المعرفة الفقهية: [الطبيعة والنظم]
فئة : مقالات
المعرفة الفقهية: [الطبيعة والنظم]*
توطئة:
يذهب بعض الباحثين المعاصرين في التراث العربي الإسلامي إلى القول بأنه ينبغي أن نسمي الحضارة العربية الإسلامية حضارة "فقه"، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها، إنها حضارة فلسفة وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها حضارة علم وتقنية.[1]
وعليه، فقد هيمن الفقه الإسلامي على السلوك الفردي والجماعي للمسلمين وعلى السلوك العقلي أيضا، حتى وصفه البعض بأنه أعدل الأشياء قسمة بين المسلمين[2]، إذا ما قمنا بإعادة استخدام العبارة الديكارتية المشهورة بأن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
وفي البداية لابد من الإشارة إلى بعض الثوابت للمعرفة الفقهية ونظمها في سياقها الشمولي، وذلك بطبيعة الحال انطلاقا من أمرين اثنين أولهما: منطقي، وثانيهما تاريخي. أما الأول، فهو الذي يقرر الانطلاق من مسلمات تتلخص في أن الدين أو (الشريعة) طبقا لما تقرره هذه المعرفة، يغطي من الناحية المبدئية جميع مظاهر الحياة الإنسانية بتشريعاته وأحكامه، إما بصورة صريحة أو بصورة ضمنية، فمن حيث الشكل الصريح، فقد شـــرَّع لعدد كبير من المسائل يخص العبادات وعدد كبير أيضا يخص المعاملات، ومن حيث الشكل الضمني، فلأن كل ما لم يرد فيه نص، فهو يخضع للحكم الشرعي عن طريق الاجتهاد انطلاقا بطبيعة الحال من نص.
ومن هنا كانت المعرفة الفقهية إجمالا هي القانون بفروعه المختلفة مدنية وجنائية وغيرها، وهي التي يحكم بواسطتها القاضي في النوازل التي يتم عرضها عليه.
أما الأمر الثاني، فيتلخص في مختلف الانشغالات والمهام التي رافقت المعرفة الفقهية عبر عصور مديدة من تاريخها، وهي الانشغالات التي تتلخص في إنتاج الأحكام وأدلتها التفصيلية ومختلف كيفيات استنباطها ووجوه تطبيقها.
فما هي في البداية إذن محددات وطبيعة المعرفة الفقهية؟ وإلي أي حد نستطيع أن نرصد نظمها الإبستيمولوجية على وجه العموم؟
أ- المحـددات والملامح العامة:
تفرض علينا تقنيات الميتودولوجيا المعاصرة القيام في البداية بمحاولة لتحديد الملامح العامة للمعرفة الفقهية من حيث الوجوه المختلفة للدلالة؛ فالفقه هو العلم بالأحكام الشرعية المكتسبُ من أدلتها التفصيلية، أو هو نفاذ بصيرة الفقيه في تعريف المراد من الألفاظ الدالة على الأحكام الشرعية. والحكم الشرعي هو مقتضى الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين الخمسة: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح. فالواجب هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف بفعله اقتضاءً جازماً. والمندوب هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف بفعله اقتضاءً غير جازم. والمحرم هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف بتركه اقتضاءً جازماً. والمكروه هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف بتركه اقتضاء غير جازم. والمباح هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مخير بين فعله وتركه.[3]
وقد ترد تحديدات وتعريفات للمعرفة الفقهية ضمن صيغ مختلفة عند الفقهاء والمفكرين داخل فضاء الفكر الإسلامي، لكنها تبقى دائما في مجملها خاضعة لهذا الفحوى من حيث الاختصاص والتعين.
فالمعرفة الفقهية تهتم بتنظيم التصرف الإنساني عبر الأحكام الشرعية إجمالا، وما كان منها متعلقاً بأحكام العقائد أو الأحكام العملية، ومن هذا قوله تعالى: "فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ" [ سورة التوبة/122].
وإذا كانت دلالة مفهوم الفقه قد خضعت لبعض التحولات على مستوى الاهتمام النظري فقد بقيت مؤدية لمعنى العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية أو على الأحكام نفسها، وذلك بعد أن ربطها أئمة الفقه بمجال معرفة النفس مالها وما عليها، سواء أكان من الأمور الاعتقادية أو العملية كما يقول أبو حنيفة.
ومن حيث موضوع هذه المعرفة، فهو على مستويين؛ أولهما الأحكام الشرعية العملية بالنسبة لكل جزئية والأدلة التفصيلية لكل حكم، ومن حيث دلالة الحكم فهو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً من وجهة نظر الأصوليين. أما عند الفقهاء، فهو الأثر المترتب على خطاب الشارع لا على نفس الخطاب، فيقولون مثلاً: الصلاة حكمها الفرض ودليلها قوله تعالى: "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ" [البقرة/43]. والحكم هنا شرعي ومعنى كون الحكم شرعياً؛ أي منسوباً إلى الشارع مباشرة أو بوساطة الاجتهاد.
ولعل ما يضعنا أكثر في دائـــرة تحديد الملامح الشمولية للمعرفة الفقهية ما يذهب إليه أبو الفتح الشهرستاني في تحديده لموضوع هذه المعرفة بالتوازي مع علم أصولها، حيث يقول: "كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسماً إلى معرفة وطاعة والمعرفة أصل والطاعة فرع، فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصوليا، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعيا، فالأصول: هو موضوع علم الكلام والفروع: هو موضوع علم الفقه، وقال بعض العقلاء: كل ما هو معقول ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال فهو من الأصول، وكل ما هو مظنون ويتوصل إليه بالقياس، والاجتهاد فهو من الفروع".[4]
وبناء على هذا الإثبات تكون المعرفة الفقهية من حيث الطبيعة معرفة فروعية بامتياز، تهتم في مناحيها الكبرى بتنظيم التصرف العبادي والمعاملاتي الإنساني عموما.
وقد عرف الفقه كمجال معرفي يهتم بتنظيم مختلف أوجه حياة المسلمين في العهد النبوي لدى الصحابة رضوان الله عليهم، مثل عمر ابن الخطاب وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، يقول ابن القيم في إعلام الموقعين:
"قال مسلم عن مسروق شاممت أصحاب محمد ص - فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة إلى علي وعبد الله وعمر وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي بن كعب ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله، وقال مسروق أيضا جالست أصحاب محمد (ص) - فكانوا كالإخاذ الإخاذة تروي الراكب والإخاذة تروي الراكبين والإخاذة تروي العشرة والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وإن عبد الله من تلك الإخاذ، وقال الشعبي إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر، وقال ابن مسعود إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم، وقال أيضا لو أن علم عمر وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر.
وقال حذيفة كأن علم الناس مع علم عمر دس في جحر، وقال الشعبي قضاة هذه الأمة عمر وعلي وزيد وأبو موسى، وقال سعيد بن المسيب كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن، وشهد رسول الله ص - لعبد الله بن مسعود بأنه عليم معلم.[5]
وإذا كانت المعرفة الفقهية هي معرفة فروعية بالدرجة الأولى، فإن مسائلها الكبرى هي: العبادات والمعاملات وبعضهم سمّى المعاملات العادات.
أما العبادات: فالغرض الأول منها التقرب إلى الله تعالى وقد ثبتت بنصوصٍ آمرة أو ناهية.
أما المعاملات، فهي التي كان الغرض منها تنظيم المجتمع الإنساني في كل علاقاته وارتباطاته المالية والأسرية والإدارية.
ولتوضيح التصنيف المعرفي للفقه بوصفه علم فروع يقول البرزي في أصوله: "علم الفروع وهو الفقه، وهو ثلاثة أقسام علم المشروع بنفسه والقسم الثاني إتقان المعرفة به، وهو معرفة النصوص بمعانيها وضبط الأصول بفروعها والقسم الثالث هو العمل به حتى لا يصير نفس العلم مقصوداً فإذا تمت هذه الأوجه كان فقيها وقد دل على هذا المعنى أن الله تعالى سمى علم الشريعة حكمة فقال يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام وقال ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة؛ أي بالفقه والشريعة والحكمة في اللغة هو العلم والعمل، فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم، وهو الفقه دليل عليه، وهو العلم بصفة الإتقان مع اتصال العمل به".[6]
ذلك ما يضعنا في الواقع النظري للطبيعة المعرفية لمجال الفقه بوصفه مجالاً فروعياً منظماً للتصرف بأبعاده المختلفة، ويبقى موضوعه مركزاً على الأحكام والأدلة. أما الأحكام فتنبع دلالاتها من كونها خطاب الشارع الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وهذا يدفعنا للكلام عن الحكم والدليل، وهي أجناس المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، وهذا عند الأصوليين. أما الفقهاء فيطلقون الحكم على الأثر المترتب على خطاب الشارع لا على نفس الخطاب فيقولون مثلاً: الصلاة حكمها الفرض ودليلها قوله تعالى:
"وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ" [البقرة/43]. والحكم هنا شرعي ومعنى كون الحكم شرعياً؛ أي منسوباً إلى الشارع مباشرة أو بوساطة الاجتهاد، ويخرج بذلك الحكم الحسي والحكم العقلي. ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن مصدر الأحكام كلها هو الله سبحانه وتعالى وحده.
أما الأدلة فالمقصود بها عند الأصوليين ما يمكن بالنظر فيه التوصل إلى إدراك حكم شرعي على سبيل العلم أو الظن كقوله تعالى: "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" [المائدة/1]، وكقوله تعالى: "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ" [البقرة/43].. فكل هذه أدلة عند الأصوليين، لأنه بالنظر فيها يمكن التوصل إلى التصديق بأن الوفاء بالعقد وإقامة الصلاة أمور واجبة مفروضة. والمعروف عند الأصوليين أن الدليل، إما أن تكون دلالته على الأحكام قطعية أو ظنية، بمعنى أن النظر في الدليل قد ينتج حكماً قطعياً وقد ينتج حكماً ظنياً، وبعض الأصوليين قصر الدليل على ما يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى إدراك حكم شرعي على سبيل العلم والجزم فقط واعتبروا ما يتوصل بالنظر فيه إلى إدراك حكم شرعي على سبيل الظن أمارة وليس دليلاً.
والأدلة نوعان: فمنها ما هو دليل كلي مجمل لا يتعلق بشيء معين، ويندرج تحت هذا الدليل الكلي الأدلة التفصيلية "الآيات الآمرة وأدلة الفقه الكلية كقولنا الأمر يفيد الوجوب مثلاً". ومنها ما هو دليل جزئي تفصيلي يدل على الحكم في مسألة بذاتها.
ب- النظم الإبستيمولوجية للمعرفة الفقهية:
من الأهمية بمكان، الإشارة ـــ ولو باقتضاب ــ إلى بعض الحقائق المتعلقة بموقع المعرفة الفقهية من بين المعارف العربية الإسلامية الأخرى، وذلك بوصفها معرفة تعلو على جميع المعارف، فلا تخضع مثلا الخلافات المذهبية في الفقه على تنوعها للخلافات العقدية والكلامية، فقد كان المعتزلة والأشاعرة والماتريدية منتشرين في مختلف المذاهب الفقهية "فأمام كثرة المذاهب والفرق الكلامية والسياسية، نجد الفقه يقوم بعملية إعادة توزيع للشخصيات العلمية مما يجعلها تلتقي على صعيد المذهب الفقهي، رغم ما يفرق بينها على الصعيد العقائدي والسياسي والفلسفي، الشيء الذي أسهم ولاشك في جعل الثقافة العربية الإسلامية تتهيكل عبر قنوات ومسالك تصب اللحام بين أجزائها من كل جهة، وليست هذه القنوات والمسالك شيئا آخر غير الفقه وعلوم الفقه".[7]
وسبيلا لرصد طرق إنتاج الأحكام الفقهية، نفرق هنا بين مستويين داخل الإنتاج الشرعي للمعرفة الفقهية، مستوى عملي واقعي ومستوى نظري. فأما الواقعي، فهو أن الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى أواخر العهد الأموي لم يكونوا يحتاجون إلى استنباط وقياس لإنتاج الأحكام الشرعية، بل كانوا يبحثون عن المسائل ويحكِّمون فيها النص الشرعي مباشرة دون اللجوء إلى استنتاجات نظرية مجردة. "ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقى منه، بما يوحى إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله، بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس"[8] كما يقول عبد الرحمن بن خلدون.
أما المستوى النظري، فهو المستوى الذي تضاعف فيه مستوى التجريد النظري، لأن إنتاج الأحكام الشرعية يحتاج في بعض الأحيان إلى اعتماد أدوات نظرية متفاوتة في التجريد، وإن كان كل ذلك بالانسجام مع الأثر، " لأنه من بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي وحـُفِظَ القرآن بالتواتر. وأما السنة، فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها، قولاً أو فعلاً، بالنقل الصحيح".[9]
نحن إذن، أمام ما يمكن أن يطلق عليه تراتبية تاريخية بين العمل والنظر في ميدان المعرفة الفقهية، تفصح لنا بحق عن غنى وتنوع هذه المعرفة داخل الثقافة العربية الإسلامية على وجه العموم، وهي بحق المعرفة ذات القوة التشريعية اللافتة بالمقارنة مع كافة التشريعات الإنسانية بدءاً بقوانين حامورابي والحقوق الرومانية القديمة التي ثبتت علاقة أصولها بالتشريعات المصرية والكلدانية القديمة.
وعلى ذلك يكون الفقه الإسلامي يمتلك قوة منطقية جعلته يغطي كافة الأوجه المعرفية للثقافة العربية الإسلامية؛ فهو بالنسبة لهذه الثقافة بمثابة الإطار المرجعي العام الذي ينظم الحياة الاجتماعية من ناحية والحياة العقلية من ناحية أخرى، فمن اللافت حقاً أن هذه الثقافة تنفرد بهذا العلم الشامل وخاصة الطريقة الإبستيمولوجية التي ينتج بها خطابه الشرعي، وذلك بوصفها طريقة غائبة تماماً عن الثقافات الإنسانية الأخرى. فعلم أصول الفقه الذي هو المنطق المنتج للأحكام والخطاب الشرعي عموما ولا يوجد خارج الثقافة العربية الإسلامية، وهو في نفس الوقت نتاج خالص لهذه الثقافة بدون منازع.
وعلم أصول الفقه الممثل بطبيعة الحال لطريقة إنتاج الأحكام يقوم في مجمل أسسه على الأصول التالية:
1ـ…الدليل، كما يقول الفقهاء: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة والإجماع؛ أي: الدليل عليها.
2ـ…القاعدة المستمرة، كما يقول الأصوليون: الأصل أن الخاص مقدم على العام عند التعارض، وكما يقول النحاة: الأصل في المبتدإ التقديم وفي الخبر التأخير.
3ـ…الراجح، كما يقول الأصوليون: الأصل بقاء ما كان على ما كان. والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية.
4ـ…مخرج المسألة الفرضية؛ أي العدد الذي تخرج منه الفروض المقدرة بلا كسر، كما يقول الفرضيون: أصل هذه المسألة كذا.
5ـ…المقيس عليه، كما يقول الأصوليون في باب القياس: وأركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم.[10]
فعلم أصول الفقه كما عرفه الرازي: «مجموع طرق الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد»، وهو طبقاً لهذا يمثل (مجموع طرق الفقه)؛ أي: مجموع الطرق التي توصل إلى إدراك الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. وفي هذا التعريف نلاحظ استخدام كلمة طرق بدل كلمة أدلة؛ لأن الأدلة عند كثير من العلماء لا تشمل ما يفيد الظن، مثل القياس والاستصلاح ونحوهما من الطرق التي جعلها الفقهاء أمارات على الأحكام، وإنما تطلق على النصوص القطعية والإجماع القطعي فحسب.[11]
ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن البحث لدى الأصولي لا يتعلق بآية من القرآن بخصوصها كيف تدل على ما دلت عليه من الأحكام، ولا حديث بعينه، ولا قياس بعينه، وإنما يبحث في حجية الكتاب وحجية السنة وحجية القياس، وهكذا. فهو يبحث في عوارض تلك الأدلة وما توصف به من قوة أو ضعف وإحكام أو نسخ، وفي شروطها وترتيبها وكيفية الجمع بينها عند تعارضها في نظر من لم يتأملها جيداً.
أما تأكيد الرازي في التعريف على كيفية الاستفادة، فيعني طرق استفادة أو استنتاج الأحكام من الأدلة والأمارات الموصلة إليها، وهذا يشمل طرق الدلالة اللفظية والعقلية، وطرق نصب الدليل الذي يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي، سواء أكان الدليل نصّاً من قرآن أو سنة ونحوهما أم معقولاً من النص كالقياس والاستصلاح وغيرهما، وهذا يدخل ما ذكره الأصوليون في دلالات الألفاظ من العام والخاص والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، والمنطوق والمفهوم، كما يُدخل طرق معرفة العلة أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله.
أما الشق من التعريف المتعلق بحال المستفيد، وكيفية حال المستفيد، والمراد بالمستفيد صنفان: المجتهد والمقلد؛ فالمجتهد يستفيد الحكم من الدليل أو الأمارة التي نصبها الشرع لتهدي إلى الحكم. والمقلد يستفيد الحكم من المجتهد بسؤاله عنه. وحال المجتهد والمقلد مما يدخل في أصول الفقه، فالعلم بشروط الاجتهاد وحكمه، وأنواع المجتهدين وآداب الاجتهاد وحكم التقليد وآداب الاستفتاء، وما يتبع ذلك كله داخل في أصول الفقه.
وبهذا نستطيع تقديم تعريف للأصولي، فنقول هو من عرف طرق الفقه الإجمالية وصفة الاستفادة منها وحال المستفيد.
تلك إذن هي المعالم الكبرى لطبيعة المعرفة الفقهية، ونظام المعرفة داخلها، وسأتقدم هنا لطرح ملاحظتين مركزيتين؛ أولاهما، ضرورة تجديد المناهج في المعرفة الفقهية، وذلك بطبيعة الحال لن يخدم العلوم الإنسانية والاجتماعية وحدها، ولكن الفائدة ستكون ذات طابع شمولي أكثر، ولعل ملاحظتي هذه تنطلق مما يمكن أن نسميه ثوابت قراءة التراث العربي الإسلامي، تلك الثوابت التي تتركز في أن كل المشاكل والصعوبات المعرفية تكمن في مسألة المنهج.
أما ملاحظتي الثانية، فلا تبتعد كثيراً عن قضية المنهج، حيث ينبغي للمشتغلين بالأصول صياغة نظرية عامة في المنهج للفقه الإسلامي بعد إزالة كلما من شأنه أن يكون عقبة منهجية في انسجام الأحكام مع أسسها النصية المرجعية المقدسة من جهة وتطويرها وعرضها بروح تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
*- هذا نص المداخلة الذي ألقي في الندوة التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود بالتعاون مع المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية تحت عنوان: "الفقه والواقع: إشكاليات النص والسياق" بمدينة نواكشوط، بمورتانيا، بتاريخ 30 و31 يناير 2014
[1]- الجابري(محمد عابد)، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 96
[2]- نفس المرجع، ص97
[3]- محمد عبد الغني الباجقــــني، الوجيز الميسر في أصول الفقه المالكي، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 2005، ص 3
[4]- الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد)، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة - بيروت، 1974، ص 40
[5]- ابن قيم الجوزية (أبو عبد الله)،إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، ج1، دار الجيل، بيروت،1973، ص 16
[6]- البزدوي الحنفيى (علي بن محمد)،كنز الوصول الى معرفة الأصول،مطبعة جاويد بريس – كراتشي، ص 4
[7]- محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص 97
[8]- ابن خلدون (عبد الرحمن)، المقدمة، دار الفكر، ص 260
[9]- ابن خلدون (عبد الرحمن)، المقدمة، مرجع سابق، ص 260
[10]- عياض ( نامي السلمي)، أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه، ج1، كلية الشريعة بالرياض، السعودية، د.ت، ص 13
[11]- نفس المرجع، ص 16