مباشر في شرحه لمنظومة العقائد الأشعرية.

بحلول القرن السادس الهجري، ضعفت الفرقة كلّيا كتيار فكري، ولم يتبق منها إلا منظرون يناضلون من أجل استعادة المذهب كعلي الجُبَّائي وابنه أبي هاشم، ليدخل المذهب من بعدهم في طور الاضمحلال والجمود والتناثر في باطن الكتب الكلامية، ولا سيما كتب الزيدية اعتقادا منها أنها عقيدة آل البيت، والتي حافظت على تلك المخطوطات، والتي لولاها أيضا لضاعت جُلّ كتب المعتزلة وللأبد.

خلق القرآن

تعد مسألة خلق القرآن من أهم وأبرز ملامح الفكر الاعتزالي، فحال خروج العرب من جزيرتهم، وهدوء الصدامات المسلحة -التي عرفت لاحقا بالفتوحات- مع القوى المحيطة بالإمبراطورية الإسلامية الناشئة، إضافة إلى الرخاء الاقتصادي، والترف المادي، والحرية الفكرية النسبية في أواخر الدولة الأموية، وبدايات الحكم العباسي، طفا على السطح حراك لاهوتي، أفضى إلى مناقشات محتدمة، وجد فيها مفكرو الإسلام أنفسهم أمام أسئلة صعبة لم تعتدها العقلية الصحراوية البسيطة، لا سيما موضوع الكلمة الإلهية، وهو موضوع قديم قتل بحثا في السرديات الفلسفية اليونانية والغنوصية، وهل كلمة الله مخلوقة أم قديمة؟ وإذا كانت غير مخلوقة، فإن -مثلا- عيسى أو "يسوع" الذي يصفه القرآن بروح الله وكلمته غير مخلوق، ما يعد بهذا الطرح جزءا من الذات الإلهية؛ وذلك عكسا للأدبيات والرؤية الدينية الإسلامية الحاسمة التي ترى بشريته، ما أربك منظري اللاهوت الإسلامي، فسعوا إلى إيجاد منظومة عقائدية مغايرة تتواكب مع الواقع الفكري الجديد. لذا بنى المعتزلة أصولهم التي استخدموا فيها أقيسة ومصطلحات الفلسفة والمنطق اليوناني.

(التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). من أصل التوحيد عندهم انبثق إشكال خلق القرآن، بصفة الكلمة حال خروجها من المجرد إلى المادي تصير مخلوقة مرتبطة بالنوازل والأوامر والنواهي التي تطلبت خلق العالم لفرض المدونات السلوكية والأخلاقية والتشريعية عليه، وهو أمر يستلزم الحدوث وليس القدم؛ وذلك كحلّ لإشكال "كلمة الله" التي لو لم تخلق لكانت رديفا وشريكا للذات الإلهية ما أفضى إلى الصراع سابق الذكر.

كذا مبدأ التقبيح والحسن العقليين، الذي من خلاله وصفوا العقل بمناط التكليف، وعليه تبنى العقوبة والمكافاة الأخروية، ما استلزم القول بحرية الفعل والإرادة الإنسانية، التي من خلالها يكتسب المرءُ أفعاله الحسنة أو السيئة من خلالها.

المعتزلة والتنوير

البعض ممن لم يتسنّ لهم البحث والاطلاع على التراث الفلسفي والكلامي، يظن أن الفلاسفة وعلماء الكلام على حالة من الوفاق، عكسا للواقع؛ فالفلاسفة كانوا على خلاف مع المعتزلة، خلاف يجيب عنه ابن رشد في كتابيه فصل المقال، وتهافت التهافت الذي يُشَرِحْ فيه آليات المعتزلة المعرفية المستخدمة في الاستنباط والتدليل على ما يعتقدون، واستخدام أقيسة النسبي (الفلسفة) في التدليل على المطلق (الدين)، فيصفهم بأنهم "مخاتلون؛ لاهم مع العامة، ولا مع الخواص/ "يقصد الفلاسفة"، وبأن تأويلاتهم "لا تقبل النصرة، ولا تتضمن الحق، ولا هي حق".

يحسب للفلسفة الإسلامية، ورغما عن كل محاولات التوفيق العسيرة بينها والشريعة، التي مارسها كل فلاسفة الإسلام تقريبا، إلا أنها ظلت على حالة وعي ابستمولوجي حاد بطبيعة الخطابين الفلسفي والديني، وأنهما خطان متوازيان ينشدان الفضيلة في نهايات المسارات كقيم ترندستالية متعالية؛ وذلك دون أن يلتقيا، أو أن تختلط آلياتهما المعرفية معا، وهو ما يفسر من جهة أخرى، تعدد الخطابات عند فلاسفة المسلمين بحسب طبيعة المتلقي، دون مزج هذه الخطابات بعضها بعضا، ولم يخلط فلاسفة المسلمين الآليات الفلسفية في الدفاع عن الدين، أو العكس، خلافا لما فعله المعتزلة.

وهو ما يجيب عن سؤال البدء هل كان المعتزلة دعاة استنارة؟

والراجح أن المعتزلة -رغم جهودهم التي لا تنكر في التأويل- لم يكونوا دعاة استنارة حقيقة، فالمعتزلة ليسوا في النهاية سوى جماعة دينية بحتة، أولت المطلق بالنسبي، ثم تعصبت لتأويلها، فصار النسبي مطلقا، ما خلق دوغمائية تتشابه حرفيا مع الدوغمائيات الأصولية، وهي متلازمة للجماعات والفرق الدينية عامة. فالأصول الخمسة لا يجوز الخروج عنها، ودائرة الرحمة شبه مغلقة، فالله لا يخلف وعيده عكسا للرؤية السنية، ومرتكب الكبيرة خالدا في نار دائمة، إلى جانب خطاب التكفير لبعضهم بعضا، ولغيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى، وحملهم الناس على القول بخلق القرآن، في أشد أنواع الملاحقات الفكرية، ترتب عليها ملاحقة وسجن واعتقال وقتل الكثير من الفقهاء والمفكرين.

ما عزز بعد ذلك لدى العوام دور الفقهاء، الذي عزز بدوره حرفية تفسير النص عبر العنعنة، وعبر وسائط اللغة، ما كلّس الفكر والعقل الإسلامي بعد ذلك وحتى اللحظة.

قيم الحداثة

والسؤال الأشد أهمية؛ هل نحن بحاجة لاستنساخ تراث فرقة دينية، فسرت الكون والعالم وميتافيزيقياه عن طريق النص الديني من داخل فضائه، وليس من الخارج بآليات فلسفية مبتورة؟ أم نحن بحاجة لمجهود فلسفي عربي، يخضع متواليتنا الفكرية وأدبياتنا الإنسانية، وسردياتنا اللسانية على مبضع التفكيك والبناء، ومنها الدين ونصوصة المقدسة بوصفه ظاهرة إنسانية خضعت لتطور العقل الإنساني والعمران البشري في اجتهادها لاستجلاء منظومة قيمية وأخلاقية تستند على مرجعية غيبية متعالية، وتفسيره على هذا الأساس من الخارج وليس من الداخل؟ لأن معنى دراسة النص من الداخل هو وجود غاية ميتافيزيقية تتعامل مع الزمن كخط كرونولوجي له بداية ونهاية وعلة مسبقة، وهو أمر يختلف كليا في المقدمات والطروحات والنتائج؛ اذ التفسير من الخارج سيحرر العقل الإسلامي من بنيته الأسطورية، كما سيجيب عن تساؤلات كيف نشأ النص تاريخانيا؟ ومساقات تكونه عبر الوسائط والأنساق الاجتماعية، لمعرفة دلالاتة السيميائية والتأويلية، لإحداث معطى دلالي متواكب مع حركة التاريخ المتميزة بالسيولة والصيرورة، لا الجمود والتقهقر دائما للخلف، ومحاولة التمركز عند عصر النزول –ظهور النص المؤسس الأول- في محاولات مستميتة لاستنساخ هذا العصر قدما بقدم، وهو ما تفردت به أمتنا دونا عن سائر الأمم، وهو مُشكل الأمة الفعلي الكامن في عقلها الجمعي الباطني إن جاز هذا التعبير، وهو ما تخلصت منه أوروبا بإخضاع كافة النشاط البشري دون استثناء أو تحرج تحت مبضع الدراسة والاستنتاج والتأويل، فقفزت قفزات هائلة في تاريخ البشرية العملي والعلمي وعلى مستوى التشريعات والقوانين، لتشير تلك التجربة وبوضوح لمعالم الطريق التي ستخرج من أراد السير فيه من أسار دوائر التيه، وليس إعادة استنساخ لجماعات سادت وبادت في عصورنا الوسطى.